الشبهة: أن القرآن بوجوده الكتبي وإن كان نصوصاً وظواهر، إلا أنه ما لم يدخل إلى عالم الذهن ويتحول إلى مفهوم، فإنه لا يدخل في عملية الاستنباط، ولا يمكن للفقيه أن يستدل به سلباً أو إيجاباً، وحينئذٍ يَرِد أن النص بوجوده الكتبي وإن كان ثابتاً إلا أنه بوجوده الذهني متحوّل متغير غير ثابت، فلا يشكِّل إذن المرجعية النهائية.
ويترتب عليه: أن حال القرآن سيكون من حيث الحجية كحال الكفاية والرسائل لا أكثر، ما دام لا يدخل حيّز الاحتجاج إلا لدى تحوله إلى مفاهيم ذهنية، والمفاهيم الذهنية متغيرة بتغير الأشخاص والحالات والأزمنة والخلفيات النفسية والفكرية.
قال أحدهم[1]: (إن القرآن نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوماً، يفقد صفة الثبات، إنه يتحرك وتتعدد دلالته، إن الثبات من صفات المطلق والمقدس، أما الإنساني فهو نسبي متغير، والقرآن نص مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهوماً بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني (يتأنسن) ومن الضروري هنا أن نؤكد أن حالة النص الخام المقدس حالة ميتافيزيقية لا ندري عنها شيئاً إلا ما ذكره النص عنها، ونفهمه بالضرورة من زاوية الإنسان المتغير والنسبي، النص منذ لحظة نزوله الأولي ـ أي مع قراءة النبي له لحظة الوحي ـ تحوَّل من كونه (نصاً إلهياً) وصار فهماً (نصاً إنسانياً) لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل)[2].
و(إذ يتدخل أفق القارئ الفكري والثقافي في فهم لغة النص ومن ثم في إنتاج دلالته)[3].
وقد أجاب العبد الفقير بخمسة عشر جواباً في كتاب (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة) [4]) كما تضمنت الفصول السابقة واللاحقة في الكتاب أجوبة أخرى عديدة ـ فراجع ـ، فإن الغرض ههنا ليس الجواب عن أمثال هذه الشبهات[5]، بل بيان أن الإجابة الاجتهادية عنها لهي من مبادئ الاستنباط.
أجوبة عديدة عن دعوى تغيّر القرآن ونسبيته
ومع ذلك فإنه لابد من الإجابة عن الشبهة السابقة حول القرآن الكريم وما ذكروه من أن (النص بوجوده الذهني متحول متغير، غير ثابت) (لكن النص من حيث يتعرض له العقل الإنساني ويصبح مفهوما، يفقد صفة الثبات...) (أما الإنساني فهو نسبي متغير) إذ يرد عليه:
أولاً: أنها دعوى بلا دليل
لا دليل على هذه الكبرى الكلية: (أما الإنساني فهو نسبي متغير)، بل هي مصادرة ودعوى لم يُقِم عليها دليلاً، وما قد يذكرونه لا يعدو كونه استقراءً ناقصاً لجزئيات لا تصنع ولا تنتج كبرى كلية.
ثانياً: بل الدليل على العدم
بل نقول: حيث إن قيام العلم بالروح أو العقل وهو غيره أو وجه من وجوهه على الرأيين، والروح مجردة على رأي مشهور [6] فإنه لا يتغير، إذ لا مجال للتغيير في المجردات، فتأمل.
ثالثاً: ليس كل (مفهوم) فاقدا صفة الثبات
ليس كل إنساني متغيراً، فإن منها العلوم والمفاهيم ـ وهي بيت القصيد في البحث ـ وليس كل (مفهوم) يفقد صفة الثبات، يكفي أن نسوق بعض السوالب الجزئية، فإن السالبة الجزئية نقيض الموجبة الكلية [7]، ويدل على ذلك:
أ ـ الرياضيات من الحساب والهندسة، فإنها كعلوم وكمفاهيم أيضاً ثابتة غير متغيرة أبداً [8].
ب ـ الأحكام العقلية مثل استحالة الدور والتسلسل والترجّح بلا مرجح وكون الكل أعظم من الجزء وهكذا.
ج ـ المستقلات العقلية، كحسن العدل وقبح الظلم.
د ـ وكثير من القضايا العلمية، كحركة الأرض الانتقالية والوضعية، وذوبان الحديد في درجة (400) والفولاذ في درجة (600) المئوية وهكذا.
هـ ـ كثير من المحسوسات بالحواس الظاهرة أو الباطنة، ككون الحديد صلباً، وكالحب والبغض والحقد؛ فإنها كمفاهيم ومعاني ومدركات ثابتة لدى الكل في أصلها، والاختلاف إنما هو في الدرجات أو الاتجاه.
