بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([1])
الحديث يدور في هذه السلسلة من المباحث حول مجموعة من المحاور الهامة والإستراتيجية والأساسية التي تتعلق بالعلاقة بين الحوزة العلمية المباركة وبين الجامعات من جهة، وبين الحوزة العلمية والسلطات من جهة ثانية، وبين الحوزة العلمية المباركة ومؤسسات المجتمع المدني من جهة ثالثة. وبين الحوزة العلمية وعامة الناس من جهة رابعة.
وبين الحوزة العلمية وبين الطبقة السفلى (المستضعفين) على حسب تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده الى الاشتر النخعي. فقد أفرد الإمام (عليه السلام) حيزا من الكلام لواليه على مصر مالك الأشتر حول الطبقة السفلى من جهة خامسة.
وبين الحوزة العلمية وبين الاحزاب والعشائر ونظائرها، وقد اعتبرها البعض مندرجة في مؤسسات المجتمع المدني على حسب اختلاف التعاريف والضوابط المذكورة لهذه المؤسسات.
وأيضاً يدور الحديث حول العلاقة بين بعضها والبعض الاخر، أي بين الجامعة والسلطات، او بين العشائر والسلطات وغير ذلك.
فالبحث يرتبط بشرائح المجتمع بأكمله؛ ولذا انطلقنا فيه من منطلق قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) فان الأمة الواحدة تضم كل هذه الأطياف والألوان والجماعات من حوزات علمية وجامعات وطنية وأهلية، وعشائر، وأحزاب، ومنظمات، ومدارس، ومكتبات، ولوبيات ضاغطة، ومؤسسات متنوعة أكبر أو أصغر مدى وأفراداً ونطاقاً.
فالحديث يتمحور عن الأمة باعتبارها الإطار الجامع الذي وضعه القرآن الكريم لكل تلك الجماعات والمجاميع، وسوف ندرس على ضوء هذا الإطار القرآني كل تلك العلاقات والعلائق والروابط العامة والهامة.
ثم ان هنالك بعض الآيات الأخرى التي سنستعين بها في وضع ما نتصوره إطارا ينبغي أن يحكم العلاقة بين كل الفئات والجماعات.
فنبدأ بالتدبر في الآية الشريفة على ضوء بصائر:
1) البصيرة الأولى: المراد من الأمة الواحدة.
يقول تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([2])
والسؤال المطروح هو:
ما هو المراد من الامة الواحدة؟ الأقوال متعددة في ذلك، وقد ذكر المفسرون ما يرجع الى معاني ثلاثة، وسوف نضيف لها احتمالين آخرين فتكون خمسة:
1) وحدة الأمة على مستوى الذات.
2) وحدة الأمة على مستوى النشأة.
3) وحدة الأمة على مستوى الغاية.
4) وحدة الأمة على مستوى القيادة ([3]).
5) وحدة الأمة على مستوى العقيدة.
وبعض هذه الاحتمالات ذكرها المفسرون بعبارة آخر، ولكن لعل بياننا لها بهذه الطريقة أدق وأوضح في تقرير البحث بأجمعه. وهنا نقول :
اننا لا نرى مانعة جمع بين كل هذه المعاني الخمسة، فانها بأجمعها يمكن ان تكون مرادة مقصودة.
وحدة الأمة على مستوى الذات
ووحدة الأمة على مستوى الذات يعني أنها امة واحدة في واقعها وجوهرها وحقيقتها؛ لأنها مملوكة لله تعالى ومخلوقه ومربوبه له.
فذواتنا ملك لله وليست هي شيئا ثبتت له الملكية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)([4]) فنحن الفقراء، بل نحن عين الفقر الى الله وليس لنا وجود مستقل عن اذن الله تعالى ومشيئته في الواقع، فذواتنا هي عين الربط بمعنى انها محتاجة آنا فآنا الى إفاضة الله سبحانه وتعالى عليها، الوجود والعطاء لا بالمعنى الذي ادعاه القائلون بمشككية الوجود وصولاً إلى وحدة الوجود.
وهذا المعنى تام ولا إشكال فيه وهو منشأ لسائر المعاني، فانه إذا كانت هناك وحدة على مستوى الذات وكنا مربوبين لله تعالى ومملوكين، فعلينا – كنتيجة طبيعية لذلك - ان نتبع شريعة الله وان نتبع قيادة واحدة وان نتجه باتجاه غاية واحدة وان لا نتفرق أيادي سبأ وأي سبب (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
واذا كان الجميع على مستوى الذات مماليك لله وعبيد له فكيف يشذ من شذ ويتفرق من تفرق؟ وكيف يحارب هذا ذاك؟ وكيف يقارع هذا ذاك؟ (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) لمجرد الاختلاف في المصالح او في الأذواق او غير ذلك وعليه: لا يجوز كل ذلك إلا فيما أمر الله به أو اذن فيه.
