بينما كان صراع القوى العظمى لا يزال في مهده. هذا التحول في تفكير كينان له صدى خاص اليوم، في عصر يصفه عدد من المحللين بأنه المراحل الأولى لحرب باردة أخرى، تعاني خلاله العلاقات الأميركية - الروسية حالة جمود عميق، وتلعب الصين دور الاتحاد السوفياتي الحازم. إذا كان التشبيه صحيحاً...
بقلم: فريدريك لوغيفال
كل شخص منا تابع دراساته العليا في التاريخ الدبلوماسي الأميركي في أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي قرأ أعماله، إذ على رغم وجود شخصيات مهمة أخرى في العلاقات الخارجية الأميركية الحديثة، لم تكن هناك سوى شخصية واحدة تدعى جورج كينان، "صاحب نظرية الاحتواء"، الذي أصبح في ما بعد ناقداً ماهراً لسياسة الولايات المتحدة وكذلك مؤرخاً حائزاً على جوائز. لقد حللنا "البرقية الطويلة" الشهيرة التي أرسلها كينان في فبراير (شباط) 1946، ومقالته بعنوان "إكس" التي نشرت في العام التالي في صفحات هذه المجلة، وتقريره المطول وغير المنمق عن أميركا اللاتينية في مارس (آذار) 1950. وقرأنا بنهم كتابه الصغير والمؤثر عام 1951، "الدبلوماسية الأميركية"، بناء على محاضرات ألقاها في جامعة شيكاغو، ومذكراته التي صدرت على دفعتين في عامي 1967 و1972 ونال الجزء الأول منها جائزة بوليتزر وجائزة الكتاب الوطني، كما قرأنا كل منشور آخر له تمكنا من الحصول عليه. (لقد قررت ألا نتغاضى عن كتاب "روسيا تترك الحرب" Russia Leaves the War، الصادر في عام 1956 إذ إنه لم يفز بنفس الجوائز التي حصل عليها المجلد الأول من مذكراته فحسب بل أيضاً بجائزة جورج بانكروفت وجائزة فرانسيس باركمان). لقد غصنا في أعماق الدراسات الأربع المهمة عن كينان التي ظهرت في تتابع سريع وأعدها أشخاص بارزون لدينا في النقابة، هم ديفيد مايرز، ووالتر هيكسون، وأندرس ستيفانسون، وويلسون ميسكامبل.
حتى في ذلك الوقت، تساءل بعض منا عما إذا كان كينان حقاً مهماً لهذه الدرجة بالنسبة إلى سياسة الولايات المتحدة خلال أوائل الحرب الباردة مثلما وصفه عدد من المحللين. وفكرنا في أنه ربما من المفترض اعتباره أحد مهندسي الاستراتيجية الأميركية، وليس مهندسها الأساسي. وربما كان أكثر ما يمكن قوله هو أنه أطلق تسمية (الاحتواء) على نهج سياسة خارجية كان قد بدأ يظهر، لا بل كان موجوداً بالفعل، وأعطاه تركيزاً مفاهيمياً معيناً. وفي النهاية، حتى في مؤتمر بوتسدام في منتصف عام 1945، قبل "البرقية الطويلة" ومقالة "إكس" بوقت طويل، أدرك الدبلوماسيون الأميركيون أن جوزيف ستالين ومساعديه كانوا عازمين على السيطرة على تلك المناطق في أوروبا الشرقية والوسطى التي كان الجيش الأحمر قد استولى عليها. وقرر المسؤولون أنه لا يمكن فعل كثير من أجل إحباط هذه المخططات، لكنهم تعهدوا بمقاومة أي جهد يبذله قادة الكرملين للتحرك أبعد غرباً. وعلى نحو مماثل، لن يسمح للسوفيات بالتدخل في اليابان أو بالسيطرة على إيران أو تركيا. إذاً، كان هذا احتواء في كل شيء ما عدا الاسم. وبحلول أوائل عام 1946، عندما كتب كينان "البرقية الطويلة" من السفارة في موسكو، كان التحالف العظيم في زمن الحرب مجرد ذكرى تتلاشى. بحلول ذلك الوقت، كانت المشاعر المناهضة للسوفيات سمة أساسية في مداولات السياسة الأميركية الداخلية.
