ارتبطت أوجه اللامساواة بتآكل الطبقة الوسطى في المنطقة. ففي العام 2013، بدأ حجم الطبقة الوسطى بالتقلُّص ليصل إلى أقل من 40 في المئة من مجموع سكان المنطقة في السنوات الأخيرة، إذ غرقت الدول، ولا سيما البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل في دوّامةٍ من التحديات، بدءًا من أزمات...
بقلم: نور عرفة

تعاني بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أوجه تفاوت عميقة ستؤثّر بشدّة على آفاق النمو الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، والاستقرار السياسي في مختلف أرجاء المنطقة.

تشهد بلدانٌ عدّة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تصاعد وتيرة الاستياء الاجتماعي الاقتصادي. ففي العام 2019، عمّت موجةٌ من الاحتجاجات الشعبية السودان والعراق ولبنان والمغرب والأردن والجزائر، وهي دولٌ بقيت بمنأى عن الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها في فترة 2010-2011. ولم تقتصر مطالب المتظاهرين على إحداث تغييرات في أنظمتهم السياسية، بل شملت أيضًا تحويل الأنظمة الاقتصادية القائمة بشكلٍ جذري، مندّدين بارتفاع الأسعار، والتوزيع غير المتكافئ للثروة، واستيلاء النخب على الموارد وسيطرتها على مصادر الريع، وغياب العدالة الاقتصادية.

واقع الحال هو أن فجوة اللامساواة الاقتصادية عميقة للغاية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنةً مع مناطق أخرى حول العالم. وقد فاقمت عوامل عدّة أوجه التفاوت الاجتماعي الاقتصادي، أبرزها تفشّي جائحة كوفيد-19، واندلاع الحرب في أوكرانيا، وأزمات الغذاء والطاقة والديون التي عصفت بدول عدّة في المنطقة. وألقى هذا الوضع بظلاله على الفئات السكانية الأكثر احتياجًا وتهميشًا، التي عانت من نقص الموادّ الغذائية، وتقلّبات أسعار السلع، وارتفاع درجات الحرارة بسبب تغيّر المناخ، وندرة المياه، وتدهور أحوال الأراضي، وخفض الإنفاق الحكومي على الخدمات العامة. هذا ولم تضع حكومات المنطقة في صُلب أولوياتها اتّخاذ الإجراءات اللازمة لمكافحة اللامساواة. ولكن حريٌّ بها ذلك، نظرًا إلى تداعيات اللامساواة على النمو الاقتصادي، والتماسك الاجتماعي، وقدرتها على تقويض المؤسسات التمثيلية، وتوطيد أركان الأنظمة الشعبوية.

المنطقة ذات المستوى الأعلى من اللامساواة في العالم

تسجّل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعلى مستويات من التفاوت الاقتصادي في العالم. وجدت دراسة سعت إلى تحديد مدى تركّز الدخل وتطوّر هذه الظاهرة في المنطقة بين العامَين 1990 و2016، أن ما يقارب 64 في المئة من إجمالي الدخل ذهب إلى شريحة الـ10 في المئة الأعلى دخلًا من السكان، مقارنةً مع 37 في المئة في أوروبا الغربية، و47 في المئة في الولايات المتحدة، و55 في المئة في البرازيل. في غضون ذلك، يحظى أفقر 50 في المئة من سكان المنطقة بـ9 في المئة من إجمالي الدخل فقط، مقارنةً مع 18 في المئة في أوروبا.

