التوافق هو التعايش مع الحاضر وفهمه والتعامل معه في اعلى درجات التسوية النفسية المتناغمة في الذات مع الخارج البيئة هذا الحاضر النابع من الماضي بكل ما حمل من تكوينات فرضية في الطفولة، تحققت في المراحل اللاحقة من العمر منها المراهقة والبلوغ ثم الرشد حتى استقامت وتبلورت...

لو تأملنا ونحن في كامل وعينا من اين يبدأ عمر الانسان، وبالتحديد من اية فترة عمرية في حياته، ومن اية فترة نعدها نقطة البداية والانطلاق، هل البداية تكون من الوعي الجنسي والبلوغ ام من فترة الرشد ام من بداية الدخول الى معترك الحياة العملية ام من بداية الزواج والانجاب..

انها تساؤلات من الصعوبة بمكان تحديدها او ايجاد نقطة دالة يمكن الولوج من عندها لاسيما ان التكوين البشري يبدأ من الاشهر الاولى في رحم الام ومن ثم الميلاد، به من الازمات والصدمات خلال مراحل الطفولة الاولى ما لا يمكن حصره او عده، انها السنوات الاولى في تشكيل الشخصية التي تبدو واضحة المعالم في الكبر وبها تتحدد شخصيته وتحدد سلوكه واتجاهاته وشكل طرائق تفكيره وتعامله، فالانسان اذن مسلح منذ البداية بالخبرات المكتسبة خلال تلك المراحل من الطفولة الاولى ويبدأ جني ثمار هذه الخبرات في المراحل اللاحقة من العمر.

 اما التوافق الذي نبحث عنه فأنه يكون تعديل الكائن البشري لسلوكه بحيث يتلائم مع الظروف الخارجية، ويشمل التوافق نواحي عدة منها النواحي البيولوجية والفيزيقية والسيكولوجية، فالكائن الانساني ينمو من خلال تفاعل القوى الوراثية والقوى البيئية فضلا عن تكوينات المنظومة النفسية، وهنا لابد من الاشارة في اختلاف الاهمية النسبية لكل منهما في الشخص الواحد، وفي الموقف الواحد رغم ان هناك اختلاف من شخص لآخر في رؤيته لأية قضية او موضوع، فلدى كل فرد امكانات وراثية معينة، تعتمد تحقيق هذه الامكانات على البيئة التي تنمو فيها والوضع النفسي وتكونه.

 وازاء ذلك يمكن القول ان عملية التوافق هي سلسلة من الخطوات تبدأ عندما يشعر الفرد بحاجة ما وتنتهي عندما تشبع هذه الحاجة وبين بدايتها ونهايتها يقوم الفرد بمحاولات مختلفة يجاهد فيها لتخطي الصعوبات وحل الازمات ومواجهة العوائق التي تحول دون اشباع هذه الحاجات، واعادة التوافق او ان صح القول مواجهات الاحباطات لإعادة التوافق ان استطاع، وان لم يستطع يحدث ما يسمى بالتوافق الانهزامي، وهي الحالات التي سميت في سيكولوجية التعامل مع الضغوط النفسية بانها اساليب التعامل مع المواقف الضاغطة لاستعادة التوافق مثل اللجوء الى الخيال او التمني او التأمل او النكوص والارتداد الى مراحل اكثر سعادة ومتعة، متجنباً حينئذ الواقع المؤلم الذي يعيشه.

 اما التوافق المرضي الذي يعيشه الفرد يعد بحد ذاته مرضاً وهو الانهزام نحو المرض النفسي وقبوله كحل وهو شر لابد منه كما يعتقد البعض ممن فقدوا الحيلة في المواجهة الحياتية فينكفأ نحو ذاته ويعيش الوضع الذي يحلو له، ويقبله، وكثيرا ما اتهم الطب النفسي بأنه يخلق المبرر لمن يريد الهرب من مواجهة معركة الحياة تحت جنح العلاج النفسي والركون تحت مظلة التبريرات للنفس.

 نحن نستطيع ان نرى كيف يتحايل الانسان لكي يحقق التوافق الاعوج مع ذاته اولا وهو قناع يضعه لكي يهرب من المواجهة الحياتية التي تكون قاسية في بعض الاحيان، اذا ما عرفنا تمام المعرفة ان التوافق في مستوياته الثلاثة البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية (البيئية)، هدف صعب المنال ولا يحققها الانسان الحي في اعلى مستوياتها خلال حياته وانما الشخص الميت هو الفرد الوحيد المتوافق توافقاً كاملاً، ذلك ان الحاجات البيولوجية والاجتماعية انما هي دائمة التغيير كما عبر عنها ذلك ميكني Mekinny.