وعلى رغم ذلك، اعتبرت برقية عام 1946 ومقالة عام 1947 عملين رائعين في الكتابة التحليلية أوضحا نقاطاً كثيرة حول نظرة المسؤولين الأميركيين إلى عالم ما بعد الحرب ومكان بلادهم فيه. وما زاد الأمور تعقيداً هو أن كينان سرعان ما بدأ ينأى بنفسه عن الاحتواء، ويدعي بأنه قد أسيء فهمه بشكل خطر، وأن السياسة المطبقة كانت أكثر عدوانية مما كان يتصور أو يريد. هل كان متشدداً بشأن بموسكو في تلك المرحلة الأولية أكثر مما زعمه لاحقاً؟ أم أن صياغته لتلك الكتابات كانت تعوزها الدقة بشكل غير معهود، مما يوحي بتشدد لم يشعر به؟ تشير الأدلة المتاحة إلى صحة الاحتمال الأول، بيد أن أحدها يحول دون إصدار الحكم النهائي، في انتظار الاطلاع الكامل على أوراق كينان الشخصية وخصوصاً مذكراته الضخمة، التي شملت 88 عاماً ووصلت إلى أكثر من ثمانية آلاف صفحة.
كانت هذه المصادر غنية بالفعل، وفق ما تبين بعد نشر السيرة الذاتية الرسمية لكينان بقلم جون لويس غاديس، التي استغرق إعدادها ثلاثة عقود، ونالت شهرة واسعة في عام 2011 وفازت بجائزة بوليتزر. لقد حظي غاديس بحق الوصول الكامل إلى الأوراق والبحوث واستخدمها على نطاق واسع وحاسم. ثم، في عام 2014، صدرت "يوميات كينان" The Kennan Diaries، وهي عبارة عن خلاصة وافية مؤلفة من 768 صفحة من المعلومات التي اختارها المؤرخ فرانك كوستيغليولا وأوضحها ببراعة.
في الحقيقة، كان الباحثون على علم منذ فترة طويلة بشخصية كينان الشائكة والمعقدة وميله نحو التفكير المتجهم والنكد، لكن المذكرات كشفت عن هذه الصفات في العلن. وفي النهاية تبين أنه رجل يملك مواهب فكرية هائلة، حساس وفخور، معبر وعاطفي، غير مرتاح في العالم الحديث، لديه ميل للشعور بالشفقة على الذات، ويزدري ما رآه انحلالاً أخلاقياً ومادية متفشية في أميركا، ويميل إلى إطلاق ادعاءات مهينة للنساء والمهاجرين والأجانب.
لكن في ما يتعلق بإحدى النقاط الأساسية، أثبتت مذكرات كينان أنها لا تكشف عن معلومات قيمة. وعلى غرار أشخاص كثيرين، لم يكن كينان يكتب في دفتر يومياته عندما كان مشغولاً، ولم يدون أي شيء مهم تقريباً في عامي 1946 أو 1947، عندما كتب الوثيقتين اللتين عززتا تأثيره وبدأ في إعادة النظر في الافتراضات الأساسية حول طبيعة التحدي السوفياتي والاستجابة الأميركية المفضلة. بالنسبة إلى عام 1947 بأكمله، الذي يمكن القول إنه العام المحوري لكل من بدايات الحرب الباردة ومهنة كينان، لم يكن هناك سوى قيد واحد: قصيدة من صفحة واحدة. وأي تقييم جدي لأهمية كينان التاريخية يجب أن يتمحور حول هذه الفترة من أواخر الأربعينيات، من خلال طرح أسئلة عن مدى عمق تشكيله لسياسة الولايات المتحدة في فجر صراع القوى العظمى؟ ومتى ولماذا عدل عن فكرة الاحتواء بالشكل الذي كانت تمارس فيه؟ وهل من المناسب الحديث عن "كينانين اثنين" في ما يتعلق بالحرب الباردة؟
الآن، كتب كوستيغليولا سيرة ذاتية كاملة للرجل، منذ ولادته في عائلة مزدهرة من الطبقة الوسطى في ميلووكي، في عام 1904، حتى وفاته في برينستون، نيو جيرسي، في عام 2005. (ويا له من قرن!) إنه كتاب شيق تم إعداده بمهارة، لكنه محبط أحياناً، ويركز أكثر من نصفه على مرحلة شباب الدبلوماسي ومسيرته المهنية المبكرة. وفي الواقع، يظهر بشكل كامل إلمام كوستيغليولا المنقطع النظير بمذكرات كينان، وعلى رغم أنه لا يخجل من الاقتباس من بعض الأجزاء الأكثر بغضاً فيها، إلا أن تقييمه العام متعاطف، لا سيما تجاه كينان "الثاني"، الذي شجب عسكرة الاحتواء وشجع المفاوضات الأميركية - السوفياتية. لقد كتب أن كينان كان "بطلاً غير معروف عموماً" في جهوده الدؤوبة الرامية إلى تهدئة الحرب الباردة.
