ولِكَي نتخيَّل المستقبل، يجب أن نكون قادرين أولًا على دراسة الماضي، لكن فُرَصنا للقيام بذلك تتلاشى بسرعة، مدفوعةً بسوء الفهم والإهمال. ولا يتوفر بسهولة لإجراء الأبحاث في الوقت الحاضر، سوى عدد قليل من أشكال "البيانات التراثية" المختلفة، سواء أكانت مخزَّنة على ألواح زجاجية، أم مكتوبة على ورق، أم أشرطة قديمة، أم أقراص مرنة، وبالتالي فإن المعلومات المسجَّلة عليها قد فُقدت فعليًّا...
في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ علماء الفلك تصوير النجوم باستخدام منشورات ضوئية، وحواجز شبكية. وقد سجلوا أطياف النجوم (أي تَشَتُّت ضوء النجوم إلى ألوان) ليكتشفوا ممَّا تتكوَّن. ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه اللوحات الفوتوغرافية مفيدة كذلك لغرض آخر، فهي تسمح للعلماء برسم مخططات للتركيزات السابقة للأوزون في طبقة الستراتوسفير الأرضية، كما تساعد في الكشف عما إذا كان بعض التغيرات في ثقب الأوزون طبيعيًّا، أم لا. والجزء الأصعب في العملية برمّتها هو العثور على هذه الألواح الزجاجية. أعرف ذلك، لأنني قضيت عدة أسابيع في مراجعة المجموعات الموجودة في المراصد المختلفة حول العالم - من ألمانيا إلى أستراليا - للبحث عنها.
فما هي البيانات التاريخية الأخرى التي من الممكن أن تكون مفيدة؟ هناك حكايات كثيرة عن ذلك؛ فآلاف السجلات المسجَّلة خلال رحلات السفن في القرون الماضية، هي بمثابة كنز يمكن استخدامه لدراسة أنماط الطقس في الوقت الحاضر. وقد أدهشت صورُ الأنهار الجليدية من الماضي والحاضر العالَم كله، وقادت إلى أدلة - لا تقبل الجدل - على تغيُّر المناخ. كما ساعدت السجلات الطبية الموجودة على البطاقات المثقَّبة القديمة - التي تُركت في أواخر الخمسينات، وتم فك تشفيرها بعد ذلك بعقود - في إظهار كيف يمكن لمستويات الكوليسترول المتفاوتة أن تتنبأ بالإصابة بمرض لاحق.
ولِكَي نتخيَّل المستقبل، يجب أن نكون قادرين أولًا على دراسة الماضي، لكن فُرَصنا للقيام بذلك تتلاشى بسرعة، مدفوعةً بسوء الفهم والإهمال. ولا يتوفر بسهولة لإجراء الأبحاث في الوقت الحاضر، سوى عدد قليل من أشكال "البيانات التراثية" المختلفة، سواء أكانت مخزَّنة على ألواح زجاجية، أم مكتوبة على ورق، أم أشرطة قديمة، أم أقراص مرنة، وبالتالي فإن المعلومات المسجَّلة عليها قد فُقدت فعليًّا.
اعتاد العلماء الشكوى مِن عدم قدرتهم على الحصول على بيانات كافية. وها نحن اليوم نتحدث عن "البيانات الضخمة" كما لو كانت وَحْشًا لا يمكن ترويضه. إن القياسات التي يتم جمعها الآن تزداد تعقيدًا، ولكنها تخبرنا عن الحاضر فقط. فالقياسات المسجَّلة منذ فترة طويلة يمكنها أن توضح كيف تغير الطقس، والنظم البيئية، وغيرها، على الأرض، كما يمكن للبيانات التي أُخذت من الأفراد في عقود ماضية أن تكون مصدر معلومات للمبادئ التوجيهية الطبية والسياسية الحديثة. فإذا كنا نريد الحصول على تلك البيانات، فيجب علينا البدء في استعادتها من الآن.
والسؤال المهم الآن، لماذا لا يسعى العلماء في جميع المجالات إلى الحفاظ على السجلات القديمة، رغم أنها الوسيلة الأفضل لدراسة اتجاهات التغير على المدى الطويل؟ يكمن جزء من الإجابة في علم النفس البشري، ففي أحد الأحاديث التي أدليتُ بها حول الحاجة إلى تحويل البيانات الفلكية شبه المفقودة إلى بيانات طويلة الأمد، يمكن مشاركتها بسهولة، طعن أحد الحضور في الأمر قائلًا: "إن البيانات الحديثة أفضل بكثير".
