سمة ظلت لصيقة في معظم المجتمعات التي عاشت وترعرع فيها الفكر الشمولي ورسخ قيم جديدة خاطئة ثبتت في عقول اجيال، وتعلمت الاجيال ان تأخذ النتائج ولا يعنيها اساسا غير النتائج، لذلك تركت الحوارات الهادئة والمناقشات العلمية التي توصل اصحابها الى مقاربات في الفكر، لذا كانت...
كتب عالم النفس العربي البروفيسور الدكتور( قدري حفني) في جريدة الاهرام مقالة بعنوان "مخاطر التفكير الانفعالي" بتاريخ 31 / 5/ 2007 والمعروف عن الاستاذ الدكتور قدري حفني انه عالم نفس متخصص في علم النفس السياسي وله مؤلفات اتسمت بالجدية والموضوعية بالطرح، فهو اكاديمي قد يختلف عن غيره بدرجات متباينة في الطرح وفي تناول الموضوعات ذات الطبيعة غير التقليدية، ويزيدني فخرا انني تتلمذت بين يديه خلال اعوام دراستي لتخصصي بعلم نفس الاعماق في مدرسة مصطفى زيور للتحليل النفسي بجامعة عين شمس في كلية الآداب منتصف العقد السابع من القرن الماضي.
شدني موضوع الاستاذ الدكتور قدري حفني لأنه يشخص الظواهر النفسية عند الفرد كما يشخصها في المجتمع بنفس الدقة والتصويب، ويشخصها في الاعلام وفي الانظمة السياسية كما لو انه وضع دراسة حالة نفسية لشخص عليل او سقيم يعاني من ازمة نفسية او صدمة عصبية انفعالية، فقوله ان النظم الدكتاتورية الشمولية والانساق الفكرية المنغلقة تشجع عدم الوقوف طويلا امام مضمون المعلومة او الخبر من حيث المنطقية او الاتساق، والاقتصار على محك وحيد هو سمعة ذلك المصدر الذي يحيط نفسه بهالة انفعالية لا يجوز معها مناقشة ما يصدر عنه.
اصاب في هذه السطور عين الحقيقة في معظم مجتمعاتنا في العالم الثالث عموما وبعض الانظمة العربية التي ترى ان المواطن يجب ان يكون احادي التفكير فحسب باتجاه السلطة او النظام القائم، وهذا يقودنا للقول ان من يعيشون في عالم تكون فيه الثمار والنتائج وليدة الانفعالية الشخصية سوف يركزون اساسا على الموضوعات التي بوسعهم التعامل معها والتأثير فيها لخدمة اهدافهم هم.
لذا فأنهم لن نتوقع منهم ان يكونوا اكثر دقة في ادراك العلاقات بين الاحداث، بقدر ما تمر الازمات او القضايا المعاصرة عليهم مرور الكرام، دون تمحيص او نتائج ويميلون الى ان يبتعدوا باي شكل من الاشكال من صلب الموضوع او الحقيقة من خلال عدة اساليب لطمس المعلومة او حقيقة الفكرة، وهو ما اكده البروفيسور قدري حفني تماما في مقالته بقوله: انهم يهدفون من ذلك الصراخ الانفعالي خلق حالة انفعالية مماثلة لدى المتلقي تعطل قدرته على التمحيص وتهيئة لابتلاع المعلومة كما لو كانت حقيقة.
ولو اردنا تعريف التفكير بمعناه السيكولوجي لوجدنا ان "باريل" يعرف التفكير بمعناه البسيط، بأن التفكير يمثل سلسلة من النشاطات العقلية التي يقوم بها الدماغ عند تعرضه لمثير ما، بعد استقباله عن طريق احدى الحواس الخمس، اما معناه الواسع فهو عملية بحث عن المعنى في الموقف او الخبرة. ومن خصائص التفكير ايضا كما اورده (جروان):
- التفكير سلوك هادف، فهو لا يحدث في فراغ او بلا هدف. وانما يحدث في مواقف معينة.
