آراء وافكار - وجهات نظر

صفقةٌ في دمشق

ما الدوافع الكامنة خلف الاتفاق المُبرم بين أكراد سورية وإدارة أحمد الشرع الجديدة؟

الحكومة السورية الجديدة تَعتبر من المهم عدم الدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ مع قوات سورية الديمقراطية، إن كان بمقدورها تجنّب ذلك. فهي بحاجة إلى نسج علاقاتٍ بنّاءةٍ مع الولايات المتحدة لضمان رفع العقوبات، ناهيك عن حاجتها إلى الحصول على موافقةٍ أميركيةٍ لشطب هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية...
بقلم: فلاديمير فان ويلغنبرغ

يوم العاشر من آذار/مارس، وقّع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، والقائد العام لقوات سورية الديمقراطية مظلوم عبدي اتفاقًا من ثمانية بنود، يقضي بدمج هذه القوات في الإدارة السورية الجديدة.  

تفاجأ كثرٌ بتوقيت الاتفاق المُبرم مع قوات سورية الديمقراطية (قسد) التي يطغى عليها الأكراد، الأمر الذي يدفع المرء إلى التساؤل حول السبب الذي دفع الأكراد إلى توقيع هذا الاتفاق بعد فترة وجيزة جدًّا من اندلاع التمرّد المحلي الذي قاده فلول نظام الأسد السابق في مناطق الساحل السوري وريفها. وأسفر ذلك عن حملة قمع شرسة ضدّ أبناء الطائفة العلوية، ومقتل حوالى 800 شخص خارج نطاق القانون. لابدّ من التساؤل: هل وقّع الأكراد الاتفاق بسبب احتمال انسحاب القوات الأميركية قريبًا من سورية، ما من شأنه أن يتركهم تحت رحمة القوات التركية؟ أم على العكس، هل اضطرّت دمشق إلى اتّخاذ هذه الخطوة سعيًا إلى التخفيف من الضرر الذي لحق بسمعتها بعد المجزرة التي ارتُكبت بحقّ العلويين؟ أم هل ثمّة أسبابٌ أخرى وراء توقيع هذا الاتفاق؟

تساءل وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، في مقابلة مع شبكة ABC News، حول سبب عدم نجاح النظام السوري في التوصّل إلى اتفاق مع الأكراد إلّا بعد الأحداث المأساوية التي شهدتها مناطق الساحل السوري. أبدى بعض المحلّلين السوريين خشيتهم من أن تدفع مجزرة العلويين الولايات المتحدة إلى الامتناع عن رفع العقوبات عن سورية، وبالتالي إلحاق الضرر بالتعافي الاقتصادي في البلاد. في المقابل، تبنّى البعض الآخر نظرة إيجابية أكثر. فقد أبلغني وائل الزيات، وهو خبيرٌ سابقٌ في سياسات الشرق الأوسط لدى وزارة الخارجية الأميركية، أن "هذا [الاتفاق] شكّل خبرًا سارًّا كان الجميع في أمسّ الحاجة إلى سماعه بعد أعمال العنف التي شهدناها في الساحل السوري". وأضاف أن "السوريين يتنفّسون الصعداء في كلٍّ من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة والمناطق التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية على السواء".

ولفت بدر ملّا رشيد، مدير مركز رامان للبحوث والاستشارات المُتَّخذ من اسطنبول مقرًّا له، إلى ورود توقّعاتٍ في وقتٍ سابق بشأن احتمال إبرام اتفاق، في 2 أو 3 آذار/مارس، لكن "بعد ذلك، تصاعدت وتائر الاشتباكات فجأةً في مناطق الساحل السوري". وأضاف قائلًا: "أعتقد أن الطرفَين، إلى جانب الولايات المتحدة وبعض دول المنطقة، مارست جميعها ضغوطًا على قوات سورية الديمقراطية ودمشق لتسريع عملية توقيع الاتفاق".

لغاية الآن، تُبدي إدارة ترامب عدم ثقة بحكومة الشرع إلى حدٍّ كبير، مثلها مثل إسرائيل. فالعقوبات الأميركية المفروضة على سورية تسبّبت بتعطيل الدعم المادي الذي كانت ستقدّمه قطر إلى البلاد، على الرغم من أن القطريين أعلنوا في 13 آذار/مارس أنهم سيتمكّنون من تزويد سورية بالغاز الطبيعي عبر الأردن، لتوليد الطاقة الكهربائية. وقد أدان وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو قيام "إرهابيين إسلاميين متطرّفين" بقتل أشخاص من الأقليات الإثنية في [المناطق الساحلية في] غرب سورية. في هذا السياق، يمكن لإبرام صفقة مع قوات سورية الديمقراطية، حليفة الولايات المتحدة، أن تضمن لحكومة الشرع ربما الحصول على موافقة الغرب، ما يحسّن بالتالي صورة القيادة السورية الجديدة. وبالفعل، أشاد روبيو في 12 آذار/مارس بالاتفاق، على الرغم من إعرابه مجدّدًا عن قلقه إزاء "أعمال العنف الفتّاكة التي استهدفت الأقلّيات مؤخرًا".

