تظهر الاستفتاءات من جميع أنحاء العالم أن البشر يرغبون في وظائف آمنة. لكنهم في ذات الوقت يطمحون إلى حياة خالية من العمل الشاق. وأدى \"صعود الروبوتات\" إلى إظهار حدة التوتر القائم بين هذه الدوافع. تتراوح تقديرات فقدان الوظائف في المستقبل القريب بسبب الأتمتة بين 9٪...
روبرت سكيدلسكي

لندن - تظهر الاستفتاءات من جميع أنحاء العالم أن البشر يرغبون في وظائف آمنة. لكنهم في ذات الوقت يطمحون إلى حياة خالية من العمل الشاق. وأدى "صعود الروبوتات" إلى إظهار حدة التوتر القائم بين هذه الدوافع.

تتراوح تقديرات فقدان الوظائف في المستقبل القريب بسبب الأتمتة بين 9٪ و47٪، كما أصبحت الوظائف بدورها غير مستقرة أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، فإن الأتمتة تَعِد بإعفاء البشر من معظم أشكال العمل القسري، وتقربنا من تحقيق نبوءة أرسطو المذهلة بأن جميع الأعمال المطلوبة سينفذها "عبيد ميكانيكيون" في يوم من الأيام، مما يترك البشر أحرارا لينعموا "برغد العيش". وهنا يراودنا السؤال القديم مرة أخرى: هل تشكل الآلات تهديدا للبشر، أم وسيلة لتحريرهم؟

من حيث المبدأ، لا يجب أن يكون هناك تناقض. حيث إن أتمتة جزء من العمل البشري من المفترض أن تمكّن الناس من العمل بجهد أقل مقابل أجر أكبر، كما حدث منذ الثورة الصناعية. فقد انخفضت ساعات العمل وارتفعت الدخول الحقيقية، حتى مع زيادة عدد سكان العالم إلى سبعة أضعاف ما كان عليه، وذلك بفضل زيادة إنتاجية العمالة المعززة بالماكينات. وفي البلدان الغنية، أصبحت الإنتاجية - الإنتاج لكل ساعة عمل - أعلى 25 مرة مما كانت عليه في عام 1831. وبذلك ازداد العالم ثراء على نحو مطرد، بينما انخفضت ساعات العمل المطلوبة لإنجاز تلك الثروة.

لماذا لا يجب أن تستمر هذه العملية التي لا ضرر منها؟ أين الثعبان في هذه الجنة؟ سيقول معظم الاقتصاديين إنه محض خيال. فالبشر، مثل لاعبي الشطرنج المبتدئين، يرون الخطوة الأولى فقط، وليس العواقب المترتبة عليها. الخطوة الأولى في هذه الحالة هي أن يُستبدل العمال في قطاع معين بالآلات، مثل نساجو حركة "اللاضية" الذين فقدوا وظائفهم بسبب استخدام ماكينة النسيج الآلية في القرن التاسع عشر. وعلى حد تعبير ديفيد ريكاردو المخيف، فإنهم يصبحون "زائدين عن الحاجة".

لكن ماذا يحدث بعد ذلك؟ ينخفض سعر الملابس، حيث يمكن إنتاج المزيد بنفس التكلفة. لذلك يستطيع الناس شراء المزيد من الملابس، وبتشكيلة أكثر تنوعا، بالإضافة إلى سلع أخرى لم يكن بوسعهم تحمل تكلفتها من قبل. كما تتوفر فرص عمل جديدة لتلبي احتياجات التغير في الطلب، بحيث تستبدل الوظائف الأساسية المفقودة، وإذا استمرت الإنتاجية في النمو، فمن الممكن أن تنخفض ساعات العمل أيضا.

لاحظ أنه في هذا السيناريو الوردي، لا توجد حاجة لنقابات مهنية، أو حدود أدنى للأجور، أو تدابير للحماية الوظيفية، أو مخططات لإعادة توزيع الثروة لزيادة الدخول الحقيقية للعمال (المعدلة حسب التضخم). لأن ارتفاع الأجور هو رد فعل تلقائي لانخفاض تكلفة البضائع. وإذا لم يكن هناك ضغط هبوطي على الأجور النقدية نتيجة زيادة المنافسة على العمل، فإن الناتج التلقائي للابتكار التكنولوجي هو رفع مستوى المعيشة.

هذه هي حجة فريدريش فون هايك الشهيرة ضد أي محاولة من قبل الحكومات أو البنوك المركزية لتحقيق الاستقرار في مستوى الأسعار. ففي أي اقتصاد متطور من الناحية التقنية، ينبغي أن تنخفض الأسعار، باستثناء عدد قليل من الأسواق المتخصصة. ولا يحتاج رجال الأعمال إلى هبوط التضخم لتوسيع أنشطتهم الإنتاجية، إنهم فقط بحاجة إلى توقع تحقيق المزيد من المبيعات. حيث إن غلاء أسعار السلع يعتبر مؤشرا على الركود التكنولوجي.

