كل عام نشاهد حدثا مهيباً ويفوق الوصف عندما يتدفق أكثر من 22 مليون زائر إلى مدينتي كربلاء ‏والنجف خلال اسبوعين ‏والتي يزورهما سنويا عشرات الملايين.. مشهد يشد الأرض بالسماء ‏تتداخل فيه قدسية الحدث وعظمة الجموع التي جاءت ‏لتحيي ذكرى أربعين الإمام الحسين‎.‎..

كل عام نشاهد حدثا مهيباً ويفوق الوصف عندما يتدفق أكثر من 22 مليون زائر إلى مدينتي كربلاء ‏والنجف خلال اسبوعين ‏والتي يزورهما سنويا عشرات الملايين.. مشهد يشد الأرض بالسماء ‏تتداخل فيه قدسية الحدث وعظمة الجموع التي جاءت ‏لتحيي ذكرى أربعين الإمام الحسين‎.‎

برغم ضخامة الحدث لم أستطع تجاهل واقع الخدمات التي تئن تحت وطأة الملايين، والطرقات ‏الضيقة المزدحمة، والنفايات ‏المتراكمة، أتساءل في نفسي كيف يمكن لمدينة بهذه الأهمية تعجز عن ‏تقديم خدمات تليق بهذه الجموع وهذا الحدث؟

لماذا لا تكون هناك مدن ذكية تدعم قوة اقتصادية ناشئة؟ مدن تتسم ببنى تحتية متطورة، ونقل ذكي، ‏وإدارة للنفايات تحافظ على ‏طهارة الأماكن، وخدمات صحية تستجيب للحالات الطارئة.. مدن تتيح ‏لكل من يزورها أن يعيش الأجواء الروحية بشكل مريح ‏وآمن، لتفتح آفاق السياحة التي تجمع بين ‏عراقة التراث والتطور التكنولوجي، فان بلدا مثل العراق يحمل في تاريخه وحاضره ‏رسائل إنسانية ‏ملهمة، أليس من حقه أن يكون أيضا رمزا للتحضر؟

مناقشات تطويرية

حديثا، حظيت وجهات السياحة العالمية باهتمام متزايد، لذا نجد الدول المتحضرة تناقش باستمرار ‏إمكانية تطوير المدن لتحقق ‏أهداف التنمية المستدامة، تستخدم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ‏لتعزيز الفعاليات الإدارية، وتحسين مستوى الخدمات العامة ‏ورفاهية المواطنين، ودعم التوسع ‏السكاني، ومعالجة المشاكل بواسطة إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي، وتحسين جودة ‏الخدمات ‏العامة، وإدارة البنية التحتية بشكل متطور، وتعزيز الاستدامة البيئية، وحتى زيادة مشاركة ‏المواطنين في الحكم بشكل ‏يجعلهم أقرب إلى صنع القرار. ‏

ولا يقتصر بناء المدن الذكية على السمات التكنولوجية، وتقليل استهلاك الموارد، وتعزيز حماية ‏المناخ ، وضمان التنقل، وتحسين ‏نوعية الحياة من خلال التقنيات الشبكية، وينصب التركيز هنا على ‏التنمية الحضرية المستدامة، والتي تتحقق من خلال تحسين ‏شبكات البنية التحتية البلدية مثل الطاقة ‏والمباني والمياه.‏

فالمدن الصالحة للعيش هي تلك التي توفر العدالة الاجتماعية والفرص ‏الاقتصادية والجودة البيئية، ‏وهي تعالج بشكل مؤثر مشاكل مثل التغير الديموغرافي والانقسام الاجتماعي والتلوث وتخلق ‏بيئة ‏حيث يرغب الجميع في العيش والعمل من خلال التنمية الحضرية المستدامة.‏

ترجمة الأفكار

يمتلك العراق مجموعة من المدن التي تُعد وجهات عالمية، مثل كربلاء والنجف، بالإضافة إلى بغداد ‏والبصرة، إلى جانب مدن ‏أثرية مثل بابل وأور وكذلك تلك الموجود في شمال العراق، لذا من ‏الضروري أن تنتبه الحكومة العراقية والقطاع الخاص ‏والمنظمات والمؤسسات الدينية الى أهمية ‏تحسين الخدمات العامة مثل الماء والكهرباء والصرف الصحي، ودعم القطاع الأمني ‏من خلال ‏تقنيات الرقابة الذكية وأنظمة الإنذار الحديثة التي تعزز مستوى الأمان، ودعم الاقتصاد وتوفير بيئة ‏استثمارية محلية ‏وأجنبية، وإدارة تلك المرافق بنظم ذكية كفوءة‎.‎

لكن، مع كل هذه الأهمية، لا يُعرف سوى القليل عن كيفية ترجمة هذه الأفكار إلى سياسات حقيقية ‏وتبني نهج ذكي في عمليات ‏التخطيط، وفي ظل التطورات التكنولوجية المتسارعة، أصبحت فكرة ‏المدن الذكية ليست مجرد خيار بل ضرورة ملحة‎.‎

العراق، رغم التحديات التي تواجهه، يمتلك فرصا كبيرة للاستفادة من التحولات التكنولوجية، لتعزيز ‏بنيته التحتية وتطوير مدنه ‏التاريخية، والدينية، والاقتصادية، والسياسية، وفي خطوات متواضعة ‏أقدمت عليها الحكومة العراقية مؤخرا من خلال تحسين ‏الخدمات الإلكترونية أحدثت تأثيرا على ‏الحوكمة والإدارة العامة، لتبسيط بعض العمليات الإدارية والخدمية، ورغم التشكيك ‏بفرص النجاح ‏وما يتعلق بالمشكلات الأمنية التي تنشأ خلال هذه التجارب، إلا أن هذا لا يمنع من تحديد ‏العوامل ‏المؤثرة في نجاح بناء هكذا مدن‎.‎

معوقات التجربة

لا شك أن بلدا مثل العراق لا يزال يعاني من آثار الحروب والفساد المالي والاداري ولازالت هناك ‏عدة معوقات قائمة، مثل ‏عدم مراجعة وتحديث البنى التحتية لاستيعاب مشروع المدن الذكية، وكذلك ‏إنعدام أو ضعف الاستثمارات في قطاع المدن ‏الذكية‎.‎

برغم هذه التحديات، لا تزال الفرصة متاحة من خلال التعاون الدولي واستقطاب شركات مؤهلة ‏وناجحة لها تجارب مهمة، ‏ولدى العراق أيضا طاقة شبابية هائلة وموهوبة في مجال التكنولوجيا، ‏يمكن استثمارها في تطوير وبناء المدن الذكية‎.‎

إن إنشاء مدن ذكية في العراق خطوة استراتيجية تحقق التنمية المستدامة من خلال توظيف ‏التكنولوجيا بشكل استراتيجي، وفي حال حظي العراق بهذه الفرصة، يمكننا أن نضع أنفسنا على ‏خريطة المستقبل كدولة متحضرة تتبنى الابتكار وتعمل ‏على تحسين حياة المواطنين والزوار.‏

*كاتب عراقي

اضف تعليق