إن الوقائع على الأرض في سورية ترسم ملامح المستقبل السياسي للبلاد كما ترسم أيضاً الملامح الجغرافية لصدام يلوح في الأفق بين إسرائيل وحزب الله والميليشيات الأخرى المتحالفة مع إيران. على روسيا أن تتوسط في تفاهمات لمنع نشوء جبهة جديدة.
لقد دخلت الحرب السورية مرحلة جديدة مع اكتساب نظام بشار الأسد اليد العليا فيها. إسرائيل لم تعد راضية عن الوقوف موقف المتفرج بينما يتحسن موقع دمشق، وتحاول الآن عكس تردي موقعها الاستراتيجي. وهي تواجه في هذه المحاولة عقبات كأداء ينبغي عليها تخطيها؛ فقد بات النظام أكثر اعتماداً من أي وقت مضى على إيران، التي تعتبرها إسرائيل الدولة الأشد عداءً لها؛ وتعززت مواقع أعداء آخرين في سورية، خصوصاً حزب الله والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بمباركة روسيا.
الولايات المتحدة، ورغم الخطاب الحاد لإدارة ترامب، لم تفعل الكثير لعكس مكاسب إيران. لكن أوراق إسرائيل ليست ضعيفة لهذه الدرجة. لقد منحتها روسيا المجال للعمل ضد المصالح العسكرية المرتبطة بإيران، ويبدو أن موسكو أكثر اهتماماً بصياغة توازن بين التحالفات المتنافسة المتحاربة بدلاً من استعادة كل قطعة من الأرض ووضعها تحت سيطرة نظام الأسد. لكن إذا رغبت روسيا بالانسحاب في النهاية أو تقليص عدد قواتها، فعليها أن تقوم بدور الوسيط في صياغة قواعد اللعبة. لم تظهر روسيا اهتماماً كبيراً بفعل ذلك، لكنها إذا لم تفعل، فإن الأعمال القتالية بين إسرائيل وإيران قد تهدد إنجازاتها، خصوصاً فيما يتعلق باستقرار النظام.
كان اهتمام إسرائيل الأولي متركزاً في جنوب غرب سورية، حيث هي مصممة على منع حزب الله أو الميليشيات الشيعية من الاقتراب من خط الهدنة لعام 1974 وإقامة بنى تحتية هجومية قربه. من شأن قيامهم بذلك، من وجهة نظر إسرائيل، أن يعني جبهة جديدة ضدها وأن يضع حزب الله في موقع يمكنه من شن هجمات من منطقة بعيدة عن جمهوره المدني اللبناني، ما يجنب هذا الأخير المعاناة جراء الهجمات المضادة لإسرائيل. سيُترك الجيش الإسرائيلي، كما يخشى مخططوه، لفرض أثمان في لبنان أو دمشق أو طهران، مع المخاطرة بإشعال فتيل حرب إقليمية.
في الوقت الراهن، فإن "منطقة خفض التصعيد" التي أنشئت برعاية الأردن وروسيا والولايات المتحدة تبقي حزب الله والميليشيات الأخرى بعيدة عن خط الهدنة. لكن ثمة علامات على أن هذا الترتيب قد لا يصمد. في كانون الثاني/يناير 2018 انتزعت قوات النظام أراض من مجموعة جهادية في المنطقة، ما مكن الميليشيات المتحالفة معها من التسلل إلى مناطق أقرب إلى الجولان الذي تحتله إسرائيل. ثمة قوات معزولة لحزب الله موجودة في المنطقة وتستكشف حدودها. يمكن إبطاء هذا التدهور بتعزيز اتفاق خفض التصعيد لجنوب غرب سوريا، المتفق عليه بين روسيا والولايات المتحدة والأردن في أيار\مايو 2017. لكن لحظة الحقيقة ستصل عندما تتوقف الحرب في مسارح أخرى: هل سيفي النظام بوعده باستعادة كامل البلاد، بما في ذلك الجنوب الغربي؟ يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يفترض أنه إذا سعى النظام جدياً لتحقيق هذا الهدف، فإنه من المحتم أن يأتي ذلك متبوعاً بمساعدة قوات أجنبية.
على صعيد أوسع، فإن إسرائيل تريد منع خصومها من تعزيز وجود عسكري دائم في أي مكان من سورية، وهو الوجود الذي تخشى أنه سيقوّي مواقعهم في الحروب المستقبلية، كما سيعزز من نفوذهم اليوم في لبنان والأردن والساحة الفلسطينية. وتشكل إيران مصدراً خاصاً للقلق؛ حيث تضع إسرائيل خطوطاً حمراء لمنعها من إنشاء مطار، أو مرفأ، أو قاعدة عسكرية، أو وجود دائم لميليشياتها أو منشآت إنتاج أسلحة دقيقة التصويب لحزب الله. لقد أظهرت إسرائيل تصميمها أصلاً على منع إنشاء هذا النوع من البنى التحتية العسكرية النوعية. ويبدو أن روسيا راضية بشكل عام عن استمرار هذا النمط، ولا يمكن لإيران ولا لسورية إيقافه.
