ما المواد التي استخدمها المصريون القدماء في التحنيط، وأيُّ طريقةٍ اتبعوها في إجراء تلك العملية؟ سؤالٌ طالما شَغَل الأذهان، والتحليل الجزيئي لمحتويات أوانٍ فخارية مستخرجة من ورشة تحنيط قديمة يقدِّم لنا جانبًا من الإجابة، تَشغل المومياوات المصرية القديمة حيزًا معتبرًا في المخيال العام من قديم الزمان وحتى يومنا هذا...
بقلم: سليمة إكرام
ما المواد التي استخدمها المصريون القدماء في التحنيط، وأيُّ طريقةٍ اتبعوها في إجراء تلك العملية؟ سؤالٌ طالما شَغَل الأذهان، والتحليل الجزيئي لمحتويات أوانٍ فخارية مستخرجة من ورشة تحنيط قديمة يقدِّم لنا جانبًا من الإجابة.
تَشغل المومياوات المصرية القديمة حيزًا معتبرًا في المخيال العام من قديم الزمان وحتى يومنا هذا، كما تشهد على ذلك الكتب والأفلام السينمائية والمعارض الأثرية الكثيرة التي تظهر فيها المومياوات، أو تتعرَّض لها بصورةٍ أو بأخرى. غير أن دقائق عملية التحنيط، والمواد المستخدمة فيها، بقيَتْ سرًّا لا نكاد نعرف عنه شيئًا، إلى أن جاء ماكسيم راجو وفريقه1 ليقدموا لنا – في دراسةٍ نَشَرَتْها دورية Nature قبل أيام – تحليلاتٍ كيميائيةً وأثرية لمحتويات 35 إناءً فخاريًا مستخرجًا من ورشة تحنيط قديمة وغرفة دفن، وكذلك تحليلًا للكتابة الهيراطيقية المنقوشة على تلك الآنية (والكتابة الهيراطيقية تتألف من رموز هيروغليفية، إلا أنها متصلة). استُخرجَتْ هذه القِطَع الأثرية من مقبرةٍ في منطقة سقارة (الشكل 1)، وهي من أبرز مواقع دفن الموتى في مصر القديمة، تُستخدم لهذا الغرض منذ عام 2900 قبل الميلاد على أقل تقدير. والمواد المستخرَجة، التي يعود تاريخها إلى فترةٍ تتراوح بين عامي 664 و525 قبل الميلاد على وجه التقريب، تقرِّبنا كثيرًا إلى فهم تلك العملية المعقدة، ومعرفة المواد التي استخدمها قدامى المصريين لحفظ موتاهم، فضلًا عن تسليط الضوء على ما ينطوي عليه ذلك الطقس القديم من تضمينات اجتماعية واقتصادية.
على مدى أكثر من ثلاثة آلاف عام، حرص المصريون القدماء على حفظ أجساد موتاهم، بل وأجساد حيواناتهم، من أجل أن تكون مستقَرًّا أبديًّا لأرواحهم. كان التحنيط وما يتصل به من طقوسٍ دينية – من أداء الصلوات، وإشعال البخور، ودهان الجسم بموادَّ خاصة، ولفِّه باللفائف – كانت تلك الطقوس تستمر قرابة سبعين يومًا2، وكان يُعتقد أنها لازمة لانتقال الميِّت من أهل الأرض إلى أهل السماء. وقد تطوَّر فن التحنيط بمرور الزمن، وكان يختلف باختلاف حجم ثروة الميّت، وتفضيلاته الشخصية، والمتعقدات والأنماط السائدة في عصره، فضلًا عن أسلوب القائم على التحنيط (أو المحنِّط) وحظِّه من البراعة – على غرار ما قد نجد اليوم من ممارسات جديدة تطرأ على أساليب عمل الحانوتي أو مقدِّم خدمات تجهيز الموتى.