لكن لاعب الشطرنج المبتدئ في مثالنا هذا يثير سؤالين مهمين: "إذا لم تقتصر الأتمتة على قطاع واحد، وانتشرت إلى مجالات أخرى، ألن يصبح هناك المزيد من الوظائف الزائدة عن الحاجة؟ ألن تؤدي المنافسة المتزايدة على الوظائف المتبقية إلى خفض الأجور، بحيث توازن أو حتى تعكس تأثير المكاسب الناتجة عن انخفاض أسعار السلع؟"

يرد الخبير الاقتصادي بأنه لن يتم استبدال البشر، بل سيتم استكمال مهامهم من خلال الأتمتة. فالنظم الآلية، سواء كانت في صورة روبوت أو غير ذلك، ستحسن من قيمة العمل البشري، ولن تدمره. مثل أن يستطيع الإنسان، بمساعدة حاسوب جيد، التغلب على أفضل جهاز كمبيوتر في لعبة الشطرنج. وبطبيعة الحال، يجب أن يكون البشر "ذوي كفاءة عالية". وهذا سيستغرق بعض الوقت، وسوف يحتاج إلى الاستمرارية. ولكن ما أن يتم التدريب على المهارات، فلا يوجد سبب لتوقع أي فقدان كبير للوظائف. ولأن قيمة الوظائف ستتحسن، فإن الدخول الفعلية ستستمر في الارتفاع. لذلك، بدلا من الشعور بالخوف من الآلات، يجب على البشر الاسترخاء والاستمتاع برحلتهم إلى المستقبل المجيد.

ثم يضيف الخبير الاقتصادي أنه لا يمكن للآلات أن تحل محل العديد من الوظائف التي تتطلب التواصل بين الأشخاص، أو المهارات البدنية، أو اتخاذ القرارات الطارئة، في الأمد القريب على الأقل. لذلك سيكون هناك دائما مكان للبشر في أي نمط مستقبلي للعمل.

دعنا نتجاهل للحظة التكاليف البشعة التي ربما تترتب على إعادة توجيه العمل البشري بالكامل. السؤال هو: ما هي الوظائف الأكثر عرضة للخطر، وفي أي القطاعات؟ وفقا لما ذكره ديفيد أوتور، الخبير الاقتصادي من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، فإن الأتمتة ستحل محل المزيد من الوظائف الروتينية، وتستكمل عمل الوظائف غير الروتينية التي تتطلب مهارة عالية. وفي حين أن الوظائف ذات المهارات المنخفضة لن تتأثر نسبيا، فإن الوظائف ذات المهارات المتوسطة سوف تختفي تدريجيا، بينما يرتفع الطلب على الوظائف ذات المهارات العالية. وعلى حد تعبير مارتن جوس وألان مانينج من كلية لندن للاقتصاد، سيكون هناك "وظائف مرغوبة" في القمة، و"وظائف رديئة" في القاع. حيث تنتهي حدود التكنولوجيا عند الجوانب التي لا يمكن إنكار صفة البشرية عنها.

لكن المستقبل الذي يتماشى مع الخطوط التي يقترحها أوتور يحمل بين طياته نظرة سوداوية ومقلقة. من السهل معرفة سبب بقاء الوظائف المرغوبة وزيادة قيمتها. فالمواهب الاستثنائية تقتضي تسعيرة مرتفعة. ولكن هل صحيح أن الوظائف الرديئة ستقتصر على أصحاب القدر الأدنى من المهارات؟ وكم من الوقت سيحتاج أولئك الذين في طريقهم لأن يصبحوا "زائدين عن الحاجة" لاكتساب مهارات عالية بما يكفي لمنافسة الآلات التي تتحسن باستمرار؟ وفي أثناء تحسين مهاراتهم، ألن يكونوا سببا في زيادة المنافسة على الوظائف الرديئة؟ بكم جيل سنضحي لتحقيق وعد الأتمتة؟ الحق أن كتابات الخيال العلمي قد سبقت التحليل الاقتصادي في وضع تصور لمستقبل تتمتع فيه أقلية ضئيلة من الأثرياء ذوي الدخول الثابتة بخدمات تكاد تكون غير محدودة تقدمها الأغلبية الفقيرة.

يقول المتفائلون: لنترك الأمر للسوق لتشكيل توازن جديد وفائق كما هي الحال دائما. ويقول المتشائمون: بدون تحرك جماعي للسيطرة على وتيرة الابتكار وأنواعه، فسوف يبدأ عصر جديد من العبودية. لكن على الرغم من أن الحاجة إلى تدخل السياسات لتوجيه الأتمتة إلى مصلحة الإنسان ليست موضع شك، فإن الثعبان الحقيقي في هذه الجنة هو العمى الفلسفي والأخلاقي. وكما كتب الفيلسوف التشيكي يان باتوسكا: " يمكن وصف مجتمع ما بالفساد إذا كان يعمل على تشجيع حياة فاسدة، مدمنة بطبيعتها على ما هو غير إنساني".

إن صعود الروبوتات لا يهدد وظائف البشر، بل إنه يهدد الإنسانية نفسها.

* روبرت سكيدلسكي، أستاذ فخري لعلوم الاقتصاد السياسي بجامعة وارويك، وعضو في مجلس اللوردات البريطاني ومؤلف سيرة حياة ثلاثة مجلدات من جون ماينارد كينز
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
أحبائي
الذكاء الإصطناعي وصل الى مرحلة مبهرة
والذين بحثوا في أمره عقول بحق نابغة ماهرة
وكانت رغبتهم الوصول بالبشر الى حياة سهلة فاخرة
لكن ذلك قد يجعل الرأسماليين يوفرون الأيدي العاملة المتيسرة
انتشار الذكاء الإصطناعي يجب ان يسود قبله عدل مجتمعي بقوانين متحضرة
أحبائي
دعوة محبة
ادعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الارض
جمال بركات....مركز ثقافة الالفية الثالثة2019-02-24