رابعاً: ليس كل (نص) متغيراً
وليس كل (نص) متغيراً، فإن ما توهمه من تحول النص القرآني الكتبي إلى مفهوم ذهني متغير، خاطئ موضوعاً، إذ إن نفس النص له وجود ذهني أيضاً فإن القرآن كنص ينتقل للذهن، نعم ترجمته مفهوم متغيرِّ وليس نصاً، وكذا لو حفظ شخص الآية بالمضمون.
وعلى أية حال فإن مثل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [9]) هو أمر ثابت:
أ ـ كنص موجود بالوجود الذهني.
ب ـ وكمفهوم أيضاً، فإن مفهوم (يَأْمُرُ) ـ مثلاً ـ واضح يفهمه الكل ولا تغيُّر فيه، وكذا (الْعَدْلِ)، والاختلاف إنما هو في مصاديقه لا مفهومه، والقرآن لم يتطرق لتحديد المصداق كي يقال مصاديق العدل متغيرة نسبية [10]).
وكذلك قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [11]) وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) [12]) وهكذا.
خامساً: (المرجعيات) مقياس تصحيح الأخطاء المفهومية
إن بعض المفاهيم وإن كان متغيراً لدى تعرض العقل الإنساني له، إلا أن الله تعالى ببالغ حكمته خلق (مرجعيات) تعد كمقاييس للتصحيح.
وهذه عناوين بعض المرجعيات:
أ ـ مرجعية العقل [13] لدى خطأ الباصرة، إذ ترى الخطين المتوازيين يلتقيان بعد مسافة [14]، وكمرجعيته لتمييز خطأ المرايا المحدبة والمقعرة، إذ يفيدنا أن العاكس حقاً هو المرآة المسطحة؛ والأذهان كالمرايا بأقسامها الثلاثة، والمستوي منها [15] هو العاكس للحقيقة كما سيأتي.
ب ـ مرجعية الكثير من قواعد علم المنطق، فمثلاً ما سبق من (الطلاق متوقف على النكاح الشرعي، والنكاح الشرعي متوقف على رضا الطرفين، فالطلاق متوقف على رضا الطرفين) خاطئ لمخالفته ضرورة الفقه، لكن إنتاج الشكل الأول بديهي أيضاً، فكيف التوفيق؟
والجواب: إن (المرجعية المنطقية) هي الحل، فإن قاعدة لزوم تكرر الحدّ الأوسط بنفسه لكي ينتج القياس، هي المرجع لتمييز الخطأ في هذا المفهوم المركب [16]، إذ الحد الأوسط في الصغرى هو (متوقف على النكاح الشرعي) وفي الكبرى (النكاح الشرعي) فلم يتكرر، ولو كُرّر لكان (والمتوقف على النكاح الشرعي متوقف على رضا الطرفين) لكن هذه الكبرى غلط، إذ المتوقف على النكاح الشرعي هو الطلاق، والطلاق غير متوقف على رضا الطرفين، فتدبر [17]!
ج ـ مرجعية محكمات القرآن، فإن محكمات القرآن هي المرجع لمتشابهاته [18]، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [19].
وذلك مثل مرجعية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [20]) و(لَنْ تَرَانِي) [21]) لتحديد المراد من (وَجَاءَ رَبُّكَ) [22] ، (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [23])، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [24])، وأن المراد المعنى المجازي لا الحقيقي [25]).
د ـ مرجعية الرسول والأئمة (عليهم السلام)، مرجعية الرسول (صلى الله عليه وآله) لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [26])، (مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [27])، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [28]).
وكذلك مرجعية الأئمة الأطهار وفاطمة الزهراء (عليهم السلام)، قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [29].
وذلك مثل تفسير (غَسَقِ اللَّيْلِ) [30] المحتمل أن يكون المراد به أول ظلمة الليل، أو شدة ظلمته الحاصلة مع منتصف الليل، بما صح عن الإمام الباقر (عليه السلام) (غسق الليل انتصافه) [31] وغير ذلك.
ومثل تفسير الإمام الباقر عن أبيه عن جده الشهيد (عليهم السلام) لـ(الصَمَد) بمعاني عديدة، كـ(الذي لا جوف له) و(الذي انتهى إليه السؤدد) و(الدائم الباقي) [32].
وتفسير الإمام الصادق (عليه السلام) لـ (الصَمَد) في رواية أخرى [33]، مما وصل بالروايتين وغيرهما [34]) إلى اثني عشر معنى، منها (المتعالي عن الكون والفساد)، ومنها (الذي يصمد إليه في الحوائج ـ أي يقصد ـ) [35].
هـ ـ مرجعية لسان القوم، فإن (لسان قومه) مرجع لتصحيح الفهم، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [36]) وعليه: الفهم العرفي هو المرجع والمقياس، لا الأذهان السقيمة المعوجّة، فهذا مقياس ثابت شرعي وعقلائي، بنى عليه العقلاء من شتى الملل والنحل، وهو ميزان واضح لتشخيص الصحيح من السقيم من المفاهيم والتفسيرات المختلفة، وذلك مثل ما لو فسّر (أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) [37]) بأن الصلاة هنا تعني أقم السيف أو العاطفة، نظراً لأن الصلاة تعني العطف والانحناء والميل [38]).
