قد يفشل ترمب. فهل تأتي التعريفات الجمركية بالتأثير الذي يتصوره هو؟ وهل تتصدى له بقية دول العالم؟ هل يتمكن من ترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين بسهولة؟ لن تتأخر التحديات القانونية في الظهور ولن تأتي فرادى. وماذا عن "ناتو"؟ كلها مواضيع من العيار الثقيل. كما تظهر بعض التساؤلات اللافتة...
بقلم: جون سوبيل
خلال ولايته الأولى لم يكن الرئيس مطلعاً على حيثيات العمل في واشنطن، لكنه اليوم على دراية تامة هذه المرة بما يفعله وبسبل تحقيق مراده.
ولاية ترمب الثانية قد تحدث تغييرات جذرية في السياسة الأميركية، مع تعزيز الأجندة الحمائية وتقليص التدخلات الدولية، لكن تحديات قانونية واقتصادية قد تعرقل تنفيذ أجندته الطموحة.
كما درجت العادة مع دونالد ترمب، تظل المبالغة الهزلية الأشبه بالكاريكاتير أسهل الطرق، فلا بد للمرء من التحلي بجرأة تلامس الوقاحة وبقدر من الاعتداد بالنفس قبل أن يتفوه بجملة من نوع "لقد أنقذني الرب كي أعيد لأميركا عظمتها".
وسدد الرجل لخصومه ضربات لم يبد أن لها أي داع، لم يلق جون إف كينيدي ولا ريغان مثلاً -ولا أي من الرؤساء السابقين- خطابات رنانة لتوجيه رسالة "سنحفر ونحفر يا أحبائي". وغلب على بعض اللحظات خلال خطاب التنصيب الذي ألقاه في القاعة الدائرية داخل مبنى الكونغرس، انطباع بمشاهدة تجمع انتخابي لترمب، وإن كانت درجة الثرثرة هنا أخف، ثم خرج علينا إيلون ماسك بـ"تحيته النازية".
وبكل صراحة، كانت طريقة تعبير ترمب لاحقاً عن موضوع إصدار عفو عمن سجنوا على خلفية محاولة الانقلاب في السادس من يناير (كانون الثاني) بغيضة، إذ اقتحم هؤلاء الأشخاص مبنى الكونغرس وأصابوا رجال شرطة في طريقهم ودانهم القضاء. وليس الاستمرار بتسميتهم "رهائن السادس من يناير"، وهو ما فعله، كما لو أنهم يستوون مع الإسرائيليات الثلاث اللاتي اختطفن يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وحررن من أنفاق غزة من يومين سوى أمر بشع ومهين.
إنما يتعين النظر إلى الخطاب ضمن سياق أوسع وأعم.
يشكل فوز ترمب بولاية ثانية أحد أعظم أمثلة العودة لمعترك السياسة على الإطلاق، وبعد إحرازه فوزاً ساحقاً على كامالا هاريس في نوفمبر (تشرين الثاني)، يمتلك ترمب جدول أعمال، وهو على عجلة من أمره لإنجازه.
يتعارض هذا الوضع بصورة كبيرة مع ما حدث منذ ثماني سنوات، ومع تعبير "المذبحة الأميركية" الذي دفع جورج بوش الابن كي يهمس لميشيل أوباما "هذا هراء غريب الأطوار". ولم يخل الأمر من تعليقات تقول إن ترمب يحل على هذا العهد بنسخته الجديدة، لكن بعض المفارقات المهمة تبرز في هذا الإطار.
عند فوزه عام 2016، لم يكن ترمب يعلم شيئاً عن طريقة سير الأمور في واشنطن ولا أدنى فكرة حول الطاقم الذي عليه تعيينه في إدارته الجديدة، وقبل عندها بتوصيات من أشخاص لم يروقوا له كثيراً. ومن باب الإنصاف، يجب أن نضيف بأن كثيرين من بينهم لم يكونوا معجبين به كذلك.
طغى الجهل على المرحلة فعلياً، لكن فيما طبع انعدام الكفاءة عملية الإنجاز في المرة السابقة، أرى الوضع مختلفاً اليوم. وبحسب تعبير أحد المعلقين الأميركيين، "تعلمت الديناصورات اليوم كيف تفتح الأبواب".
إذ بدأ العمل بالفعل بسلسلة الأوامر التنفيذية التي ألمح ترمب إليها في خطاب تنصيبه، ولا شك أن قلمه أمامه أيام مرهقة يسيل فيها حبره على الأمر تلو الآخر، فالرجل جدي.
وكثير من الأميركيين سيكرهون ذلك، أخبرني صديق من أنصار الحزب الديمقراطي بنيته تجنب التلفاز خلال عطلة نهاية الأسبوع. إذ لم يتورع ترمب عن كشف عزمه على إلغاء خطوات كثيرة أقرتها أجندة التقدميين أمام الجميع، الحرب على حركة "اليقظة" ما زالت في مهدها.