ومن المثير للاهتمام، وفق ما بينه كوستيغليولا ولكن من دون أن يدخل بشكل كامل في التفاصيل، أن هذه الجهود كانت جارية بالفعل في أواخر أربعينيات القرن الماضي، بينما كان صراع القوى العظمى لا يزال في مهده. هذا التحول في تفكير كينان له صدى خاص اليوم، في عصر يصفه عدد من المحللين بأنه المراحل الأولى لحرب باردة أخرى، تعاني خلاله العلاقات الأميركية - الروسية حالة جمود عميق، وتلعب الصين دور الاتحاد السوفياتي الحازم. إذا كان التشبيه صحيحاً، فلا بد من التساؤل: كيف تغير تفكير كينان؟ وهل يحمل تطوره دروساً لخلفائه يستفيدون منها في تشكيلهم للسياسة في عصر جديد من الصراع؟
رجلنا في موسكو
نشأ حب كينان لروسيا مبكراً، ويرجع ذلك جزئياً إلى الروابط العائلية: كان نسيب جده، الذي يدعى أيضاً جورج كينان، مستكشفاً حقق شهرة كبيرة في أواخر القرن الـ19 بسبب كتاباته عن روسيا القيصرية ولأنه سلط الضوء على نظام العقوبات القاسي في سيبيريا. بعد فترة وجيزة من تخرجه من برينستون، في عام 1925، التحق كينان الأصغر سناً بالسلك الدبلوماسي ونشأ لديه اهتمام بالبلد ومع الوقت، تطور هذا الشعور إلى أكثر من مجرد اهتمام. يكتب كوستيغليولا، "نجم عن حب كينان لروسيا وبحثه عن بعض الروابط الصوفية عواقب وخيمة على السياسة، علماً أنهما نزعتان نشأتا جزئياً من الأذى النفسي والوحدة نتيجة فقدان والدته". هذه جملة تحمل معاني كثيرة بالفعل، مع ادعاءات قد يبدو من الصعب التحقق منها، ولكن ليس هناك أدنى شك في أن شغف كينان تجاه روسيا ما قبل الثورة وثقافتها كان حقيقياً وثابتاً، وقد رافقه حتى آخر يوم من حياته.
في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، بصفته موظفاً شاباً طموحاً في وزارة الخارجية، كان كينان يتنقل بين ألمانيا وإستونيا ولاتفيا، جاهداً لكي يتكلم اللغة الروسية بطلاقة وعاملاً من 1931 إلى 1933 في موقع للتنصت على السوفيات في ريغا. تبع ذلك فترة حافلة بالتوتر والاستنزاف والنشاط في سفارة الولايات المتحدة في موسكو، تحت قيادة السفير المتقلب وليام بوليت. يرى كوستيغليولا أن منتصف العقد شكل مرحلة تكوينية [تأسيسية] لكينان إذ إن هذا الدبلوماسي عمل إلى حد الإنهاك ليثبت نفسه كالخبير السوفياتي الأبرز في السلك الدبلوماسي، لذا خصص كوستيغليولا فصلاً كاملاً من 48 صفحة بعنوان "جنون العام '34'" وفصلاً آخر بنفس الحجم عن السنوات الممتدة بين 1935 و1937، وكأنه كتب في الواقع كتاباً صغيراً داخل الكتاب نفسه معززاً فهمنا لنظرة كينان إلى العالم.
