الديمقراطية استفادت بشكل جيد من عام الانتخابات

لكن الاختبار الأكبر سيحدث في أميركا

لا تقدم الانتخابات بحد ذاتها ضماناً بانتهاج سياسات جيدة أو التوصل إلى مخرجات طيبة. وبالأحرى، إنها تقدم فرصة لتحميل القادة المسؤولية عن السقطات السياسية وتكافئهم على ما ينظر إليها بوصفها نجاحات. وتصبح الانتخابات خطرة حينما تأتي بقادة يسعون إلى فرض سياسات مشكوك فيها ويأملون في إضعاف المؤسسات...
بقلم: فرانسيس فوكوياما

وصف 2024 بعام الانتخابات لأنها تشمل أكثر من 30 بلداً. وحتى الآن، جاءت نتائج الانتخابات غير قاتمة بالنسبة للديمقراطية في العالم بالضد من توقعات باكتساح شعبوي عارم. وتبقى الكلمة الفصل رهن نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية.

لقد انغمس الليبراليون في كثير من التفكير الكوارثي خلال "عام الانتخابات" الجاري. وانتاب كثير منهم خوف من تعزيز مكاسب السياسيين المستبدين والشعبويين من فيكتور أوربان في المجر إلى ناريندرا مودي في الهند، عبر زيادة حصتهم من التصويت. ووفق تقرير لـ"فريدوم هاوس" صدر في فبراير (شباط) 2024 بعنوان "تحليل عن حال الحرية في العالم"، شهد العالم مرحلة من تراجع الديمقراطية استمر قرابة عقدين. وتفاقم التراجع مع صعود قوى كبرى استبدادية على غرار الصين وروسيا، والحروب الساخنة في أوكرانيا والشرق الأوسط، وصعود أو تقدم الشعبويين القوميين في بلاد بدت ديمقراطياتها محمية على غرار ألمانيا وهنغاريا والهند وإيطاليا.

وبالنسبة إلى الليبراليين ممن رغبوا في الحفاظ على عالم آمن للديمقراطيات، جاء الحدث الأشد إثارة للقلق في منتصف يوليو (تموز) 2024، حينما أكد الجمهوريون أنهم يتبنون ترشيح الرئيس السابق دونالد ترمب ومرشحه للرئاسة جي دي فانس الآتي من تيار متطرف في حركة "ماغا" MAGA [اختصاراً للحروف الأولى من عبارة Make America Great Again التي تعني "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً"]. وعلى رغم محاولة ترمب الانقلاب على نتائج الانتخابات الأميركية في 2020، إلا أنه شكل الخيار الذي تحمس له حزبه. وقد نجا لتوه من محاولة اغتيال، وجسدت قبضتاه المرفوعتان مع نداء "قتال، قتال، قتال" مشهداً نقيضاً للرئيس العجوز جو بايدن الذي تراجع أداؤه بشدة أثناء المناظرة الرئاسية في الشهر الماضي.

في المقابل، ثبت أن خوف الليبراليين من أن يعبر العام الحالي عن الانتصار العالمي للشعبوية غير الليبرالية لم يكن في مكانه. وعلى رغم المكاسب الواضحة التي أحرزتها الأيديولوجيات الاستبدادية في بلدان عدة، فإن الديمقراطية أظهرت في كثير من الأماكن قدرة مفاجئة على الصمود، وقد تستطيع الانتصار في الولايات المتحدة. لقد أدى تسليم كثير من الليبراليين بواقع تراجع الديمقراطية إلى فرك الأيدي والسؤال بيأس عما يمكن فعله كي يقبلوا هذا الميل التراجعي رأساً على عقب. وهنالك أجوبة سهلة إلى حد ممل عن ذلك، منها أن تذهب مع مواطنين مثلك للإدلاء بأصواتكم أو إن كنت ناشطاً أكثر، اعمل بدأب على تحريك من لديهم تفكير متقارب كي يساعدوا السياسيين الديمقراطيين في الفوز في الانتخابات. تتمحور الديمقراطية الليبرالية كلها حول العامل الشخصي، وما من دليل فعلي يبرهن أن الانخراط السياسي التقليدي لم يعد يجدي نفعاً.

