هل فكرت يومًا في حالة الرعب التي تصيبك عندما تواجه كلبًا ينبح محاولًا الوصول إليك؟ وهل سألت نفسك عن تلك العملية المعقدة التي تحدث في جسمك فينطلق على إثرها نظام إنذار يحذرك من خطر قد يكون "حقيقيًّا" أو مجرد تهديد "محتمل"؟ لا يمكن لأحد أن يقول إنه لم يخَف يومًا ما...
بقلم دينا درويش
هل فكرت يومًا في حالة الرعب التي تصيبك عندما تواجه كلبًا ينبح محاولًا الوصول إليك؟ وهل سألت نفسك عن تلك العملية المعقدة التي تحدث في جسمك فينطلق على إثرها نظام إنذار يحذرك من خطر قد يكون "حقيقيًّا" أو مجرد تهديد "محتمل"؟
لا يمكن لأحد أن يقول إنه لم يخَف يومًا ما؛ فالخوف شعور طبيعي لدى البشر والحيوانات، يساعد في اكتشاف الخطر الحقيقي أو التهديد المحتمل والاستجابة لهما، وعندما يدرك الشخص تهديدًا ما، تحدث لديه تفاعلات كيميائية حيوية من أجل إعداد الجسم والعقل لما يُعرف بـ"الاستجابة للقتال أو الهروب"؛ إذ الدماغ لديه "نظام إنذار" يتعرف على التهديدات، مستخدمًا أنظمته الحسية، ثم يصدر أوامره لتجنُّبها.
وتشير تقارير إلى أن منطقة "الوطاء" في قاعدة الدماغ تنبه الغدد الكظرية فوق الكليتين لإطلاق هرمونات مثل الأدرينالين الذي يؤدي إلى زيادة معدل ضربات القلب وتعزيز إمدادات الطاقة، والكورتيزول (المعروف بهرمون التوتر)، بما يضمن التواصل مع مناطق الدماغ التي تتحكم في الحالة المزاجية والدوافع والخوف، ويرتبط فرط الحساسية للمنبهات الحسية الطبيعية بالاضطرابات العصبية والنفسية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الهلع، واضطرابات القلق، واضطرابات الألم المزمن، والفصام، واضطرابات طيف التوحد.
نظام الإنذار
بالرغم من تأثير الخوف وكونه أحد مسببات المرض، لا يُعرف الكثير عن كيفية عمل نظام الإنذار في الدماغ، ويرجع ذلك أساسًا إلى الافتقار إلى الأدوات المناسبة التي تُظهر الدوائر العصبية المسؤولة عن الخوف والسلوكيات المرتبطة به.
من هنا تأتي أهمية دراسة أجراها باحثون من معهد سولك للدراسات البيولوجية، ونشرتها دورية "سيل ريبورتس" (Cell Reports)؛ إذ اكتشف الباحثون مسارًا جزيئيًّا يلخص المشاهد والأصوات والروائح التي تحمل تهديدًا في رسالة واحدة: "كن خائفًا".
ووفق الدراسة، فإن جزيء CGRP، وهو ببتيد عصبي يُسمى الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين (والكالسيتونين هو أحد الهرمونات التي تفرزها الغدة الدرقية)، يسمح للخلايا العصبية في منطقتين منفصلتين من الدماغ بتجميع الإشارات الحسية التي تحمل تهديدًا في إشارةٍ موحدة، وتمييزها على أنها سلبية، وتمريرها إلى اللوزة الدماغية، التي تترجم الإشارة إلى شعور بالخوف.
دمج الإشارات
يوضح سوكجاي جوشوا كانج -زميل ما بعد الدكتوراة المتخصص في بيولوجيا اللبتيد في معهد سولك للدراسات البيولوجية، والمشارك في الدراسة- أن "الدراسة ذات أهمية كبيرة؛ إذ تشير إلى وجود خلايا عصبية محددة في المهاد وجذع الدماغ تدمج الإشارات التي تتلقاها الخلايا من الحواس المتعددة، وتعمل كإنذار مركزي يرسل هذه المعلومات إلى اللوزة الدماغية التي تعالج المشاعر، وتعمل على إرسال مختلِف الإشارات العصبية واستقبالها".
يقول "كانج" في تصريحات لـ"للعلم": تُظهر الدراسات السابقة أن هناك عدة دوائر عصبية تنقل كل إشارة حسية على حدة، لكن هذه الدراسة تفسر كيف يتم تجميع كل المحفزات في رسالة حسية موحدة، وتقدم النتائج التي توصلنا إليها دليلًا على أن جزيء (CGRP) يتيح للخلايا العصبية الموجودة في المهاد وجذع الدماغ أن تستجيب لإشارات النفور التي تتلقاها من الحواس وبمعالجتها على أنها معلومات سلبية، وتنقل هذه الخلايا العصبية الإشارات السلبية إلى اللوزة الدماغية لتشكيل ذكريات خاصة حول الشعور بالتهديد.