كان كينان يقدر الروس باعتبارهم شعباً دافئاً وكريماً، لكنه نظر بارتياب إلى الأيديولوجية الماركسية اللينينية، وتكهن آنذاك حتى بأن الشيوعية الروسية كانت تتجه نحو التفكك النهائي، بسبب تجاهلها للتعبير الفردي والروحانية والتنوع البشري. ولم يكن رأيه في الرأسمالية الغربية أفضل بكثير، إذ اعتبر أنها تميزت بالإفراط في الإنتاج، والمادية الفاسدة، والفردية المدمرة. كذلك، لم تكن "التقلبات القاسية" للديمقراطية في بلده تعجبه أو تمنحه شعوراً بالثقة والارتياح، وكان متلهفاً إلى وصول "أقلية حاكمة ذكية وحازمة" إلى الحكم.
جون لي
خلال الحرب العالمية الثانية، عمل كينان أولاً رئيساً إدارياً لسفارة برلين، ثم، بعد مهمة قصيرة في واشنطن في عام 1942، شغل منصب الرجل الثاني في القيادة في البعثة الدبلوماسية الأميركية لدى لشبونة. في المقابل، فإن بيرت فيش، كبير ممثلي الولايات المتحدة هناك، نادراً ما كانت تطأ قدماه المبنى، ما ترك لكينان حرية التفاوض بشأن حقوق القاعدة [حقوق استعمال القاعدة الجوية من قبل الولايات المتحدة] في جزر الأزور مع رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو دي أوليفيرا سالازار، الذي كان كينان قد أعجب بحكمه المناهض للنازية على رغم كونه ديكتاتورياً. على النقيض من ذلك، خاب أمله بدبلوماسية الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت في زمن الحرب.
لقد عارض طلب الرئيس بأن تستسلم ألمانيا واليابان من دون قيد أو شرط، إذ إنه منع بذلك إمكانية التوصل إلى تسوية تفاوضية. وبعد عودته إلى سفارة موسكو في منتصف عام 1944، انتقد اعتقاد روزفلت الساذج بأن الولايات المتحدة يمكنها ضمان تعاون طويل الأمد مع ستالين. ويؤكد كوستيغليولا أن كينان فشل حينذاك ثم في وقت لاحق، في اكتشاف الواقعية الكامنة وراء روزفلت واستيعابه الذكي لسياسات القوة، فظل يخطئ بين تصريحات الرئيس العلنية وآرائه الخاصة. وما فاته هو أنه وروزفلت، على رغم اختلافاتهما، "كانا يتفقان بشدة على القضية الأساسية المتمثلة في العمل والتنسيق مع السوفيات بشأن مناطق نفوذ منفصلة في أوروبا".
في ما يتعلق بالحرب الباردة اللاحقة، كان كوستيغليولا واضحاً وحاسماً: لم يكن من الضروري أن تحدث، وبعد اندلاعها، لم يكن من الضروري أن تستمر طوال المدة التي استغرقتها. هذه الحجة أقل ابتكاراً وتميزاً مما يوحي به الكتاب، لكن المؤلف بالتأكيد محق في أن "قصة حياة كينان تتطلب أن نعيد التفكير في الحرب الباردة على أنها حقبة من إمكانيات الحوار والدبلوماسية، عوضاً عن سلسلة المواجهات والأزمات الحتمية التي شهدناها".