الوحدة على مستوى النشأة
والوحدة على مستوى النشأة يعني بالضبط ما ورد في الرواية "كُلُّكُمْ لِآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَاب"([5]) فعلى صعيد النشأة كلنا نعود الى آدم (عليه السلام) فكلنا أمة واحدة من حيث الأصل والمنشأ والأبوين ومن حيث الخصائص البيولوجية العامة.
ويقول الأمير (عليه السلام): "فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق"([6]) فان "نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْق" تعود إلى المناظرة والمشاكلة والمشابهة في أصل الخلقة والنشأة، بمعنى انه مناظر لك وشبيه لك حيث تعودون جميعا إلى آدم (عليه السلام) وان اختلفتم في الدين أيضاً فهذه جهة وحدة جامعة لها مقتضياتها ولذا ورد "لِكُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْر"([7]) واستحب إطعام وإغاثة حتى الكافر.
وقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...) فربما يكون التفسير: ان الله تعالى لما خلق آدم وحواء (عليهما السلام) كانوا أمة واحدة على فطرة التوحيد، لكن بعد ذلك اختلف من جاء من الناس بدءً من قابيل وهابيل (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)([8]) وقد فسّر البعض الآية بما بين آدم ونوح (عليهما السلام) لكن روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) انه قال: "إِنَّهُ كَانُوا قَبْلَ نُوحٍ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى فِطْرَةِ اللَّهِ لَا مُهْتَدِينَ وَلَا ضُلَّالًا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّين"([9]) والمرجع الروايات، وتفصيله يوكل لمظانه.
فبعد فترة من هبوط آدم وحواء (عليهما السلام) إلى الأرض وعمارتهما إياها بالعبادة والطاعة وذكر الله جاء هابيل وقابيل، وقد اختلفوا بين مطيع وعاص واستمر الحال إلى يوم الناس هذا.
الوحدة على مستوى العقيدة والشريعة
فقد فسر بعض المفسرين قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) بان هذه أمتكم([10]) ملة واحدة، لكن العرف واللغة قاضيان بان الملة هي الشريعة فان الاسلام هو الملة، اما المسلمون فهم امة وليسوا ملة قال تعالى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ...)([11]) أي طريقته وشريعته.
فيكون تفسير الأمة بالملة مجازا والعلاقة المصححة هي كون الشريعة الواحدة هي الرابطة والرباط الذي يربط الأمة ويصيرها امة واحدة، فاذا كان الناس شيعا وزبرا، فالأمة ليست واحدة بل ليست موجودة في واقع الأمر، ولعل الأولى هو ما عبّرنا به من وحدة الأمة على صعيد العقيدة والشريعة، أي ان إطلاقها يشملهما، فلا مجاز على هذا، فتدبر.
فاذا كانت الدول الاسلامية وشعوبها تتقاتل فيما بينها وبعضها يخوّن بعضاً وبعضها يكيد لبعض على الرئاسة الباطلة أو على قطعة أرض أو على التسابق لإرضاء الأجنبي أو على القوانين الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فأعلم ان الأمة ليست موجودة بالمرة؛ لان الأمة الواحدة ليس فيها تناحر أو فرقة إلا في محاربة الباطل والمنكر الى ان يضمحل وينتهي من جسد الأمة.
الوحدة على مستوى القيادة
وهو تفسير بالمصداق الاجلى بمعنى ان الأمة هي أمة واحدة من جهة القيادة (أيضاً، فهو تفسير بالمصداق) بمعنى ان قيادة الأمة هي قيادة واحدة وهي قيادة إلهية وهم الانبياء والرسل والاوصياء (عليهم السلام).
ولذا ورد في تفسير البرهان: "عن أبي جعفر (عليه السلام)، في قوله تعالى: (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قال: آل محمد (عليهم السلام) "([12]).