لكن من ناحية أخرى، هذه إحدى القضايا التي أوصلته إلى سدة الرئاسة أيضاً. كل يوم سبت، كان يذيع إعلاناً انتخابياً نبرته قاسية ومباشرة أثناء بث مباريات كرة القدم الأميركية بين فرق الجامعات، ويذيله بشعار "كامالا هاريس تؤيد "هم" [في إشارة إلى إقرار ضمير الجنس الثالث]، والرئيس ترمب يؤيدك أنت"، وحققت الرسالة الهدف المرجو منها. أما خطابه في قضيتي الاقتصاد والهجرة، فلعب أيضاً دوراً رئيساً في فوزه.
ما نتوقعه من السياسيين هو أن يفوا بالتعهدات التي قطعوها أثناء حملتهم الانتخابية. لو تخلى عن هذه الوعود بعد انتخابه، لكان اتهم –وعن حق- بالخيانة النكراء.
وقبل أن يسترسل بعض المتابعين باتهامه بزرع الشقاق، تضمن خطابه نقاطاً شمولية كثيرة وملفتة، إذ أدلى به في يوم مارتن لوثر كينغ وتعهد بأن يحقق حلم الرجل الراحل. كما أقر بالدعم الذي حصل عليه من الأميركيين ذوي الأصول اللاتينية ومن العاملين في صناعة السيارات والطبقة العاملة والمدن والمناطق الريفية، وتعهد بأن يحكم لمصلحة كل الأميركيين.
وكاد طرحه بإعادة إحياء عقلية الرجال المغامرين الذين توجهوا غرباً وخاطروا بكل شيء في سبيل فتح أميركا، يفيض برومنسية مؤثرة تدمع لها العين. ثم تحدث ترمب عن أحلام الآباء لأبنائهم وأحلام الأبناء لمستقبلهم، ووعد بأن يؤازرهم. أستطيع أن أتخيل الوقع الإيجابي الذي أحدثته هذه الكلمات في جميع أرجاء الولايات المتحدة.
صحيح أن الأميركيين يفرطون في استخدام عبارة "اللحظة المفصلية"، لكن خلال حقبة التسوية بعد الحرب العالمية الثانية في أميركا، ساد شعور بأنها لحظة من هذا النوع. منح روزفلت الأميركيين "صفقته الجديدة" [التزام رئاسي باستخدام الحكومة كمحرك للانتعاش الاقتصادي] في ثلاثينيات القرن الماضي، وبنى كينيدي وليندون جونسون على هذه السياسات في ستينيات القرن الماضي. وجاءت اللحظة المفصلية التالية على يد ريغان (كما حصل مع تاتشر في المملكة المتحدة) الذي رسخ مذهباً اقتصادياً جديداً سمي النقدية وجاء بالحكومة الصغيرة وخفض الضرائب.
والآن لدينا ترمب بنسخته الثانية، ستكون حقبة يميل اقتصادها بصورة أكبر إلى المنحى القومي الداخلي، وسنرى أميركا التي تتجنب لعب دور قوة حفظ الأمن في العالم. في عهد ترمب الأول، لم تتعد هذه الأمور نطاق الخطاب لكنها اليوم قد تتحقق فعلاً. ويبدو أن الرياح تسير في هذا الاتجاه في معظم أجزاء أوروبا كذلك، إذ إن سياسات وسط اليمين ووسط اليسار في تراجع.
طبعاً، قد يفشل ترمب. فهل تأتي التعريفات الجمركية بالتأثير الذي يتصوره هو؟ وهل تتصدى له بقية دول العالم؟ هل يتمكن من ترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين بسهولة؟ لن تتأخر التحديات القانونية في الظهور ولن تأتي فرادى. وماذا عن "ناتو"؟ كلها مواضيع من العيار الثقيل.
كما تظهر بعض التساؤلات اللافتة التي تنتظر الإجابة عنها، حول الاتجاه الذي قد يختاره في مجال سياسات بالغة الأهمية. امتلأت القاعة الدائرية بالمليارديرات الذين مولوه، لكن فوزه بالانتخابات يعزى إلى أعداد وفيرة من المواطنين الذين يعانون حرماناً اقتصادياً، فأي اتجاه سيطبع سياسته المالية؟ هل يساعد هؤلاء المحتاجين أم أصحاب الثروات؟
ويريد الرئيس المحب لشطائر بيغ ماك أن يستلم روبرت إف كينيدي جونيور وزارة الصحة، لكن كينيدي هذا عازم على التصدي لصناع الأطعمة الفائقة المعالجة، إذ يحملهم مسؤولية أزمة البدانة المريعة في الولايات المتحدة، ولا ريب في أن شركات الأغذية سترغب في مقاومته.
في حركة "ماغا" من يريدون إغلاق الأبواب بوجه الأجانب كافة، لكن إيلون ماسك يتصدى لهذا الاتجاه ويقول إنه لو لم تستقطب الولايات المتحدة أفضل المهارات من الخارج، فلن تستعيد أميركا عظمتها.
ربما يفشل ترمب، ربما يمر بانتكاسات وإذلال. ولن يخلو العهد من المبالغات والنرجسية، لكن دعونا نبتعد عن السطحية والعجرفة وتسخيف الأمور. سيكون لهذا العهد الرئاسي أهمية كبيرة، وقد يغير حتى نظرتنا إلى العالم.
اضف تعليق