تصور أنك مددت يدك لتمسك بوعاء طهي فوق الموقد، وغاب عنك أن الموقد لا يزال مشتعلًا، ستفاجئك السخونة بالطبع، وربما تتأوه ألمًا، وستعلّمك هذه الحادثة المؤلمة درسًا في الغالب، فقدرتنا على التعلم من الأحداث غير المتوقعة هي إحدى صفاتنا التكيفية؛ لأنها تمنعنا من تكرار أخطائنا...
بقلم إس. حُسَين آثر
تصور أنك مددت يدك لتمسك بوعاء طهي فوق الموقد، وغاب عنك أن الموقد لا يزال مشتعلًا، ستفاجئك السخونة بالطبع، وربما تتأوه ألمًا، وستعلّمك هذه الحادثة المؤلمة درسًا في الغالب، فقدرتنا على التعلم من الأحداث غير المتوقعة هي إحدى صفاتنا التكيفية؛ لأنها تمنعنا من تكرار أخطائنا، لكن من المحتمل أن تكون أدمغتنا مؤهلةً لإيلاء مزيد من الاهتمام للأحداث عندما تفاجئنا، في دراسة حديثة نُشرت على دورية Nature، وجد باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أدلةً على أن هرمون النورادرينالين يغير من نشاط الدماغ عند الفئران، وبالتالي يُغيِّر سلوك الحيوان، عند تعرُّضه لمثل هذه الأحداث المباغتة.
النورادرينالين هو واحد من مجموعة مواد كيميائية تستطيع إغراق المخ بإشارات قوية، وقد بيّنت بحوث سابقة أن النورادرينالين يؤدي دورًا مهمًّا في شعورنا بالانفعال، أو التوتر، أو التنبُّه، كما أنه يُسهم في قدرتنا على التعلم، غير أن الدراسة الجديدة تبين أنه يؤدي كذلك دورًا قويًّا في استجابتنا للأحداث غير المتوقعة.
ولدراسة دور النورادرينالين في الفئران، اتبع الفريق البحثي طريقةً تسمى تقنية الوراثيات البصرية، وفي هذه الطريقة يضيف الباحثون إلى الخلايا العصبية بروتينات خاصة، تملك حساسيّةً للضوء، تعمل وكأنها مفتاح غلق، أي تُوقِف نشاط الخلايا عند تعرُّضها لنبضات من ضوء الليزر، وقد ركز الباحثون على إحداث تغيير في منطقة مخية مُحددة تُعرف بالموضع الأزرق، وتحتوي على خلايا مسؤولة عن إطلاق النورادرينالين، وباستخدام أشعة الليزر تمكَّن الباحثون من كبح نشاط هذه الخلايا ومنعها من إنتاج الهرمون في ظروف معينة، وقد جمع فريق الباحثين بين هذه الطريقة وطريقة الوسم بالضوء، وهي تقنية جرت فيها معالجة للبروتينات بصورة تجعلها تُصدِر ومضات من الضوء، ما أتاح للعلماء في النهاية مراقبة نشاط الخلايا في الموضع الأزرق، وتحديد مقدار النورادرينالين الذي أمكن للجسم إنتاجه كذلك.
وبعد ذلك، صمم الباحثون تجربةً تعتمد على طريقة المحاولة والخطأ لتعليم الفئران، وبالتدريب أصبحت الفئران قادرةً على دفع رافعة عندما تسمع صوتًا محددًا، ثم استخدم الباحثون نغمتين صوتيتين في التجربة، كان للأولى تردد مرتفع يبلغ قرابة 12 كيلوهيرتز، وعندما كان الفأر يدفع الرافعة إثر سماع النغمة، كان الباحثون يكافئونه ببعض الماء ليشربه، أما النغمة الثانية فكانت منخفضة التردد، تبلغ قرابة الـ4 كيلوهيرتز، وعندما كان الفأر يستجيب لهذه النغمة بدفع الرافعة، كان يجد في انتظاره مفاجأةً غير سارة، وهي نفخة غير مريحة من الهواء توجَّه ناحيته، وبمرور الوقت تعلمت الفئران أن تدفع الرافعة عندما تسمع النغمة ذات التردد المرتفع فقط، حتى تحصل على الماء، أما عند سماع النغمة ذات التردد المنخفض فقد كانت الحيوانات تمتنع عن دفع الرافعة، كي تتجنب نفخة الهواء التي تضايقها.
