مسألة هوية علم الاجتماع
مما لا شك فيه ان الفكر السوسيولوجي الاوربي المعاصر يمارس تأثيراً هائلاً على التفكير الاجتماعي في الدول التي تتجه نحو المجتمع المنفتح. السؤال الذي يبرز: هو بأي طريقة تكون النظرية الاجتماعية ممكنة؟ الفكر السوسيولوجي المعاصر يتميز بالبحث الفعال عن نقاط اتصال مع التصورات الفلسفية. الفلسفة الاجتماعية بدورها، وبعد فترة طويلة من الازمات تبدو قد برزت من جديد كونها اكتسبت شكلا جديدا وهي تتقدم ومعها السوسيولوجيا نحو نموذج جديد.
غير ان هذا التفاعل لكي يكون مثمرا، من الضروري اجراء محاولات مقصودة في الفكر النظري. لذا، سنحاول تحليل مشاكل السوسيولوجيا المعاصرة والفلسفة الاجتماعية بالارتكاز على اساس ان التفاعل بينهما حتميا، وان كل من السوسيولوجي والفلسفة يتجذران في بعضهما البعض وان كلاهما سوف لن يجدا مستقبلا لهما الاّ في هذا الوسط من التفاعل.
ان إلقاء نظرة على الدراسات السوسيولوجية للسوسيولوجيا الكلاسيكية كما يبيّن ماكس ويبر او ايميل دوركهايم بان اتجاهها للتحليلات السوسيولوجية كان متشابها، وهو الاتجاه الذي سماه ريموند بودون Raymond Boudon بـ تحليلات حل المشكلة problem-solving analysis.
السوسيولوجيا الكلاسيكية هي متعددة الجوانب. فإلى جانب البُعد او المستوى النظري، يوجد ايضا في اعمال الكلاسيك بعد آخر، هو تاريخ الفلسفة او، طبقا لبودون، بُعد تنبؤي. كذلك نجد في إحباط ماكس ويبر disenchantment (1) واغتراب كارل ماركس، والشعور بتآكل القيم لدى دوركهايم جميعها في هذا المستوى. هذه الأبعاد تشكل ما يسميه بودون " برنامج المدرسة الكلاسيكية" ويوفر سوسيولوجيا اوربية كلاسيكية مع هويتها.
غير ان هذا البرنامج للمدرسة الكلاسيكية في رأي العديد من الباحثين امثال بودون ومنش R. Munch وميرتن R.K. Merton قد فقد تأثيره على السوسيولوجيا المعاصرة. "تحليلات حل المشكلة" جرى استبدالها بالميل البارز لـ "برنامج الاضطراب" program entropy، وهو المفهوم الذي ادخله بودون. ويتألف من عدة عوامل: فكرية، مؤسسية، مورفولوجية.
العوامل الفكرية Intellectual factors
ان محتوى العوامل الفكرية تتألف من الشعبوية populariztion، هيمنة "الاحساس المشترك" في عمل القرارات، وعدد من الاتجاهات الايديولوجية والفلسفية المتشعبة والمفرطة. وهناك العديد من الايديولوجيات المتناقضة بدرجة ما، والتي حفزت نزعات سوسيولوجية كثيرة، بدأت بتفكيك برنامج المدرسة الكلاسيكية. النتيجة الواضحة لإحدى هذه الايديولوجيات هي "ايديولوجية الحس المشترك او التفكير العام common sense، التي كانت نيتها ازالة اي اختلاف بين المشاكل وعدم المشاكل. وبما ان "الحس العام" والتجارب "العامة" المتصلة به (احيانا يشار له ايضا كمعرفة عامة) ينتج صورة مشوهة ومبسطة للظاهرة الاجتماعية، فلابد من الحاجة الى السوسيولوجي التجريبي لكشف الـ "الحقيقة"حول الظاهرة الاجتماعية. سوسيولوجيا "الحس العام"(وهي في الحقيقة ايديولوجية) عادة لا ترى او لا تستطيع ان ترى السبب الكامن خلف السلوك او الرأي وهي تفضل الغموض مقابل ذلك النوع من المقدمات المنطقية الفارغة (المعاني غير النشطة).