ومما يثير الحيرة أكثر أن كوستيغليولا لا يولي سوى قليل من الاهتمام للتدهور الحاد في العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي بدأ في خريف عام 1945، بعد أن تصادمت القوتان حول الخطط المعدة لأوروبا والشرق الأوسط. ويشير بشكل عابر إلى أن كينان كان "غير مدرك للسرعة الكبيرة التي تدهور فيها رأي الولايات المتحدة وسياستها تجاه روسيا" في تلك الفترة، لكنه لم يبذل جهداً لوضع هذه النقطة المهمة في سياقها. وعلى نحو مماثل، فإن الانقسام حول الاحتلال السوفياتي لإيران غير مذكور، ولا يتم إطلاع القراء على أي شيء بشأن قرار واشنطن في أوائل عام 1946 بالتخلي عن التعاون النووي مع موسكو. وإذا كان كينان بالفعل غير مدرك لمدى سرعة تغير وجهات النظر والسياسة الأميركية بين سنة وأخرى، فكيف يمكن تفسير هذا الجهل؟
"إكس" هي العلامة الفارقة
من المؤكد أن كوستيغليولا كان محقاً عندما لاحظ التحول في موقف كينان من معارض للمفاوضات مع الكرملين في عام 1946 إلى مؤيد لها في عام 1948. لكننا نرغب في معرفة معلومات أكثر عن ذلك. وفي الواقع، يعتبر كوستيغليولا مرجعاً (بخاصة إذا قورن مع غاديس الذي كان مقتضباً) في ما يتعلق بالبرقية الطويلة ومقالة "إكس"، ولكن حتى في السيرة الذاتية هناك حاجة إلى إضافة مزيد من السياق، بخاصة حول عام 1947، وهو العام الذي صدرت فيه مقالة "إكس". ليس هناك نقاش أو حتى ذكر للأزمات التي اندلعت في اليونان وتركيا خلال تلك السنة، أو للخطاب الذي ألقاه الرئيس هاري ترومان أمام جلسة مشتركة للكونغرس، وطلب فيه 400 مليون دولار كمساعدة للبلدين، وأوضح ما أصبح يعرف باسم عقيدة ترومان، التي تعهدت بموجبها الولايات المتحدة بـ "دعم الشعوب الحرة المقاومة لمحاولات الإخضاع التي تمارسها الأقليات المسلحة أو الضغوط الخارجية"، أو لقانون الأمن القومي عام 1947، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتهديد السوفياتي المتصور، الذي أعطى الرئيس سلطة معززة إلى حد كبير في الشؤون الخارجية.
ووفق ما تكشف عنه مصادر أخرى، اعترض كينان على الطبيعة التوسعية لخطاب ترومان وما ينطوي عليه من معان بالنسبة إلى السياسة. لكنه اختار عدم تغيير مقالة "إكس"، الذي كان لا يزال قيد الصياغة، من خلال التشديد على رغبته في تطبيق احتواء محدود [محصور]. ظهرت المقالة في هذه الصفحات في يوليو (تموز) تحت الاسم المستعار "إكس" وكان عنوانها "مصادر السلوك السوفياتي"، وكان ينظر إليها على نطاق واسع على أنها تعبير منهجي عن أحدث أفكار تنتهجها الإدارة بشأن العلاقات مع موسكو، إذ وضع مؤلفه سياسة "احتواء حازم، مصمم من أجل مواجهة الروس بقوة مضادة راسخة في كل مرحلة يظهرون فيها علامات التعدي على مصالح عالم يسوده السلام والاستقرار". في المستقبل المنظور، بدا وكأن كينان يقول إن الدبلوماسية هي مضيعة للوقت. وعداء ستالين للغرب غير عقلاني ولا يوجد ما يبرره من ناحية التصرفات الأميركية، بالتالي ليس من الممكن التفاهم مع الكرملين، ومن غير المتوقع أن تؤدي المفاوضات إلى تخفيف العداء أو القضاء عليه وإنهاء الصدام بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وكتب أن الاتحاد السوفياتي "متعصب في تمسكه بفكرة أن التسوية الدائمة مع الولايات المتحدة غير ممكنة، وأن تعطيل الانسجام الداخلي في مجتمعنا، وتدمير أساليب حياتنا التقليدية، وتحطيم سلطة بلادنا الدولية، هي أمور مرغوبة وضرورية من أجل أمان القوة السوفياتية".
من المحتمل أن هذه الأقوال أثارت دهشة بعض قراء مجلة فورين أفيرز في صيف عام 1947 الحافل بالتوتر، لكنها لم تقنع الجميع في المؤسسة الحاكمة. في ذلك الإطار، انتقد الكاتب المؤثر والتر ليبمان مقالة كينان في سلسلة مذهلة مؤلفة من 14 مقالة نشرتها صحيفة "ذا نيويورك هيرالد تريبيون" في سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) وجرى تحليلها في المكاتب الحكومية في جميع أنحاء العالم. ثم جمعت المقالات في كتاب صغير بعنوان "الحرب الباردة" وهي التسمية التي اعتمدت للإشارة إلى المنافسة القائمة بين القوى العظمى. لم يجادل ليبمان في ادعاء كينان بأن الاتحاد السوفياتي سيوسع نفوذه ما لم تواجهه القوة الأميركية. لكن في رأيه، كان التهديد سياسياً في المقام الأول وليس عسكرياً.