وعندما فحص الباحثون ما يحدث داخل منطقة الموضع الأزرق، في أثناء هذه الأحداث كلها، وجدوا أن إنتاج النورادرينالين يبلغ أعلى مستوى له في لحظتين مختلفتين، هما اللحظة التي تسبق دفع الفئران للرافعة مباشرة، واللحظة التي يتلقى فيها الحيوان الماء أو نفخة الهواء.
ووفق ما يرى الباحثون، فالنوبة الأولى من ارتفاع النورادرينالين تدل على أن الهرمون يؤدي دورًا ما في عملية اتخاذ قرار السعي للحصول على المكافأة، وفي واحدة من التجارب التي أجراها الباحثون، استطاعوا تأكيد هذه الفرضية؛ إذ خفضوا مستوى الصوت إلى درجة جعلت من الصعب تمييز النغمات ذات التردد العالي التي تجلب الماء، والنغمات ذات التردد المنخفض التي يعقبها تعرُّض الحيوان لنفخة الهواء، ولوحظ أن الحيوانات قد أصيبت بحالة من التشوش؛ إذ لم يُظهر بعضها رغبةً في دفع الرافعة، في حين داوم بعضها الآخر على دفع الرافعة كيفما اتفق، وبعد ذلك استخدم الباحثون مفتاح الغلق الذي يعتمد على تقنية الوراثة البصرية لوقف إطلاق النورادرينالين، فلاحظوا أن حالة التردد عند الفئران قد ازدادت حدة، ويبدو أن إطلاق النورادرينالين يزيد من ميل الحيوانات إلى انتهاز الفرص، حال عدم التأكد من النتائج، وإضافةً إلى ذلك، فعندما تَتَبَّع الباحثون عملية إطلاق النورادرينالين قبل لمس الفئران للرافعة وجدوا أن الهرمون يذهب إلى القشرة الحركية للمخ، وهي منطقة مسؤولة عن إرسال النبضات العصبية التي تحفز حركة العضلات، وبعبارة أخرى، يمكننا القول إن التحول المفاجئ في كيمياء المخ أدى إلى تحفيز الفئران لدفع الرافعة.
أما فيما يتعلق بنوبة زيادة نسبة النورادرينالين الثانية، فقد وجد الباحثون أن المركب يُنتج عندما تتلقى الفئران نفخة هواء، أو عند تلقِّيها للماء، وأن هذه الاستجابة المخيّة تبلغ ذروتها عندما تكون نتيجة دفع الرافعة مفاجئةً للحيوان؛ فعلى سبيل المثال: بعد أن تعلمت الفئران الربط بين النغمات ذات التردد المرتفع والحصول على الماء، قرر الباحثون تغيير الظروف قليلًا، بتعريض الحيوان لنفخة هواء بدلًا من الماء، وكانت نتيجة هذا التبديل تغيُّرًا واضحًا في سلوك الفأر؛ إذ تسببت النفخة الهوائية غير المتوقعة -على سبيل المثال- في تزايُد إحجام الفئران عن دفع الرافعة في المحاولة التالية، بل تَبيَّنَ أيضًا أن الموضع الأزرق يُطلق مزيدًا من مركب النورادرينالين عندما تُفاجأ الحيوانات بهذه النتائج غير المتوقعة، وقد وجد الباحثون أيضًا أن تعطيل إطلاق النورادرينالين قد أفقد الفئران بعضًا من الدقة في فهمها للظروف التي يُفضّل فيها دفع الرافعة للحصول على مكافأة الماء.
ويساعد هذا الاكتشاف على ترسيخ فكرة أن النورادرينالين يؤدي دورًا أساسيًّا في مساعدة الكائنات الحية على التعلُّم من الأحداث غير المتوقعة.
في الدراسات القادمة، سيكون بإمكان العلماء البحث فيما إذا كانت أمخاخ البشر تشهد عملياتٍ مشابهةً لتلك العمليات، ويمكن للعلماء أيضًا أن يدرسوا كيف يعمل النورادرينالين مع مركبات التواصل العصبي الأخرى، التي تؤدي دورًا في استجابتنا للمكافأة، مثل مركب الدوبامين، ويتلخص ما توصلت إليه الدراسة التي بين أيدينا في أن «عنصر المفاجأة» ربما تكون وراءه قصة عصبية كيميائية، يزيد تعقيدها عمّا نتوقع جميعًا.
اضف تعليق