نقول ان التوافق هو خفض التوتر ليس إلا ولا يوجد على الاطلاق انعدام التوافق بل زيادة التوتر وعليه نقول ان نجاحنا مع انفسنا يتم من خلال التوسط الذي يحدث بين الداخل (في انفسنا) والخارج (البيئة الاجتماعية والمحيط الخارجي)، الداخل بكل محتواه ومتطلباته وصراعاته وطموحاته لكي يرضي الفرد ذاته وبين الواقع (الخارج) الذي يحوي البيئة الاجتماعية والمحيط، فالتوافق السوي كما يقول "سميث Smith" انما هو اعتدال في الاشباع، اشباع عام للشخص عامة، لا اشباع لدافع واحد شديد على حساب دوافع اخرى، والشخص المتوافق توافقاً ضعيفاً هو الشخص غير الواقعي وغير المشبع بل والشخص المحبط الذي يميل الى التضحية باهتمامات الآخرين كما يميل الى التضحية باهتماماته.

يقول (د.عباس محمود عوض) ان الشخص حسن التوافق هو الذي يستطيع ان يقابل العقبات والصراعات بطريقة بناءة تحقق له اشباع حاجاته ولا تعوق قدرته على الانتاج اي ان "سميث" يرى ان توافق الفرد يعني توفر قدر من الرضا Satisfacation القائم على اساس واقعي.

ان التوافق هو التعايش مع الحاضر وفهمه والتعامل معه في اعلى درجات التسوية النفسية المتناغمة في الذات مع الخارج "البيئة" هذا الحاضر النابع من الماضي بكل ما حمل من تكوينات فرضية في الطفولة، تحققت في المراحل اللاحقة من العمر منها المراهقة والبلوغ ثم الرشد حتى استقامت وتبلورت في شخصية سوية انعكس اداؤها في الرضا عن اهداف الحياة وما جلبته من اقدار ومنها الرضا الاساس هو الحياة الزوجية، الرضا عن العمل والرضا الذاتي النفسي الداخلي والرضا عن المظاهر المختلفة في الحياة بأجمعها منها، واذا لم يتحقق هذا الرضا وجدنا نتائجه واضحة في كثرة الشكوى والتألم التي تعتري الانسان واهمها امراض وشكوى متعددة منها قرحة المعدة، ارتفاع ضغط الدم، مرض السكري المزمن وانواع اخرى من الامراض ذات المنشأ النفسي والاعراض الجسمية وهي ما نطلق عليها علمياً بالامراض السيكوسوماتية – النفسجسمية.

 يعاني الكثير من الناس من حالات الملل والاغتراب بسبب عدم تمكنهم من تحقيق اهداف حياتهم التي رسموها، ولم تتحقق او اعيق تحقيقها بسبب الروتين الاداري او التسلط الابوي او بفعل الازمات التي تمر بها بعض البلاد التي ينتمون اليها، كما هو الحال في العراق عقب سنوات من الدكتاتورية وسيطرة الفكر القمعي للدولة ابان عصر التسلط، او بعض الدول العربية التي تعاني من القمع الديني او التمييز المذهبي او السياسي، يحدث حينها ما يسمى علمياً بالاحتراق النفسي Burn out عند البعض من الناس، يحدث هذا الاحتراق النفسي حين يمارس الفرد مهنة تتعارض مع قدراته وامكاناته او قد تكون المهنة فرضت عليه ولا يستطيع الخلاص منها.

 يقول علماء النفس ان الرضا عن العمل مرتبط بالرضا الكلي عن الحياة، لذا نرى الكثير من الناس يفتقدون للسعادة والمتعة في حياتهم المعاشة بسبب هذه الازمات والاعاقات في تحقيق الطموحات المرسومة مما تؤدي الى اختلال الاتزان والتوافق النفسي الذاتي، وينعكس ذلك في سلوكهم مع زوجاتهم او الزوجات مع ازواجهن ومع الاولاد بشكل مباشر، وينسى هؤلاء الناس ان الانسان السوي هو الانسان الذي يتعلم إرجاء الاشباع العاجل في سبيل ما سيحققه من اشباع آجل، اي انه الذي يتمتع بالنضج الانفعالي.

 وعليه فإن الفرد الذي لم يستطع تحقيق طموحاته بسبب الاعاقات التي واجهته واستقر به المآل لان يعيش الان في الواقع مع الناس الاخرين، لايعني انه رسم وخطط وفشل في التنفيذ بل انه كافح وجاهد ووصل الى هذا المستوى الذي يعيش فيه، فليس كل الذين حققوا طموحاتهم هم سعداء، فحتى اسعد البشر يواجههم الكثير من خيبات الأمل والصراعات والاحباط والانواع المختلفة من الضغوط اليومية، ولكن عدداً قليلاً نسبياً منهم هم الذين يواجهون الظروف القاسية، واختيار البعض الطرق المختلفة في مسالك الحياة الصعبة لا يعني انه اختيار موفق على مدى الحياة، فالتوافق، نعم انه صراع ولكنه ينتهي بعد تحقيق الهدف والوصول الى النتيجة المبتغاة وعدا ذلك لا يعني الفشل بقدر ما هو التوافق غير المكتمل.

* نشر في شبكة النبأ المعلوماتية 25 حزيران 2005 / جمادى الأولى 1426


اضف تعليق