q
في حين لا يمكن لهذه الانتخابات الجديدة ان تضمن تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أنها يمكن أن توفر فرصة جيدة لتعزيز الثقة وتشجيع الحوار وزيادة مشاركة المواطنين. كما يمكن أن تساعد أيضًا في تعزيز الشعور بالوحدة والهدف المشترك بشرط أن تكون عادلة ونظيفًة. وحتى يتسنى تحقيق ذلك، ينبغي التوصل...
بقلم: يريفان سعيد

كان يُشار إلى الأكراد في وقتٍ من الأوقات بصنّاع الملوك، وعلى أنهم من ركائز الاستقرار، وأقوى قوة في محاربة تنظيم "الدولة الإسلامية". أما الآن، فتشلّهم التحزبات الشرسة والسياسة القبلية والانقسامات الداخلية.

بعد أشهرٍ من المفاوضات التساومية والمشاحنات، أقرّ مجلس النواب العراقي موازنة مثيرة للجدل مدتها ثلاث سنوات في 12 حزيران/يونيو. وتؤمّن موازنة عام 2023 مبلغًا قياسيًا بقيمة 153 مليار دولار لتمويل القطاع العام المتنامي والمشاريع الإنمائية والبنية التحتية في العراق. ومع أن الخلافات بين الأكراد والعرب حول حقوق حكومة إقليم كردستان والتزاماتها في الموازنة عرقلت جلسات مجلس النواب لبضعة أيام، ساعدت الانقسامات الكردية الداخلية في النهاية الفصائل الشيعية والسنية على إضعاف الاستقلال المالي في إقليم كردستان. وقد أدى ذلك فعليًا إلى إخضاع حكومة إقليم كردستان للسلطة الفدرالية، والدخول في حقبة جديدة من العلاقات بين أربيل وبغداد.

الدور الكردي في العراق ما بعد عام 2003

منذ عام 2003، اكتسب إقليم كردستان درجة كبيرة من الحكم الذاتي والنفوذ السياسي داخل البلاد. وفي الواقع، كان الأكراد مشاركين نشطين في المشهد السياسي الجديد في العراق منذ البداية، إذ انخرطوا بشكل كبير في صياغة الدستور الجديد وتشكيل النظام السياسي في العراق في نهاية المطاف. وقد شغلوا مناصب مهمة في الحكومة الفدرالية، وشاركوا في مفاوضات إنشاء مختلف الحكومات وتشكيلاتها على مر السنين. ويُخصَّص منصب الرئاسة الرمزي في العراق للأكراد حسب الأعراف.

على الصعيد العسكري، أدت قوات البيشمركة الكردية دورًا فعالًا في غزو العراق عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة. ومع دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" في عام 2014، اكتسبت قوات البيشمركة في الواقع الأراضي والموارد الاقتصادية من خلال بسط سيطرتها على محافظة كركوك الغنية بالنفط، بعد أن تخلّت القوات العراقية الفدرالية عن مواقعها. وطردت البيشمركة بشكل فعال تنظيم "الدولة الإسلامية" من كركوك، ثم شاركت لاحقًا في هجماتٍ لجعل المجموعة المتطرفة تتراجع. وتم الإشادة بها كقوة مقاتِلة بالنيابة عن العالَم.

بالإضافة إلى التعامل مع هذه المشاكل السياسية والعسكرية، طوّرت حكومة إقليم كردستان اقتصادها بنشاط على مدى السنوات المتعددة الماضية، فجذبت رأس المال الدولي وشكّلت تحالفات تجارية. وقد وسّعت بشكل ملحوظ قطاع الهيدروكربونات الخاص بها، وصدّرت 450 ألف برميل من النفط يوميًا حتى آذار/مارس 2023. وكنتيجة لذلك، كانت المناطق التي يسيطر عليها الأكراد الجزء الأكثر ازدهارًا في البلاد. وعلى الرغم من النكسات الاقتصادية الأخيرة وعجز حكومة إقليم كردستان عن دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية - بالإضافة إلى التفاوت في الثروة الكامن خلف التنمية الاقتصادية في الإقليم – ما زال معدّل الفقر في كردستان هو الأدنى في جميع أنحاء العراق.

الانقسامات الكردية الكامنة

يبدو أن حكومة إقليم كردستان تمتلك كافة خصائص الدولة ذات السيادة باستثناء أي اعتراف دولي رسمي بها. حتى أنها حاولت الحصول على السيادة الكاملة في عام 2017 من خلال إجراء استفتاء مثير للجدل على الاستقلال. إلا أن هذا الاستفتاء أدى إلى خسائر جغرافية وسياسية واقتصادية كبيرة، وإلى تفاقم الانقسامات الداخلية المتوارية خلف النجاحات الظاهرة التي حققتها حكومة إقليم كردستان.

من الناحية السياسية، ساءت في السنوات الأخيرة حالة الصراع التاريخي على السلطة بين الحزبين الحاكمين – وهما "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني". ولم تؤدِّ الجهود التي بذلها الدبلوماسيون الغربيون، من بينهم مساعِدة وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربارا أ. ليف، والتي هدفت إلى تشجيع الحزبين على استعادة العلاقة الوظيفية، سوى إلى التهدئة المؤقتة. فبمجرّد تَوَقُّف التوجيه الغربي، ينشأ بين الحزبين خلاف أشد حدة بكثير بعد عقد كل صفقة. ويكشف هذا الواقع عن حقيقة قاسية، هي أن السلام الكردي الداخلي يعتمد على التوبيخ الأجنبي الحازم والمستمر.