بدا أن آرون لوند، وهو زميل في مركز القرن الدولي، يتّفق مع هذا التفسير. فقد أخبرني أن "الحكومة السورية الجديدة تَعتبر من المهم عدم الدخول في مواجهةٍ مباشرةٍ مع قوات سورية الديمقراطية، إن كان بمقدورها تجنّب ذلك. فهي بحاجة إلى نسج علاقاتٍ بنّاءةٍ مع الولايات المتحدة لضمان رفع العقوبات، ناهيك عن حاجتها إلى الحصول على موافقةٍ أميركيةٍ لشطب هيئة تحرير الشام من قائمة المنظمات الإرهابية".

ثمة عاملٌ آخر أسهم ربما في التوصّل إلى اتفاق، وهو احتمال انسحاب إدارة ترامب من سورية. فقد ذكر حسن حسن، مؤسّس مجلة نيو لاينز، خلال مشاركته في جلسةٍ نقاشية نظّمها معهد الشرق الأوسط يوم 11 آذار/مارس، أن الأميركيين بدأوا بالفعل يدرسون سيناريوهات انسحاب قواتهم في أيلول/سبتمبر المقبل. ويُشار إلى أن وسيطًا أميركيًا كان حاضرًا خلال الاجتماع الأول بين الشرع وعبدي في 30 كانون الأول/ديسمبر الماضي. وقال حسن إن "الأميركيين كانوا إذًا منخرطين في مساعي التوصّل إلى اتفاق، إذ توسّطوا في هذه العملية خلال عهد بايدن، واستمرّوا [في ذلك] في ظل إدارة ترامب".

وخلال الجلسة النقاشية نفسها، أشار تشارلز ليستر، زميلٌ أول في معهد الشرق الأوسط، إلى أن "الاتفاق كان في الأساس مطروحًا على الطاولة منذ أسابيع، وجرى الاتفاق على بنود شكّلت بنيته الأساسية". ولفت أيضًا إلى أن "القوات الأميركية كانت منخرطة منذ اليوم الأول، والنتيجة التي وصلنا إليها كانت بفضل دفع قوي من الجيش الأميركي". وذكر أن قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، تواجد مؤخرًا في شمال شرق سورية، وسط تقارير أفادت بأنه ساعد على حثّ قوات سورية الديمقراطية على المضيّ قدمًا بالاتفاق، حتى لو أن المفاوضات كانت تجري على قدم وساق من دونه.  

وأبلغني آرون ستاين، رئيس معهد أبحاث السياسة الخارجية، أن "الولايات المتحدة كانت تضغط على مظلوم لتوقيع اتفاقٍ منذ فترة، لكنه كان يماطل. وأعتقد أن احتمال انسحاب الولايات المتحدة دفع مظلوم إلى حسم أن الوقت قد حان لاتّخاذ هذه الخطوة الأولى، وتمديد المفاوضات مع دمشق حول مستقبل سورية".

كذلك، برزت مؤشرات على أن قوات سورية الديمقراطية سعت إلى إبرام اتفاقٍ من تلقاء نفسها. فيوم 18 شباط/فبراير، أعلن المسؤول في "قسد" أبو عمر الإدلبي أنه خلال اجتماع عُقد بينها وبين مؤسسات محلية، تقرّر دمج قوات سورية الديمقراطية ضمن هيكل الجيش السوري، وتشكيل لجانٍ لمعالجة القضايا الشائكة، بما فيها تسهيل عودة النازحين داخليًا إلى مدنهم وقراهم، وهذه نقاط أساسية تضمّنها الاتفاق الجديد مع دمشق. وفي 26 شباط/فبراير، ألمح عبدي إلى احتمال التوصّل إلى اتفاق خلال الأسبوعَين المقبلَين.

مع ذلك، نفى مصدرٌ من قوات سورية الديمقراطية أن يكون الاتفاق مرتبطًا بانسحابٍ أميركي محتمل. ولفت إلى أن "الولايات المتحدة لم تتّخذ قرارًا بشأن سياستها في سورية. ما من تغيير يطرأ. والمحادثات كانت مستمرة منذ فترة طويلة". أما بالنسبة إلى الاشتباكات التي اندلعت في مناطق الساحل السوري، فقال المصدر عينه إن تزامُنَ الاتفاق مع هذه الأحداث "كان محض صدفةٍ".