تُعزى هذه النسب المرتفعة من تركّز الدخل إلى أوجه اللامساواة داخل البلدان، وأيضًا في ما بينها، ولا سيما بين دول مجلس التعاون الخليجي الأكثر ثراءً من جهة، ودول أخرى ذات كثافة سكانية عالية من جهة أخرى. ولكن، حتى من دون إدراج دول الخليج في هذا التحليل، تبقى آفة اللامساواة شديدة الوطأة، إذ استحوذت فئة الـ10 في المئة من السكان الأعلى دخلًا على أكثر من 50 في المئة من إجمالي الدخل في المنطقة خلال الفترة الممتدّة بين 1990 و2016. وتبدو الفجوة في الدخل واضحةً أيضًا حين ننظر إلى مؤشر "جيني" لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو مقياس تحديد مستوى اللامساواة الاقتصادية في الدول. فبين العامَين 2015 و2020، ظل مؤشر "جيني" يتراوح بين 65 و75 في المئة في دول عربية عدّة (تشير نسبة 100 في المئة إلى أقصى قدرٍ من انعدام المساواة).

وقد ارتبطت أوجه اللامساواة بتآكل الطبقة الوسطى في المنطقة. ففي العام 2013، بدأ حجم الطبقة الوسطى بالتقلُّص ليصل إلى أقل من 40 في المئة من مجموع سكان المنطقة في السنوات الأخيرة، إذ غرقت الدول، ولا سيما البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل في دوّامةٍ من التحديات، بدءًا من أزمات الديون المتكرّرة، والتدابير التقشّفية، والمستويات المرتفعة من الفقر، ونقص تمويل الخدمات العامة، ومرورًا بالتوزيع غير المتكافئ للموارد، ونشوب الصراعات، وتنامي الاقتصاد غير الرسمي، ووصولًا إلى معدّلات البطالة المتزايدة، والأنظمة الضريبية غير العادلة، وتداعيات تغيّر المناخ، وغيرها من المشاكل.

وما زاد الأمور سوءًا أن أوجه اللامساواة تعمّقت وترسّخت خلال تفشّي جائحة كوفيد-19 التي أثّرت بصورة غير متكافئة على المجتمعات المحلية الأكثر احتياجًا، بما في ذلك الفقراء، واللاجئين، والأشخاص المنخرطين في القطاع غير الرسمي. وفيما انزلق 16 مليون شخص إلى براثن الفقر خلال الجائحة، ليصل مجموع عدد الفقراء إلى أكثر من 116 مليون فرد، تراجعت أيضًا ثروة النصف الأكثر فقرًا من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمقدار الثلث. وشهدت فئة الدخل الوسطي من السكان تدنّي ثروتها بنسبة 28 في المئة تقريبًا.

في غضون ذلك، زاد أثرياء المنطقة سيطرتهم على الأصول والممتلكات، وارتفع صافي ثرواتهم بنسبة 60 في المئة في بين العامَين 2019 و2022، فيما نمت ثروات أصحاب المليارات بمعدّل 22 في المئة، ما سلّط الضوء على اتّساع فجوة التفاوت في توزيع الثروة في المنطقة عقِب الجائحة.

فعلى سبيل المثال، مع أن 60 في المئة من سكان لبنان باتوا يعيشون تحت خط الفقر نتيجة الانهيار الاقتصادي والمالي المستمر منذ العام 2019، شهد الأفراد الأكثر ثراءً في البلاد نمو صافي ثرواتهم بمقدار الضعف تقريبًا بين العامَين 2020 و2022. على نحو مماثل، بینما تتخبّط مصر في خضمّ أزمة مالیة، شهد أغنیاء البلد زیادةً في ثرواتهم بنسبة فاقت 50 في المئة، وهذا ما حدث أيضًا مع النخبة الثرية في الأردن. في الواقع، أظهر تقريرٌ صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أن ثماني دول عربية أُدرجت ضمن الدول الست عشرة التي شهدت أعلى زيادة في معدّل تفاوت الثروة بعد تفشّي جائحة كوفيد-19.

وخير مثالٍ على التركّز الشديد في الثروة أن ثروات أغنى ثلاثة أفراد في المنطقة بلغت مجتمعةً 26.3 مليار دولار خلال فترة الجائحة، وهذا يتجاوز مجموع ثروات 222.5 مليون شخص يقبعون في الجزء السفلي من هرم الثروة في المنطقة، والبالغ 25.5 مليار دولار.

