بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا)([1])
الحديث حول الدعوة الى الله (بِإِذْنِهِ) متشعب ومتنوع وطويل وهام ايضا؛ لأنها من العلل الغائية لبعثة النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله)، وهي التي تحمل مسؤوليتها ونهض بأعبائها خير قيام, كما انها مسؤولية تقع على عواتقنا جميعاً اذ لا فرق بين رجل وامرأة ومكلف وآخر من حيث التكليف وحدوده إلا بحدود قدراتهم.
وسيكون الحديث في هذه المحاضرة ضمن البصائر التالية:
1) البصيرة الاولى: الدعوة الى الله تشمل الدعوة إلى سبيله
ان الدعوة الى الله تعني الدعوة إليه والدعوة إليه تشمل الدعوة الى سبيله؛ فان الدعوة إلى الداعي إلى الشيء والسبيل إليه هي دعوة إليه، كما ورد في آية أخرى (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ)([2]) فان الدعوة الى سبيل الرب دعوة الى الرب جل اسمه وهي موطرة بما صرح به تعالى: (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
وبعبارة أخرى: ان (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ)([3]) اعم بمعنى انه يشمل الدعوة الى الله مباشرة أي الدعوة الى معرفة الله والاعتقاد به، والدعوة إلى عبادته، كما يشمل الدعوة الى شريعته من صلاة وصيام وعدل وإحسان وتلاوة للقرآن والعمل بمضامينه، وهذه جميعاً تعدّ من مسؤوليات الرسول (صلى الله عليه وآله) كما انها من مسؤولياتنا أيضاً.
الدعوة إلى الشورى والحريات وإلغاء الحدود نموذجاً
ومن هنا نعرف ان الدعوة الى الشورى مثلاً هي دعوة الى الله فقد قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([4]) فالدعوة الى الشورية هي دعوة الى سبيل الله فانها دعوة الى العمل بآية قرآنية كريمة وإلى الالتزام بقيمة من القيم السماوية فهي دعوة الى الله سبحانه وتعالى.
وكذلك الدعوة الى الحريات قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)([5]) فانها من مسؤوليات النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ومن غايات بعثته (صلى الله عليه وآله).. فالدعوة الى الحريات هي دعوة الى الله والى سبيله فانها مما أمر به الرسول (صلى الله عليه وآله) ومما أمرنا بها.
كما ان الدعوة الى الغاء الحدود الجغرافية والاقامة والتأشيرة والجنسية ونظائرها من القيود المفروضة هي أيضاً دعوة الى الله تعالى؛ لأنها من بدع المستعمرين وهي من صغريات بدع الشيطان الرجيم ومن البدع الارضية التي لا تمت الى السماء بصلة.
والحاصل: ان الدعوة الى الغاء البدع الجاهلية القديمة كالدعوة إلى تطهير الأرض من البدع الجاهلية الحضارية الحديثة، هي دعوة الى الله سبحانه وتعالى.
وصفوة القول: ان علينا ان ندعو الى العمل بآيات القرآنية الكريمة الحيوية في ضمن آيات القران الكريم كلها.
2) البصيرة الثانية: الدعوة الى الله في بعدها العملي
كان ذلك كله في البعد النظري وعلى مستوى الدعوة بالكلمة الطيبة، ولكن لا يقل الأمر في البعد العملي أهمية عن ذلك؛ فان الدعوة الى الله تعالى عبر نفس العمل بتلك الآيات الشريفة أي عبر العمل بالشورى وتطبيق قيم السماء في العدل والإحسان والاخوة وتوفير الحريات للناس عملياً ونظائرها مما تعتبر من افضل الطرق الى الدعوة الى الله سبحانه؛ أي ان يكون الانسان تجسيداً عملياً لأوامر السماء وتعاليم الوحي ولذلك ورد في الحديث: "عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (صلوات الله عليهم) أَنَّهُ قَالَ لِلْمُفَضَّلِ أَيْ مُفَضَّلُ قُلْ لِشِيعَتِنَا كُونُوا دُعَاةً إِلَيْنَا بِالْكَفِّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَاتِّبَاعِ رِضْوَانِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ إِلَيْنَا مُسَارِعِين"([6]).
ذلك ان من يعمل بالشورى ومن يتجسد فيه العدل والإحسان والتواضع والخلق الرفيع وغير ذلك، سيكون بنفس عمله هذا أقوى دعوةً وأشد وقعاً وأشمل تأثيراً.
سر تفوق العالم الغربي علينا: العمل ببعض آيات القرآن الكريم
وليس تفوق العالم الغربي إلا لان الغرب اخذ ببعض المبادئ القرآنية وعمل بها ولو بشكل ناقص ومشوه، فتقدم علينا ولو عمل بها حقا لتفوق اكثر واكثر، ولذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "اللَّه اللَّه في القرآن و لا يسبقنكم إلى العمل به غيركم"([7]).
ومن مفردات ذلك عملهم بالشورى وتمسكهم النسبي بها في نقاباتهم واتحادياتهم وأحزابهم وصولاً الى حكوماتهم المتعاقبة، كما انهم اعطوا نوعا من الحرية في التعبير والسلوك وإن كانت تشوبها ما لا يخفى من الشوائب، كذلك هناك لديهم نوع من العدل ونوع من الاحسان والمساواة بين طبقات المجتمع في القانون والصلاحيات ونظام التعليم والصحة وشبه ذلك وان كانت كل هذه الامور وغيرها عندهم مشوهة عرجاء خاضعة للتلاعب أيضاً.
