كيف يمكن لمدينة محصَّنة أن تُخترَق من قبل الإرهاب؟، هذا سؤال واقعي يتكرر على ألسنة الصغار والكبار، الشيوخ والأطفال، الرجال والنساء، كيف يمكن لجسد إرهابي مفخخ يخترق جميع النقاط الأمنية التي تفصل بينه وبين المدينة الآمنة، ليصل الى النقطة التي يرومها، وهي نقطة آهلة بالسكان، فيقوم بتفجير نفسه لإزهاق أرواح الأبرياء بدم بارد، والهدف النضالي كما هو معلن محاربة العداء، أما الذي يفجر نفسه، فهو واثق بأنه سيحصل على حور العين كمكافأة له على قتله للناس بلا ذنب يقترفوه.
هكذا جلّ الأسئلة تصب على جانب الكيفية التي تمكن من خلالها الإرهاب اختراق المدن المحصنة ليضرب في أعماقها، وكربلاء المقدسة قد تصح مثالا هنا، فصبيحة يوم أمس الجمعة، وصل إرهابي الى مرآب السيارات الموحد في قلب المدينة، وصل عند السادسة صباحا بحسب بيان رسمي للأجهزة الأمنية، ودخل الكراج الموحد من باب خروج السيارات، وتم التصدي له فقام بتفجير نفسه مخلفا الضحايا بين شهداء وجرحى.
لم يكن هذا الحادث الأول من نوعه في المدينة، ولكن عندما يحدث خرق أمني في مدينة هي رمز للأمان في العراق والعالم أجمع، فإن هذا يثير تساؤلات لا حدود لها، فكربلاء المقدسة، ليست مدينة من غرب العراق أو شماله، ولم تصل إليها يد داعش أو ذيوله، وهي ليست كبغداد المفتوحة النوافذ والأبواب من جميع الجهات، ومن المؤسف أن يحدث تفجير إرهابي في المدينة الرمز، وقد كتب كثيرون عن أهمية اتخاذ الإجراءت اللازمة لإيقاف مثل هذه الخروقات الأمنية، حتى المرجعية الدينية طالبت الأجهزة الأمنية والمعنيين كافة بأخذ الحيطة والحذر، وتشديد الرقابة الأمنية، واستحداث أساليب جديدة حديثة تراقب عن بعد لتأمين المدينة من أي اختراق، لكن كل هذه التوصيات ذهبت سدى.
لماذا لم تقم الجهات المعنية بواجبها الأمني، لماذا لم تنفذ التوصيات والمطالب الكثيرة المهمة، لماذا لم تتخذ الإجراءات التي تمنع وصول الإرهاب الى رمزنا الأمني المتمثل بمحافظة كربلاء، أسئلة كثيرة تحتاج الى إجابات شافية واضحة، ولا ينبغي أن تنتهي الى الصمت كسابقاتها، وقبل هذا وذاك نحن أحوج ما يكون الى دراسة هذه القضية بعلمية تامة، وينبغي وضع الإجراءات التي تضع النقاط فوق حروفها بخصوص الشأن الأمني للمدينة الرمز.
الفساد والإرهاب صنوان متلازمان
لو أردنا فعلا أن نحافظ على المدينة الرمز، مدينة كربلاء المقدسة، يحتاج الأمر الى اتخاذ قرار رسمي في هذا الشأن، بعد الدراسة ووضع الخطط العلمية المدروسة، فما تم اتخاذه من إجراءات مع أهميته لكن يبدو أنه لا يؤمن الحاجة الأمنية بأكملها، قد يقول أحدهم في رأي معارض أو مختلف، ينبغي أن نسعى لتكون جميع مدن العراق آمنة، وهذا رأي صحيح جدا ولا غبار عليه، فكل شبر من تربة العراق مهمة وعزيزة وينبغي أن تتوفر لها الحماية اللازمة، ولكن كربلاء المقدسة تمتلك رمزية دينية يعرفها العراقيون والعالم أجمع، وبقاء هذه المدينة آمنة سوف يعطي الأمل المشعّ والدائم للقضاء الحتمي على الإرهاب وقطع دابره.
السؤال الاهم كيف وصل الإرهاب الى هذه المدينة التي لم يستطع الوصول إليها في الزيارات المليونية، هل يتراجع الأداء الأمني في الأيام العادية، هل الفساد له علاقة بالأمر، هل يمكن القول أن الإرهابي الذي وصل الى (الكراج الموحد) في كربلاء وجد من يتعاون معه؟، وإذا صحت هذه الفرضية فهي تمثل طامة كبرى ومشكلة كأداء لابد من التصدي لها بدقة وقوة ومعالجتها بمهارة وخبرة وحرص وطني عال، تُرى أين موقع الفساد وكيف أسهم في مساندة الإرهاب؟ سؤال مهم ينبغي الإجابة عنه لاسيما أننا نتطرق في هذا الموضوع الى رمزية هذه المدينة المتفردة تاريخيا.