- التفكير سلوك تطوري يتغير كما ونوعا تبعا لنمو الفرد وتراكم خبراته.
- التفكير الفعال هو التفكير الذي يوصل الى افضل المعاني والمعلومات الممكن استخلاصها.
- التفكير مفهوم نسبي فلا يعقل لفرد ما ان يصل الى درجة الكمال في التفكير او ان يحقق ويمارس جميع انواع التفكير.
- يتشكل التفكير من تداخل عناصر البيئة التي يجري فيها التفكير (فترة التفكير) والموقف او الخبرة.
اما الانفعال او الانفعالات فتعرفه ادبيات علم النفس بانها حالات داخلية لا يمكن ملاحظتها او قياسها مباشرة، وفي اثناء تفاعل الافراد مع الخبرات التي يتعرضون لها تنشأ الانفعالات فجأة، وهي بنفس الوقت تتصف بعدم القدرة على التحكم فيها، لايمكن بسهولة اصدارها او كفها. لذا نستطيع ان نستنتج ان الانفعالات هي حالات داخلية تتصف بجوانب معرفية خاصة، واحساسات، وردود افعال سيكولوجية وسلوك تعبيري معين، وهي تنزع للظهور فجأة ويصعب التحكم فيها. ويضم التفكير الانفعالي ثلاث حالات هي: القلق، الغضب والعدوانية، والابتهاج.
ولو قارنا بين ما يجري في مجتمعاتنا وبين ما يجري عند الفكر الاخر لوجدنا انه (الفكر الآخر) يناقش اعقد القضايا المصيرية بدون اية انفعالات او توتر او مشاحنات وينتهي بالتالي الى اقرار صيغة مشروع او رؤية مستقبلية لقضية مصيرية باتفاق الاطراف المختلفة في وجهات نظرها، وهو ما لم ولن يكون في مجتمعاتنا العربية او برلماناتها او حتى مؤسساتها العلمية او مراكز الدراسات الستراتيجية فيها، على الرغم ان معظم ابناء مجتمعاتنا يتسمون بسمات الجمعية في التعامل وأن الشعور بالرضا عن النفس مقترن –على الارجح– بالشعور بأنهم في تناغم مع رغبات وأماني الجماعة التي ينتمون اليها ووفائهم بكل ما تتوقعه الجماعة منهم.
وهم في ذلك يختلفون تماما عن السائد في المجتمعات الغربية (اصحاب الفكر الآخر) التي تعلم ابناءها على السلوك الفردي وتحقيق اهدافهم الشخصية التي تمثل نجاحا وانجازا للفرد نفسه، لذا يجاهد الناس بغية الاحساس بالرضا عن أنفسهم، وتمثل النجاحات الشخصية والضمانات التي تؤكد هذه الخاصيات الايجابية عنصرا مهما لتوليد هذا الاحساس بالرضا والرفاهية كما يقول "ريتشارد نيسبت" في كتابه جغرافية الفكر.
ان قبول فكرة جديدة او رأي متجدد قد لا يلقى القبول في مؤسساتنا العلمية منها او الفكرية او حتى الاعلامية فضلا عن مجالسنا البرلمانية او النيابية او التجمعات المهنية وبقول (حفني) الصدور تضيق بأية فكرة جديدة او محاولة لتفنيد فكرة مستقرة والانفاس تنقطع بعد لحظات من الحوار، وسرعان ما يعلو الصوت ويرتفع الصراخ وتلوح الايدي وتتصاعد الاتهامات المتبادلة بالتشكيك في الثوابت والتطاول على المقدسات وتنفيذ مخططات غربية تدفع الامة للخلف او للغرب، ويتحول الامر من مناقشة لنقل الاعضاء او لخصخصة الاقتصاد او لإجراءات تنظيم اقامة دور العبادة او لغير ذلك من قضايا مهمة الى مباراة في نبش الاوراق والاجتزاء من اقوال صدرت عن ثقاة قدامى او محدثين، ويلتهب الجدل حول نزاهة وشرف وتاريخ ونوايا القائل بهذا الرأي او ذاك، وفي خضم هذا وذاك الضجيج تضيع القضية الاصلية المطروحة للمناقشة بحيث لا يستبين القرار الصحيح بشأنها.