عام الانتخابات

جاءت تسمية "عام الانتخابات" من الرقم القياسي تاريخياً لأعداد المواطنين الذين أدلوا بأصواتهم في العالم. وفي ما يقارب 30 بلداً، أجريت انتخابات تتسم بأنها حاسمة وتنافسية. والحال أن ذلك العام المحوري بدأ في أواخر 2023، وقد تمثل الحدث الأشد حساسية بالانتخابات البولندية في 15 أكتوبر (تشرين الأول) من ذلك العام، حينما أزيح حزب "القانون والعدالة" الشعبوي من السلطة، وحل بديلاً منه تحالف من الأحزاب الليبرالية. لقد سلك "القانون والعدالة" في المسار الذي افتتحه حزب "فيدسز" اليميني في هنغاريا، لكن التعاون الوثيق بين حزب "المنصة المدنية" البولندي وأحزاب أخرى من يسار الوسط، انتزع 41 مقعداً من "القانون والعدالة" الذي خسر أيضاً الغالبية التي كانت بحوزته في المجلس السياسي الأدنى من البرلمان البولندي المسمى "سيم". وقد جهد أعضاء أحزاب يسار الوسط البولندي في التغلب على انقساماتهم الماضية ونظموا حشوداً ضخمة لمصلحة الذهاب إلى الانتخابات. وشكلت خسارة "القانون والعدالة" تراجعاً ملحوظاً للشعبوية في أوروبا، وحرمت هنغاريا من حليف رئيس في الاتحاد الأوروبي.

 ولم يتبق من دولة في شرق أوروبا تمضي في الاتجاه الشعبوي، سوى سلوفاكيا مع عودة روبرت فيكو كرئيس للوزراء في أكتوبر الماضي، وتعهد إنهاء الدعم القوي الذي تقدمه تلك البلاد إلى أوكرانيا. وأحجم رئيس سلوفاكيا المؤيد للغرب، زوزانا كابوتوفا، من الترشح لولاية ثانية، وخلفه في يونيو (حزيران) 2024، بيتر بليغريني، الحليف لرئيس الوزراء روبرت فيكو، ويبدي الشخصان كلاهما تعاطفاً مع روسيا. وعلى رغم المكاسب التي حققتها الشعبوية، بقيت سلوفاكيا أمة منقسمة. وفي مايو (أيار) أطلق قاتل مزعوم النار على فيكو بسبب معارضة رئيس الوزراء تقديم مساعدة عسكرية لأوكرانيا.

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، هزم خافيير ميلاي خصمه سيرجيو ماسا في الجولة الثانية من الاقتراع الرئاسي في الأرجنتين. واعتبر كثر في الولايات المتحدة أن ميلاي هو ترمب الأرجنتين، مع الأخذ بعين الاعتبار أسلوبه الشخصي المعادي للمؤسسات، وتأييده للرئيس الأميركي السابق. في المقابل، لقد حمل ميلاي على متن موجة من السخط الشعبي حيال تيار البيرونية الذي قاد البلاد إلى ركود اقتصادي عميق.

[في عام 1946، وصل الزعيم الأرجنتيني خوسيه بيرون إلى السلطة، وسار في اتجاه بناء دولة قوية تتبنى العدالة الاجتماعية ودور واسع للدولة في الاقتصاد والاتجاه نحو الاستقلالية].

 وعلى رغم أن كثيراً من الشعبويين يتبنون تأييد دولة قوية تعمل على تعزيز القيم الثقافية المحافظة، فإن ميلاي ليبرالي أصيل. وأتاح له النجاح المبكر لبرنامجه في الاستقرار الاقتصادي، أن يحتفظ بشعبيته على رغم عدم امتلاكه قاعدة قوية في الكونغرس الوطني الأرجنتيني. ولا يتمثل الخطر الأساس الذي يحمله ميلاي في تحركه باتجاه الاستبداد، بل بأن يذهب بعيداً في إضعاف الدولة الأرجنتينية.