علاوة على ذلك، أصر ليبمان على أن المسؤولين في موسكو تساورهم مخاوف أمنية حقيقية، وكان ما يحثهم على التحرك في الغالب هو العزم الدفاعي الهادف إلى إحباط عودة القوة الألمانية. ومن هنا جاء تصميمهم على السيطرة على أوروبا الشرقية. لقد قلق ليبمان من أن كينان، وكذلك أعضاء البيت الأبيض في عهد ترومان، بدوا غافلين عن هذا الواقع وعن إمكانية التفاوض مع الكرملين بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك. ووفق ما كتبه، فإن تاريخ الدبلوماسية هو تاريخ العلاقات بين القوى المتنافسة، التي لم تتمتع بروابط سياسية ودية ولم تستجب لمناشدات الأهداف المشتركة. وعلى رغم ذلك، حصلت تسويات. بعض منها لم يدم طويلاً، وبعضها الآخر فعل. ولكن أن يعتقد دبلوماسي أنه لا يمكن للقوى المتنافسة وغير الصديقة أن تتوصل إلى تسوية يشير إلى نسيان معنى الدبلوماسية الحقيقي. وفي الواقع، لن يكون للدبلوماسيين دور مهم إذا كان العالم يتكون من شركاء، يتمتعون بعلاقة سياسية ودية، ويستجيبون لنداءات مشتركة.
وأضاف ليبمان أن الاحتواء كما أوضحه كينان يهدد بجر واشنطن للدفاع عن عدد من المناطق البعيدة وغير الحيوية في العالم. وقد تؤدي الالتزامات العسكرية في مثل تلك المناطق الهامشية إلى إفلاس الخزانة من دون أن تفعل شيئاً يذكر من أجل تعزيز أمن الولايات المتحدة في جميع الأحوال. وسيصبح المجتمع الأميركي متعسكراً لخوض "حرب باردة".
بعد أن بدأ تأثيره يتضاءل، ترك كينان الحكومة في عام 1950.
انزعج كينان بسبب هذا النقد القاسي المتعدد الجوانب الذي استمر لأسابيع متعددة، ومن المستغرب أن كوستيغليولا لم يناقش هذا الأمر. كان الدبلوماسي [كينان] يقدر مكانة ليبمان باعتباره ربما أروع محللي السياسة الخارجية في واشنطن، وشعر بالإطراء لأن هذا الرجل العظيم سيكرس مساحة كبيرة لشيء قد كتبه. إضافة إلى ذلك، وجد نفسه متفقاً مع تفسيرات ليبمان بمعظمها، بما في ذلك الجزء المتعلق بالتوجه الدفاعي لموسكو والحاجة إلى الاستراتيجيين الأميركيين من أجل التمييز بين المناطق الأساسية والهامشية. وكتب في رسالة غير مرسلة إلى ليبمان في أبريل (نيسان) 1948: "لا يريد السوفيات غزو أي أحد"، مضيفاً أن نيته في مقالة "إكس" كانت توعية أبناء وطنه بأنهم قد واجهوا فترة طويلة من الدبلوماسية المعقدة في وقت كانت تهيمن فيه المهارات السياسية. وأكد لليبمان أنه بمجرد دعم أوروبا الغربية، قد تتبع ذلك مفاوضات في ظل ظروف جديدة نوعياً.
في الأشهر التي تلت ذلك، بدأ كينان، الذي أصبح مدير فريق تخطيط السياسات المنشأ حديثاً في وزارة الخارجية، في شجب عسكرة الاحتواء والتخلي الواضح عن الدبلوماسية في سياسة ترومان السوفياتية. لقد حث على إجراء مفاوضات مع الكرملين، تماماً كما فعل ليبمان سابقاً. وتضاءل تأثيره، فترك الحكومة في عام 1950، وعاد لفترة وجيزة بصفته سفيراً لدى موسكو في عام 1952، وبعد ذلك، في عهد الرئيس جون كينيدي، لفترة أطول بصفته سفيراً لدى يوغوسلافيا.