وليس هذا مجرد فرض، فإن كثيراً من العرفاء وبعض الفلاسفة فسروا الكثير من آيات القرآن الكريم بما يخالف الفهم العرفي ولسان القوم [39])، بل وبما يخالف العقل والضرورة.
سادساً: الخلط بين (التغيير والنسبية) وبين (الإجمال والضبابية)
وأين هذا من ذاك؟! فإن بعض المفاهيم، مثل المشترك اللفظي، قد تكون مجملة، لكن الإجمال أو الإبهام [40]) أمر والتغير أمر آخر، ويشهد لذلك أن النسبة بينها العموم والخصوص من وجه، فإن بعض المجمل ثابت في إجماله وليس متغيراً، وبعضه يزول تغيره بالقرائن، فهو متغير لكن له مرجعية حالية أو مآلية [41]).
وذلك مثل قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [42])، فإن القرء مشترك بين الطهر والحيض [43])، لكنه ليس بنسبي.
سابعاً: لا تلازم بين التطور والتغير
إن تطور المفاهيم بمرور الزمن بالوضع التعيّني، ليس دليلاً على حدوث تغيير في النص ومفهومه، إذ لا تلازم ثبوتي بينهما كما لا يخفى [44]). إضافة إلى أن الملاك هو المعنى في زمن النص الوارد، وذلك مما بحث في بعض جوانبه في مبحث (الحقيقة الشرعية) ـ فراجع ـ، على أن تغيرّ مفاهيم المفردات اللغوية على امتداد حتى مئات السنين قليل جداً، فإن بعض المعاجم احتوى حوالي مليون كلمة، والأقل من القليل منها ممّا تغيّر مفهومُه بتقادم الأزمان، فالظاهر ـ وليس الأصل فقط ـ بل الاستقراء شبه التام والمعلَّل دلّ على ثبات اللغة، وخلافه استثناء.
ثامناً: (التغيير) لا ينفي (الحجية ضمن الضوابط)
سلمنا أن بعض المفاهيم مما تختلف فيها الأنظار أو تتطور [45])، وأنه لا مرجعية بالفعل لتحديد المراد في العديد منها [46])، لكن نقول: هل المراد من ذلك استنتاج أن كل الأفهام صحيحة وحجة؟ أو استنتاج أنه لا شيء منها صحيح وحجة بالمرة؟!
فإن أريد الأول [47])، ففيه: إن الواقع والثبوت واحد متشخص، فما طابقه صحيح وغيره خطأ وباطل، فلا يعقل كونها صحيحة بأجمعها، وإلا لزم التصويب بأسوأ معانيه، ولزم تعدد بل تغير الواقع بتغير الأنظار.
وإن أريد الثاني، ففيه: أن ما طابق الواقع صحيح وإن جهلنا به، والجهل من عالم الإثبات، فلا يغير من عالم الثبوت شيئاً.
هذا كله عن (الصحة)، وأما (الحجية) ففيها تفصيل [48]، فإن ما كان من الأفهام والاجتهادات داخل دائرة الضوابط العقلائية والشرعية فحجة، وإلا فلا.
فمن الضوابط مثلاً: كون الباحث أهل خبرة في ذلك الحقل [49] ـ اللغة أو التفسير أو الأصول أو غير ذلك ـ فإن اجتهاد أهل الخبرة، كالطبيب والمهندس والمجتهد الفقيه ـ حجة [50]) دون غيره، وعلى ذلك جرى العقلاء كافة.
والمراد بـ(الحجة) المنجز والمعذر، أو لازم الإتباع أو ما يصح الاحتجاج به على الغير، وأما لو أريد (الكاشف) [51]) فتكفي الكاشفية النوعية، والمصحِّح هو غلبة الإصابة نوعاً، وذلك متحقق في مَن اجتمعت فيه الضوابط دون غيره.
ثم إن المصلحة في اعتبارِ رأيِ مَن جمع الشرائط ـ من اجتهاد وعدالة وغيرها ـ حجة [52]، هي غلبة الإصابة في الموافقة كما سبق، وأنّ في خلاف ذلك ترجيحاً للمرجوح وتضييعاً للأكثر. إضافة إلى ما قاله الشيخ [53] من المصلحة السلوكية في سلوك مؤديات الحكم الظاهري [54]؛ وأما على مسلك غيره [55] فلا حكم ظاهري ولا مصلحة سلوكية، بل لو خالف الاجتهادُ الواقعَ فالمعذرية للمصلحة الآنفة.
وتمام تحقيق ذلك في مبحث كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.
اضف تعليق