وشهد مطلع عام 2024 نتائج متخالطة بالنسبة إلى الديمقراطية. في يناير (كانون الثاني)، هزم الحزب التقدمي الديمقراطي خصماً مؤيداً لحزب الـ"كومنتانغ" الصيني، وبقيت فنلندا راسخة في المعسكر الديمقراطي.

[ترأس حزب كومنتانغ القومي الصين قبل أن يقود الزعيم الشيوعي ماوتسي تونغ تمرداً مسلحاً أدى إلى سقوط حكم حزب كومنتانغ وهرب قيادته إلى جزيرة تايوان، عقب الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات الأخيرة، حدث تقارب بين الخصمين التاريخيين ربما بسبب تصورهما المشترك عن صين واحدة، وعدم تأييدهما استقلال تايوان]

وفي الحالتين كلتيهما، عملت الأحزاب الفائزة بدأب وهدوء لكن بحيوية، على إرساء غالبيات تشريعية لها. في المقابل، بعد شهر من ذلك، أعيد انتخاب الرئيس ناييب بوكلى مع نيله غالبية مرموقة بـ85 في المئة من الأصوات. واعتبرت النتيجة مكافأة على الانخفاض الدراماتيكي في الجريمة الذي حدث بفضل اللجوء إلى وسائل خارج الأطر المرسومة للسلطات بهدف سجن شطر كبير من قيادات العصابات الإجرامية في البلاد. وخلال السباق الرئاسي لولايته الثانية، أبطل بوكلى حظراً يفرضه دستور السلفادور على إعادة انتخاب رئيس البلاد لولاية ثانية، وقد يبقى راسخاً في السلطة لسنين آتية. واستمر الميل نحو مكافأة حكم الرجال الأقوياء مع انتخاب برابوو سوبيانتو للرئاسة في إندونيسيا. وسبق لمجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان أن دانت برابوو، القائد السابق لقوات خاصة، بارتكاب جرائم حرب أثناء احتلال إندونيسيا لجزر تيمور- ليسته في ثمانينيات القرن الـ20 وتسعينياته. وكذلك منع برابوو من السفر إلى الولايات المتحدة بين عامي 2000 و2020 حينما منحته إدارة ترمب تأشيرة دخول إلى أميركا. لكن انتصاره لا يعبر إلا عن الشعبية الهائلة لسلفه جوكو ويدودو الذي يزعم برابوو أنه يخلد إرثه.

في بنغلاديش، شهد يناير 2024 استمراراً لإمساك حزب "رابطة عوامي" الفاسد الذي تقوده شيخة حسينة، بالسلطة في البلاد، على رغم احتجاجات واسعة ضد حكمها في أرجاء بنغلاديش. لكن، سرعان ما ثبت أن نجاحها ليس إلا مرحلة عابرة. ومع تجدد الاحتجاجات بعد الانتخابات، دفعت حسينة إلى مغادرة البلاد في مطلع أغسطس (آب) الماضي. وليس من المؤكد أن تستطيع بنغلاديش استعادة صورتها الديمقراطية، لكن من الواضح أن عدداً كبيراً من المواطنين قد ضاقوا ذرعاً بحاكم استمر في الإمساك بالسلطة لـ20 سنة خلال الأعوام الـ28 الماضية.

رفض الحلول الشعبوية

في منتصف السنة الماضية، حصل اقتراعان مهمان في جنوب أفريقيا والمكسيك، لم يسهل تصنيفهما ضمن إطار ثنائية الصراع بين الشعبويين والليبراليين. في جنوب أفريقيا، خسر حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" 71 مقعداً نيابياً في الجمعية الوطنية، وفقد الغالبية فيها. وتذكيراً، هيمن ذلك الحزب على سياسات البلاد منذ انتقالها إلى الديمقراطية في 1994. وتزعزعت أمور تلك الدولة مع صعود حزب جديد، "يوماكهنتو ويسيزوي"، واختصاراً "أم كيه"، المرتبط بالرئيس السابق الفاسد جاكوب زوما. وعقب الانتخابات، عقد "المؤتمر الوطني الأفريقي" تحالفاً استثنى منه "أم كيه"، لمصلحة التعاون مع حزب "التحالف الديمقراطي" الذي يميل إلى تمثيل الناخبين من أصحاب البشرة البيضاء، إضافة إلى الذين يسمون بالملونين، أو العرق المختلط. إذ فاز "التحالف الديمقراطي" بثلاثة مقاعد برلمانية فيما خسر الجناح اليساري المتطرف الممثل بحزب "مقاتلون من أجل الحرية الاقتصادية" خمسة مقاعد. ومنحت انتخابات 2024 نوعاً من الشعور بالطمأنينة، على خلفية كل فضائح الفساد والتدهور الاقتصادي التي عانتها جنوب أفريقيا خلال العقد الماضي. واعتبر المقترعون أن "حزب المؤتمر الأفريقي" مسؤول عن ذلك بسبب قيادته الفاسدة للبلاد، لكنهم لم ينحازوا بالكامل إلى الحلول الشعبوية.

