الدراسات التي تناولت شؤون الباحثين على الصعيد العالمي إلى وجود أزمة صحة نفسية في الأوساط الأكاديمية. وعلى وجه التحديد، تظهر مشاعر الاكتئاب والقلق وتزداد حدتها بين صفوف الباحثين الذين يستهلون مسيرتهم المهنية؛ فلا تمرُّ سنة أو سنوات قليلة إلا وتتبدَّل حياتهم وتنقلب رأسًا على عقب، ولا يُتاح من الفُرص الوظيفية المستقرة إلا القليل...

مجموعات من الباحثين في جميع أنحاء العالم تقرر التصدي لبيئات العمل السامة التي تحيط بالبحث العلمي، في محاولة لتقليل الآثار السلبية على صحة الباحثين النفسية.

في مؤتمر عُقد في ألمانيا في عام 2019، تحدثت ويندي إنجرام عن مشروع يهدف إلى التوعية بمشاكل الصحة النفسية التي يتعرض لها الباحثون الأمريكيون. ومن خلال حديثها مع الباحثين المشاركين في المؤتمر، أدركت إنجرام أن تلك المشاكل ليست قصرًا على الباحثين الأمريكيين، وإنما هي مشاكل "عامة وشائعة في الأوساط الأكاديمية، لا يخلو منها مجال من المجالات أو بلد من البلاد".

تُشير الدراسات التي تناولت شؤون الباحثين على الصعيد العالمي إلى وجود أزمة صحة نفسية في الأوساط الأكاديمية. وعلى وجه التحديد، تظهر مشاعر الاكتئاب والقلق وتزداد حدتها بين صفوف الباحثين الذين يستهلون مسيرتهم المهنية؛ فلا تمرُّ سنة أو سنوات قليلة إلا وتتبدَّل حياتهم وتنقلب رأسًا على عقب، ولا يُتاح من الفُرص الوظيفية المستقرة إلا القليل، ويجدون أنفسهم دائمًا في مواجهة الضغوط الناجمة عن ثقافة "النشر أو الهلاك" الغالبة على ميدان العلوم.

ولما كان طلاب الدراسات العليا وباحثو ما بعد الدكتوراه لا يلقَون الدعم الذي يصبُون إليه من المؤسسات العلمية التي ينتسبون إليها، فقد شرع هؤلاء الطلاب والباحثون في أخذ زمام المبادرة، بُغية إيجاد حلول لتلك المشكلة. ومن هنا، نجد الآن كثيرًا من مراكز الأبحاث التي توفر خدمات الصحة النفسية المبنية على أدلة علمية لمساعدة الباحثين، ويكون ذلك في الغالب عن طريق عقد ورش عمل وتقديم الدعم الإكلينيكي لهم. والأهم من ذلك، كما يقول باحثون، أن تلك المبادرات بدأت في مواجهة الأسس التي يرتكز عليها ما يسميه كثيرون بالبيئة السامة التي تكتنف العمل في مجال البحث العلمي.

تقول إنجرام، وهي المؤسسة والمديرة التنفيذية لمنظمة «دراجون فلاي للصحة النفسية» Dragonfly Mental Health، وهي منظمة عالمية غير ربحية تعمل في مجال الصحة النفسية ويقع مقرها في برادنتون بولاية فلوريدا الأمريكية: "الأمر لا يقتصر على البحث عن أساليب ناجحة وفعالة قائمة على أدلة علمية، بل إننا طبقنا تلك الأساليب بالفعل في الوقت الحالي، وبإمكان الجميع الاستفادة منها".

تقول كارين جنسن، وهي باحثة في مجال التعليم الهندسي تجري أبحاثًا لدعم الصحة النفسية لأعضاء هيئة التدريس وضمان سلامتهم النفسية بجامعة ميشيجان في آن أربور: "تغيير الثقافة هو التحدي الأكبر؛ والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف ننتقل من مجرد البقاء والصمود في الأوساط الأكاديمية إلى تحقيق الازدهار والنجاح. لذا فالطريقة الوحيدة لتحقيق ذلك [الازدهار] ستكون من خلال العمل الجماعي الذي تشارك فيه [أطراف] كثيرة".

