اذا كان بإمكاننا التنبؤ ولو نظريا بما سيحدث لنا في المستقبل، فهل هذا يعني اننا لسنا احرارا؟ لو نظرنا الى طفل واخذنا في الاعتبار جميع العوامل والقوى والمؤثرات التي تؤثر على سلوكه عبر السنين، فهل نستطيع التنبؤ بدقة بان ذلك الطفل سيتطور ليصبح قاتلا خطيرا؟ فاذا استطعنا ذلك، فهل هذا يعني ان هذا القاتل الخطير هو غير مسؤول عن افعاله؟
جاء في رباعيات عمر الخيام:
أحس في نفسي دبيب الفناء.....ولم أصب في العيش الاّ الشقاء
ياحسرتا ان حان حيني ولم.....يُتح لفكري حلّ لغز القضاء
منذ اليونان القديمة، كان من بين أهم النقاشات الفلسفية هي ما اذا كانت لدينا الارادة الحرة في اختيار افعالنا، ام ان جميع افعالنا تتقرر بقوى خارجة عن سيطرتنا. قبل مجيء الفكر العلماني، جرى تشخيص تلك القوى برغبة الآلهة، رغم ان ثقافة الطبيعية في الفكر الغربي تعود الى مدرسة milesian الفلسفية اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد. وفي العصور الحديثة وعندما تطورت علوم الادراك، بدا من المحتمل جدا ان ادمغتنا تعمل وفق خطوط مقررة (واذا كان لا يمكن تجاهل تأثيرات الكوانتم، فعلى الاقل انها تعمل وفق خطوط ميكانيكية). ولذلك برز نقاش جديد : هل مفاهيم الحتمية (او الطبيعية، اوالميكانيكية) لو طبقت على علوم الدماغ فهل هي تنسجم منطقيا مع الرغبة الحرة؟ لذا فان الانتباه تحوّل من النقاش بين القدريين وغير القدريين الى بين الانسجامين وغير الانسجاميين.
اثنان من الخصوم برزا في هذا النقاش هما بيتر فان انواغن (مؤلف رسالة في الرغبة الحرة، صدرت عن مطبوعات جامعة اكسفورد عام 1983) ودانيال دينيت (مؤلف عدة كتب بما فيها كتاب Elbow Room عام 1984). كلاهما يجادلان لإثبات حججهما منطلقان من مقدمات يعتبرانها مقبولة. انواغن يتخذ موقف اللاانسجام بينما يدافع دينيت عن الانسجاميين. انواغن هو الاكثر دقة في النقاش من بين الاثنين، لذا سنستخدم عمله كنقطة بداية في هذا الجدال. دينيت، يجادل باننا فعلا نمتلك الرغبة الحرة، بينما الاثنان يختلفان في طبيعة علاقة الرغبة الحرة مع الحتمية. يعرض انواغن ثلاثة اسس او مقدمات في جداله الرئيسي:
1- ان الرغبة الحرة هي في الحقيقة غير منسجمة مع الحتمية
2- المسؤولية الاخلاقية هي غير منسجمة مع الحتمية
3- (طالما نحن لدينا مسؤولية اخلاقية) فان الحتمية هي كاذبة. وعليه، هو يستنتج اننا نمتلك الرغبة الحرة.
الحجة في الاساس الاول تسير على الشكل التالي(ص56):
"اذا كانت الحتمية حقيقية، معنى ذلك ان افعالنا هي نتيجة لقوانين الطبيعة وللأحداث التي حصلت في الماضي البعيد. لكنه لم يكن لنا خيار في ما حدث لنا قبل ان نولد، ولا خيار لنا ايضا بما كانت عليه قوانين الطبيعة. ولذلك، فان نتائج هذه الأشياء (بما فيها افعالنا الحالية) هي ليست من اختيارنا".
الحجة في الاساس الثاني(ص 181):
هي اذا كان 1- ان لا احد مسؤول اخلاقيا عن فشله في أداء اي عمل، و2- ان لا احد مسؤول اخلاقيا عن اي حدث، و 3- ان لا احد مسؤول اخلاقيا عن اي موقف، عندئذ لا وجود لشيء اسمه مسؤولية اخلاقية".
بالنسبة للاساس الثالث لا يعرض فيه انواغن ملخصا دقيقا لخطّه في الجدال. هو يأخذ حججه باعتبارها بديهية باننا نمتلك مسؤولية اخلاقية، مثلما نفعل دائما، ونستمر في اعتبار الناس مسؤولين اخلاقيا عن اعمالهم.
دينيت لا يفنّد صلاحية الجدال الرئيسي لفان انواغن. اتجاهه هو إعادة صياغة كل من مفهوم "الخيار لنا"(في الجدال حول الاساس الاول) ومفهوم "المسؤولية".
قبل التوسع في ذلك، سنناقش الاختلاف في نقطة بدء الفلاسفة الذي يعود اليه سبب الاختلاف في الآراء.