المفارقة هي أن الأكراد بارعون في جمع القوى الأجنبية المتنافسة، لكنهم مروّعون في التعامل مع اختلافاتهم الداخلية. فعلى سبيل المثال، يعود الفضل إلى رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني في التوسط في المكالمة الهاتفية التي جرت بين ولي عهد الإمارات آنذاك محمد بن زايد والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي أدت إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. ومع أن بارزاني يستحق التقدير لأنه استدعى الأحزاب الكردية وبذلَ جهدًا إضافيًا لمحاولة سد الفجوات السياسية داخل كردستان، أعيقت مبادراته بسبب الافتقار التام إلى الثقة الناجم عن الطابع الفردي العميق الذي تتسم به السياسة. فهذه السياسة القبلية سيئة جدًا لدرجة أن كل حزب عازم بشدة على إسقاط الآخر، بغَضّ النظر عن العواقب على كردستان.

كنتيجة لذلك، قوّضت الانقسامات الداخلية الحكم الذاتي في كردستان مقابل الحكومة الفدرالية. فأضعَفت هذه النزاعات القائمة بين الأحزاب قوة المساومة الجماعية الكردية، وأعاقت قدرة الأكراد على تقديم جبهة موحدة في المفاوضات مع الحكومة الفدرالية. كما أدت الانشقاقات الداخلية إلى غياب التماسك في صنع القرار، فاستحال على المنطقة المستقلة تحقيق الفعالية في الدفاع عن حكمها الذاتي وتأكيد احتياجاتها ضمن الموازنة. واستخدمت الأحزاب الشيعية في "الإطار التنسيقي" مثل هذه الانقسامات لكسب المزيد من السيطرة والنفوذ على الموارد المالية الخاصة بالمنطقة، لا سيما في قانون الموازنة العراقية الذي أُقرّ حديثًا.

لم يتوقف إذعان السلطة الكردية عند حدّ خسارة كامل قطاع النفط في كردستان. فأصبح كل دولار تحصل عليه أربيل خاضعًا لعمليات تدقيق فدرالية صارمة، وأصبحت السلطة التي يتمتع بها رئيس إقليم كردستان على كيفية إنفاق الأموال خاضعة للولاية القضائية الخاصة بالحكومة الاتحادية العراقية و"ديوان الرقابة المالية الاتحادي". وردًا على التعرض للتهميش المالي من قبل "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، عمل فصيل "الاتحاد الوطني الكردستاني" في بغداد بجدٍ لجعل رئيس الوزراء العراقي مُحكِّمًا في حال نشوب أي صراع كردي داخلي على التمويل. وتبقى معرفة إذا ما كان رئيس الوزراء سيستخدم حقه القانوني للتدخل في الشؤون الكردية الداخلية.

أدى فشل الأحزاب الكردية في الارتقاء لمستوى الحدث إلى إبعاد التركيز والموارد عن الحوكمة والتنمية، ما يُعرّض للخطر قدرة الإقليم على بناء مؤسسات قوية وعلى حُكم نفسه بفاعلية. كما أدى هذا الفشل إلى تقويض مصداقية حكومة إقليم كردستان ومكانتها على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. وحتى في خلال مناقشة الموازنة، التي كانت حاسمة بالنسبة إلى الجدوى الاقتصادية الخاصة بالإقليم، فشلت الأحزاب الكردية في وضع سياسة متوازنة جيدًا. وتمثّلت أفضل استراتيجياتها في رد الفعل المفرط المدمّر للنفس. وكنتيجة لذلك، أصبح إقليم كردستان أضعف من أي وقتٍ مضى، ولم يَعُد مستقبله مؤكدًا.

علاوة على ذلك، فقدت مؤسسات حكومة إقليم كردستان شرعيتها ليس فقط في نظر الناس، ولكن أيضًا من المنظور القانوني، خاصة بعد أن قضت المحكمة العراقية العليا بأن تمديد ولاية البرلمان في إقليم كردستان غير دستورية. ومن ثم، يحتاج إقليم كردستان الآن إلى إجراء الانتخابات لاستعادة شرعيته العامة والقانونية، وهو من شأنه أن يساعد في إعادة ضبط جميع التوترات والصراعات السياسية بين الأحزاب السياسية الكردية.

في حين لا يمكن لهذه الانتخابات الجديدة ان تضمن تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أنها يمكن أن توفر فرصة جيدة لتعزيز الثقة وتشجيع الحوار وزيادة مشاركة المواطنين. كما يمكن أن تساعد أيضًا في تعزيز الشعور بالوحدة والهدف المشترك بشرط أن تكون عادلة ونظيفًة. وحتى يتسنى تحقيق ذلك، ينبغي التوصل لتسوية سياسية في كردستان من خلال إبرام اتفاق سياسي جديد يدعمه الرعاة الأجانب لحكومة إقليم كردستان. ومع ذلك، يتطلب التوصل إلى هذه التسوية المزيد من المشاركة الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية أكثر من أي وقت مضى، رغم شعورهم بالإرهاق الدبلوماسي. وفي حالة حدوث فراغ دبلوماسي غربي، يمكن أن تسعى الصين وغيرها من الخصوم الغربيين لسد الفجوة. ومن ثم، ينبغي ألا تسمح واشنطن لبكين بتحقيق فوز دبلوماسي آخر في الشرق الأوسط.

* يريفان سعيد، هو باحث مشارك في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، ومحاضر في جامعة كردستان هولير. حصل سعيد على الدكتوراه من مدرسة كارتر للسلام وحل النزاعات بجامعة جورج ميسون.

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق