q
أصبحت كرة القدم هي الموضوع رقم واحد في العالم، فيما يشير البحث العلمي إلى أن التفاعُل بين الجمهور ولعبة كرة القدم يصل إلى مستوى شديد العمق في ذواتنا، إذ يخاطب هويتنا ذاتها، يتساءل البعض عن سر الحضور الجماهيري الضخم في المدرجات، مع حضور أشد زخمًا أمام الشاشات...
بقلم: شادي عبد الحافظ

للوهلة الأولى قد يظن البعض أنها مجرد لعبة، ربما تتعجب من رد فعل الجمهور على هدف ممتع للاعب الأرجنتيني الأشهر الآن، في ميادين الساحرة المستديرة، ليونيل ميسي، أو تجاه الدقائق الأخيرة في مباراة حاسمة تجري أحداثها ضمن إحدى فعاليات كرة القدم العالمية، بين فريقي ألمانيا وإسبانيا، وصفها البعض بأنها "نهائي مبكر".

في أثناء مباريات كأس العالم المقامة حاليًّا في دولة قطر، يتساءل البعض عن سر هذا الحضور الجماهيري الضخم في المدرجات، والذي وصل في بعض المباريات إلى قرابة 90 ألف شخص، مع حضور أشد زخمًا أمام الشاشات الكبرى في الميادين العامة والمقاهي والنوادي الرياضية، خلال الأسابيع القليلة الماضية، أصبحت كرة القدم هي الموضوع رقم واحد في مصر وكل الدول العربية، ولن نبالغ لو عمَّمنا الأمر على الكوكب كله.

إنه العجب نفسه الذي أصاب الباحثين في نطاقات متنوعة في علم النفس، ودفعهم إلى دراسة مدى عمق هذه العلاقة، بين كرة القدم ومشجعيها.

تستوستيرون في اللعاب!

على سبيل المثال، في التسعينيات من القرن الفائت، أقدَمَ بول برنهارد -من قسم علم النفس بجامعة ولاية جورجيا الأمريكية- على تجربة مثيرة للانتباه، إذ قام بتوزيع عدد من الأوعية لجمع العينات على 26 من مشجعي كرة القدم الذين كانوا يشاهدون مباراة بين البرازيل وإيطاليا في كأس العالم المقام سنة 1994 في الولايات المتحدة، وطلب منهم وضع بعضٍ من لعابهم في الوعاء.

كان هدف "برنهارد" هو تسجيل نسبة هرمون التستوستيرون الذي يمكن أن يظهر في اللعاب، وأوضحت تجاربه، التي نُشرت نتائجها في دورية "فيسيولوجي آند بيهيفيور"، أنه كانت هناك زيادة قدرها 20 في المئة في معدل هرمون التستوستيرون بين مشجعي الفريق الفائز (البرازيل) إلى جانب انخفاض بالنسبة نفسها في تركيز الهرمون في لُعاب الإيطاليين.

نعرف أن التستوستيرون هو هرمون مرتبط بالنشاط الجنسي للذكور، لكنه يرتبط كذلك بمشاعر أخرى، مثل احترام الذات، وشعور المرء بالأهمية، واغتنام اللحظة، والقدرة على التحكم والسيطرة.

كان معروفًا أن لاعبي كرة القدم يختبرون بالفعل ارتفاعًا في إفراز هرمون التستوستيرون، لكن برنهارد كان يؤمن بما سُمي "التشمّس بالمجد المنعكس" Basking in reflected glory، وهو سلوك يرفع الأفراد خلاله من تقديرهم لذواتهم من خلال التماهي مع الآخرين الناجحين، بمعنى أنك لست بحاجة إلى النجاح بشكل شخصي في فعل شيءٍ ما، لكن نجاح شخص آخر تشجعه سيؤثر عليك وكأنك أنت مَن نجح.