ديكارت نظر الى الذهن كمتجاوز قبلي pure ego: اي، جوهر دائم، روحي لا يمكن لمسه بالعمليات الفيزيائية. انه يمكن ان يتأثر بتلك العمليات من خلال الحواس ولكن لا وجود لإسلوب آخر يتأثر به عبر الأحداث الميكانيكية الخارجية الجارية في العالم. هو يمكنه ان يتأثر بتلك الاحداث بشكل غير مباشر من خلال استغلال جسمه (عبر الغدة النخامية).
ومع تقدم العلم الحديث في فهمه للطريقة التي يعمل بها الدماغ، جرى تجاهل هذه الصورة للذهن. انه بدا اكثر واكثر كما لو ان الذهن عبارة عن وجود فيزيائي خالص، او كما لو انه لا وجود لـ "فرد" او "متجاوز قبلي" خارج عالم السببية الفيزيائية. بعض الفلاسفة (مثل الـ churchlands) ذهبوا الآن للقول ان لا وجود للذهن ابدا.
في ظل هذا الموقف كان امام فيلسوف الميتافيزيقا خيارين: اما الدفاع او الانسحاب.
ستراتيجية دينيت في الدفاع (retrenchment) هي في بناء خط ثاني للدفاع عن مفهوم الرغبة الحرة عبر إعادة صياغة المفهوم لكي لا يكون في خلاف مع النظريات الحالية في علوم الدماغ. هناك تضحية في هذا المجال تتمثل في خسرانه لرؤياتنا الشائعة والعادية لماهية الذهن والرغبة الحرة. يدّعي دينيت انه يعمل من اللغة العادية فلسفة، لكنه يبدو نسي ما يهتم به "الناس العاديون".
اما ستراتيجية انواغن في الانسحاب هي التخلي عن النزعات الحالية في العلوم والتأكيد على الايمان بـ "سببية الفرد"، وهي الرؤية بان الناس يمكنهم التسبب في حدوث الاشياء في عالم خارج السببية الفيزيائية والميكانيكية العادية. هو يشكو من ان العديد من الفلاسفة اصابهم الفزع من العلوم الحالية وعملوا افتراضات مُبالغ فيها حول المدى الذي يستطيعون فيه توضيح الكيفية التي يعمل بها الدماغ. ولكن، ولمختلف الاسباب، منها النجاح التجريبي لفيزياء الكوانتم(1)، اصبح من غير المحتمل جدا ان مثل هذا التوضيح الكامل سيتحقق في يوم ما. مبدأ اللاّيقين لهيزنبيرغ، لو امكن تطبيقه على الدماغ، سيعني اننا حتى لو عرفنا كل شيء عن الحالة الفيزيائية للدماغ في لحظة معينة، فسنبقى غير قادرين على التنبؤ بحالته في اللحظة القادمة بدرجة من اليقين المطلق. هذا يعني ان الدماغ غير مقرر بالمعنى الصارم للكلمة. لكن، وكما يشير انواغن، ان اثبات زيف الحتمية لا يضمن امتلاكنا للرغبة الحرة للاسباب التالية:
اولا، لو بنينا آمالاً على تأثيرات الكوانتم على كيميائية الدماغ، فان مثل هذا التأثير سيكون ضئيلا من حيث الأهمية.
ثانيا، حتى لو كان لها فعلا تأثيرا لا بأس به فنحن لا نزال ميكانيكيين، وذلك لا يبدو هو ذلك النوع من الرغبة الحرة التي يريدها انواغن اذا اراد "انسانا" يتخذ قرارات مسؤولة حرة من القيود السببية (الفيزيائية).
وفي النهاية، يعلن انواغن اننا نعرف اننا لدينا رغبة حرة لأن الرغبة الحرة متضمنة في المسؤولية الاخلاقية، ونحن نعلم ان الناس مسؤولون اخلاقيا عن افعالهم. التبرير لهذا التضمين هو تصور انواغن للمسؤولية الاخلاقية (ص 162): "الفرد مسؤول اخلاقيا عما يقوم به فقط عندما يستطيع عمل شيء آخر"(صيغته الاخيرة للمسؤولية الاخلاقية هي اكثر تماسكا في التعامل مع مختلف اشكال الامثلة المضادة للنظرية).
يدّعي دينيت ان هناك حالات للفعل المسؤول عندما لا يمكن للمرء عمل خيار آخر. ذلك ان الغرض من التعليم الأخلاقي هو لجعل الفرد غير قادر على تعذيب انسان بريء مقابل الف دولار. ربما تعلّمنا منذ الولادة لإعتبار مثل هذا العمل غير مقبول، ولكن مع ذلك اكثرنا لا يقر باننا عندما رفضنا العرض لم نكن نرفض ذلك بحرية. يسأل دينيت ما الذي نريد معرفته عن الفرد حينما نتسائل، هل كان بإمكانه عمل بديل آخر في موقف معين؟ هل سؤالنا(هل بإمكان الفرد عمل شيء آخر) هو سؤال صائب في ظل الحالات الدقيقة للدماغ التي امتلكها الفرد والحالة الدقيقة للكون في وقت الفعل؟ دينيت يرفض هذه الصياغة للسؤال باعتباره لا يمكن الاجابة عليه، وحتى لو امكن الاجابة عليه فهو غير مفيد في تقرير المسؤولية.
