سيطر الاقتصاديون الكلاسيك على تعليم الاقتصاد قرابة قرن ونصف. آدم سمث كتب كتابا كلاسيكيا في عام 1776 بعنوان "تحقيق في طبيعة واسباب ثروة الامم". ومنذ ان نُشر الكتاب، بدأت افكار النظرية الاقتصادية الكلاسيكية تتطور تدريجيا. غير ان النظرية الكلاسيكية تمتد بجذورها لأعمال ديفد ريغاردو (1772-1823)، و(جون ستيوارت مل) وJ. B) Say (واخيرا انتهت بأعمال A. C. Pigou (1877-1959).
لا توجد نظرية منفردة تُسمى النظرية الكلاسيكية للاستخدام (تشغيل العمال)، بل ان النظرية الكلاسيكية للاستخدام تضم مختلف آراء الاقتصاديين الكلاسيك المتعلقة بموضوع الدخل والاستخدام في الاقتصاد.
طبقا للاقتصاديين الكلاسيك، يعمل الاقتصاد بشكل طبيعي عند مستوى الاستخدام الكامل ودون تضخم في المدى الطويل. هم افترضوا بان الاجور واسعار السلع مرنة وان السوق التنافسي هو السائد في الاقتصاد. مع ذلك، النموذج الكلاسيكي لم يمنع وجود فائض في الانتاج ومن ثم بطالة مؤقتة في الاقتصاد.
وطبقا للكلاسيك، اذا سُمح لقوى السوق تعمل في النظام الاقتصادي، فإنها سوف تمنع اي زيادة في الانتاج وسوف تجعل الاقتصاد ينتج مخرجات عند مستوى الاستخدام الكامل. الاقتصاديون الكلاسيك ادركوا ايضا ان الاقتصاد عندما يكون في مستوى الاستخدام التام ذلك لا يعني عدم وجود عمال عاطلين عن العمل، حيث سيكون هناك عمال عاطلين طواعيةً (خلال الفترة الزمنية المطلوبة للبحث عن عمل جديد بسبب تغيير ظروف العامل). في الوضع الطبيعي، عندما تستجيب كل من الاسعار والاجور للسوق بحرية وبسرعة، فان النظام الاقتصادي للسلع والعمال سوف يعمل في مستوى الاستخدام التام في المدى الطويل.
مبادئ النظرية الكلاسيكية للاستخدام:
النظرية الكلاسيكية للاستخدام ترتكز على المبادئ التالية:
1- قانون (ساي) للسوق
2- التوازن في سوق العمل
3- التحليل الكلاسيكي للسعر والتضخم
(1) قانون ساي للسوق
J. B. Say (1776-1832) هو اقتصادي فرنسي وصناعي. تأثر بأفكار آدم سمث وديفد ريغاردو. طبقا لـ (ساي):
"عندما تقوم الشركات بانتاج السلع في الاقتصاد، فهي تدفع مستحقات عوامل الانتاج (عمل ورأس مال ومنظّم وارض). الناس الذين يستلمون تلك المستحقات او المكافئات يقومون بإنفاق هذه الدخول على شراء السلع والخدمات التي يحتاجونها. ومن هنا فان كل سلعة مُنتجة ضمن الاقتصاد ستخلق طلباً مساويا لقيمتها في السوق".
هذا الاستنتاج يسمى قانون (ساي) للسوق.
توضيح لكيفية عمل قانون (ساي):
يؤكد قانون (ساي) بان العرض يخلق طلبه الخاص به.
ان الدخل الذي يستلمه الفرد من الانتاج سيُنفق على السلع والخدمات المشتراة من آخرين. وبالنسبة للاقتصاد ككل، سيتساوى الانتاج الكلي مع الدخل الكلي.