تكاتُف الجهود

أدركت إنجرام، على ضوء مشاركتها في المؤتمر المنعقد في عام 2019 والمشار إليه آنفًا، أن ما يعيب المبادرات العامة التي تسعى لتقديم يد المساعدة للباحثين أنها تخلو من الترابط والتنسيق. تقول: "كان باحثو الهندسة والبيولوجية الخلوية يحاولون شق طريقهم بصعوبة في بحوث علم النفس، كأنهم يعيدون اختراع العجلة من جديد".

على هذا الأساس، شاركت إنجرام في تأسيس «دراجون فلاي» لتوحيد "الأفكار والرؤى الثاقبة المستمدة من جميع الأنشطة العامة التي تجري في المؤسسات بمعزل عن بعضها البعض"، ووضعها في شكل كيانات رسمية.

وقد تطورت المنظمة لتصبح تحالفًا يضم أكثر من 450 من الأكاديميين المتطوعين من شتى أنحاء العالم، الذين يقدمون ورش عمل وبرامج تدريب وحملات تستهدف رفع الوعي بالصحة النفسية في الأوساط الأكاديمية. وقد قدمت المنظمة أكثر من 375 برنامجًا لخدمة ما يقرب من 60 ألف أكاديمي في 32 دولة. وتقول إنجرام: "أوصى 96% من المشاركين [في تلك الأنشطة] زملاءهم بالاستفادة من برامجنا".

تركز الجهود المبذولة في هذا الإطار على خمسة مجالات: تخفيف الوصم الاجتماعي، ونشر الوعي بمشاكل الصحة النفسية، وتعزيز مهارات دعم ومساندة الغير، والتشجيع على إنشاء شبكات لدعم الأقران، ومكاتب للعناية بالصحة النفسية في كافة المؤسسات البحثية.

بالإضافة إلى التعاون الفردي مع مراكز بحثية من عينة جامعة كاليفورنيا في بيركلي، قدمت منظمة «دراجون فلاي» ورش عمل لباحثين حاصلين على زمالة بعض وكالات تمويل العلوم، مثل «مؤسسة ألفريد ب. سلون» Alfred P. Sloan Foundation في نيويورك، و«مؤسسة بيو الخيرية» Pew Charitable Trusts التي يقع مقرها في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا.

البحث العلمي هو الأساس

تقول إنجرام إن برامج «دراجون فلاي» مبنية على أدلة علمية، وتضيف: "لدينا دراسات لا يمكن التشكيك في الأدلة التي تقوم عليها، أو نعتها بالسطحية. كما أننا نتيح إجراءات قابلة للتنفيذ، بل ومن الضروري اتخاذها". أما في الحالات التي تفتقر المنظمة فيها إلى أدلة علمية تؤيد نتائجها، فإنها تعقد مشاريع تعاون بحثي بهدف إيجاد حلول ممكنة. شاركت إنجرام في عام 2024 في نشر دراسة1 توصلت فيها إلى أن مشاهدة فيلم قصير عن التحديات ذات الصلة بالصحة النفسية في الأوساط الأكاديمية قلل من مشاعر الوصمة المرتبطة بهذا الموضوع لدى 92% من الأكاديميين المشاركين في الدراسة، وعددهم 149 باحثًا.

يعرض الفيلم لقطات لمجموعة من كبار أعضاء هيئة التدريس في الجامعات وهم يتحدثون عن تجاربهم مع المشاكل النفسية أو حالات ما يُعرف بالتنوع العصبي (neurodiversity). يقول كيفن مارك، الذي شاهد الفيلم أثناء إجرائه دراسات ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، إنها كانت المرة الأولى التي يرى فيها مجموعة من كبار الباحثين يكشفون عن معاناتهم الشخصية.

ذكر مارك، الذي يعمل حاليًا باحثًا في مجال البيولوجيا الخلوية في المركز الطبي التابع لجامعة تكساس ساوث ويسترن في دالاس، أن مشاهدته للفيلم المذكور قد دلَّته على الطريق إلى أن يكون مرشدًا علميًا. يقول: "تساهم «دراجون فلاي» في تشجيع المتدربين الأكاديميين على طلب النصح والمشورة من أعضاء هيئة التدريس والشعور بروح الصداقة والتضامن معهم في مواجهة التحديات التي ربما يكونون قد تعرضوا لمثلها".