روح الفريق

لكن الأمر لا يقف عند الفوز والانتصار فقط، بل إنه يستمر في حالات خسارة المباريات كذلك، فكما بيّنت دراسة صادرة في 2014 بدورية "مانيجينج سبورتس آند ليچر"، فإن مشجعي فرق كرة القدم الأقل نجاحًا في الدوري الإنجليزي الممتاز لديهم روابط تشجيع أقوى من نظرائهم مشجعي أكثر الفرق نجاحًا.

في هذه الدراسة، فحص الباحثون إحصائيات أندية الدوري الإنجليزي الممتاز من 2003 إلى 2013 لتحديد أكثر الأندية نجاحًا ومَن أقلها نجاحًا، ووجدت النتائج أن عشاق النوادي الأقل نجاحًا مثل كريستال بالاس Crystal Palace وهال Hull،ونورويتش Norwich، على سبيل المثال،لديهم ولاء أكبر بعضهم تجاه بعض، بل عبروا عن استعداد أكبر للتضحية بحياتهم من أجل إنقاذ أرواح زملائهم من المشجعين، على حد وصفهم، مقارنةً بمشجعي نوادٍ أكثر نجاحًا مثل مانشستر يونايتد وأرسنال وليفربول.

ويبدو أن الترابط الاجتماعي كان أعلى بشكل ملحوظ لدى مشجعي الأندية الضعيفة، بسبب تعرُّضهم لمزيد من الانزعاج من جرَّاء خسائر فرقهم، ما دفعهم إلى البحث عن السلوان في الوحدة، فالروابط التي نشكِّلها في المحن الجماعية تساعدنا على تخطِّيها، وتساعد كذلك المجموعة على العمل بشكل أكثر تناغمًا في المستقبل.

كان من المثير للانتباه أن تشير هذه الدراسة إلى أن الأسباب النفسية للروابط بين المعجبين شبيه بمجموعات ائتلافية أخرى، مثل الجنود في الجيش!

حرب مستعرة بالمدرجات

والواقع أن تلك هي بالفعل نظرة بعض العلماء في هذا النطاق إلى تشجيع كرة القدم، يرى ستيف تايلور -الحاصل على الدكتوراة في علم النفس والمحاضر بجامعة ليدز ميتروبوليتان- أن كرة القدم يمكن أن تكون معادلًا أخلاقيًّا للحروب، فهي تعطي مشجعيها ولاعبيها إحساسًا بالانتماء إلى كيانٍ ما، بحيث يمثِّل الفريق جزءًا من هوية المشجع، كما أنها تغذي عواطف قوية مثل الشجاعة والبطولة والغضب.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عانت مدينة مانشستر البريطانية من انتشار العصابات وجرائم العنف، خاصةً بين الشباب، أدرك بعض السياسيين أنه يمكن تخفيف ذلك عبر إقامة أندية للكرة في جميع أنحاء المدينة، مما أتاح لهؤلاء الشباب -خاصةً في الأحياء الفقيرة- الوصول إلى هواية تتمتع بمثل صفات العصابات، لكنها مسالمة، ولكن ذلك أدى إلى ظهور هوس جديد بكرة القدم سرعان ما انتشر في أنحاء المدينة، وكان هذا هو سبب ظهور أندية شهيرة مثل مانشستر يونايتد ومانشستر سيتي.

ووفق نظرية الهوية الاجتماعية، فإن جزءًا رئيسيًّا من مفهوم الفرد الذاتي مستمد من العضوية المتصورة في مجموعةٍ اجتماعيةٍ ما، بمعنى أن جزءًا مهمًّا مما يصنع هويتنا هو انتماؤنا الاجتماعي، ويمكن أن يحدث ذلك في مجموعات تلتفُّ حول الشيء نفسه، مثل المهنة أو الانتماء السياسي أو الديني، وفي هذا السياق يأتي الانتماء الرياضي.

