رانج علاء الدين
قد يسرّع التصويت التاريخي على الاستقلال في أواخر هذا الشهر في كردستان العراق الخطى نحو حصول الأكراد على السيادة وفوز أكراد العراق أخيراً بدولتهم الخاصة بعد قرنٍ من الصراع، والأعمال العدائية والإبادات الجماعية. صحيحٌ أنّ الاستفتاء قد يولّد الزخم لتحقيق استقلال الأكراد، ويعطي العملية صفة رسمية، إلا أنه لن يكون له تأثيراً إدارياً وتنظيمياً فورياً، لا سيما وأن الاستفتاء لن يكون ملزِماً قانونياً. بيد أنّ سعي الأكراد إلى الاستقلال لن يخلو من دون تحديات، أقلها مقاومة القوى الإقليمية. على مرّ التاريخ، رفضت تركيا وإيران بشكلٍ خاص حصول الأكراد على حق تقرير مصيرهم، وغالباً ما تجلى هذا الرفض عبر مواجهات مسلحة.
لطالما كانت الدول المجاورة لكردستان العراق أمام معضلة، لا سيما وأن الغرب فرض منطقة حظر طيران شمالي العراق في العام 1991، الأمر الذي سمح للحزبين المسيطرين، الحزب الكردستاني الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني، بإنشاء منطقتهما المستقلة بنظام سياسي خاص (بما في ذلك الانتخابات)، ومؤسسات وعلاقات دولية.
رغم البيئة الجيوسياسية غير المساعدة في تسعينيات القرن الماضي حين كانت كردستان محاطة بدول مجاورة قوية وغنية بالموارد والقوى المسلحة القوية – التي كانت ظروفها في حينها أفضل بكثير مما هي عليه اليوم بشكلٍ يسمح لها بغزو الدولة الكردية بحكم الواقع والقضاء عليها عسكرياً – مهدت انتخابات عام 1992 في كردستان العراق، وهي الانتخابات الأولى من نوعها في تاريخ العراق، الطريق نحو الحصول على السيادة التي يسعى إليها الأكراد حالياً.
رغم الانتخابات التاريخية واستمرار فرض منطقة حظر جوي من قبل الغرب، لم يمرّ الحكم من دون تحديات. فقد كانت العملية السياسية في كردستان حديثة العهد. وأحاط جيرانٌ معادون بالأكراد ولم يكن لديهم أي مصلحة في رؤية بروز هذه الدولة الديمقراطية الحديثة أكثر فأكثر، وذلك لأسباب محلية وكذلك جيوسياسية. وحتماً، بدأت قوى إقليمية، بما في ذلك تركيا وإيران وسوريا بالإضافة إلى نظام البعث، ببذل الجهود لزعزعة الاستقرار في المنطقة، لا سيما من خلال تعزيز الانقسام بين الأحزاب والتلاعب وتقديم الدعم للأحزاب والتيارات المتخاصمة.
ولكن في الوقت ذاته، اعتبرت قوى إقليمية، كتركيا، كردستان العراق منذ تسعينيات القرن العشرين ممراً يمكن من خلاله مقاومة وإدارة المسألة الكردية الخاصة بها واتحاد العمال الكردستاني، أي المجموعة المتمردة الكردية التي حاربت الدولة التركية على مدى السنوات الأربعين الماضية.. تعاون حزب الديمقراطي الكردستاني واتحاد العمال الكردستاني مع تركيا لمحاربة حزب العمال الكردستاني، الذي يتبنى رؤية ذات توجه ماركسي للقومية الكردية تتعارض مع تطلعاتهم الاجتماعية – الديمقراطية والليبرالية. وقد حصل كلّ من برزاني وطالباني على جواز سفر تركي، مما أتاح لهما السفر بحرية خارج العراق وتركيا، وكذلك سُمح لهما بإنشاء تمثيل رسمي في أنقرة.
وبالتالي، إنّ التعاون السياسي القائم اليوم بين أنقرة وحكومة إقليم كردستان هو امتداد لهذه العلاقات. ومنذ العام 2003، مالت تركيا ببطء نحو قبول ما يراه الكثيرون حتمية قيام دولة كردستان؛ دولة ستكون حليفة قوية لأنقرة وستشكل مصدراً أساسياً للغاز الطبيعي وعازلاً مهماً بين تركيا وحكومة بغداد الحليفة لإيران. بالإضافة إلى تركيا، اتخذت دول الخليج موقفاً يتيح لها الاستفادة من هيدروكربون كردستان العراق، الذي قد يصدر في حال حصوله على السيادة من دون أن يعاني العقوبات السياسية والاقتصادية التي تفرضها بغداد.