معالجة الخوف
تتفق نتائج الدراسة في جزء منها مع أطروحة سابقة ذكرت أن هناك "مسارات عصبية عديدة ومتميزة للمعالجة الحسية الجسدية والبصرية والسمعية ومحفزات الشم والتذوق للرسائل التي تمثل تهديدًا، وبالتالي توليد استجابات سلوكية/ فسيولوجية دفاعية فورية؛ إذ حاول الباحثون فهم الدوائر العصبية المعنية بمعالجة الخوف الفطري في القوارض.
وأظهرت الأطروحة التي أجراها فريقٌ بحثي سويسري-إيطالي مشترك أنه يتم احتواء الدوائر العصبية المعنية بمعالجة الخوف في ثلاث وحدات وظيفية رئيسية في الدماغ، وُصفت بوحدة الكشف المسؤولة عن جمع المعلومات الحسية التي تشير إلى وجود تهديد، ووحدة التكامل المسؤولة عن دمج المعلومات الحسية المختلفة وتحدي المؤثرات النهائية، ووحدة الإخراج المسؤولة عن بدء الاستجابات الجسدية والسلوكية المناسبة للمنبه، وأن تجربة الخوف الفطري تؤدي إلى حفظ الحدث المخيف، ويعتمد تشفير الذاكرة لهذه التهديدات على نظام التعلم المشترك.
يعلق "كانج" قائلًا: ما أظهرته الورقة البحثية السابقة اقتصر على أن المسارات المختلفة تنقل إشارات التهديد السمعي والبصري واللمسي إلى مناطق متعددة من الدماغ بشكل مستقل، وقد تكون معرفة المسار الموحد الذي يتضمن كل هذه الإشارات مفيدةً للبقاء، وهو ما توصلنا إليه في دراستنا الحالية.
تحفيز الاستجابات السلوكية
من ناحية أخرى، أظهرت الأبحاث السابقة أيضًا أن اللوزة الدماغية هي التي تحفز الاستجابات السلوكية وتشكل ذكريات الخوف للمنبهات البيئية، بحيث تتلقى مدخلات قوية من مناطق الدماغ المحملة بمادة كيميائية مرتبطة بالنفور، وهي الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين.
وبناءً على تلك النتائج، اقترح الفريق البحثي أن CGRP -وهو جزيء ناقل عصبي تفرزه الخلايا العصبية المستقبِلة للألم ويوجد في المناطق الفرعية في المهاد وجذع الدماغ- يساعد الخلايا العصبية في المهاد وجذع الدماغ على نقل معلومات التهديد إلى اللوزة الدماغية، ويقول "كانج": يمكن للدوائر العصبية المعنية بمعالجة الخوف أن تولِّد استجاباتٍ سلوكيةً مناسبة وتساعد في تكوين ذكريات سلبية تتعلق بإشارات التهديد.
مسار إشارات التهديد
من أجل اختبار هذه الفرضية، أجرى الفريق عدة تجارب؛ إذ قاموا بتسجيل نشاط الخلايا العصبية الخاصة بـ"الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين" باستخدام تصوير الكالسيوم أحادي الخلية (تقنية تُستخدم في التصوير العصبي لرصد ما يحدث في الخلايا العصبية بحيث يمكن تسجيل الإشارات الكهربائية ومراقبتها بطرق بصرية) في أثناء تقديم إشارات تهديد عبر الحواس المختلفة للفئران، أتاح ذلك للباحثين تحديد المسار الذي تسلكه الإشارات بعد مغادرة المهاد وجذع الدماغ باستخدام بروتينات فلورية ملونة، كما أجروا اختباراتٍ سلوكيةً من أجل تقييم الذاكرة والخوف.
يقول "كانج": أُجريت الدراسة على الفئران؛ إذ استُخدم العديد من التقنيات لرصد الخلايا العصبية وتتبُّعها ومعالجتها في أثناء أداء بعض المهمات السلوكية، وتُظهر النتائج أن هناك مجموعتين متمايزتين من الخلايا العصبية الخاصة بالببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين، إحداهما في المهاد والأخرى في جذع الدماغ، وتمثل هاتان المجموعتان دائرتين متمايزتين؛ إذ تقوم كل مجموعة بترميز المشاهد والأصوات والروائح والأذواق واللمسات المهددة من خلال التواصل مع شبكات الدماغ، وتعمل المجموعتان معًا من أجل إصدار رسالة واحدة مفادها: ابقَ بعيدًا.
من جهته، يؤكد عمرو السمان -أستاذ جراحة المخ والأعصاب بكلية الطب في جامعة القاهرة- أنه "على الرغم من أن التعرُّض لقدر من الخوف والقلق أمرٌ طبيعي، إلا أن التعرُّض المفرط لأحداث مخيفة أو مرهقة يمكن أن يجعل مسارات الدماغ المعنية بمعالجة الشعور بالخوف مفرطة النشاط".