لقد فاته فَهْم المغزى الأهم، فقليلون هُم مَن يجدون رغبة في فحص السجلات الأرشيفية العتيقة، بحثًا عن البيانات التراثية التي تم الحصول عليها باستخدام تكنولوجيا قديمة، ولكنها توفِّر معلومات لا تتوفر من خلال أي شكل آخر. وقد قام علماء المياه في كيب تاون بجنوب أفريقيا برقمنة سيل البيانات المكتوبة بخط اليد - ويعود تاريخها إلى 70 عامًا مضت - لاستنتاج كيفية تأثير سلالات الأشجار غير الأصلية على توزيع المياه في بيئة طبيعية ما. ولا يمكن للصور الملوَّنة عالية الدقة للطيور الموجودة حاليًّا أن تحل محل صور الحَمَام المهاجر والبوم الضاحك، المنقرضَيْن.
"تُركت كنوز مخبوءة من البيانات - بكل ما يمكنها تقديمه من معرفة - لتتعفن على الرفوف".
لقد آن الأوان لإنقاذ البيانات التراثية، وهناك علماء قدامى ما زالوا على قيد الحياة، يمكنهم توفير المعلومات الصحيحة اللازمة عن الظروف المحيطة. تمتاز تقنيات رقمنة أنواع كثيرة من السجلات، بأنها رخيصة وسهلة التناول.
لكن الرقمنة لن تحافظ على كل شيء. فقد تتبَّع عالِم واحد - على الأقل - من علماء الأوبئة، انتشار الكوليرا في شبه الجزيرة الإيبيرية، عن طريق استنشاق المغلفات. كيف ذلك؟ لقد استخدمَتْ مكاتب البريد - على مدى قرون عديدة – الخَلّ؛ لتطهير البريد الصادر من المدن المتضررة، وقد ظلت الرائحة موجودة عليه.
فما الذي يمكننا فعله؟ تقدِّم "المجموعة المصلحية لإنقاذ البيانات" التابعة للتحالف الدولي للبيانات البحثية، مبادئ توجيهية (go.nature.com/2pgzkfs)؛ لتوجيه الباحث خلال المراحل الأولية لإنقاذ البيانات، ومن ثم تحديد المعدات اللازمة، وتحديد أفضل طريقة للتعامل خلال عملية الإنقاذ. وقد تم التعرف على أهم شروط الحصول على بيانات من التغيرات البشرية السابقة واسعة النطاق. وقد قطعت مجالات عديدة - مثل التنوع الحيوي (http://rebind.bgbm.org)، وعلم البراكين، وعلم المحيطات - خطوات كبيرة في الحفاظ على البيانات القديمة، ولكن من اللازم القيام بمزيد من الجهود، بسرعة، وبتنسيق أفضل.
والحقيقة أننا لن نتمكن مِن حفْظ جميع البيانات. ويعني تحديد الأولويات أن نبحث عن إمكانية إلقاء الضوء على الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها بطريقة أخرى. وكثيرًا ما يرفض الباحثون المواد التراثية، دون النظر في استخداماتها المحتملة؛ فقد تُركت كنوز مخبوءة من البيانات - بكل ما يمكنها تقديمه من معرفة - لتتعفن على الرفوف.
بوسع الجميع أن يمدوا يد المساعدة. ويتمثل التحدِّي الأول في تحديد موقع السجلات، أو الصور الفوتوغرافية، أو غيرها من البنود، أو مجرد إدراك قيمتها. فمعظمها لم يُستخدم منذ زمن، وتم تخزينه في مكان شبه مهجور، وغالبا ما تبذل الرطوبة والعناكب والفئران قصارى جهدها لتدميره.
أما التحدي الثاني، فهو التأكد من توفُّر البيانات الوصفية الضرورية (مثل التاريخ، والموقع، والقيود)، بحيث يمكن تعيين توقيت تلك البيانات ومكانها بدقة، عند تحويلها إلى صيغ حديثة.
وكثيرًا ما يكون العثور على الموارد اللازمة للحفظ أمرًا صعبًا، فالتمويل شحيح، وغير منتظم، لكنّ المتحمسين حصلوا على مِنَح من وكالات مختلفة، بدءًا من وكالة "ناسا"، حتى "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية"، و"مؤسسة البحوث الألمانية"؛ حيث تستحق الفائدةُ المتحصَّل عليها طرحَ شبكة واسعة. ويمكن للعاملين في أرشيفات الجامعات مشاركة خبراتهم، وحشد جماعات عِلْم المُواطن أيضًا.
ومن بين الموارد المهمة المهمَلة، قصص النجاح. فعندما يَدرس الباحثون بيانات كانت مهمَلة ذات يوم، ثم تم إحياؤها وتحويلها إلى شكل حديث، فمِن المرجح أن يكتشفوا هم أنفسهم فرصًا مخفية. وقد تكون قصة الإنقاذ البطولية القادمة مهمّتك أنت، ولكن يجب عليك أن تسرِع؛ فبعض البيانات يفسد، بينما أكتبُ هذا المقال، وبحلول الغد، ربما لن يكون بالإمكان استعادة بعضها، كما أن الذكريات القديمة اللازمة لجَعْلها ذات فائدة قد لا تتوفر لدينا لفترة طويلة قادمة.
اضف تعليق