أما بيتر هينشو، باحث علم النفس في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، فأشار إلى أن الأدلة العلمية تجزم بأن مجرد زيادة الوعي بالتحديات ذات الصلة بالصحة النفسية يساعد على كسر "الحلقة المفرغة من مشاعر الوصمة وعدم القدرة على التعافي"؛ ليس فقط على المستوى الفردي، بل على مستوى المجتمع بأكمله.

تغيير الثقافة

لكي نتمكن من تحقيق تقدم حقيقي، يتعين علينا أولًا تغيير البيئة السامة المحيطة بالبحث العلمي، على حد قول زوي إيرز، وهي اختصاصية علم الكيمياء التحليلية التي شاركت في تأسيس «أصوات أكاديمية» Voices of Academia، وهي منصة موجهة للأكاديميين تهدف إلى تشجيع تبادل الخبرات والتجارب ذات الصلة بسلامتهم وصحتهم النفسية. تضيف إيرز أن ثمة عوامل إشكالية تحتاج إلى الإصلاح، غير أنها لا تخضع للسيطرة المباشرة للباحثين الأكاديميين، ومنها، على سبيل المثال، ثقافة "النشر أو الهلاك" و"امتناع بعض الجامعات عن محاسبة الأكاديميين البارزين والمتميزين لديها" المتورطين في حالات تحرش.

ومن أجل أن تتمكن «دراجون فلاي» من إحداث تغيير جذري وشامل، تعمل المنظمة حاليًا على إنشاء مكاتب في "كل وحدة أكاديمية، مثل المجلات العلمية وجهات التمويل"، هدفها العناية بالصحة النفسية.

يُذكر أن مايكل آيزن، عضو مجلس إدارة «دراجون فلاي»، كان رئيسًا لتحرير مجلة «إي لايف» eLife عندما جعلت المجلة الصحة النفسية للأكاديميين محورًا أساسيًا من محاور عملية المراجعة. وكان ذلك أحد الدوافع التي جعلت المجلة تتحول من استخدام نموذج "القبول أو الرفض" للأوراق البحثية إلى اعتماد نظام يقوم على نشر البحوث المقدمة جنبًا إلى جنب مع تعليقات المراجعين. وصفت «إي لايف» هذه الخطوة بأنها تهدف إلى تحرير مؤلفي البحوث من "السيف المُسلط" على رقابهم عند التعامل مع المراجعين.

وعلى الرغم من التقدم المحرز حتى الآن، لن يكون إحداث التغيير الهيكلي المنشود بالأمر السهل أو اليسير؛ وذلك لأننا، "ببساطة، لا نفهم على الوجه الأكمل الكيفية التي يمكن من خلالها ضمان استدامة هذه الجهود ودمجها بطريقة منهجية في نسيج الأوساط الأكاديمية"، كما تقول جينيفر بيكي، الباحثة في شؤون السلامة النفسية للمتخصصين في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات بجامعة ولاية أريزونا في تيمبي، وكيري ويلكنز، الباحثة في مجال الصحة النفسية بجامعة ماساتشوستس بوسطن، واللتين شاركتا في قيادة برنامج أمريكي يُسمى «الملتقى الوطني بشأن أوضاع الصحة النفسية في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات» National Convening on the State of Mental Health in STEM.

يهدف هذا البرنامج إلى رفع مستوى الوعي بالسلامة النفسية في مجال البحث العلمي على الصعيد الوطني، مع التركيز بصفة خاصة على أعضاء هيئة التدريس والإداريين لما لديهم من صلاحيات وقدرات على تفكيك الممارسات التي تسهم في خلق ثقافات إشكاليّة. تقول بيكي وويلكنز: "وصلنا الآن إلى مرحلة أصبح فيها صناع القرار داخل الأوساط الأكاديمية أكثر انفتاحًا على الاعتبارات الخاصة بالصحة النفسية".

* هذه ترجمة المقال الإنجليزي المنشور بمجلة Nature بتاريخ 9 أبريل 2025.

اضف تعليق