في النهاية فإن الإنسان كائن اجتماعي، يُعَدّ الانتماء إلى مجموعةٍ ما إحدى أقوى غرائزه إلى جانب الرغبة الجنسية والجوع، لقد تطور ذلك مع أسلافنا من البشر الذين عاشوا في الغابات وحشائش السافانا قبل عشرات الآلاف من السنوات، كان انضمامك إلى مجموعة هو إحدى وسائل إنقاذ حياتك؛ لأن المجموعة توفر الحماية لأبنائها وتخيف الأعداء حال اندلعت النزاعات.

جانب سلبي

لكن يبدو أن الأمر قد يكون له جانبٌ سلبي كذلك، فقد أشار فريق بحثي من الجمعية الأوروبية لأمراض القلب إلى أن الهزيمة في مباريات كرة القدم قد تؤدي إلى حدوث نوبات قلبية لدى المشجعين الذكور، فحص هذا الفريق العلاقة بين أداء فريق ياغيلونيا بياويستوك Jagiellonia Bialystok البولندي وتفاقُم أعراض متلازمات الشريان التاجي الحادة.

فحص الفريق 10529 مريضًا يعانون من تلك المتلازمات، أُدخِلوا إلى المستشفى في الفترة من 2007 إلى 2018، وقد لعب الفريق 451 مباراة وطنية وأوروبية خلال فترة الدراسة، في اليوم التالي لخسارة الفريق لمباراة على أرضه كان هناك ارتفاع بنسبة 27% في تطور حالة الذكور المصابين بمتلازمات الشريان التاجي الحادة، بما في ذلك تعرُّض الأشخاص لنوبات قلبية، من جرَّاء التعرُّض للضغوط العاطفية والنفسية العنيفة.

هذا بطبيعة الحال ولم نتحدث بعدُ عن أحداث العنف التي قد تنشأ بين بعض مشجعي الفرق، خاصةً إذا كان هناك مناوشات سابقة بين مشجعي الفريقين، وفي بعض الأحيان قد تكون تلك الصدامات كارثيةً بالمعنى الحرفي للكلمة.

نوعان من التشجيع

يرى فريق بحثي بقيادة باحثين من جامعة مونتريال الكندية أن أحداثًا كتلك تتعلق بطبيعة التشجيع، استخدم هذا الفريق -في دراسة نُشرت بدورية "جورنال أوف سبورتس ساينسز"- ما يسمى بالنموذج الثنائي للشغف، الذي يقول إنه يمكن تقسيم الشغف في كرة القدم إلى نوعين، الأول وسواسي الطابع والثاني متناغم مع اللعبة.

في الحالة الأولى سيكون كل ما يشغل بالك هو فوز فريقك، فلكي تشعر بالرضا يجب أن يفوز فريقك في كل مرة، أما في حالة الشغف المتناغم فإنك تحزن في حالة الهزيمة لكنك تتقبلها، وتنال بعضًا من السعادة لأنك استمتعت بمُجريات اللعبة نفسها.

بطبيعة الحال نلاحظ أن الحالة الأولى لا تتكيف بسهولة مع الشيء الطبيعي الذي يحدث من حينٍ إلى آخر، وهو خسارة الفريق الذي نشجعه، وجد الفريق البحثي أن المشجعين الذين يتبعون نمط الشغف الأول أكثر تعرُّضًا لكراهية الفريق المنافس، وأكثر ميلًا إلى السخرية منهم واستخدامًا للشتائم، وكذلك كانت لهم علاقات أضعف مع شركائهم من المشجعين، على الجانب الآخر، كان أصحاب الشغف المتناغم أكثر رضىً وإيجابية، وقد اختبروا قدرًا من السعادة بالأجواء الترفيهية للمباراة وباللعبة نفسها وليس بالنتائج فقط.

في النهاية، أَحب كرة القدم وشجِّعها، لن يلومك أحد، نعرف جيدًا قدر العواطف التي يعطيك إياها التشجيع، وأهمية ذلك لك ولكل المشجعين، لكن على الأقل كن مشجعًا متناغمًا قدر ما تستطيع.

اضف تعليق