لا تشجع تركيا بشكلٍ فعال قيام دولة كردية، إلا أنها حوّلت العلاقة الاقتصادية التي ربطتها بحكومة إقليم كردستان العراق خلال تسعينيات القرن الماضي إلى ترتيب أمني إقليمي كانت فيه كردستان العراق ركناً أساسياً. وعلى الرغم من تعنّت أنقرة الأولي بعد أن حصل الأكراد على استقلالهم الذاتي في العام 1991، استثمرت موارد كثيرة في اقتصاد كردستان، وساعدت في بناء خط أنابيب يمكّنه من تصدير الهيدروكربون بشكل مستقل، لتكون بالتالي قد ساعدت على دمج كردستان في النظام الدولي – رغم معرفتها بأن هذه الخطوة قد تحول يوماً ما الإقليم إلى دولة كردية مستقلة.
ستستمر أنقرة في التحذير، وربما حتى التهديد، إلا أنّ الأمر متعلق بأكثر من مجرّد سياساتها إزاء القضية الكردية والصراع المستمر ضد حزب العمال الكردستاني. صحيح أنّ قيام دولة كردية قد يشجع حزب العمال الكردستاني والمجموعات الشقيقة له في سوريا، إلا أنّ تركيا في موقع أقوى يمكّنها من منع انشقاق الأكراد في تركيا، كما أنها تتمتع بالدعم الإقليمي والدولي لقمع أي تفاعل تسلسلي (أثر الدومينو) محتمل من شأنه أن يشجع على انشقاق أكراد إيران وتركيا وسوريا، أقله في المستقبل القريب. وخلافاً للتحليل التبسيطي المبالغ به في أغلب الأحيان القائل بأن الاستقلال الكردي قد يسرّع من نهاية العراق ودول أخرى – رغم الافتقار إلى الدليل الاختباري الداعم لسيناريو مماثل – بكل بساطة ثمة مقاومة كبيرة إقليمياً ودولياً لأي تغييرات شاملة في نظام الدول في الشرق الأوسط.
ستحتاج دول أخرى على غرار إيران إلى المزيد من الإقناع. إذ يشكّل مبدأ دولة كردية حليفة للولايات المتحدة تمتلك مخزوناً كبيراً من الهيدروكربون، واقتصاداً قابلاً للنمو وعلاقات قوية مع الولايات المتحدة ودول الخليج والواقعة على مقربة من حدود هذه الأخيرة، كابوساً للنظام الإيراني. بالإضافة إلى ذلك، تتركز المخاوف الإيرانية في المقام الأول حول إضعاف مركز الدولة الكردية في العراق، وبالتالي إقليمياً؛ وثانياً الاحتمال بأنّ قيام دولة كردية سينشّط فصائلها الكردية التي نفّذت خلال العام الماضي سلسلة من الهجمات على أهداف تابعة للنظام.
في الحقيقة، منذ بداية الصراع السوري، لقد زادت العوامل الخارجية التي تحد أو تمكِّن الجهات الفاعلة الجماعية لإعادة إحياء الأكراد في المنطقة. ولكن، بينما يمثل تجديد الأعمال العدائية ضد إيران فرصة لمجموعات كالحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني لتجديد تيار التحرير الوطني الكردي في إيران، تفتقر المجموعات الكردية الإيرانية إلى الدعم الخارجي الكافي وإلى الموارد وكذلك إلى قواعد الدعم في إيران التي قد تمكّنها من شنّ تمرّداً جدياً ضد النظام الإيراني الذي وصل إلى أوج قوته منذ الثورة الإيرانية في العام 1979.
علاوة على ذلك، تعاني كردستان إيران أمننة مقلقة ونقصاً في النمو (فقط في المناطق المحرومة في سيستان وبلوشستان جنوبي شرقي إيران)، وقد عزز النظام الإيراني أمنه ومناطقه العسكرية في المناطق المجاورة لقواعد الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني شمالي العراق. بعبارة أخرى، من غير المحتمل تكرار لا يمكن مجاراة الجهود التي تبذلها كردستان العراق لبناء الدولة، مما يعني أنه يتعين على إيران مواجهة أي تأثير محتمل لتداعيات قد تنتج عن قيام دولة كردستان العراق.
ولكن يتعلّق الأمر بحكومة إقليم كردستان للفوز في حرب الروايات والمعركة الفكرية التي من شأنها أن تقنع أصدقائها وكذلك أعداءها بأنّ قيام دولة كردية سيخلق فرصاً وليس مشاكل. وفي حين قد تحاول قوى إقليمية على غرار إيران منع قيام هذه الدولة من خلال مواجهات مسلحة أو من خلال ميليشياتها الشيعية بالوكالة في العراق، يتعين على طهران أن تأخذ بالحسبان ردة فعل أمريكا. إذ أصبحت إدارة ترامب أكثر عدوانية تجاه إيران وقد لا تحتاج إلى الكثير من الجهد لإقناعها بالاشتباك عسكرياً مع النظام الإيراني – في حال قررت طهران مواجهة حليف أمريكا المفضل.
اضف تعليق