وهو معنى صحيح تام؛ فان وحدة امتنا الاسلامية هي بالالتفاف حول قيادة النبي والائمة الاطهار (عليهم السلام). وسبب تشرذمها وتفرقها وتشتتها وضعفها، هو تخليها عن الثقلين في الكثير من شؤون الحياة مع تصريح النبي (صلى الله عليه وآله) بلزوم اتباعهما وتوقيرهما وعزازهما: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي- وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْض"([13])
وهذه هي القيادة الإلهية العظمى وهي السبب الرئيس في وحدة الأمة وتقدمها أيضاً.
الوحدة على مستوى الغاية
فالمراد بقوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً): الأمة واحدة على مستوى الغاية والغاية هي ما صرح به تعالى من: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فمن يغتاب أو يسئ الظن([14]) أو يعمل أي من المحرمات والكبائر فهو لا يعبد الله تعالى.
هذه المعاني كلها مشمولة لإطلاق الآية
والظاهر ان هذه المعاني لا تنافي بينها بأجمعها بل قد يقال بان الإطلاق يشملها كلها، أي ان هذه امتكم امة واحدة في نشأتها وفي ذاتها وفي قيادتها وفي عقيدتها وشريعتها وفي العلة الغائية من خلقتها، فكلها معاني آخذٌ بعضها بعنق بعض كحلقات السلسلة المتكاملة. فتأمل
وإذا عرفنا ذلك اكتشفنا ان شتى المآسي التي داهمت بلادنا عبر بوابة الوحوش البشرية التي تفوقت في الوحشية على الوحوش المفترسة، إنما منينا بها لتخلينا عن (الأمة الواحدة) بمعانيها المتنوعة فان الله تعالى يقول: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)([15]).
لكننا عندما نستعرض حالة المسلمين العامة نجد ان الأمة ممزقة تماماً ويلعن بعضنا بعضا ويقتل بعضنا بعضا ويهجر بعضنا بعضا.
في حين أن الغرب وأوروبا رغم اختلافاتهم الكبرى إلا أنهم مع ذلك أصبحوا امة واحدة في أبعاد عديدة، ولذا تقدموا في العديد من المجالات بحسب قوانين الدنيا، وأوروبا الموحدة في السوق الأوروبية المشتركة والمصرف الأوروبي الموحد وعملة اليورو وإلغاء الحدود الجغرافية وشبهها بين دولهم الـ27 هي شاهد كبير على ذلك.
ثم ان من الغريب حقاً والعجيب الذي لا يكاد ينقضي التعجب منه أن حالة التفرق والشيع والطرائق والطائفية تتجذر يوماً بعد يوم في العالم الإسلامي وتتوسع بشكل مذهل ومتسارع، والنزاعات تتجدد بشكل مروع، والمزيد من الدماء تسفك ومن الاعراض تنتهك ومن الاعمال تعطل ومن الثروات تنهب، وهذه كلها نذير شؤم بالغ قال تعالى: (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)([16])
2) البصيرة الثانية: الطيبات واقعية وعرفية
عند مراجعة بعض الروايات التي تتحدث عن معنى (الطيبات) في الآية الشريفة قد يشعر المرء أنها غريبة لأول وهلة، ولكن عند التدبر نرى انها على القاعدة تماماً وليس فيها مخالفة للعقل ولا للقران الكريم او السنة القطعية بل انها المطابقة للعقل والنقل.
فمثلا الرواية الواردة في البحار للعلامة المجلسي (قدس سره) تقول: "كُنَّا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام)، فَقَالَ رَجُلٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رِزْقاً طَيِّباً.
قَالَ: فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، هَذَا قُوتُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ سَلْ رَبَّكَ رِزْقاً لَا يُعَذِّبُكَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَيْهَاتَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً)"([17]).
لماذا توجه الأمر بـ(كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) للرسل فقط؟
فهذه الرواية تفيد ان الخطاب متوجه الى الرسل فقط وليس لعامة الناس؛ والظاهر منها ان الناس لا يمكنهم أبداً ان يمتثلوا هذا الأمر بالأكل من الطيبات فقط لأنه تكليف ما لا يطاق فانه أمر متعذر على عامة الناس تماماً " هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، هَذَا قُوتُ الْأَنْبِيَاءِ".