خارج ساحة القتال
وهكذا انطلقت مسيرة جورج كينان المهنية الثانية، بصفته مؤرخاً ومفكراً معروفاً، من منصب في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون. وبقي في تلك المهنة لمدة نصف قرن. يتناول كوستيغليولا هذه المرحلة باتساق رائع، حتى لو كان مهتماً بكتابات كينان وتحليل السياسة أقل من اهتمامه في انعزاله العميق والمتزايد عن المجتمع الحديث وجهوده المضنية من أجل الحفاظ على إرثه. لا يجد القراء أي شيء تقريباً عن الدبلوماسية الأميركية، أو نقد كينان الواقعي المهم لما أسماه النهج "القانوني الأخلاقي" في السياسة الخارجية التي انتهجتها الولايات المتحدة، أو عن مجلدي مذكراته علماً أن أولهما يعتبر كلاسيكياً حديثاً. في الواقع، لا يذكر كوستيغليولا سوى قليل عن تحليل كينان للتدخل العسكري الأميركي في فيتنام (كان أقل وداعة وسلمية في 1965-1966 مما يشير إليه كوستيغليولا). في المقابل، يتحدث كثيراً عن كراهيته للطلاب المتظاهرين ضد الحرب "بثيابهم وتسريحاتهم الجريئة"، على حد تعبير كينان. كما هي الحال في أي مكان آخر في كتاب "حياة بين العوالم" A Life Between Worlds، كان من الأفضل لو أعطى تفاصيل أكثر. فالقراء يستحقون معرفة مزيد، على سبيل المثال، حول ما قاله الدبلوماسي المؤرخ عن أزمات برلين وكوبا في عهد كينيدي في أوائل ستينيات القرن الماضي أو كيف فسر التفاقم الحاد لتوترات القوى العظمى في عهد جيمي كارتر في 1979-1980.
مع مرور السنين، شعر كينان بأنه لا يحظى بالتقدير الكافي، بغض النظر عن الجوائز الأدبية وغيرها من الأوسمة، وبغض النظر عن وسام الحرية الرئاسي الذي قدمه له الرئيس جورج دبليو بوش في عام 1989. في معظم الأيام، كان متشائماً يائساً من حال العالم ومكانه فيه، وقلقاً بشأن الصورة التي سيتذكره بها الناس. كان متحمساً لأنه حظي بـ "غاديس" المؤرخ الشاب اللامع، كاتباً لسيرته الذاتية، لكنه أصبح أكثر تخوفاً، بخاصة بعد أن أصبح من الواضح أن غاديس لم يشاركه رأيه المتدني [السلبي] في سياسة الحرب الباردة الأميركية بشكل عام والاستراتيجية النووية في عهد الرئيس رونالد ريغان بشكل خاص. (وكان هناك مصدر قلق آخر وهو أن يكون غاديس مشتتاً للغاية بسبب الالتزامات الأخرى مما يمنعه من إكمال العمل في الوقت المناسب، ويفسح المجال أمام تدخل كتاب السير الذاتية الذين يزعم أنهم أقل قدرة، أو كما كان كينان يدعوهم "الأقلام غير الملائمة" [الكتاب غير الملائمين]).
حتى أن انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 لم يفرح كينان كثيراً. على مدى نصف قرن، توقع أن يأتي هذا اليوم، لكن بالكاد يمكن إيجاد دليل على شماتته بشكل علني أو سري، لم يبد شيئاً سوى الإحباط من استمرار الحرب الباردة لفترة طويلة والقلق من أن واشنطن تخاطر بإثارة القومية والعسكرية الروسية في دعمها لتوسع حلف الناتو في المجالات السوفياتية السابقة. وكان يخشى أن تكون النتيجة حرباً باردة أخرى. في خريف عام 2002، عندما كان يبلغ من العمر 98 سنة، انتقد ما اعتبره اندفاع إدارة جورج دبليو بوش المتهور إلى الحرب في العراق. وقال للصحافة إن تاريخ العلاقات الخارجية للولايات المتحدة أظهر أنه "على رغم أنك قد تبدأ حرباً وفي بالك أشياء معينة... تجد نفسك في النهاية تقاتل من أجل أشياء مختلفة تماماً عن التي كنت تفكر بها من قبل". وبطريقة موازية، شعر بالقلق لأن الإدارة الأميركية لم يكن لديها خطة على ما يبدو للعراق بعد سقوط صدام حسين، وشكك في الأدلة حول أسلحة الدمار الشامل المفترضة في البلاد. وفي هذا الصدد، قال، إذا اتضح أن صدام يمتلك الأسلحة بالفعل أو سيحصل عليها قريباً، فالمشكلة في جوهرها مشكلة إقليمية، وليست من شأن أميركا.