وعلى نحو مماثل، أظهرت المكسيك قوة ثقافتها الديمقراطية. وقد صنف المحللون الليبراليون الرئيس المكسيكي الحاكم، أندرياس مانويل لوبيز أوبرادور، كشعبوي أميركي لاتيني. ولكن، جاءت شعبية أوبرادور على خلفية فساد المؤسسات. وفي خطاباته اليومية، يشن حملات في الأقلية السلطوية الفاسدة التي حكمت المكسيك طوال عقود. وقد أحدث تراجعاً في الحرب ضد عصابات تهريب المخدرات، مما تسبب في انخفاض مرحلي للعنف فيما فشل في حل المشكلة الأساسية التي ستتخبط فيها المكسيك لسنوات مقبلة. وأطلق العنان لعدد من السياسات المساندة للفقراء فيما حافظ على الشطر الأعظم من الانضباط المالي. بالتالي، مع اعتزامه أن يغدو أول رئيس يساري منذ الثورة المكسيكية في 1920، حاز أوبرادور شعبية ضخمة، ثم فازت خليفته، كلوديا شينباوم بالرئاسة في يونيو 2024 بفارق فاق الـ30 نقطة فصلتها عن منافسها المحافظ. وكذلك كسب حزب شينباوم المسمى "مورينا"، غالبية كاسحة في المؤتمر المكسيكي [مجلس النواب]، مما أعطاه فرصة لتغيير الدستور بعد فوز شينباوم بالرئاسة. لقد أظهر لوبيز أوبرادور ميولاً غير ليبرالية كثيرة خلال رئاسته، وستتمثل هدية مغادرته السلطة في إعطاء البلاد ما يسمى الإصلاح التشريعي المكسيكي الذي سيوصل في حقيقة الأمر، إلى إضعاف حاد لاستقلالية المؤسسات. في المقابل، ليس من الواضح كيف ستستعمل شينباوم سلطتها القوية حينما تتسلم مقاليد الحكم فعلياً. وإذا لم تحدث أي مفاجأة، من الأفضل النظر إليها كسياسية آتية من يسار الوسط الأميركي اللاتيني، بأكثر من كونها يسارية شعبوية.

وشهدت الهند انتخابات حاسمة أخرى عبر اقتراع جرى على مراحل امتدت بين منتصف أبريل (نيسان) ومطلع يونيو. ويندرج رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي ضمن الأعضاء البارزين في نادي الشعبويين القوميين، وقد أضعف الإعلام والمحاكم والحريات المدنية في بلاده. وساد توقع بارتفاع الغالبية التي يحوزها حزب "بهاراتيا جانتا" الهندوسي القومي، في المجلس الأدنى في البرلمان الهندي "لوك سابها". وبدلاً من ذلك، خسر "بهاراتيا جانتا" الغالبية وأجبر على عقد تحالف مع أحزاب أخرى. وحدثت كبرى خسارات ذلك الحزب في معقله السابق بشمال الهند حيث فقد 49 مقعداً شمل 29 مقعداً في ولاية أوتار براديش الفقيرة.