ويتفاقم هذا التفاوت الكبير في الثروة نتيجة معدّلات الديون العالية جدًّا التي تسجّلها دول المنطقة، بالتزامن مع تقلّص الحيّز المالي المتاح أمام الحكومات، وارتفاع معدّلات التضخّم، وتدهور قيمة العملات الوطنية، وأزمة غلاء المعيشة. فهذه كلّها عوامل زادت من المشاكل التي واجهتها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وخصوصًا البلدان منخفضة ومتوسّطة الدخل) خلال الأعوام الماضية، ولا سيما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا.

ضرورة الحدّ من اللامساواة

يتعيّن على دول المنطقة أن تضع في صُلب أولوياتها معالجة جذور اللامساواة، بعد أن تجاهلتها لفترة طويلة. يكتسي التركيز على تقليص فجوة اللامساواة جانبًا كبيرًا من الأهمية لأنها تقوّض العدالة الاجتماعية، ولأن أوجه التفاوت الاقتصادي والاجتماعي تولّد تداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة تعيق آفاق التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المدى الطويل.

يُعدّ التفاوت الاقتصادي سببًا هيكليًا يسهم في زعزعة الاستقرار واندلاع الأزمات المالية. وقد ثَبُت أنه يؤدّي إلى بنى اقتصادية غير مستقرّة وأقل فاعلية تقوّض النمو الاقتصادي وتحدّ من انخراط السكان في سوق العمل. فنظرًا إلى أن الأغنياء، الذين يملكون حصةً أكبر من الدخل الكلّي، يميلون إلى إنفاق جزءٍ أصغر من دخلهم مقارنةً مع الفقراء، يفضي انعدام التكافؤ في توزيع الدخل إلى تقليص الطلب الإجمالي، ما قد يعرقل النمو الاقتصادي. ويقوّض التفاوت الاقتصادي أيضًا الجهود الرامية إلى الحدّ من الفقر ويسفر عن ضياع الإمكانيات الإنتاجية والتخصيص غير الفعّال للموارد.

ومن المعروف أن التفاوت الاقتصادي يقوّض عملية ارتقاء الأشخاص السلّم الاجتماعي. لذلك، يستمرّ انعدام التكافؤ في الفرص من جيلٍ إلى آخر، ويقع الأفراد الأدنى دخلًا في فخّ الفقر، ويدخلون في حلقة مُفرغة لأن غياب الموارد يؤدّي إلى تقييد الفرص المتاحة أمامهم بشكلٍ أكبر.

في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحديدًا، أسفر ارتفاع مستويات تركّز الدخل والثروة في أيدي قلّة من السكان عن نشوء مجتمعٍ مزدوج، تحصل فيه فئة من السكان على خدمات خاصة عالية الجودة، مثل التعليم والرعاية الصحية وخدمات أساسية أخرى، فيما لا تحظى الفئة الأخرى إلّا بخدمات أساسية أدنى جودة بكثير يوفّرها عادةً القطاع العام بشكلٍ غير كافٍ. يُحدِث التفاوت الاقتصادي إذًا انقسامات في المجتمع، ما يقوّض الحسّ المجتمعي، ويُضعف التماسك الاجتماعي، ويؤجّج جذوة التوترات والنزاعات، ما يفضي في نهاية المطاف إلى التفكّك المجتمعي والاضطراب السياسي ومفاقمة انعدام الأمن البشري.