هو لا يمكن الاجابة عليه لانه من المستحيل لنا استنساخ نموذج لمثل هذه التعقيدية، وهو غير مفيد لانه حتى لو استطعنا عبر تمديد الخيال بناء مثل هذا النموذج، فنحن طبيعيا سوف لن نجد انفسنا ابدا في مثل هذه الحالة – لأن الظروف الخارجية حتى لو بقيت هي ذاتها فان ظروف الادراك سوف لن تكون كذلك (في افضل الاحوال نحن ربما نمارس بعض معنى التامل الديكارتي déjà vu او الشعور بانك مارست سلفا ما يحدث الآن).
لذا نحن تُركنا مع مشكلة كيف نفسر السؤال (ص 142): نحن نسأل (السؤال) لأن شيء ما قد حدث نرغب بتفسيره... نحن نريد معرفة اي استنتاجات نستنبطها منه حول المستقبل. هل هو يخبرنا اي شيء عن شخصية الفرد على سبيل المثال؟ هل ان "السؤال" الذي يقترح انتقادا للفرد، بحيث لو طُرح بشكل صحيح، ربما يقود الفرد لتحسين طرقه في بعض المجالات؟ هل يمكننا التعلم من هذا الموقف بان هذا هو الفرد او ليس هو الفرد الذي يمكن الوثوق به للتصرف بشكل مشابه في حالات مشابهة في المستقبل؟ اذا احتفظ المرء بشخصيته ثابتة، لكنه غيّر الظروف بطرق ثانوية او حتى رئيسية، فهل هو دائما سيقوم بنفس النوع السيء من الاشياء؟ هل ما لاحظناه توا هو امر بعيد الاحتمال، او انه كان تجسيدا لنزعة قوية - تستمر، وتبقى ثابتة عبر مختلف الظروف؟
وهكذا، يجادل دينيت اننا لازلنا نعتبر الناس مسؤولين سواء قبلنا مفهوم انواغن في الرغبة الحرة ام لم نقبل، لأن الاعتبارات التي في ذهننا عندما نسأل ما اذا كان احد ما "بامكانه عمل خيار آخر" هي غير ملائمة لقضية الرغبة الحرة والحتمية.
من غير الواضح ان كان انواغن مقتنعا باتجاه دينيت. فهو على الرغم من مصداقيته، لكنه يبقى شيئا يشبه حيلة لفظية، انه "يحل المشكلة " ولكن على حساب عدم الاقتراب الحقيقي مما نحن قلقون حوله فيما اذا كنا نمتلك رغبة حرة ام مسؤولية. بالطبع سيرد دينيت بان تلك المخاوف هي نوع من الكراهية.
نعتقد ان ذلك هو تجسيد للخلاف الجوهري. حل هذا الخلاف سيساعد في حل القضية بينهما حول الرغبة الحرة، ولكن من المشكوك فيه امكانية اي حل من هذا النوع. عدم الاتفاق بينهما مرتكز على حكم جوهري اقامه كل واحد منهما حول الكيفية التي يجب ان تستجيب بها الفلسفة للموضوعات الاخرى حولها.
قد نتفق مع ملاحظات انواغن، بانه في ضوء الموقف الحالي للعلوم، فانه من المبكر الادّعاء بان الحتمية (عصبيا ان لم تكن كونيا) هي حقيقية، غير انه، من المؤكد انه من السابق لآوانه الادّعاء انها زائفة ايضا. لا يمكننا الاقتناع بحجة انواغن الاّ اذا اعطى صورة غامضة عن الكيفية التي يعتقد بها ان سببية الفرد تعمل فيزيقيا. لا نتوقع ان يكون دقيقا، لكنه ينبغي على الاقل ان يكون قادرا على ابلاغ قصة مقنعة. الانسجاميون يمكنهم قول قصة هامة جدا، مع اننا قد لا نهتم كثيرا باستنتاجاتهم. ان لم يلجأ انواغن لقصة عملية فهو انما يقبل ضمنا بالتصور الديكارتي للذات كمصدر لرغبتنا الحرة. يمكننا القول ان الوقوع خلف النموذج الديكارتي ومحاولة العمل خارج ميدان العلم التجريبي هو عمل لا يستحق التضحية. توصيات دينيت تستحق الاخذ بها جديا، رغم عدم وعيه بالتضحية التي يتكبدها جرّاء التخلي عن مفهومنا العادي في الرغبة الحرة.
اضف تعليق