وثمة دلالة وازنة حملتها الانتخابات الأقل تأثيراً في الساحة السياسية العالمية في منغوليا التي جرت في نهاية يونيو 2024. تلك البلاد المحشورة بين روسيا والصين، هي الوحيدة في أوراسيا الوسطى التي أدركت وحافظت على حكم ديمقراطي، بعد خروجها من فلك موسكو عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991. وفي المقابل، اتجه "حزب الشعب المنغولي" الحاكم الذي خلف الحزب الشيوعي في الحقبة السوفياتية، إلى اتباع سياسة تتزايد استبداديتها وميلها إلى تأييد روسيا، بين عامي 2022 و2024. لكن، لوحظ في الانتخابات أن "الحزب الديمقراطي" المعارض ضاعف عدد مقاعده البرلمانية في سياق رفض الناخبين لنظام مشبع بالتلوث. ولم تبرز وسائل الإعلام الغربية ذلك التغيير، لكنه يبرهن على مدى القوة التي يحوزها الناخب العادي في الدفاع عن الديمقراطية.

تبدلات مزعزعة للاستقرار

جرت انتخابات البرلمان الأوروبي في مطلع يونيو من العام الحالي. وبرز فيها نجاحات للأحزاب الشعبوية على غرار "حزب الحرية" في النمسا، "التجمع الوطني" بزعامة مارين لوبن في فرنسا، وحزب "البديل" في ألمانيا، و"حزب الحرية" في هولندا، وحزب "إخوة إيطاليا" بزعامة جورجيا ميلوني في إيطاليا. وفي الدول الـ27 المنضوية ضمن كتلة الاتحاد الأوروبي، تمثل أكبر الخاسرين في أحزاب الخضر والاشتراكيين. وراوحت في أمكنتها، أو أحرزت مكاسب ضئيلة، أحزاب الوسط ويمين الوسط على غرار "الاتحاد المسيحي الديمقراطي" في ألمانيا، و"المنصة المدنية" في بولندا. وطارت مقاعد من أيدي حزب "القانون والعدالة" في بولندا، وحزب "فيدسز" في هنغاريا الذي أدى انشقاق أحد أعضائه، بيتر ماغيار، إلى انقسام الأصوات فذهب قسم منها لمصلحة الحزب الذي كونه ماغيار عقب فضيحة فساد في حزب "فيدسز".

شهدت فرنسا وإيطاليا النتيجتين الأكثر إثارة للقلق في انتخابات الاتحاد الأوروبي. إذ اكتسح حزب لوبن التحالف الوسطي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وفاز بأكثر من ضعفي حصته السابقة من الأصوات. وأدى ذلك إلى إعلان ماكرون عن انتخابات وطنية مبكرة في نهاية يونيو الماضي. أضاف حزب "التجمع الوطني" 37 مقعداً إلى حصته في البرلمان، وتحالف اليسار، "الجبهة الوطنية الجديدة"، 32 مقعداً. ولوهلة، بدا كأنما المتطرف المعبر عن الشباب، جوردان بارديللا، يتجه نحو نيل منصب رئاسة الوزراء. ولكن، في الجولة الثانية من التصويت التي جرت مطلع يوليو الماضي، أقدمت أحزاب الوسط واليسار على تبادل سحب مرشحها الأضعف، فأقفل الطريق إلى السلطة بوجه "التجمع الوطني". ولم يحدث ذلك إلا بسبب تعاون أحزاب الجناح اليساري مع مرشحي تيار الوسط، وهو عمل روتيني لكنه ضروري، في السياسة، وقد فشلت تحالفات سابقة في النهوض بأمره.

وفي إيطاليا، لم يكن الوضع واعداً على نحو مماثل. وفي الانتخابات الأوروبية، ارتفعت حصة ميلوني وحزب "إخوة إيطاليا" الشعبوي بشكل كبير، ونال حزب ميلوني اليميني غالبية مريحة في البرلمان الإيطالي. وفي البداية، قدمت ميلوني التي تولت رئاسة الوزراء في أواخر 2022، نفسها بوصفها آتية من التيار الوسطي. ومع بداية ولايتها، فصمت عرى علاقتها مع الشعبويين المؤيدين لروسيا كأوربان وفيكو، عبر إظهار دعمها القوي لأوكرانيا. وآنذاك، توقع محللون كثر أنها ستؤيد ترشح رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين لولاية ثانية. ولكن، عقب الانتخابات الأوروبية، مالت ميلوني إلى اليمين، وصوت حزبها لمصلحة تأييد مشروط لأوكرانيا فيما عارض إعادة انتخاب فون دير لاين.