وفي 26 شباط/فبراير الماضي، دعا زعيم حزب العمّال الكردستاني المسجون عبدالله أوجلان عناصر حزبه إلى إلقاء السلاح في إطار تحقيق عملية السلام بين الحزب والحكومة التركية ووضع حدّ لصراعهما الدائر منذ أربعة عقود. وقد تسهم هذه العملية أيضًا في تحسين العلاقات بين تركيا وقوات سورية الديمقراطية، التي يتّهمها الأتراك بالارتباط بحزب العمّال الكردستاني. وقد دفع هذا التطوّر البارز بالمصدر المذكور (وهو من "قسد") إلى القول إن "رسالة أوجلان شجّعت قوات سورية الديمقراطية والإدارة الذاتية الكردية لشمال وشرق سورية على تسريع عملية [الاتفاق مع دمشق]. وكانت الولايات المتحدة تمارس ضغوطًا في الاتجاه نفسه، لذا لم يعد ثمّة سببٌ يدعو إلى الانتظار ".

علاوةً على ذلك، صرّح صالح مسلم، المسؤول البارز في حزب الاتحاد الديمقراطي، لصحيفة Türkiye بأن الحزب كان يُجري مفاوضات مع دمشق منذ فترة طويلة. والجدير بالذكر أن حزب الاتحاد الديمقراطي ساعد على تأسيس وحدات حماية الشعب، وهي الفصيل الرئيس في قوات سورية الديمقراطية. وأضاف قائلًا: "لم نجلس على الطاولة بتوجيهاتٍ أو بطلبٍ من الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى. وقد نتّخذ قرارًا بانسحابنا من شمال شرق سورية، فنحن لا نبني خططنا على أساس الوجود الأميركي أو التحالف الدولي".

ولفتت الباحثة سامنتا تيل من مركز معلومات شمال وشرق سورية، إلى أن "قسد" لا تتوقّع انسحاب القوات الأميركية في وقتٍ قريب. وأضافت أن "[الأكراد] يعلمون بالطبع أنها لن تبقى هناك إلى الأبد، وأن قوات سورية الديمقراطية جادّة برغبتها في إرساء السلام في سورية. هي فعلًا ترغب في تحقيق ذلك، لكي تُنتفى الحاجة إلى وجود قوات خارجية داخل البلاد".

وفي ما يتعلق بدوافع الحكومة السورية، لفت تشارلز ليستر على ما يبدو إلى أنها مهتمّةٌ أيضًا بإبرام اتفاق. وأضاف أن وزير الدفاع السوري أشار إلى أن اللجوء إلى حلٍّ عسكري في وجه قوات سورية الديمقراطية كان ليتطلّب نشر جميع القوات العسكرية السورية في شمال شرق البلاد، وهو أمرٌ لم يكن ليحدث إطلاقًا. لذا، كان لدى دمشق سببٌ لتفضيل تطبيق حلٍّ تفاوضي، ولا سيما أن ما من اشتباكٍ سُجِّل بين قوات القيادة السورية الجديدة و"قسد" منذ كانون الأول/ديسمبر.

ويبدو أن وائل الزيات يشاطره هذا الرأي، إذ قال: "أعتقد أن قوات سورية الديمقراطية كانت ترزح تحت وطأة الضغوط، نظرًا إلى إمكانية انسحاب القوات الأميركية، و[كذلك] كانت الحكومة السورية التي لم تُرِد خوض صراع على جبهات متعدّدة".

أما آرون لوند فألمح إلى احتمال وجود بعض المسائل الشائكة على الرغم من إبرام الاتفاق. فقد قال: "يبدو لي الاتفاق مُبهمًا للغاية، وأعتقد أن الشرع وعبدي أقدما على هذه الخطوة لأن إحراز بعض التقدّم على هذا المسار ملائمٌ سياسيًا. ولا يظهر أنهما تمكّنا من تسوية النقاط الشائكة الرئيسة، أو على الأقل ما من مؤشرات على ذلك في الاتفاق المُعلَن".

في الواقع، لا يوضح الاتفاق ما إذا كانت منطقة شمال شرق سورية ستشكّل جزءًا من هيكل سوري يستند على اللامركزية بشكل أكبر، أم أنها ستتمتّع حتى بحكم ذاتي، فيما يُعرف عن السلطات في دمشق ميلها إلى المركزية. ومن بين الأسئلة التي بقيت عالقةً أيضًا: هل سيتم تكريس حقوق الأكراد في الدستور السوري؟ وهل سيتم حلّ قوات سورية الديمقراطية أم سيجري دمجها كوحداتٍ منفصلة في منظومة الدفاع الجديدة؟ وهل ستتماشى السياسات الكردية التي تضمن المساواة بين الجنسَين مع النظام القانوني السوري، المتأثّر بالشريعة الإسلامية؟ تُضاف إلى ذلك أيضًا مسألة من سيسيطر على حقول النفط والغاز في سورية. كلّ هذه الثغرات تشير إلى الحاجة إلى إجراء مفاوضات مطوّلة، حتى لو أن الاتفاق قد نصّ على مهلة تطبيقٍ للبنود تنتهي في موعدٍ أقصاه نهاية العام الجاري.

https://carnegieendowment.org/

اضف تعليق