المحاولات التي يبذلها المحافظون الكاثوليك والإنجيليون المعاصرون لتشريب السياسة بمعتقداتهم الدينية تتعارض مع أفكار الثورة الفرنسية، التي سعت إلى دعم التحرر من الدين، لكنها تتعارض أيضا مع أفكار الثورة الأميركية، التي رسخت مبدأ حرية الدين. وكل من المجموعتين تستهدف اليوم الحواجز التي أقيمت بعناية بين الكنيسة والدولة...
بقلم: إيان بوروما
نيويورك ــ كان تشارلز كارول من كارولتون في ولاية مريلاند الكاثوليكي الروماني الوحيد الذي وَقَّـع على إعلان الاستقلال في عام 1776. ورغم كونه أحد الآباء المؤسسين، فلم يُـسمَح لكارول بوصفه كاثوليكيا بتولي أي منصب عام. لم يتغير هذا إلا في عام 1788، عندما منع الدستور الكونجرس من إقرار أي ديانة، ولم يعد الانتماء الديني يشكل اختبارا لأولئك الذين يسعون إلى شغل المناصب العامة.
لم يكن الجميع سعداء بهذا الفصل بين الكنيسة والدولة. فقد هوجِم توماس جيفرسون من قِبَل بعض الأشخاص باعتباره كافرا خطيرا، وكان المتعصبون يعتقدون أن الدين سيموت في أميركا إذا انتُـخِب جيفرسون رئيسا. وحتى يومنا هذا، يود كثيرون لو يعود الدين إلى مركز الحياة العامة والسياسية. ويبدو أن هذا هو ما قصده المدعي العام الأميركي وليام بار، الكاثوليكي الشديد المحافظة، عندما شجب "العلمانيين" لأنهم يشنون "هجوما على الدين والقيم التقليدية".
لم يتوقف الهجوم على الكاثوليك باعتبارهم أعداء للحرية وخونة محتملين (بسبب ولائهم الروحي لروما) إلا بصعوبة شديدة. في عام 1821، تساءل جون آدمز حول "ما إذا كان من الممكن حقا أن توجد حكومة حرة ودينها الكاثوليكية". ارتبطت الحرية والديمقراطية الأنجلو أميركية تقليديا بالفردية البروتستانتية الفظة؛ وكان المعتقد أن الكاثوليك رجعيون عبيد للهرمية الكنسية. فالبروتستانت المؤمنون بمذهب الحرية الفردية مفكرون أحرار، ومجتهدون، ومتفانون في تحقيق أقصى إمكاناتهم (ماديا وروحانيا)، في حين كان الكاثوليك رجعيين وكسولين في أغلب الأحوال.
في مستهل القرن الماضي، بدأ عالم الاجتماعي الألماني الشهير ماكس ويبر (البروتستانتي) الترويج لفكرة مفادها أن الكاثوليك غير مناسبين للرأسمالية. وقد اضطر جون ف. كينيدي، الرئيس الأميركي الكاثوليكي الوحيد حتى الآن، إلى الإقرار بوضوح أثناء حملته الانتخابية بأن ولاءه للدستور، وليس الفاتيكان. كما لعب التحيز ضد الكاثوليكية دورا في العداء الإنجليزي للتوحيد الأوروبي، الذي كان يُنظَر إليه أحيانا على أنه مؤامرة بابوية لاستعادة الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
الواقع أن وجهات النظر الحادة التي يتبناها النائب العام الأميركي ليست العلامة الوحيدة التي تدلل على أن الزمن قد تغير بشكل ملحوظ. فالآن، لا يوجد بين قضاة المحكمة العليا سوى بروتستانتي واحد (نيل جورش)، وحتى هو كانت نشأته كاثوليكية. هذا فضلا عن ثلاثة قضاة يهود. أما القضاة الخمسة الآخرون فهم كاثوليك (بعضهم يرتبط بعلاقات مع جماعة أوبوس داي، وهي منظمة سرية بدأت تزدهر في إسبانيا الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين).
كان التغيير التاريخي الآخر، الذي بدأ في النصف الأخير من القرن العشرين، متمثلا في التوافق السياسي بين المسيحيين الإنجيليين والكاثوليك المحافظين. ولفترة طويلة، كان الأميركيون البروتستانت سعداء بالعيش في ظل دستور يحمي حياتهم الدينية من تدخل الدولة. وكان من الممكن ترك المجال العام للحكومات المحايدة دينيا، ما دامت تترك المؤمنين المتدينين لحالهم. لكن الحال تبدلت بعد حركات الحقوق المدنية في ستينيات القرن العشرين، التي أثارت انزعاج العديد من المسيحيين من ذوي البشرة البيضاء، وخاصة في الولايات الجنوبية. واليوم أصبح الإنجيليون، مثلهم في ذلك كمثل المحافظين الكاثوليك، بين أكثر المؤيدين حماسا للرئيس دونالد ترمب. وهم أيضا يعتقدون أن الأسرة والإيمان أصبحا تحت الحصار من قِبَل الليبراليين والعلمانيين.
من منظور كل من المجموعتين، ليس من المهم على الإطلاق أن ترمب ليس معروفا عنه التدين، وأن حياته لم تكن متوافقة بأي حال من الأحوال مع نموذج الأخلاق المسيحية التقليدية. حتى أن بعض الشخصيات، مثل وزير الطاقة ريك بيري، يعتقدون أن ترمب "المختار من الرب". وقبل وقت ليس ببعيد، اقترح وزير الخارجية مايك بومبيو أن ترمب "بُـعِث" لإنقاذ إسرائيل. قال بومبيو: "كمسيحي، أعتقد عن يقين أن هذا ممكن".
إذا وصفنا هذا على أنه نفاق فإننا بهذا نغفل الجانب الأكثر أهمية في الأمر. إن التبجيل على هذا النحو لا يستلزم أن يكون القائد معصوما أخلاقيا. فحتى الخاطئ قد يستخدمه الرب كأداة.
انطلاقا من نفورهم من أن يتهموا بالتحيز، يحجم الناس في بعض الأحيان عن الإشارة إلى الخلفية الدينية للشخصيات العامة في أميركا. ولكن من المهم رغم ذلك أن نفهم تاريخ أنماط بعينها من المعتقدات حتى يتسنى لنا أن نستوعب حقبة غير عادية حيث يُـحاط رئيس آثم بمؤمنين مقتنعين بأن الرب وضعه في البيت الأبيض لإنقاذ إسرائيل وافتداء أميركا العلمانية الخبيثة.
من الواضح أن ليس كل الكاثوليك رجعيين. فالبابا فرانسيس ليس رجعيا، ولهذا السبب يكن له الكاثوليك من أمثال ستيف بانون، الذي خلف تأثيرا إيديولوجيا مبكرا على ترمب، كراهية عميقة. وكانت عقيدة التحرير، التي شاعت في أميركا الجنوبية في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، حركة أنشأها اليسار الراديكالي. كما أن رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، وهي واحدة من المعارضين السياسيين الرئيسيين للرئيس ترمب، لا تقل كاثوليكية عن بار.
لكن هناك سلالة من الكاثوليكية، ترسخت جذورها في أوروبا، لم تتصالح مطلقا مع الثورة الفرنسية، التي كسرت القوة الدنيوية للكنيسة وأطاحت بحق الملوك الإلهي المقدس الذي قامت عليه الـمَلَكية المطلقة. كان جوزيف دي مايستر، وهو أحد أكثر المفكرين الرجعيين بلاغة وتأثيرا، يعتقد أنه في غياب السلطة المقدسة للـمَلَكية والكنيسة، ينزلق المجتمع إلى فوضى غير أخلاقية.
لم يختف هذا الخط الفكري المناهض للتنوير قَط. ففي فرنسا، عمل على تغذية الحركات القومية اليمينية، مثل الحركة الفرنسية المناهضة لليبرالية والمعادية للسامية والعلمانية. ولكن لم يكن المحافظون الكاثوليك المسيحيين الوحيدين الذين عارضوا الإرث العلماني للثورة الفرنسية. على سبيل المثال، كان الحزب الكالفيني الرئيسي في هولندا، قبل اندماجه مع طوائف أخرى في الحزب الديمقراطي المسيحي، يسمى الحزب المناهض للثورة.
من الواضح أن المحاولات التي يبذلها المحافظون الكاثوليك والإنجيليون المعاصرون لتشريب السياسة بمعتقداتهم الدينية تتعارض مع أفكار الثورة الفرنسية، التي سعت إلى دعم التحرر من الدين، لكنها تتعارض أيضا مع أفكار الثورة الأميركية، التي رسخت مبدأ حرية الدين. وكل من المجموعتين تستهدف اليوم الحواجز التي أقيمت بعناية بين الكنيسة والدولة.
هذه حال شديدة الخطورة، ليس فقط لأنها تعزز التعصب، بل وأيضا لأنها تتحدى، على طريقة دي مايستر، فكرة ضرورة استناد الحجة السياسية إلى المنطق البشري. فبمجرد أن تتحول المنازعات السياسية إلى اشتباكات إيمانية، تصبح التسوية والحلول الوسط في حكم المستحيل. فالمؤمن بعقيدة ما من غير الممكن أن يساوم على مبدأ مقدس. ولا يبالي أولئك الذين يرون ترمب بوصفه أداة في يد الرب بمدى منطقة وعقلانية الاتهامات بالإجرام والإساءة والتجاوز الموجهة إليه من قِبَل معارضيه. فهم يشعرون أن الدفاع عنه واجب. ووصف هذه الحال بأنها غير معقولة يجعلنا نسيء فهم دفاعهم. فلا يمكنك أن تجادل مع الرب.
من المحتمل أن لا تكون القاعدة الانتخابية التي تبجل ترمب كافية لإبقائه في البيت الأبيض بعد عام 2020. لكن من الصعب معارضة مثل هذا الولاء الإيماني المتقد بالاستعانة بخطط عقلانية لإصلاح هذه المشكلة أو تلك. ولهذا السبب، أجد أنه من المقلق للغاية أن نسمع أشخاصا على قمة الحكومة الأميركية يتحدثون عن السياسة بعبارات تنتمي بحق إلى الكنسية. إنهم يتحدون المبادئ التأسيسية للجمهورية الأميركية، ومن عجيب المفارقات أنهم ربما تكون لهم الغَلَبة بالفعل نتيجة لهذا.
اضف تعليق