ويقول في تصريحات لـ"للعلم": عندما تصبح هذه المسارات مفرطة النشاط، فإنها غالبًا ما تؤدي إلى حدوث الاضطرابات العصبية والنفسية المرتبطة بالخوف، وقد تؤدي التجارب الصادمة المكتسبة أيضًا إلى تغيُّر مرونة هذه المسارات؛ إذ يمكن أن تخفض –أيضًا- عتبة تنشيط هذه الخلايا العصبية، ما يؤدي إلى حدوث خلل في استقبال الإشارات، واستقبال الأفراد للمحفزات الحسية الطبيعية على أنها سلبية وتمثل تهديدًا.
بدوره، يشير إيهاب شاكر -استشاري أمراض المخ والأعصاب- في تصريحات لـ"للعلم" إلى أن "التنشيط المفرط لمسارات الدماغ المعنية بمعالجة الشعور بالخوف قد يؤدي إلى إطلاق إنذارات كاذبة للإشارات الحسية العادية، لذلك فإن إسكات هذه الدوائر يمكن أن يساعد في علاج الاضطرابات العصبية والنفسية المرتبطة بالخوف"، مضيفًا أن "هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات المستقبلية للمضي قدمًا في هذا المجال".
الهروب من الخطر
وسبق أن حاول فريق بحثي في "مختبر مجلس البحوث الطبية للبيولوجيا الجزيئية" التابع لجامعة كامبريدج، تفسير سبب شعور بعض الأشخاص الذين يعانون من ضغوط ما بعد الصدمة أو الرهاب الاجتماعي بالتهديد في جميع الظروف، كما لو أن أدمغتهم غير قادرة على تقييم ما إذا كان الموقف خطيرًا حقًّا أم لا، بما يساعدهم على اتخاذ القرار الصحيح بشأن الفرار.
ووفق الدراسة التي نشرتها دورية "نيتشر" (Nature)، فقد استهدف الباحثون فهم آليات الدماغ المشاركة في عملية اتخاذ القرار من أجل تحديد أصل هذه الاضطرابات السلوكية ومن ثم تقديم علاجات موجهة، وقاموا بإخافة مجموعة من فئران التجارب من خلال محاكاة ظلال الطيور المفترسة القريبة منهم بشكلٍ أو بآخر، وبالتالي ملاحظة ردود أفعالها وفق مستوى التهديد، ثم وضعوا مجهرًا مصغرًا على رأس كل فأر، وأدخلوا عدسة هذا المنظار الصغير في دماغ الفأر، ما أتاح لهم مراقبة نشاط الدماغ، وجد الباحثون أن هناك منطقتين تقعان في قاعدة الدماغ تؤديان دورًا حاسمًا في قرار الهروب، وهما "الأكيمة العلوية" و"المادة الرمادية المحيطة بالمسال"؛ إذ يؤدي الاتصال بين هاتين المنطقتين إلى حدوث الهرب، فعندما تلتقط العين حدوث تهديد، تنقل الخلايا العصبية في شبكية العين المعلومات إلى الخلايا العصبية في الأكيمة العلوية، ثم تستدعي هذه الخلايا العصبية ذاكرتها الخاصة وتحلل الموقف.
ويرى الفريق البحثي التابع لمختبر مجلس البحوث الطبية للبيولوجيا الجزيئية أن "الخلايا العصبية للأكيمة العلوية هي التي تتخذ القرار، وتقوم الخلايا العصبية للمادة الرمادية المحيطة بالمسال بتنفيذه، وأن تحديد هذه الآلية وفهمها خطوةٌ كبيرةٌ إلى الأمام".
لكن فهم مصدر بعض المشكلات السلوكية مثل اضطراب ما بعد الصدمة يتطلب مزيدًا من الدراسة، وهو ما يتطلع إليه فريق معهد سولك في خطواته المستقبلية، وفق "كانج".
خطوات مستقبلية
يقول "كانج": مسار الدماغ الذي اكتشفناه يشبه نظام الإنذار المركزي، والنتائج التي توصلنا إليها قد تؤدي إلى تقديم تبصرات جديدة لعلاج الاضطرابات المرتبطة بالخوف، مثل اضطراب ما بعد الصدمة أو فرط الحساسية والتوحد والصداع النصفي والألم العضلي الليفي (يتسبب في الشعور بالألم من جرَّاء تيبُّس مناطق كبيرة من الأنسجة الرخوة تتضمن العضلات والأوتار والأربطة).
ويضيف: نأمل مستقبلًا في دراسة كيف تتسبب الإشارات الناتجة عن الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين في حدوث هذه الاضطرابات، ونرجو أن تكون النتائج التي توصلنا إليها بمنزلة نقطة ارتكاز لإنتاج أدوية لعلاج هذه الاضطرابات.
وتابع: تتمثل خطتنا الفورية في مقارنة نشاط نظام الإنذار المركزي هذا في نماذج الفئران العادية ونماذج الفئران التي تعاني من التوحُّد، من أجل فحص ما إذا كانت طفرة الجين المرشح للتوحد تُسهم في الإثارة المفرطة لشبكة الإنذار المركزية التي حددناها أم لا.
اضف تعليق