ومن هنا فانه عندما يخلق انتاج السلع والخدمات دخلا يكفي لشراء جميع تلك السلع، فسوف لن يكون هناك اي نقص في الطلب على السلع، ولا وجود لأي فائض بإنتاج البضائع وبالتالي لا وجود لتسريح او بطالة عامة للعمال. ان جوهر قانون ساي هو ان ما يخلقهُ الاقتصاد ومهما كان سيُنفق اوتوماتيكيا على شراء السلع والخدمات. ولهذا فان الاقتصاد سيكون مصحح لذاته. اسواقه دائما تصريفية. وبسبب وجود هذا التعديل- الذاتي، فان الاقتصاد يعمل اوتوماتيكيا في مستوى الاستخدام الكامل كأنه يهتدي بـ "اليد اللامنظورة" لأدم سمث.
افتراضات قانون (ساي) في السوق:
ان النموذج الكلاسيكي يرتكز اساسا على الافتراضات التالية:
1- وجود منافسة تامة. لا يستطيع مشتري واحد او بائع واحد للسلعة او لمدخلات الانتاج التأثير على سعر تلك السلعة.
2- مرونة الاجور والاسعار. اجور واسعار السلع تكون حرة في الحركة الى اي مستوى يفرضه الطلب والعرض.
3- المصلحة الذاتية. الناس تحفزهم مصلحتهم الذاتية. رجال الاعمال يريدون تعظيم ارباحهم اما المستهلكين فيسعون لتعظيم منفعتهم الاستهلاكية.
4- لا وجود للتدخل الحكومي. لا حاجة ضرورية لتدخل الدولة في قضايا الاقتصاد.
يجب ملاحظة ان قانون ساي في السوق سيبقى صامداً في العمل حتى لو حصل توفير في الاقتصاد، لأن التوفير مهما كانت كميته سوف يستثمره رجال الاعمال في شراء سلع رأسمالية. التوفير يساوي الاستثمار. ولهذا فان الانفاق المتراكم يساوي الدخل المتراكم والاقتصاد بأكمله سيعمل في مستوى الاستخدام التام.
يؤكد الاقتصاديون الكلاسيك بانه فيما لو حصل انحراف بين التوفير والاستثمار لفترة ما، فان المساواة بينهما ستظل قائمة عبر آلية سعر الفائدة. فمثلا، لو حصل في اي وقت من الاوقات ان يكون تدفّق التوفير اكبر من تدفق الاستثمار، فان سعر الفائدة سيميل نحو الهبوط. هذا سيقود لزيادة في الاستثمار وهبوط في التوفير حتى يتساوى الاثنان من جديد عند مستوى الاستخدام الكامل. وفق قانون ساي، نجد ان التوفير هو محصلة للزيادة في سعر الفائدة بينما الاستثمار هو محصلة للهبوط في سعر الفائدة.
2- التوازن في سوق العمل
خاصية اخرى للنظرية الكلاسيكية للاستخدام هي الايمان بانه لو كانت الاجور الحقيقية (الخالية من تأثير التضخم) للعمال مرنة في سوق العمل، عندئذ فان النظام الاقتصادي يكيّف ذاته اوتوماتيكيا عند مستوى الاستخدام التام.
وطبقا لـ A. C. Pigou:
"مستوى التوازن في الاستخدام يتقرر بالطلب والعرض للعمل في سوق العمل. الطلب على العمل يتناسب عكسيا مع الاجور العالية. هذا يعني ان الشركات عند الاجور العالية سوف تستخدم القليل من العمال. وعندما تهبط الاجور الحقيقية فان الشركات ستطلب المزيد من العمال".
وفيما يتعلق بعرض العمل، فهو يتناسب طرديا مع الاجور الحقيقية. هذا يعني عند الاجور العالية سيرغب المزيد من العمال بالعمل. مستوى التوازن في الاستخدام والذي هو مستوى الاستخدام الكامل يتقرر بمساواة العرض والطلب للعمل. زيادة المعروض من العمال تدفع الشركات لخفض اجور العمل حتى يعود منحنيا الطلب والعرض الى مستوى التوازن. وحين تكون الاجور دون مستوى التوازن فسيكون هناك نقص في العمال. هذا النقص في العمالة سوف لن يستمر طويلا. نسبة الاجور الحقيقية سوف ترتفع مجدداً لتتلائم مع مستوى الاستخدام التام.