وبشكل اكثر وضوحا، من الافضل عدم ذكر او كتابة او عمل اي شيء، يمكن السكوت عنه، او ما شابه ذلك. ان الهدف الرئيسي للسوسيولوجي الذي هو الفهم المستمر للأسباب والاسس، وتزويد تفسيرات وحجج عادة ما نُسي. ان السوسيولوجيين مسترشدين بمبادئ "الحس العام" المذكورة اعلاه، يستطيعون توليد نظريات لقيم معرفية من نفس النوع كأي موضوع علمي آخر ويمكنهم الاسترشاد بنظام للمعايير يُستخدم حاليا في العلوم الطبيعية الصرفة. لكن، في نهاية المطاف لا تبقى هناك معايير سوسيولوجية تسمح للنظرية لتقرر بشأن الخير والشر. (هنا ينبغي التذكير ان الاستراليين القدماء لم تكن لديهم فكرة عن الخير والشر، ولم تكن لديهم ايضا اية ايديولوجية). وفي زماننا، رفض هذه المعايير النوعية يعني التفكير المجرد، وهو الجانب المعاكس للنسبية.
ان السوسيولوجي لا يزال تهيمن عليه النماذج الستاتيكية الثابتة، احيانا بواسطة اتجاه الحس العام، والذي يؤكد بان طريقة واحدة هي كافية لجميع المشاكل، هذا يضع الاساس للنظام المغلق. سوسيولوجيا الحس العام تفشل في رؤية الاسباب الكامنة وراء السلوك او العقائد.
ان جوهر السوسيولوجيا المعاصرة هو اهتمام وجودي مباشر. لم يُطرح اي فرق بين التوضيحات العلمية والأبعاد التفسيرية. وهنا تكمن المفارقة وهي ان نفس الكلاسيك عرض السوسيولوجي كموضوع علمي، اي، موضوع يكافح لنفس الاهداف ويتبع نفس اجراءات العلوم الطبيعية والصرفة. مع ذلك، في القرن العشرين وبينما حققت العلوم الطبيعية تقدما ملحوظا، بقي السوسيولوجي في الخلف او توقف تماما. علاوة على ذلك، ان الاختلافات النوعية بين العلوم الاجتماعية، والتي اصبحت وبشكل خاص قوية في القرن الماضي، جرى تجاهلها. الى جانب ذلك، احد اهم الادوار هنا يعود الى ازمة النظرية بشكل عام، حتى المعارضة للنظرية.
من العوامل الفكرية الاخرى التي عززت ظاهرة "اضطراب النظام" المذكورة اعلاه هو انتشار الرؤى الدوغمائية العالمية، مثل النسبية والماركسية الشعبوية. في الاتجاه النسبي، تكون المعرفة والموضوعية هي فقط اوهام وان النظرية الصحيحة فقط هي تلك التي تدّعي ان لا وجود للحقيقة. هذا سوف يمحو الاختلاف بين المشكلة واللامشكلة، بين المشكلة الحقيقية والمشكلة الزائفة. ان مهمة السوسيولوجيين الذين تخلفوا عن الرؤى العالمية الدوغمائية هي ان يضعوا حدودا لانفسهم او، بكلمة اخرى، ان يبقوا بعيدين عن المشكلة التي يحتضنونها، مع انها لسوء الحظ لا يمكن حلها بدون السوسيولوجي. وهكذا، فان السوسيولوجيين الذين يتبعون هذا الاتجاه الدوغمائي هم منشغلون فقط بجمع وتحليل البيانات.
العوامل المؤسسية Institutional factors
الى جانب العوامل الايديولوجية المذكورة اعلاه، هناك ايضا عوامل اخرى ساهمت في "نفي" السوسيولوجي عن برنامج المدرسة الكلاسيكية. هذه العوامل يمكن تسميتها مؤسسية. احد هذه العوامل هو امتداد لما سماه شمبتر Schumpeter عام 1954 "بغرف العلوم" chamber sciences. التاريخ المختصر لنشوء هذه الغرف هي انها بعد الحرب العالمية الثانية حدثت تطورات في السوسيولوجي مشابهة لما حدث في الاقتصاد: حيث مع زيادة قوة الدولة، وبسبب حاجتها لـ "تحسب وتنظم" تعاظمت كثيرا حاجتها للبيانات. الزيادة غير المسبوقة بعدد الاقتصاديين والديموغرافيين رافقها انفاق المزيد من الوقت على جمع البيانات كوسائل للسياسة الاقتصادية والمالية والاجتماعية والديموغرافية، بدلا من ان تكون للتوضيح. ما كان وسيلة للسياسيين اصبح هدفا لغرف العلوم، او للسوسيولوجيين الوصفيين. الزيادة اكثر من اي وقت مضى في حقول التعليم، الصحة العامة، الثقافة، والتي كانت تقليديا اهدافا للسوسيولجي، اكتسبت اهمية سياسية. اعداد كبيرة من السوسيولوجيين اصبحوا منخرطين في غرف السوسيولوجي هذه. الفعاليات الفكرية النظرية التوضيحية والادراكية جرى مساواتها مع الوقت المنفق، طالما ان السوسيولوجيين منشغلون فقط بجمع البيانات. ان تأثير هذا كان دفع علم الاجتماع الى موقف فيه اصبح تحليل البيانات موضوعا وصفيا مصمم كليا. بالطبع، يصعب ايجاد تشابه بين النشاطات العلمية و"تحليل البيانات"، عندما يتم التعامل مع هذه ككفاءة ذاتية. ترتيب البيانات وجمعها هي ليست فعاليات توضيحية بل هي نوع من الفعاليات الاقل معرفية.
يقصد شمبتر بغرف العلوم، العلوم الملائمة لحاجات الدولة. غير ان الحاجة للبيانات الآن هي في تزايد غير مسبوق من جانب جماعات السلطة والمصالح، والحركات الاجتماعية، والجماعات الايديولوجية. واذا كانت المحاججة والجدال في الازمان السابقة الوسيلة الرئيسية للنقاشات السياسية، فان الوسيلة اليوم اصبحت البيانات. هذه الحقيقة بدورها اضافت الى سمة الحاجة للسيوسيولوجي.
ومن العوامل المؤسسية الاخرى هو المحلية provincialism ولكن ليس بالمعنى الجغرافي. انها مرتبطة بتمدد السوسيولوجيا الاكاديمية الى حيث تتزايد التعددية النظرية (تعدد الاراء بتعدد الاشخاص)، وعدم الترابط والاكتمال. بودون اطلق على هذه الحالة بالاغتراب او عدم الاستقرار الاكاديمي"academic anomy". وبالتالي فان السوسيولوجيين من مختلف العقائد، والمسترشدين بمختلف النماذج، هم نادرا ما ينخرطون في نقاشات علمية وكل شيء سيُترك في مستوى "الحس العام".
بير بوردو Pierre Bourdieu في كتابه (Homo academicus) وصف هذه الظاهرة بعبارات من "الحقل الفكري"، "رأس المال الرمزي او الفكري" و"رأس المال الاكاديمي والمؤسسي". "الحقل الفكري" يضم العقائد والقواعد والتوقعات والمكافئات. "رأس المال الفكري والرمزي" يعني الشهادات العلمية والوظائف والاسماء والمراجعات. "رأس المال الاكاديمي والمؤسسي" يعني الموقف الذي يسمح للمرء بممارسة التأثير. هذه العوامل تعيق بدلا من ان تحفز التجديد والتقدم في التحقيقات العلمية، انها تحبط بدلا من ان تشجع الجرأة في التفكير العلمي، انها تفصل بدلا من ان توحّد الباحثين.
العوامل المورفولوجية
هذه العوامل هي خاصية متميزة لعلم الاجتماع كمجموعة، لأن زيادة تقسيم العمل تقود الى عدم التجانس. احد اهم المؤشرات المشتركة لهذا التطور هو الفوضى في المعاني. حتى مفهوم "النظرية" لم يُدرك بطريقة مشابهة. هذا التعدد في المعاني لعبارة او كلمة ايضا يؤشر لحقيقة ان السوسيولوجيين المعاصرين، مع انهم متكاملون اجتماعيا جيدا، لكنهم غير متكاملين فكريا. بالمقابل، نجد ان الكلاسيك رغم عدم انتمائهم للمؤسسات والاتحادات لكنهم امتلكوا فعلا برنامجا مشترك.
التزايد في مختلف انواع السوسيولوجيين، ونجاحهم في الميديا الواسعة، لزيادة الطلب عليهم من جانب الدولة، كل هذه الزيادة الكمية جعلت علم الاجتماع اكثر موثوقية واكثر انكشافا للمجتمع قياسا بالفلسفة. ولكن طبقا لبودون، يمكن في نفس الوقت ان تحصل "البلقنة" بسبب هذه العوامل الثلاثة.