ثمة دولة أوروبية كبيرة واحدة أجرت انتخابات من دون أن يتهددها احتمال صعود حزب شعبوي إلى السلطة. ولم تكن تلك الدولة سوى المملكة المتحدة التي حقق فيها حزب العمال نصراً حاسماً على المحافظين، في مطلع يوليو الماضي. ولقد أمسك حزب المحافظين بالسلطة طوال 14 عاماً تحت قيادة خمسة رؤساء للوزراء، وقاد البلاد إلى ركود اقتصادي متطاول تسبب به جزئياً، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف بالـ"بريكست". وحينما أزاح حزب العمال قائده اليساري المتطرف، جيرمي كوربين، واستبدل به زعيماً أكثر اعتدالاً، كير ستارمر، جاءت ردة الفعل من المصوتين بصورة مواتية تماماً. واستمرت الزمر الشعبوية، على شاكلة نايجل فاراج [زعيم حزب يدعو إلى استقلال المملكة التام في شؤونها كلها عن القارة الأوروبية] في إثبات حضورها. وحاز حزب "إصلاح المملكة المتحدة" بزعامة فاراج 14 في المئة من الأصوات، أي أكثر من حزب "الديمقراطيين الليبراليين" الذي نال 12 في المئة منها. وأدى نظام الاقتراع بالغالبية المحلية البسيطة [فوز كل مرشح بالمقعد النيابي المخصص لدائرته، بالغالبية البسيطة]، إلى استبعاد فاراج عن السلطة.

المقاومة الديمقراطية

ثمة حفنة من الانتخابات المهمة التي ستحدث خلال العام الحالي. ويشمل ذلك مولدوفا التي يرجح فور حزب الرئيس الليبرالي ماييا ساندو بانتخابات قد تعيده ليستمر في المنصب الأول، وجورجيا التي يحظى فيها حزب "الحلم" المؤيد لروسيا بفرصة جيدة للاحتفاظ بالسلطة.

لكن، يبقى أن الانتخابات الأهم، بأشواط بعيدة، هي تلك التي ستجري في الخامس من نوفمبر المقبل في الولايات المتحدة، بين ترمب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، نائبة الرئيس حالياً. حينما انعقد "المؤتمر الوطني الجمهوري" في منتصف يوليو الماضي، بدا مرجحاً فوز ترمب على بايدن المسن. ولكن، أدى قرار بايدن بالتخلي عن الاستمرار في الترشح للولاية ثانية، إلى إحداث فورة نشاط مفاجئة في صفوف الديمقراطيين. وباتت استطلاعات رأي كثيرة أجريت على المستوى الوطني وفي الولايات المتأرجحة، تظهر أن هاريس أضحت متقدمة على منافسها.

ومن شأن نتيجة الانتخابات الأميركية أن تحدث تأثيرات هائلة في المؤسسات الأميركية، والعالم بأسره. وعبر ترمب عن إعجابه الشديد بقادة مستبدين أقوياء من أمثال فلاديمير بوتين في روسيا وشي جينبينغ في الصين، ووعد بإضعاف القيود على السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة. ومن شبه المؤكد أن سينهي دعم أميركا لأوكرانيا، إذ عبر عن تشككه العميق في قيمة تحالفات على غرار الناتو. وتعهد أن ينهي العلاقات التجارية مع الصين، ويفرض ضريبة بـ10 في المئة على كل السلع المصنوعة في الخارج. وبحزم، تخلى الحزب الجمهوري عن السياسات الليبرالية التي انتهجت في عهد الرئيس رونالد ريغان، والتزم بأن يضع قوة الدولة في خدمة أهداف التيار المحافظ.