اما في الطرف الآخر الذي يشكل ثلثاه اختلاف في الاراء والمواقف الخاصة ولكن ما يزيد على التكامل في اتخاذ القرار في الاتفاق وبقول "نيسبت" ان في المجتمعات الديمقراطية غير الشمولية يؤمن الناس بضرورة ان تنطبق القواعد والقوانين نفسها على الجميع، ينبغي عدم استثناء احد ليلقى معاملة خاصة بسبب صفات شخصية او روابط وعلاقات خاصة تربطه بأشخاص مهمين ذوي حيثية، العدالة عمياء لا تميز بين شخص وآخر، وهو سلوك يتعلمه الفرد في الثقافات التي تنبذ الانظمة الشمولية او الانظمة الدكتاتورية، حيث يبدأ التدرب على الاستقلال وطرح الافكار بدون خوف او محاباة لاحد او التكافل حرفيا من المهد، ويلقى الاطفال تشجيعا دائما وبأساليب صريحة على الاستقلال ويطلب الاباء والامهات من اطفالهم دائما وابدا اداء اعمال اعتمادا على انفسهم فقط، ويسألونهم دائما ان يحددوا اختياراتهم بأنفسهم.
هناك فجوة كبيرة اذن بين فكرين مختلفين، تبعات الفكر الشمولي ونتائجه حتى بعد الزوال ليس في كل المنطقة او بقاع العالم الاخرى، وبين الفكر الديمقراطي المتفتح الذي يقول الفرد ما يريد ويكتب بدون خوف او رياء او محاباة لشخص ما بعينه، فكانت النتائج سلبية ومتباينة بدأت من تربية الاطفال وهم صغار في اتخاذ القرار بدون تدخل الاب او الام وانتهاءا الى تشكيل القيم الاجتماعية، فالاستقلالية قيم متعلمة من قيم المجتمع الذي نشأوا فيه، اما الصراخ والعويل والتشكيك فهي ايضا سمات مكتسبة متعلمة من المجتمع.
وكذلك ما يطرح من جديد هي سمة ظلت لصيقة في معظم المجتمعات التي عاشت وترعرع فيها الفكر الشمولي ورسخ قيم جديدة خاطئة ثبتت في عقول اجيال، وتعلمت الاجيال ان تأخذ النتائج ولا يعنيها اساسا غير النتائج، لذلك تركت الحوارات الهادئة والمناقشات العلمية التي توصل اصحابها الى مقاربات في الفكر، لذا كانت تمثل الاقتراحات، اراء السلطة وحزبها، على عكس ما يدور في المجتمعات المنفتحة على الديمقراطية حيث يعرف الفرد ما يريد، ولديه فكرة واضحة عما هو ملائم ليأخذه او يقرر مع الاخرين وصولا الى اتفاق حول قضية ما او مشروع ما او قرار ما، وهذا يتم عادة بمناقشات هادئة وربما قصيرة وفي الصميم تحاشيا لتضييع الوقت وصولا الى الهدف.
ولنا ان نقول عن ثقة قدر المستطاع ان هذه الفوارق في التفكير والمناقشة والحوار هي التي جعلت الآخر في الجانب غير الشرقي متفوقا في الفوارق المعرفية واساليب ادارة البشر والأزمات بنتائج ناجحة بدون أدنى شك، على العكس من ذلك في الجانب الشرقي الذي تضيع فيه ابسط قضية من خلال تشكيل عدة لجان لدراستها، وطالما تشكلت اللجان ضاعت القضية.
اضف تعليق