الصراع بين علم الاجتماع النظري والفلسفة
مع ان افضلية علم الاجتماع على النظريات الفلسفية بدت في الفترة الاخيرة غير مشكوك فيها لكن بورديو كتب عام 1980 بان علم الاجتماع قد تجاوز ماقبل تاريخه، اي النظريات الكبرى للفلسفة الاجتماعية. هو ذاته شارك بنشاط في هذه الدراما للفلسفة وعلم الاجتماع، والتي لاتزال غير قادرة على الاجابة على السؤال حول ماهية علم الاجتماع النظري وما هو الفرق بينه وبين الفلسفة الاجتماعية. هو استمر بالقول ان علم الاجتماع، كأي العلوم، خُلق في تضاد مع طموحات الفلسفة العالمية لتكون قادرة على الاجابة على السؤال الابدي. وصل p. Bourdieu الى استنتاج بسيط: وهو ان علم الاجتماع يبرز ليسرق من الفلسفة بعض مشاكلها، ولكن ليرفض التنبؤات. النظرية التي يبحث عنها يجب ان تكون فنا للصمود ولمقاومة المثل القائمة.
غير انه من الصعب العثور على سؤال لا يتعدى كونه مجازا او استعارة. العلماء اظهروا سلفا عقم ذلك السؤال. بورديو ذاته لا يشك بعدم وجود تفضيل بين الغموض المتعمد والعلمية. هو يشير الى المساحات الخطرة في علم الاجتماع واسباب المغالطات فيه. انه قبل كل شيء غير منضبط، واتجاه طوعي للهدف وانكار لحقيقة ان الادراك يعتمد على الاتجاه، اي، على الموقف الذي يشغله السوسيولوجي في الفضاء الاجتماعي وفي الحقل العلمي.
واذا كان الاتجاه مصمم من جانب الفلسفة، فمن الضروري النظر الى اهميته وضرورته. بورديه يعترف بان جميع الاسئلة القديمة للفلسفة، مثل معنى التاريخ، التقدم والانحدار، دور الشخصية في التاريخ، جرت مواجهتها من جانب الفلاسفة في معظم الممارسات الابتدائية وتم التعبير عنها بنفس الطريقة المحددة التي عرضوا بها الاسئلة.
ماهي الاسباب التي تحدد سلفا نوع السؤال، وكيف تظهر في التفكير السوسيولوجي المشاكل العامة؟ طبقا لبورديو، واحد من اسرار فن علم الاجتماع هو مقدرته على ايجاد اشياء تجريبية تسمح بظهور الاسئلة العامة المتعلقة بها.
وبما ان "الحس العام" او "المعرفة العامة" في مستوى الوعي اليومي لا يساعد في حل المشكلة، فان الاتجاه يُصنع بواسطة الفلسفة. هيجل اكّد مرة على ان الفكر النظري والفلسفي يصل الى ما وراء الحس العام، والذي هو ليس فلسفة. "الحس العام" يتضمن قواعد واحكام الزمن، طريقة التفكير والمحاباة اثناء الفترة. انها محكومة بلاوعي بأفكار عصر معين. يبدو من المعقول الاتفاق مع بورديو حين يقول ان المشاكل النظرية المتجسدة في مستوى "الحس العام" هي مشوهة جدا لدرجة ان اصدقاء النظرية يفشلون في ان يميزوا بها ذريتهم. وهكذا، هو يصل في النهاية للاعتراف ان ما انجزه من عمل في علم الاجتماع يحشد جميع المصادر النظرية.
العمليات المتناقضة تبدو في طور العمليات. الميل لتعريف واضح ومحدد للحقل السوسيولوجي هو قوي جدا، ولكن من جهة اخرى، هناك ميل واضح نحو التعدد المعرفي وانصهار مختلف المواضيع ذات الصلة، والبحث عن اسس فلسفية وتحقيقات وتحليلات للاطر النظرية ذاتها meta-theoretical foundations. كيف يرتبط كل هذا بالفلسفة؟
نظرا للتأثيرات المحفزة للتقدم العام في التفكير العلمي، بالاضافة للعلوم كانت هناك في العقد الماضي تعديلات في كل من الفلسفة الاجتماعية والسوسيولوجي، والتي يمكن فهمها وتوضيحها فقط كنظرية، لأن جمع البيانات هو حقل ثانوي مساعد. الفلسفة بدأت تثير اسئلة لم تُثر ابدا من قبل، والسوسيولوجي بدأ البحث عن مساعدة من الفلسفة.
* الفلسفة الاجتماعية: نماذج التفكير المعاصر، Jurate Morkuniene، التراث الثقافي والتغيرات المعاصرة، سلسلة IVA، شرق ووسط اوربا، عدد 23.
......................................................................................
اضف تعليق