تُعدّ مكافحة اللامساواة ضرورية أيضًا لأن المستويات المرتفعة من التفاوت الاقتصادي تُحدِث انقساماتٍ في الاقتصاد والمجتمع، ما يؤدّي إلى إرساء أنظمة اقتصادية حيث لا تستفيد سوى فئة صغيرة من السكان بشكل أساسي من النمو الاقتصادي (plutonomies). ونظرًا إلى أن توزيع الثروة والدخل يحدّد في الغالب توزيع السلطة في الأنظمة السياسية، يفضي ذلك إلى حصيلتَين. أولًا، يُنشئ هذا الواقع حلقة مفرغة، إذ يولّد التفاوت الاقتصادي حالةً من اللامساواة السياسية التي تسمح للأثرياء باستخدام نفوذهم السياسي لترسيخ مصالحهم الاقتصادية في المؤسسات الاجتماعية وحماية مكانتهم، ما يفاقم بدوره أوجه التفاوت الاقتصادي. يُشار إلى هذا الوضع أحيانًا بمصطلح "فخّ اللامساواة"، الذي يمنع الأثرياء من الانزلاق إلى أسفل الهرم الاجتماعي الاقتصادي ويعيق في الوقت نفسه ارتقاء الفقراء سلّم الثروة.

وثانيًا، تؤدّي اللامساواة السياسية، بالتزامن مع اتّساع فجوة التفاوت الاقتصادي، إلى تقويض المؤسسات التمثيلية على نحو متزايد وفقدان الثقة في المؤسسات العامة. فقد أظهرت دراسات عدّة أن اشتداد اللامساواة الاقتصادية يقوّي الأنظمة السلطوية ويشكّل عاملًا رئيسًا يسهم في تأجيج السخط الشعبي وتصاعد الشعبوية حول العالم. لذلك، يمكن أن يفترض المرء أن ارتفاع مستويات اللامساواة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هو ربما أحد الأسباب خلف بروز سياسات الرجل القوي والنجاح المتنامي الذي تحقّقه شخصيات شعبوية تستغلّ مشاعر الاستياء والإحباط في أوساط السكان لخدمة مصالحها الخاصة.

وفي ظل غياب سياسات فعّالة، لن تبقى مستويات اللامساواة المرتفعة الراهنة على حالها فحسب، بل ستواصل مسارها التصاعدي على الأرجح. ويُحتمَل أن يؤدّي تغيّر المناخ إلى زيادة حدّة التفاوت الاقتصادي، إذ سيؤثّر بشكلٍ غير متناسب على الفئات الفقيرة والأكثر احتياجًا، التي ستتحمّل أعباء ارتفاع درجات الحرارة، وتدهور أحوال الأراضي، والمشاكل المرتبطة بنقص الموادّ الغذائية وزيادة أسعارها. كذلك، يُحتمَل أن تسهم استخدامات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الرقمية الناشئة والأتمتة في مفاقمة أوجه اللامساواة، إذ قد تزيد من عائدات ذوي الدخل المرتفع وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة بصورة غير متكافئة.

لذا، لا بدّ من معالجة أوجه اللامساواة في المنطقة على وجه السرعة من خلال إجراء إصلاحات هيكلية جادّة متجذّرة في السعي إلى تحقيق العدالة الاقتصادية. ومن بين الإصلاحات العاجلة التي يتعيّن تنفيذها توسيع الحيّز المالي للحكومات وتعزيز توليد الموارد المحلية، على أن يتم ذلك إلى حدٍّ كبير من خلال توسيع القاعدة الضريبية وجعل نظام الضرائب تصاعديًا أكثر لضمان تطبيق سياسة ضريبية أكثر عدلًا. ومن شأن تنويع مصادر التمويل الحكومية أن يسمح للقطاع العام بزيادة الإنفاق على الضمان الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية والتعليم، وهذا أمرٌ ضروري لتحسين الرعاية الاجتماعية ومحاربة اللامساواة بمختلف أبعادها.

واقع الحال أن ثمة أزمة كبيرة تلوح في أفق المنطقة نتيجة استمرار الحكومات في تجاهل مشكلة اللامساواة والإحجام عن إجراء الإصلاحات اللازمة.

https://carnegieendowment.org/



اضف تعليق