3- التحليل الكلاسيكي للسعر والتضخم
الاقتصاديون الكلاسيك يرون ايضا ان مستوى الاسعار في الاقتصاد يعتمد على عرض النقود في البلاد. كلما زادت كمية النقود المتداولة كلما زاد السعر العام والعكس بالعكس. هذا التحليل لمستوى الاسعار يرتكز على النظرية الكمية للنقود والتي يكون فيها مستوى الاسعار(p) مرتبط مباشرة بكمية النقود (m) المتداولة في الاقتصاد.
انتقادات كنز لقانون (ساي):
ان قانون (ساي) جرى تفنيده ونقده بشدة من جانب كنز في كتابه "النظرية العامة" وذلك اعتماداً على الاسس التالية:
1- امكانية العجز في الطلب الفعال. يرى كنز ان النظرية الكلاسيكية المرتكزة على قانون ساي هي غير واقعية. في السوق التنافسي، هو يرى، من غير الضروري ان يُنفق الدخل المستلم اوتوماتيكيا على الاستهلاك والاستثمار. جزء من الدخل ربما يتم توفيره ويذهب لزيادة الممتلكات الفردية. ولهذا، سيظهر نقص في الطلب المتراكم مسببا فائض في الانتاج وبطالة في البلاد.
2- رؤية (بيكو) في خفض الاجور. هاجم كنز رؤية (بيكو) بان الخفض العام في الاجور ايام الركود يكون علاجا للبطالة. يرى كنز ان الخفض العام للاجور الحقيقية سيقلل الطلب المتراكم للسلع وسيعمّق الركود.
3- ليست نظرية عامة.
قانون (ساي) يفترض ان تحليلات الاقتصاد الجزئي مفيدة ويمكن تطبيقها على الاقتصاد ككل. بينما كنز يرفض هذه الرؤية ويؤكد بان تحليلات الاقتصاد الكلي ضرورية لتوضيح النظرية العامة للدخل والاستخدام.
4- المساواة بين التوفير والاستثمار.
كنز لم يقتنع ابدا بالصيغة الكلاسيكية بان مرونة سعر الفائدة ستساوي بين الاستثمار والتوفير. طبقا لكنز،يكون الدخل هو قوة التوازن بين الاستثمار والتوفير وليس سعر الفائدة.
5- عنصر الاحتكار.
قانون (ساي) يفترض وجود منافسة تامة في الاقتصاد. كنز يقول ان ما يسود عمليا في اسواق السلع وعوامل الانتاج هو المنافسة غير التامة. ولهذا فان قانون (ساي) غير عملي.
6- دور اتحادات العمال.
في العالم الرأسمالي المعاصر، تتفاوض نقابات العمال مع اصحاب الاعمال لتثبيت الاجور. الدولة ايضا تثبّت حدا ادنى للاجور في صناعات معينة. النظرية الكلاسيكية لم تولي اهمية كبيرة لهذه القوى واعتمدت كثيرا على المظاهر النظرية. كنز يؤكد كثيرا على الجانب التطبيقي لنظرية الاستخدام. وحسب تعبير (Dillard) ان العيب الكبير في النظرية الكلاسيكية هو عدم ملائمتها للظروف المعاصرة للعالم الرأسمالي. في الاقتصاد الرأسمالي وحيث الانتشار الواسع للبطالة وللتضخم ولدورات الاعمال والاشكال الاخرى لعدم الاستقرار كل ذلك يمثّل مشاكل رئيسية للسياسة العامة، لذا تبرز الحاجة الاساسية لنظرية ملائمة تشخص هذه الامراض باسلوب يضع دليلا لإتخاذ اجراءات تجاه حل او تخفيف تلك المشاكل. هذه النظرية الملائمة برزت من نظرية كنز العامة في الاستخدام والفائدة والنقود.
7- اقتصادات قصيرة الاجل.
كنز يرفض قانون ساي القائل بان الطلب المتراكم سيكون دائما كافيا لشراء ما يُعرض من سلع في الاجل الطويل. يشير كنز الى "اننا في المدى البعيد جميعنا ميتون". لم يكن واضحا مقدار الاجل الطويل في قانون (ساي).
اضف تعليق