ولكنّ هذه الرواية تحتاج الى تحليل والجواب على الشبهة التي قد تراود البعض ويمكننا طرح الشبهة والجواب في صيغة طرح السؤال التالي والجواب عليه بالنفي ثم بيان الوجه فيه:
والسؤال هو: هل يمكن لغير الانبياء ان لا يأكلوا الا الطيبات؟
الجواب: لأنه يتعذر على غيرهم امتثال هذا الأمر
الجواب: الظاهر انه لا يمكن ذلك، وكلام الإمام الصادق (عليه السلام) ظاهر إن لم يكن نصاً بتعذر ذلك فان هذا هو ظاهر (هيهات) خاصة مع تكررها ومع ظهور "هذا قوت الأنبياء" في الحصر بقرينة وقوعه موقع النفي لدعاء الرجل.
والسبب في ذلك هو ان المراد من الطيب هو الطيب الواقعي، وهل يمكن لغيرهم (عليهم السلام) امتثال هذا الأمر بالأكل من الطيب الواقعي فقط طوال حياته؟
السيد الوالد (قدس سره) في الفقه في كتاب الأطعمة والاشربة يذكر ثمان محتملات في قوله تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)([18]) وما هو المراد من الطيب الذي أحله الله وما هو الخبيث الذي حرمه الله؟ فهل المراد الطيب الواقعي؟ أو الطيب العرفي؟ أو الطيب الشرعي؟ أو الطيب في عرف أهل مكة؟ أو غير ذلك؟.
ومع قطع النظر عن هذا البحث الفقهي المفصل الذي يلقي الضوء على هذا المبحث التفسيري ويعمقّه فيوكل إلى مظانه، نقول:
توجد هناك قاعدة تقول: (ان الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية)([19]) فيكون معنى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) هو: كلوا من الطيبات الثبوتية الواقعية، فلا يصح ان يكون الخطاب موجها الى الناس لأنه تكليف بما لا يطاق وهو مستحيل عقلا على الحكيم بالنظر إلى حكمته، ولذا اختص الخطاب بالرسل (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، وذلك لأن ما في أيدي الناس مما يصنعونه وينتجونه أو يزرعونه أو يبيعونه ويشترونه في الأسواق وغيرها قد يكون نجسا أو مسروقا أو مغصوبا أو غير ذلك، ولا يمكن ان يدعي شخص بان كل ما في الاسواق حلال واقعي وطيب وطاهر ومذكى ومخمّس وقد توفرت فيه – واقعاً – كل تلك الشروط كما انه لا يمكن لأي احد ان يدعي ان كل ما في الأسواق من أموال وأشياء طاهرة محللة ليس فيها غش ولا رشوة ولا غصب ولا ابتزاز ولا غمض للحقوق ولا غير ذلك بل ما أكثر ذلك في الأسواق.
وعليه: فمن يمكنه غير الانبياء (عليهم السلام) ان يتحرى عن الطيب الواقعي حتى لا يأكل إلا منه؟.
نعم من لا يعلم بكل ذلك تكون له الاشياء طيبة محللة ظاهرا، اما في واقعها وجوهرها فما أكثر ما يكون غير ذلك.. واذا طالبنا الله تعالى بتحري الطيب الواقعي والاقتصار في المأكل عليه فهو تكليف بما لا يطاق وهو مستحيل اذ لا يمكن لأي احد ان يحرز الطيب الواقعي 100% في كافة مأكولاته ومشروباته في كافة مراحل حياته.
نعم الأنبياء يستطيعون ان يحرزوا ذلك وهم مكلفون به، لما الهمهم الله تعالى من العلم والمعرفة بالغيب ومآلات الأمور ولذا كان الخطاب (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) ولم يقل: يا ايها الناس كلوا من الطيبات.
نعم على الناس ان يتحروا الطيبات الظاهرية فان قاعدة اليد تصنع الحلية الظاهرية وكذا قاعدة سوق المسلمين وما أشبه ذلك.
فان جميع هذه القواعد تصنع الحكم الظاهري ولا تغير الواقع كما تغيره قاعدة الإلزام والإمضاء حسب من رأى ان مفادها الواقعي الثانوي، وعليه: فان طابقت الواقع فبها ونعمت والا فالمكلف معذور.
الجواب عن ورود الأمر موجها للناس في آية أخرى
ان قلت: ورد في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)([20]) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)([21]).
قلنا: حيث عرفنا عقلا وبالاستقراء المعلل بأنه لا يمكن لنا عادة ان نأكل حصرياً الطيبات الواقعية طوال عمرنا كما أوضحنا، فتكون تلك قرينة عقلية قطعية على صرف الآية إلى الطيب العرفي أو الطيب الظاهري بسبب هذه القرينة العقلية.
