في الوقت الذي ينخرط فيه عدد أكبر من خريجي الجامعات والطلاب في حركة الاحتجاج، يزداد الوعي بالحاجة إلى دولة فاعلة لا تُقسم مواردها بين القلة الحاكمة والقوات شبه العسكرية، ما نجح في الماضي لإرضاء المحتجين لن يكون كافياً. الشبان العراقيون أمضوا أربعة أشهر في الشوارع، مطالبين...
بقلم: حارث حسن
في الوقت الذي ينخرط فيه عدد أكبر من خريجي الجامعات والطلاب في حركة الاحتجاج، يزداد الوعي بالحاجة إلى دولة فاعلة لا تُقسم مواردها بين القلة الحاكمة والقوات شبه العسكرية، ما نجح في الماضي لإرضاء المحتجين لن يكون كافياً.
الشبان العراقيون أمضوا أربعة أشهر في الشوارع، مطالبين بوضع حد لنظام سياسي فاسد خذلهم إلى حد كبير، وفي الأشهر الأخيرة، قتلت قوات الأمن أكثر من 500 محتجا وأصيب الآلاف.
في 24 كانون الثاني الماضي، أعلن السيد مقتدى الصدر أنه سيتوقف عن دعم الاحتجاجات ضد النخب الحاكمة في العراق، مما دفع بعض أتباعه إلى الانسحاب من ميدان التحرير، مركز حركة الاحتجاج في بغداد، وبالنظر إلى أن الصدريين برزوا منذ مظاهرات 2016 باعتبارهم العمود الفقري لتعبئة الشوارع المناهضة للمؤسسة السياسية في العراق، توقع العديد من المراقبين أن حركة الاحتجاج، التي كانت تتحدى سلطة الجماعات الشيعية في دوائرهم الانتخابية الخاصة، ستنتهي.
حتى الأسبوع الماضي، كان لا يزال هناك اعتقاد واسع النطاق بين الفصائل الشيعية المهيمنة بأن موجة الاحتجاجات الحالية المدعومة من التيار الصدري ستفقد الزخم، إذا توصل الصدر إلى صفقة تزيد من حصته في السلطة، وفي الواقع، كانت هناك مفاوضات بين التيار الصدري والفصائل المدعومة من إيران التي تقود أكبر تحالف برلماني، بدافع جزئي من التضامن الشيعي الذي نشأ بعد الاغتيال الأميركي للقائد الإيراني قاسم سليماني وأقرب حلفائه العراقيين، أبو مهدي المهندس.
إن المفاجأة لهذه الفصائل وللصدر نفسه، هي تصاعد المظاهرات في شوارع بغداد والمدن الجنوبية، وتعززت بمشاركة طلاب الجامعة الذين كانوا يتظاهرون كل يوم أحد، هذه المرة، ندّد المتظاهرون علناً بموقف الصدر الجديد، واستهدفته بعض الهتافات، حيث أصبح من الواضح أن هذه الحركة يمكن أن تستمر دون دعم رجل الدين المؤثر، علاوة على ذلك، تواجه القاعدة الصدريّة نفسها، التي تضمّ هويتها عنصرين رئيسيين – أحدهما مؤيد للتغيير، والآخر إسلامي – أزمة داخلية حيث قرر العديد من المحتجين من معاقل الصدريين، مثل مدينة الصدر البقاء في الساحات.
الظاهرة الأهم ظهور جيل جديد من الشباب العراقي المعبأ والمسيّس بشكل متزايد، ولا يمكن لأي من الجماعات الاجتماعية والسياسية الحالية احتواؤه بالكامل على الرغم من أنه لا يزال مجزءاً جغرافياً ويفتقر إلى قيادة مركزية. لكنه ذكر أن حركة الاحتجاج طورت خطابها ورواياتها، وتحتفل الآن بشهدائها وضحاياها، مما يميزها عن جميع الجماعات الدينية والسياسية القائمة، بما في ذلك حركة الصدريين.
إن استمرار هذه الحركة هو إلى حد كبير دليل على النظرة المتشائمة للمستقبل الاقتصادي للبلاد، إذ يوجد في العراق أحد أعلى معدلات النمو السكاني في الشرق الأوسط، وأكثر من 58٪ من سكانه تقل أعمارهم عن 24 عاماً، مشيراً إلى أن هذا الواقع لا يخلق فقط طلباً كبيراً على الوظائف، ولكن أيضاً ميلاً اجتماعياً أقوى نحو التغيير وزيادة الانفصال عن الأشكال القديمة للسلطة.
الأزمة الحالية نشأت بسبب الاختلالات المتزايدة في سياسة النخبة التمثيلية والتوزيعيةـ بعد ما يقرب من عقد من الاستخدام الفاشل وغير المسؤول لعائدات النفط العراقية (التي تمثل 95٪ من ميزانية الحكومة)، إذ أدى انخفاض أسعار النفط منذ عام 2013 والنفقات الهائلة للحرب ضد داعش إلى انخفاض كبير في قدرة الدولة على التعامل مع الطلب المتزايد على الخدمات والبنية التحتية ووظائف أفضل، وفي الوقت نفسه، استخدمت الفصائل الحاكمة موارد الدولة لدعم شبكات المحسوبية.
بدأت حركة الاحتجاج في العراق بمثابة دعوة ضد الفساد، فيما احتل العراق المرتبة 162 من أصل 180 دولة ضمن تصنيف منظمة الشفافية العالمية، حيث الفساد المتفشي زاد من حدة الفقر والإحباط في جميع أنحاء البلاد. وارتفع معدل الفقر في المدن الجنوبية مثل الناصرية، حيث كانت الاحتجاجات أكثر حدة، إلى أكثر من 31٪.
وبدلاً من فتح المجال السياسي لأشكال جديدة من التعبئة السياسية لإصلاح شرعية النظام، أصبحت الفصائل الحاكمة أكثر اعتماداً على العنف الخارج عن القانون لحماية امتيازاتها، مشيراً إلى أن الكثير من الشبان وجدوا أنفسهم مرغمين على الاختيار والانخراط في الميليشيات المتحالفة مع النظام أو البطالة.
كيف نفهم حركة الاحتجاج إذن؟
إن حركة الاحتجاج الحالية في العراق يجب أن تُفهم على أنها نتيجة لسلالة هيكلية في العلاقات بين الدولة والمجتمع، والتي تمثل صراعاً متطوراً بين الأوليغارشية التي لا ترغب في تغيير النظام الذي تعيش فيه طفيلياً، وشريحة من السكان الذين ليس لديهم الكثير ليخسروه من خلال قبول الوضع الراهن.
في الوقت الذي ينخرط فيه عدد أكبر من خريجي الجامعات والطلاب في حركة الاحتجاج، يزداد الوعي بالحاجة إلى دولة فاعلة لا تُقسم مواردها بين القلة الحاكمة والقوات شبه العسكرية، ما نجح في الماضي لإرضاء المحتجين لن يكون كافياً. وهذا يترك للفصائل الحاكمة خيارين: تجاهل مطالب المحتجين الجوهرية وتصعيد الحملة الأمنية عليهم –مما قد يدفع البعض إلى تبني بدائل أكثر راديكالية وربما عنيفة– أو منح تنازلات حقيقية تؤدي إلى تغيير جذري في نظام التوزيع والسياسة التمثيلية، في كلتا الحالتين، تتعامل الفصائل الحاكمة مع حقيقة جديدة من غير المرجح أن تزول في المستقبل المنظور وستظل تغذيها إخفاقاتها في الاستجابة للأسباب الكامنة وراء هذه الثورة.
اضف تعليق