إن الفساد قد يتجسد في انشغال الجهات المعنية بأمور ثانوية على حساب الأمور الأكبر والأخطر والأهم، فهناك من يبحث عن مغانمه ومصالحه الفردية أو الحزبية، ويستميت من اجل الوصول الى هذه المآرب، وقد حذرت المرجعية الدينية من هذا النوع من الإهمال والانشغال بالمنافع الفردية وترك ما هو أهم متمثلا بمصالح الأمة والدولة والنظام والأمن، كذلك لدينا مأزق آخر تعاني منه هذه المدينة برمزيتها الكبيرة.
فما أن تقترب مناسبة دينية كبيرة حتى نجد الجهود الأمنية المدروسة المتميزة تؤدي واجباتها على قدم وساق، وتنجح في ذلك على الرغم من توافد ملايين الزوار على مدى أسابيع، ومع ذلك لم يحدث تفجير بحزام ناسف إلا ما ندر، ولكن الخواء والفراغ الأمني يحدث بعد انتهاء الزيارة حيث ينتهي الأمر الى نوع من الفتور في المراقبة والحذر والحيطة، ما يؤدي الى هذا النوع من الخروق غير المقبولة ولا المبررة في أي حال.
لا للمعالجات القائمة على رد الفعل
من العيوب الأمنية التي لوحظت على نحو لافت، هي حالة التعبئة التي تقوم على رد الفعل المتأتي من حدوث خرق أمني هنا وآخر هناك، ما يعني ضعف التدابير الامنية القائمة على رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، فالدول الناهضة لا تنشط أمنيا في أوقات وحالات حدوث المشكلات الأمنية وإنما لديها خطط ومعالجات دائمية قائمة على قواعد عمل علمية لا تقبل الخطأ أو التهاون، فضلا عن امتلاكها قدرات قانونية هائلة للضرب بيد من حديد على الفساد والفاسدين والمفسدين الذين يعاملون كما يعامَل القائم بالعمل الإرهابي، فيتساوى لديهم مرتكب الفساد بمرتكب جريمة الإرهاب ضد الشعب والدولة.
ماذا علينا أن نفعل؟ سؤال موجّه الى السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية وكل من يتعلق الأمر به بخصوص صيانة أمن البلاد وتكثيفه حول المدن العراقية جميعا مع منح المدن ذات الرمزية الدينية جهودا مضاعفة، ليس في أوقات الزيارات الدينية وإنما على مدار السنة، مع أهمية الشروع بتجفيف الحواضن التي قد تسهم بطريقة أو أخرى في ديمومة الإرهاب من خلال التراخي في مواجهة الخارجين عن القانون الذين لا يتورعون عن استهداف الأبرياء بحجج واهية عن المقاومة وهم أبعد ما يكون عن سواء الفكر أو السلوك.
ومن الخطوات المهمة تحصين الحدود المفتوحة، ومراقبتها، مع أهمية أن يأخذ المواطن دوره في مراقبة الأشخاص الغرباء، وهم في الحقيقة معروفون لمن لا تفوته أشكالهم وأساليبهم وتحركاتهم المثيرة للشك والغرابة، فينبغي عدم التردد مطلقا في تبليغ الجهات الأمنية بشكل فوري عن أي حالة مشكوك فيها يقوم فيها فرد أو مجموعة من الناس هنا أو هناك، وحتما من يحاول أو يهيئ نفسه للقيام بعمل إرهابي فإنه لا يعمل في العراء، ولا يتحرك بمفرده، إنه يعيش بين المواطنين ولهذا تقع عليهم مسؤولية نقل المعلومات بصورة فورية عن أي حركة مشبوهة يمكن أن تلحق الأذى بالأبرياء.
وعلينا كعراقيين أن نفهم إنها قضية صراع مستمرة بيننا وبين صنّاع الفكر المتطرف، والعقول البائسة التي تسعى لزرع الخراب في أرض الله، لا لشيء إلا لكونها خاوية وعارية من الحجة وعاجزة عن الإسهام في نشر قيم الإسلام والقيم الإنسانية، فمن يعجز عن نشر المحبة والتسامح والتعاون والتكافل والقيم التي تنهض بالإنسان، سوف يبحث عن طريق مخالف وهو طريق الإرهاب والفكر المتطرف وحينها ليس على أصحاب الشهامة والعدالة والحق سوى سحقه والقضاء عليه بالعمل الأمني العلمي المتكامل.
اضف تعليق