وبعبارة أخرى: صحيح ان الأسماء موضوعة لمسمياتها الثبوتية ([22]) لكن ذلك هو الأصل الذي قد يخرج عنه بالدليل فاذا جاءت قرينة عقلية قطعية على ان المراد ليس المسمى الثبوتي، بل المراد هو الأعم من الواقع والظاهر، فهذه القرينة ستكون هي السبب في التصرف بالمفردة اللغوية وَليِّ عِنانِها إلى التجوّز.
والحاصل: ان الأنبياء مكلفون بالطيب التكويني الحقيقي الواقعي واما سائر الناس فمكلفون بالطيب العرفي أو الظاهري.
3) البصيرة الثالثة: الاكل من الطيبات من مقومات تحقق الأمة الواحدة
البصيرة الثالثة، والرابعة الآتية في البحث القادم بإذن الله تعالى، تتمحور حول الإجابة على السؤال التالي وهو:
ما هو وجه الترابط بين المفردات الأربع الواردة في الآية الشريفة: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً... * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)؟
والمفردات هي:
1) الأكل من الطيبات.
2) العمل الصالح.
3) هذه أمة واحدة.
4) وجوب التقوى.
كيف يصب الأكل من الطيبات في (الأمة الواحدة)؟
والجواب: هنالك ربط جوهري بين هذه الأوامر والحقائق الأربعة؛ لان بعضها يكمل بعضا، ولعل من وجوه الترابط: ان الأوامر الثلاثة (الأكل من الطيبات، والعمل الصالح، والتقوى) كلها تصب في مسيرة (الأمة الواحدة) كما ان بعضها يصب في صالح البعض الآخر، وسنتوقف الآن حول ترابط الأكل من الطيبات مع الأمة الواحدة.
الآثار الوضعية للأطعمة المحرمة
إن الطعام له الأثر الوضعي بالبداهة، فمن يأكل حراما او مغصوبا فانه يتجرأ على ارتكاب المحرمات الأخرى أكثر فأكثر وقد يحرم التوفيق للعديد من الطاعات.
ولذا وردت روايات كثيرة تحث على الوقوف عند الشبهات "فَإِنَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ خَيْرٌ مِنَ الِاقْتِحَامِ فِي الْهَلَكَات"([23]) مع انها بعد الفحص مما يجوز شرعاً اقتحامها، بل حتى المكروهات فان لها أثرها الوضعي فمثلا: يكره اكل طعام السوق وقد عُلّل في بعض الروايات بان الفقراء تقع أعينهم عليه ولا يستطيعون شراءه، لذا فان البركة تُسلب منه وذلك نوع من الأثر الوضعي.
ان التدبر الدقيق يقودنا إلى ان سبب الكثير من النزاعات ورواج سوق الغيبة والتهمة والنميمة والظلم والاستبداد وشبه ذلك هنا وهناك، يعود إلى الاثار الوضعية للطعام الحرام الذي قد امتلأت البطون منه.
ولذا اعتبر الإمام الحسين (عليه السلام) ان اعداءه ما وقفوا بوجهه لان بطونهم ملئت من الحرام وقال: "قال لهم وَيْلَكُمْ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ تُنْصِتُوا إِلَيَّ فَتَسْمَعُوا قَوْلِي وَإِنَّمَا أَدْعُوكُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ فَمَنْ أَطَاعَنِي كَانَ مِنَ الْمُرْشَدِينَ وَمَنْ عَصَانِي كَانَ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَكُلُّكُمْ عَاصٍ لِأَمْرِي غَيْرُ مُسْتَمِعٍ قَوْلِي فَقَدْ مُلِئَتْ بُطُونُكُمْ مِنَ الْحَرَامِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيْلَكُمْ أَ لَا تُنْصِتُون... "([24])
والحاصل: ان من البديهيات المسلمة عندنا ان أكل الحرام الثبوتي والشبهة مما كان واقعه محرماً يسلب التوفيق ويؤثر أثره الوضعي حتى مع الجواز الظاهري، وذلك تماماً كمن اضطر لأكل الميتة في الصحراء او لشرب المسكر خوفا على نفسه من الهلاك او غير ذلك فانه سوف يسكر حتماً حتى لو جاز له شرب الخمر بل حتى لو وجب عليه إذا خاف بترك شربه الموت.
ومن هنا نجد ان الكثير من الرجال في الغرب سُلبت منهم الغيرة بسبب أكلهم للحوم الخنزير، وقد ثبت علميا ان الخنزير عديم الغيرة على انثاه وان أكل لحمه له هذا الأثر.