وفي المقابل، لم يثبت عام الانتخابات حتى الآن أنه مرعب للديمقراطية في العالم. إذ أحرزت أحزاب مستبدة وقادة متسلطون، نجاحات في بعض الدول، لكنها هزمت في بلدان أخرى. وكذلك عبر مواطنون عن معارضتهم الحوكمة الاستبدادية عبر طرق أخرى. في يوليو، صوت الفنزويليون بشكل كاسح لمصلحة المرشح المعارض إدماندو غونزاليس، مما أوصل نظام نيكولاس مادورو إلى ارتكاب تزوير واسع كي يعلن الأخير رئيساً فائزاً بالانتخابات. ولا يستطيع نظام مادورو الاستمرار إلا إذا صار استبدادياً بشكل مفضوح وتخلى عن أي شذرة من الشرعية الديمقراطية. وفي ماينمار التي أمسكت الزمرة العسكرية فيها بالسلطة عقب انقلاب في 2021، تدأب انتفاضة مسلحة موالية للديمقراطية المعارضة للزمرة العسكرية وعدد من الميليشيات الإثنية، على إحراز مكاسب على الأرض.

لا تقدم الانتخابات بحد ذاتها ضماناً بانتهاج سياسات جيدة أو التوصل إلى مخرجات طيبة. وبالأحرى، إنها تقدم فرصة لتحميل القادة المسؤولية عن السقطات السياسية وتكافئهم على ما ينظر إليها بوصفها نجاحات. وتصبح الانتخابات خطرة حينما تأتي بقادة يسعون إلى فرض سياسات مشكوك فيها ويأملون في إضعاف المؤسسات الليبرالية والديمقراطية الأساسية أو تخريبها. في ذلك الصدد، أضحت الولايات المتحدة مثالاً نافراً. وفي الحاضر، لم تشهد الديمقراطيات الأوروبية والآسيوية قائداً صاعداً يرفض بفظاظة قبول نتائج انتخابات، أو يحرض على العنف الشعبي بغية تجنب الخروج من السلطة. بالتالي، إن اعتزام كثير من الناخبين الجمهوريين التطبيع مع حوادث السادس من يناير 2021، علامة على ضعف قيم الديمقراطية في الديمقراطية القائدة في العالم. وكذلك فإنها إشارة سيلتقطها شعبويون متماثلو الأفكار (من أمثال داعمي الرئيس البرازيلي السابق جائير بولسينارو الذين قلدوا مشاغبي السادس من يناير حينما اجتاحوا برلمان بلادهم في 2023)، في حال عودة ترمب إلى البيت الأبيض في نوفمبر.

ثمة دروس يجب استخلاصها من عام الانتخابات، وتتمثل حتى الآن بأن صعود الشعبوية والسياسيين المستبدين ليس أمراً محتماً. ومن المستطاع وقف الانحدار الديمقراطي، وقد حدث ذلك بالفعل، في بلدان كثيرة أجرت انتخاباتها. في المقابل، ليس مستطاعاً حماية القيم الديمقراطية بالعنف، ولا بترتيبات سريعة على غرار الحلول التشريعية (كمثل اللجوء إلى التعديل الدستوري الـ14 لإبطال ترشيح ترمب)، وصعود قائد كاريزمي، أو ما إلى ذلك. [البند 14 من قانون الحقوق المدنية، يتيح إبطال ترشيح من شاركوا أو حرضوا على عصيان مسلح].

ويتمثل الشيء الفاعل حقاً في العمل الدؤوب، والممل أحياناً، للسياسات الديمقراطية على غرار عقد النقاشات، والعمل على إقناع المصوتين وتحريكهم للإدلاء بأصواتهم، ونسج تحالفات وكذلك، إذا اقتضت الضرورة، إبرام تسويات يتنحى فيها الأفضل لمصلحة الممكن. وحتى في زمن يتخلله اليأس حيال الديمقراطية العالمية، يملك المواطنون القدرة على أن يكونوا عاملاً فاعلاً في التحرك نحو مستقبل أفضل.

* فرانسيس فوكوياما، زميل أقدم في "مركز الديمقراطية والتنمية وحكم القانون" بجامعة ستانفورد، ويشغل منصب المدير في "قسم فورد دورسي لدرجة الماجستير في القانون الدولي".

المقال مترجم من "فورين أفيرز"، 4 سبتمبر 2024

https://www.independentarabia.com/

اضف تعليق