إلا أنه سيثبت أن استمرار توجيه الضربات الإسرائيلية للميليشيات سيواجه مخاطر أكبر وسيصبح من الأسهل إحباطها، على سبيل المثال من خلال إدماج المقاتلين في الجيش السوري أو ببساطة جعلهم يرتدون بزاته الرسمية. كما يخشى المسؤولون الإسرائيليون من احتمال توسيع الممر البري الذي تسيطر عليه قوات مرتبطة بإيران عبر العراق إلى سورية ولبنان، ما من شأنه أن ييسر حركة المقاتلين والمواد. وستواجه إسرائيل صعوبة أكبر في وقف هذا التطور أيضاً، خصوصاً في شرق سورية، حيث تتضاءل قدراتها الاستخباراتية والعسكرية مع ابتعادها عن الجولان.
موسكو وحدها في موقع يمكنها من التوسط لتعزيز اتفاق خفض التصعيد. ما لم تفعل ذلك، فإن من المرجح أن تتم صياغة قواعد اللعبة السورية من خلال الهجمات والردود عليها، مع المخاطرة بالتصعيد. تراجعت هجمات المجموعات المدعومة من إيران على خط الهدنة على مدى السنتين الماضيتين، إلا أن استعادة الأسد في كانون الثاني/يناير 2018 لمنطقة مجاورة قد تنذر بارتفاع وتيرة هذه الهجمات. كما يمكن لإسرائيل أن تشن هجمات أيضاً، على شكل ضربات جوية محدودة لمنع حزب الله من الحصول على منشآت إنتاج أسلحة دقيقة التصويب في لبنان، وهو ما اتهمت إيران بالسعي لتحقيقه. تشير تقييمات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلى أن بوسعها فعل ذلك دون التسبب بمواجهة شاملة. ربما، لكن حزب الله بعث بإشارات تفيد بأن تبعات مثل تلك الضربات لا يمكن التنبؤ بها. قد يكون ما يفصلنا عن حرب أوسع مجرد خطأ واحد في الحسابات.
إن التغيرات الإقليمية تجعل مثل هذا الخطأ في الحسابات أكثر ترجيحاً. ثمة استراتيجية أميركية سعودية أكثر صلابة تتكون، بمساعدة إسرائيل، للضغط على إيران عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً. لقد تبنت هذه القوى موقفاً نشطاً لتأسيس جبهة ردع في مواجهة إيران تشعر بأنها فقدتها خلال إدارة باراك أوباما. لدى حزب الله وإيران بالطبع طرق للرد. لا حزب الله ولا إسرائيل بيدقان بيد حلفائهما، ولديهما أسبابهما، خصوصاً التهديد الذي يتعرض له السكان المدنيون، لتجنب حدوث تصعيد كبير. لكن من غير المرجح أن تبقى الأعمال القتالية محلية.
في جنوب غرب سورية، يبدو أن روسيا هي اللاعب الوحيد القادر على التوسط للتوصل إلى تفاهمات تمنع حدوث تصعيد إيراني – إسرائيلي في البلد بأكمله. وستكون أفضل حصيلة متوقعة حالياً هي التوصل إلى اتفاق تتخلى بموجبه إيران وشركاؤها عن إنشاء بنية تحتية عسكرية كبيرة، بما في ذلك في جنوب غرب سورية لكن دون أن يقتصر عليه، مع الاحتفاظ بنفوذ كبير في البلاد من خلال وسائل أخرى. من الصعب تخيّل العودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل العام 2011، عندما كانت الدولة السورية متحالفة مع إيران، لكنها لم تكن ساحة لوجود إيراني علني ولعمليات عسكرية مفتوحة. في المستقبل المنظور، ستستمر إيران في كونها إحدى دعامات أمن النظام. لكنها تخاطر بتقويض استثماراتها إذا بالغت باستغلال قوتها.
الجميع سيخسر من تصاعد الحرب السورية، وسيكون الخاسر الأكبر الشعب السوري. إسرائيل ولبنان ستخسران أيضاً، حيث إن أي تبادل للأعمال القتالية بينهما يشارك فيه حزب الله من شأنه أن يشعل فتيل حرب أخرى عبر حدودهما وفي مناطق أبعد. بالنسبة لدمشق وداعميها، فإن حملة كبيرة تشنها إسرائيل ستلحق ضرراً هائلاً بإنجازاتها، وقد تؤدي حتى إلى زعزعة استقرار النظام نفسه، ما سيزرع بذور الشقاق بين روسيا وإسرائيل. إن تحقيق استقرار تدريجي في سورية سيمثل مساراً أكثر حكمة، وسيكون المسار الوحيد المستدام، نحو التوصل إلى تسوية نهائية.
اضف تعليق