وبذلك يظهر: أن من العلل المعدّة لتحقق الأمة الواحدة هو تجنب أكل المحرمات من مغصوب ومسروق وغير مخمس وغير مذكى وشبه ذلك وأن أكل الطيبات المحلل هو العامل المساعد على ذلك.
وعليه فلا بد لنا ان نتحرى عن الطيب الواقعي قدر المستطاع لكن الواجب هو الطيب الظاهري والعرفي فقط إلا ان ذلك لا ينفي وجود الاثر التكويني الوضعي فيما لو صادف الحرام، فاحتط يا من قد رعاك الله!!
الأكل الحرام يؤدي حتى إلى عبادة الشيطان!!
نقل لي احد العلماء انه سمع ان احد الشباب التجار في احدى العواصم أصبح من عُباد الشيطان والعياذ بالله تعالى.
يقول: فاستغربت كثيرا وقلت كيف تحول هذا الشخص المسلم الى عابد للشيطان مرة واحدة؟
فعزمت على الالتقاء به قربة الى الله تعالى كي اهديه السبيل ان استطعت ذلك.
فجلست معه عدة ساعات وسألته في البداية عن الاسباب والدوافع لهذا التحول الغريب والشنيع الذي لا يرتضيه عقل ولا منطق؟
فقال لي: في البدء التقى بعض عباد الشيطان ودعوني ان احضر الى ناديهم فدفعني حب الاستطلاع إلى القبول والمشاركة ولو لمرة واحدة (وهذا – حسب استطلاع مثل هذه الأمكنة الموبوءة – من أخطر مكائد الشيطان فان هذه هي اولى الخطوات للانزلاق في مهاوي الفساد والافساد: إذ يفكر الشخص مع نفسه: فلنجرب الذهاب إلى السينما مرة واحدة! أو لنجرب مرة واحدة تناول المخدرات! وهكذا وهي خطوة تستدرجه إلى خطوات اثيمة أخرى وهكذا إلى ان يقع الانسان فريسة كاملة للشيطان والعياذ بالله تعالى) يقول الشاب: فذهبت معهم على وجل وإرباك شديدين، فذهبوا بي إلى قصر فخم في شمال العاصمة وكان يحتوي على نادٍ مجهز بأحدث وسائل الراحة، فوجدت بعد الحديقة عند مدخل القصر شابا واقفا على الباب، فرحب بي اولا ثم قال: ان شرط الدخول إلى النادي ان تشرب مقداراً من الدم الطازج([25])!
فاستغربت لأول وهلة وامتعضت.. فقال لي: لا تستغرب ولا تمتعض، انه لذيذ ولا ضير فيه وجرّبه لمرة واحدة فقط!. ثم ولكي يشجعني عَمَد الى دجاجة حية فشق بخنجر حاد وريدها ففار الدم وشرب من دمها أمامي ليزول امتعاضي واستغرابي! وقال لي: جرب أنت وسترى صدق ما أقول!
ثم فَرى أوداج دجاجة اخرى واعطانيها فشربت من دمها، وزين لي الشيطان ذلك، ومع شرب الدم أحسست بقوة وبهيجان الشهوة وشعرت بجرأة كبيرة على المعاصي، ودخلت النادي فوجدت ما يربوا على (100) شاب وشابة في ملابس غير محتشمة والكل في فسق وفجور وأكل للمحرمات وغير ذلك، والآن أنا من عباد الشيطان حيث استهواني ذلك كله!
يقول ذلك العالم الجليل: فتكلمت معه ونصحته ووعظته لكنه لم يجدِ نفعاً فقد كان قد غرق في مستنقع المعاصي والموبقات ولم يعد ينفع الكلام معه!!
ان إحدى أهم طرق الشيطان هو تزيين أكل الحرام من الدم الحرام والميتة والخنزير وغير المخمس أو المذكّى وشبه ذلك من الموبقات والمعاصي بأجمعها.
ومن هنا جاء الحديث: "جُعِلَتِ الذُّنُوبُ كُلُّهَا فِي بَيْتٍ وَجُعِلَ مِفْتَاحُهَا شُرْبَ الْخَمْر"([26])
الآية، منهج حياة وعمل
ختاماً: يجب ان تتحول الأوامر والبنود الأربعة في هذه الآية الشريفة إلى منهج حياة ومنهج عمل للأمة كافة إذا أردنا العزة والكرامة والسؤدد والنصر المؤزر وقبل ذلك رضا الله تعالى: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق