ما حققته شركة DeepSeek هو إثبات نجاحها في مجال الهندسة: الجمع بين ذات الأساليب بقدر أكبر من الفعالية مقارنة بالشركات الأميركية. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت الشركات الصينية والمؤسسات البحثية الصينية قادرة على اتخاذ الخطوة التالية المتمثلة في ابتكار تقنيات، ومنتجات، وأساليب تغير قواعد اللعبة...
بقلم: دارون عاصم أوغلو
بوسطن ــ بعد أن تسبب إطلاق DeepSeek-R1 في العشرين من يناير/كانون الثاني في إشعال شرارة هبوط شديد في سعر سهم شركة صناعة الرقائق الإلكترونية Nvidia وانخفاضات حادة في تقييمات عدد كبير من شركات التكنولوجيا الأخرى، أعلن بعض المراقبين هذ الحدث باعتباره "لحظة سبوتنيك" في السباق الصيني الأميركي لانتزاع التفوق في مجال الذكاء الاصطناعي. ربما يكون بوسعنا أن نزعم أن صناعة الذكاء الاصطناعي في أميركا كانت في احتياج إلى إعادة تنظيم، لكن هذه الواقعة تثير بعض الأسئلة الصعبة.
كانت استثمارات صناعة التكنولوجيا في مجال الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة ضخمة، حيث تشير تقديرات مجموعة جولدمان ساكس إلى أن "شركات التكنولوجيا العملاقة ومؤسساتها ومرافقها من المنتظر أن تنفق حوالي تريليون دولار على النفقات الرأسمالية في السنوات القادمة لدعم الذكاء الاصطناعي". ومع ذلك، دأب كثيرون من المراقبين، وأنا منهم، على إثارة التساؤلات حول اتجاه الاستثمار في الذكاء الاصطناعي وتطويره في الولايات المتحدة. فمع تقيد كل الشركات الرائدة بذات كتيب القواعد إلى حد بعيد (وإن كانت شركة Meta ميزت نفسها قليلا بنموذج مفتوح المصدر جزئيا)، يبدو أن الصناعة وضعت كل بيضها في ذات السلة. الواقع أن شركات التكنولوجيا الأميركية بلا استثناء مهووسة بالحجم الكبير. تفترض هذه الشركات، مُـسـتَـشـهِـدة بما يسمى "قوانين التوسع" التي لم تُـثـبَـت بعد، أن تغذية نماذجها بمزيد من البيانات وقوة الحوسبة على نحو مستمر هي المفتاح لإطلاق قدرات متعاظمة على نحو لا ينقطع. حتى أن بعض المراقبين يؤكدون أن "الحجم هو كل ما تحتاج إليه".
قبل العشرين من يناير/كانون الثاني، كانت الشركات الأميركية غير راغبة في النظر في بدائل لنماذج الأساس المدربة مسبقا على مجموعات ضخمة من البيانات للتنبؤ بالكلمة التالية في تسلسل بعينه. ونظرا لأولوياتها، فقد ركزت على وجه القصر تقريبا على نماذج الانتشار وروبوتات الدردشة الآلية الموجهة نحو أداء مهام بشرية (أو شبه بشرية). وبرغم أن النهج المتبع في DeepSeek هو ذاته في عموم الأمر، فيبدو أنه اعتمد بدرجة أكبر على "التعلم بالتعزيز"، وطرائق خليط من الخبراء (باستخدام عدد كبير من النماذج الأصغر والأكثر كفاءة)، والاستخلاص، والاستدلال المنقح لتسلسل الأفكار. يُـقال إن هذه الاستراتيجية سمحت لشركة DeepSeek بإنتاج نموذج تنافسي بجزء بسيط من التكلفة. على الرغم من بعض الخلاف حول ما إذا كانت شركة DeepSeek أخبرتنا القصة كاملة، فإن هذه الواقعة كشفت عن "التفكير الجمعي" داخل صناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة.
إن تعامي هذه الصناعة عن الأساليب البديلة الأرخص والأكثر وعدا، مقترنا بالضجيج الإعلامي، هو على وجه التحديد ما تنبأنا به أنا وسيمون جونسون في كتابنا " القوة والتقدم" الذي اشتركنا في تأليفه قبل بدء عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي مباشرة. السؤال الآن هو ما إذا كانت نقاط عمياء أخرى وربما أشد خطورة تعيب الصناعة الأميركية.
على سبيل المثال، هل تفوّت شركات التكنولوجيا الأميركية الرائدة الفرصة للارتقاء بنماذجها في "اتجاه أكثر انحيازا للبشر"؟ أظن أن الإجابة هي أجل، لكن الوقت وحده كفيل بإنبائنا. ثم هناك التساؤل حول ما إذا كانت الصين تتفوق على الولايات المتحدة بأشواط. إذا كان الأمر كذلك، فهل هذا يعني أن الهياكل الاستبدادية التي تعمل من أعلى إلى أسفل (ما أطلقنا عليه أنا وجيمس روبنسون مسمى "المؤسسات الاستخراجية") من الممكن أن تضاهي أو حتى تتفوق على الترتيبات الصاعدة من الأسفل في دفع الإبداع والابتكار؟
أنا شخصيا أميل إلى الاعتقاد بأن السيطرة من أعلى إلى أسفل تعيق الإبداع، كما زعمنا أنا وروبنسون في كتابنا " لماذا تفشل الأمم". في حين يبدو أن نجاح DeepSeek يتحدى هذا الادعاء، فإنه ليس دليلا قاطعا على أن الإبداع في ظل المؤسسات الاستخراجية قد يكون على ذات القدر من القوة أو الاستمرارية الذي يتمتع به في ظل المؤسسات الشاملة. ففي نهاية المطاف، تبني DeepSeek على سنوات من التقدم في الولايات المتحدة (وبعضها في أوروبا). ذلك أن كل أساليبه الأساسية ابـتُـكِـرَت في الولايات المتحدة. فقد جرى تطوير نماذج خليط الخبراء والتعلم بالتعزيز في مؤسسات البحث الأكاديمي قبل عقود من الزمن؛ وكانت شركات التكنولوجيا الكبرى في الولايات المتحدة هي التي أدخلت نماذج المحولات، والاستدلال لتسلسل الأفكار، والاستخلاص.
ما حققته شركة DeepSeek هو إثبات نجاحها في مجال الهندسة: الجمع بين ذات الأساليب بقدر أكبر من الفعالية مقارنة بالشركات الأميركية. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كانت الشركات الصينية والمؤسسات البحثية الصينية قادرة على اتخاذ الخطوة التالية المتمثلة في ابتكار تقنيات، ومنتجات، وأساليب تغير قواعد اللعبة. علاوة على ذلك، يبدو أن شركة DeepSeek مختلفة عن معظم شركات الذكاء الاصطناعي الصينية الأخرى، التي تنتج عادة تكنولوجيات لصالح الحكومة أو بتمويل حكومي. لو كانت الشركة (التي انبثقت عن صندوق تحوط) تعمل تحت مستوى الرادار، فهل يستمر إبداعها وديناميتها الآن بعد أن أصبحت تحت الأضواء؟ مهما حدث، لا يمكن اعتبار إنجاز شركة واحدة دليلا قاطعا على أن الصين قادرة عل التفوق على المجتمعات الأكثر انفتاحا في الإبداع والابتكار.
يتعلق سؤال آخر بالعوامل الجيوسياسية. هل تعني ملحمة DeepSeek أن ضوابط التصدير الأميركية وغيرها من التدابير الرامية إلى كبح جماح أبحاث الذكاء الاصطناعي الصينية قد فشلت؟ الإجابة هنا أيضا غير واضحة. ففي حين قامت شركة DeepSeek بتدريب أحدث نماذجها (V3 وR1) على رقائق إلكترونية أقدم وأقل قوة، فإنها ربما لا تزال في احتياج إلى أقوى الرقائق الإلكترونية لتحقيق مزيد من التقدم والتوسع. مع ذلك، من الواضح أن نهج المحصلة الصِـفرية الذي تتبعه أميركا كان غير قابل للتطبيق وغير حكيم. مثل هذه الاستراتيجية لا تكون منطقية إلا إذا كنت تعتقد أننا نتجه نحو الذكاء الاصطناعي العام (نماذج قادرة على مضاهاة البشر في أي مهمة إدراكية)، وأن من يصل إلى الذكاء الاصطناعي العام أولا سيحظى بميزة جيوسياسية هائلة.
بالتشبث بهذه الافتراضات ــ وأي منها ليس مبررا بالضرورة ــ تسببنا في منع التعاون المثمر مع الصين في كثير من المجالات. على سبيل المثال، إذا أنتجت إحدى الدولتين نماذج تزيد من إنتاجية البشر أو تساعدنا على تنظيم الطاقة بشكل أفضل، فسوف يكون مثل هذا الإبداع مفيدا للبلدين، وخاصة إذا استُـخـدِم على نطاق واسع. على غرار بنات عمومتها الأميركية، تطمح شركة DeepSeek إلى تطوير الذكاء الاصطناعي العام، وقد يكون ابتكار نموذج أرخص بدرجة كبيرة في التدريب كفيلا بتغيير قواعد اللعبة. لكن خفض تكاليف التطوير بأساليب معروفة لن يوصلنا بأعجوبة إلى الذكاء الاصطناعي العام في السنوات القليلة المقبلة.
ويبقى السؤال حول ما إذا كان الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام في حكم الممكن في الأمد القريب مفتوحا (وما إذا كان مرغوبا، فهو أمر أكثر إثارة للجدال). حتى وإن كنا لا نعرف حتى الآن كل التفاصيل حول كيفية تطوير شركة DeepSeek لنماذجها أو ما يعنيه إنجازها الواضح لمستقبل صناعة الذكاء الاصطناعي، فإن شيئا واحدا يبدو واضحا: لقد نجحت شركة بادئة صينية في ثقب بالون هوس صناعة التكنولوجيا بالحجم الكبير، وربما تمكنت حتى من أخرجها من حالة الرضا عن الذات.
اضف تعليق