كانت الخطوة المحورية في عملية التحنيط تتمثَّل في تَيْبِيس جسد الميِّت وتخليصه من السوائل بوضعه في ملح النطرون. وكانت العملية تنطوي أيضًا على إزالة الأحشاء (الرئتين والمَعِدة والأمعاء والكبد والمخ)، وهي خطوة ضرورية لمنع التحلل، وإن لم يُؤخَذ بها في كل الأحوال. ثم تأتي مرحلة مهمة أخرى في عملية التحنيط، وهي مرحلة دهان الجسد من الداخل والخارج بأنواع شتى من الصموغ والراتنجات والدهانات والزيوت، رغبةً في الحفاظ على الجسد من البكتيريا والفطريات والتعفن. وظلَّ الكشف عن هذه المواد حلمًا يراود العلماء، حتى خرجت إلى النور هذه الدراسة التي وضعها راجو ورفاقُه.
قبل دراسة راجو، كانت الأبحاث التي تتناول أساليب التحنيط تستند إلى قليلٍ من الأدلة المستمَدة من الرسوم الفرعونية، والإشارات الموجزة للعملية، المتناثرة هنا وهناك في النصوص المصرية القديمة، وبعض التفاصيل الواردة في كتابات المؤرخين الإغريق، من أمثال هيرودوت، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وتيودور الصقلي، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. ومن هذه المصادر أيضًا، نصٌّ مصري قديم، يرجع تاريخه إلى عام 1450 قبل الميلاد على وجه التقريب، يحوي دليلًا نادرًا لخطوات عملية التحنيط، ويقدِّم العديد من دقائق هذه العملية وتفاصيلها، منها بعض الإرشادات – التي تظل محدودة – لطريقة إعداد بعض الدهانات3. وقد أخضع العلماء المواد المستخدمة في تحنيط بضع مومياوات للتحليل4-6، فأعطوا دفعةً أخرى للدراسات التي تُجرى في هذا الميدان، وإن لم يتسنَّ لهم التحقق من المسمَّيات المصرية القديمة لهذه المواد. وليس يفوتُنا في هذا المضمار أن نشير إلى الدراسات التجريبية التي انخرط فيها العلماء بُغية الوقوف على المواد المستخدمة في التحنيط، وإعادة تمثُّل العملية من خلالها7-10.
كما سبق أن اكتُشفت أوانٍ فخارية، منقوشٌ عليها نصوص مصرية قديمة، تحوي مواد تحنيط، وترجع إلى ذات الحقبة الزمنية التي تُنسب إليها مُكتشَفات راجو وفريقه تقريبًا11؛ على أنه لم يتيسر تحليل محتويات تلك الجِرار في وقت اكتشافها، لصعوباتٍ شابت عملية الفحص. وهكذا، يتبدَّى لنا أن الدراسة التي بين أيدينا هي أول دراسة تقدِّم تحليلًا للمواد المستخدمة في عمليات التحنيط التي أُجريَتْ في سياقات مختلفة في ورشة تحنيط وغرفة دفن، وبالمسميات المصرية القديمة. وقد توصَّلت هذه الدراسة إلى التعرُّف على قائمة من المواد والخلطات المستخدمة في التحنيط، وتعيين خصائص كلٍّ منها (هل كانت مادة بعينها تُستخدم لتيبيس الجسد، مثلًا، أم لحمايته من البكتيريا؟)، إضافةً إلى معرفة العضو الذي استُخدمت معه كل مادة (من الإرشادات المنقوشة على الأواني، من قبيل: "مادة توضع على الرأس"، أو: "لتجميل البشرة").
لكي يُخضع الباحثون البقايا العضوية للتحليل، اختاروا 31 إناءً من بين الأواني التي عُثر عليها في موقع التحنيط، وعددها الإجماليُّ 121 إناءً، مُراعين أن تكون العيِّنة المنتقاة هي الآنية التي تظهر عليها الكتابة بوضوح أكبر من غيرها، وأُضيف إليها أربع أوانٍ أخرى جُلبَتْ من غُرَف الدفن. وكان من بين المواد التي أُتيح لهم التعرُّف عليها: القطران، وزيت العرعر، وزيت السرو، وزيت السيدار، وأنواع عدَّة من الصموغ والراتنجات، منها المستمَد من أشجار الفستق، ودهون حيوانية، وشمع العسل، وزيوت نباتية – وجميعها سبق التعرف عليها في المومياوات 7-10. أما الإضافة الأهم لراجو وفريقه فتتمثل في اكتشاف نوعين من الصموغ، هما: صمغ الدَّمَّر، وصمغ إيليمي (أو الصمغ اللامي)، اللذَين لم يسبق التعرُّف عليهما في أيٍّ من الكشوف الأثرية المصرية، ومادة البيتومين المجلوبة من البحر الميت.