وطوال هذا الوقت، دان كينان ما رآه إساءة استخدام للتحول الصناعي والتحضر، ودعا إلى إرجاع "العلاقة الصحيحة بين الإنسان والطبيعة". ويجادل كوستغليولا بشكل مقنع، بأن كينان أصبح مع الوقت من أوائل المدافعين ذوي البصيرة في موضوع حماية البيئة. وفي الوقت نفسه، أظهرت معاداته للحداثة جانباً رجعياً، إذ كان ينظر بارتياب إلى النسوية، وحقوق المثليين، والتنوع الإثني والعرقي المتزايد في بلاده. وقد لمح في مرحلة معينة إلى أن اليهود والصينيين و"الزنوج" هم الوحيدون ربما الذين سيحافظون على تميزهم العرقي، بالتالي سيستخدمون قوتهم من أجل "إخضاع" بقية الأمة و"السيطرة عليها". وفي ذلك الإطار يعلق كوستيغليولا بطريقة لاذعة: "كان كينان واعياً بما يكفي لحصر مثل هذه الترهات العنصرية في مذكراته وعلى مائدة العشاء حيث يجلس أولاده الراشدون مرتبكين".
في غضون ذلك، لم تظهر شكوك كينان التي طال أمدها بشأن الديمقراطية أية علامات على الانحسار. في عام 1984، تذمر قائلاً: "ليس لدى الناس أدنى فكرة عما هو جيد بالنسبة إليهم". ولو تركوا لأنفسهم [من دون أية سيطرة أو توجيه]، "لتزاحموا (وبالتأكيد سيتزاحمون) ببساطة إلى حرب نووية أخيرة، كارثية تماماً، وغير ضرورية على الإطلاق". وحتى لو تمكنوا بطريقة ما من تجنب هذه النتيجة، فإنهم سيكملون تدميرهم للبيئة، "كما يفعلون الآن بحماس". في كتابه عام 1993، بعنوان "حول التل الوعر" (Around the Cragged Hill)، في تأمل سوداوي لكل ما ابتلت به الحياة الأميركية الحديثة، دعا كينان إلى إنشاء "مجلس دولة" مكون من تسعة أعضاء، وهو عبارة عن هيئة غير منتخبة يختارها الرئيس، مسؤولة عن تقديم المشورة له في القضايا السياسية الملحة المتوسطة والطويلة الأجل، من دون أي تدخل من الشعب. أفضل ما يمكن قوله عن هذه الفكرة هو أنها لم تكن مدروسة جيداً. فهو لم يستوعب تماماً أن تلك الديمقراطية الأميركية كانت في جوهرها مشروعاً فوضوياً ومنقسماً وتعددياً، تتخلله مساومة صعبة على أساس التنازلات المتبادلة ومجموعات ضغط صاخبة تتسابق من أجل النفوذ.
ما فهمه فعلاً هو الدبلوماسية وفن الحكم. في هذا المجال، تبرز مجموعة كتاباته، المنشورة وغير المنشورة، التاريخية والمعاصرة، بسبب قوة حجتها ودقتها وطلاقتها. لم يكن دائماً محقاً، لقد أخطأ في بعض الأشياء. ولكن بصفته ناقداً لعسكرة السياسة الخارجية الأميركية، في الحرب الباردة وما بعدها، كان لديه عدد قليل أو ربما معدوم من الأقران، إذ إنه أدرك حقائق لم تفقد أياً من فعاليتها خلال ما يقرب من عقدين من الزمن منذ وفاته، بشأن حدود القوة، وحتمية العواقب غير المقصودة في شن الحرب، والأهمية القصوى لاستخدام دبلوماسية النوايا الحسنة مع الخصوم من أجل تعزيز المصالح الاستراتيجية الأميركية. ويمكن القول بالفعل إن فهم تزايد القوة الأميركية واستعراضها خلال القرن الماضي واستخدامها المناسب في هذا القرن، يعني فهم "الحياة بين العوالم".
اضف تعليق