الصموغ والراتنجات المذكورة جميعها جُلبَتْ من منطقة الشرق الأدنى أو بلاد الشام (وبخاصةٍ لبنان وسوريا)، فيما عدا صمغ الدَّمَّر وصمغ إيليمي، اللذَين يُحتمل أن يكونا قد جُلبا من الغابات المطيرة في آسيا أو إفريقيا – وإن كانت إفريقيا أبعد احتمالًا. هذه الصموغ تُطالعنا بدليلٍ جديد على أن مصر القديمة كانت تربطها بالعالم شبكات تجارية تمتد مسافات بعيدة، وتثير تساؤلات هامة: كيف ومتى عَلِم المصريون بوجود هذه الصموغ؟ وكيف تسنَّى لهم أن يملكوا معرفةً دقيقة بخصائصها وطريقة استخدامها في التحنيط؟
أما مادة البيتومين فقد ربطها العلماء بعملية التحنيط منذ وقتٍ طويل، إلا أنها لم تُرصد في المومياوات كيميائيًّا إلا منذ سنوات قليلة12. ومن اللافت للنظر أن راجو وفريقه لم يعثروا على البيتومين سوى في الجِرار المستخرَجة من غرف الدفن. والسبب في ذلك ربما يُعزى إلى أن هذه المادة لم تكن تستخدم في خطوات التحنيط الأوَّلية، وإنما استُخدمَتْ في الطقوس الأخيرة التي سبقت الدفن مباشرةً. أو ربما كان ذلك راجعًا إلى أن البيتومين كان لازمًا لدهان المومياء ومحتويات المقبرة الأخرى معًا، أو حتى لدهان هذه المحتويات دون المومياء13.
بتحليل الأواني التي نُقشَت عليها كلمة «أنيتو»، التي اعتقد العلماء فيما سبق أنها تحوي عصارة شجرة المُرّ، تبيَّن أنها إنما تحتوي على مزيج من زيت أو قطران السيدار، وزيت العرعر، وزيت السرو، ودهن حيواني. أما الأواني التي نُقشت عليها كلمة «سيفيت»، وكان يُعتقد أنها تحوي زيتًا، فقد تبيَّن أن محتوياتها أكثر تنوعًا؛ بعضها يحتوي على دهون حيوانية مخلوطة بزيت أو قطران العرعر، وزيت السرو. وفي إحدى هذه الآنية، عُثر على دهن حيوان اجتراري، وصمغ الإيليمي. والملاحَظ أن وصفتَي إعداد خلطتَي «أنيتو» و«سيفيت» متشابهتان، إلا أنه تشابه لا يبلغ حد التطابق. ولعل الدراسات المستقبلية تُفصح عن خصائص هذه المواد التي كان يفضِّلها المحنِّطون، والسر وراء اتباعهم طريقةً بعينها في المزج للحصول على هذه الخلطات، واستخدامها في دهان أجزاءٍ بعينها من الجسد.
دراسة راجو وفريقه تقطع بنا خطوةً هامةً على طريق فهم مواد التحنيط عند قدماء المصريين، والطُّرُق التي اتبعوها في إجراء تلك العملية. ولعلَّ من المفيد أن يبني الباحثون على نتائج هذه الدراسة، بأن يتحققوا من صحة تحليلهم لاستخدامات المواد، كما هي موصوفة في الأواني، بمطابقتها مع المومياوات نفسها. وحبَّذا لو يبحثون في مقدار التوافق – إن كان ثمة توافق – بين هذه الخلطات وما ورد في دليل التحنيط المترجَم آنف الذِّكر3. ويُنتظر أن تُجرَى دراسات مماثلة على المومياوات الأخرى، من أجل تتبُّع تطوُّر طُرُق التحنيط للوقوف على الاختلافات من منطقة جغرافية لأخرى، وتقييم الوضع الاقتصادي والاجتماعي لشخص الميِّت، فضلًا عن رسم خريطة لطُرُق التجارة المتنوعة، التي بفضلها تمكَّن المصريون القدماء من تأمين احتياجات التحنيط على مدى أكثر من ثلاثة آلاف عام.
اضف تعليق