وكما نرى فان كل هذه الأمور هي مبادئ وقيم حيوية قرآنية إسلامية، بينما ترى حكوماتنا وأنظمتنا ليست إلا تجسيداً للقيم المضادة ومظاهر للاستبداد والظلم بعد الظلم والكبت والإرهاب وسحق الحقوق حتى انك لا تجد في الكثير منها حتى بصيص نور او ضياء.
فمثلا في بُعد الإحسان تجد الغرب يسارع في احتضان اللاجئين، وهذا نوع من الإحسان وان كانت لهم أغراض مبيتة لا تخفى على اللبيب، لكن يبقى من يكرم اليتيم ويدفع للفقير ويحتضن اللاجئ محسناً في منطق الناس وذا يد عليهم وذا تأثير ونفوذ كلمة مهما كانت نواياه وأهدافه، في حين ان الدول الإسلامية من الخليج ومصر وإيران وغيرها كان ينبغي ان تكون هي التي تحتضن اللاجئين فلماذا لم نشهد مثل هذا الإحسان الظاهري مهما كانت النوايا من دولنا الإسلامية؟.
في الغرب: غروب عصر الاله وشروق عصر السحر!
احد فلاسفة الغرب واسمه (دوبريه) له كلمة دقيقة في إحدى كتبة تعكس مأساة العالم الغربي وتعكس – في الوقت نفسه – ومن حيث لعله، لا يدري، تقصيرنا وقصورنا في العمل بتلك الآية الشريفة: يقول: (غروب عصر الآلهة تلاه وأعقبه شروق عصر السحرة).
هذه الكلمة تعكس واقع الحضارة الغربية؛ لان الناس هناك بدأوا بالاعراض عن الإله، وكلما انحسر الاله والغيب اتجه الإنسان إلى الخرافة ذلك ان الانسان في كمونه وأعماقه يحس بالحاجة الى غيب يتشبث به فان كان حقا تمسك به، والا فلابد ان يتشبث بالباطل، ومن ذلك التشبث بالسحرة والشعبذة والكهانة وشبه ذلك.
ولذا نجد ان السحرة لهم كلمة مؤثرة في أوساط شرائح واسعة جداً من الناس في الغرب حتى ان وسائل الإعلام نقلت ان بعض رؤساءهم([8]) يستشيرون بعض السحرة والعرافين في كثير من قضاياهم الشخصية وحتى في شؤون السياسة الدولية!!.
بل ان السحرة هنالك لهم وجود واقعي بل وقانوني ايضا، حتى انه يعقد في بريطانيا كل سنة مؤتمر عالمي للسحرة ولمدة 3 ايام، وقبل عدة سنوات كان الحضور يقرب من 4000 ساحر وساحرة من أنحاء العالم!!
وقد رصدت وسائل الإعلام هذا المؤتمر العالمي وغطته في عدة برامج وحواريات متنوعة، وهي من اكثر البرامج حيوية ومحبوبية عندهم!!
فالغرب في شرائح اجتماعية بل ونخبوية واسعة جداً منه حقيقةً هو مجتمع خرافي في واقعه غارق في قعر الجهالة، ويكفي ابتعاده عن الإله الواحد وعن الفطرة السليمة وإيمانه بالتثليث الذي يرفضه العقل والعلم معاً! الا أنهم تمسكوا شيئاً ببعض المبادئ الحقة كما ذكرنا فسادوا – ويا للأسف - العالم وكانت لهم السطوة والسيطرة.
فان كان الأمر كذلك وهو كذلك بالفعل فذلك يعني حقاً ان غروب عصر الإله انتج شروق عصر السحرة بالفعل.
ولا بد ان نعمم كلام دوبرية الى أكثر من حدود السحر والسحرة بان يقال: ان غروب عصر الإله والمعنويات والحقائق الغيبية السليمة أنتج إشراق عصر الخرافات بمختلف ألوانها وصورها في العالم الغربي.
وقد جاء في احصاء ذكروه هم ان اكثر من 10 ملايين فرنسي يراجعون العرافين والذين يقرأون الكف او قارئي الفنجان او غير ذلك.. ومنهم أساتذة جامعات ومفكرين وكتاب.
ان من لا يعتقد بالإله، وهو ما تقضي به الفطرة الواضحة، سيتجه حتما الى الباطل وسيقع في فخاخ الابالسة والشياطين قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)([9]).
الشورى في بلادنا الإسلامية: إهمال نظري وإلغاء عملي!
والحديث حول هذا الامر – وكما سبق – متعدد الأبعاد متكثر الجوانب طويل، الا اننا في هذا المبحث سوف نقدُم بالتركيز بعض الشيء على مبدأي الشورى والاستشارة نظراً لكون الشورى مبدأً قرآنياً إذ يقول تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([10]) وكون الاستشارة مبدأ قرآنياً كذلك إذ يقول جل اسمه: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)([11]) وهي آيات صريحة لا لبس فيها.
لكننا لو استعرضنا أحوال بلداننا الاسلامية فسوف لا نجد من الاستشارة ومن ثَمَّ الشورى عيناً ولا أثراً ابتداءً من المدارس والجامعات والحسينيات ومروراً بالأحزاب والنقابات والاتحادات ووصولاً إلى الحكومات، اللهم إلا في القليل جداً من المؤسسات فان كلامنا في المنهج العام والمسيرة العامة وليس في الاستثناءات.
فاذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسب الآية الكريمة (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)([12]) مأمورا بالمشاورة وهو العقل الكامل وهو المحيط بعوالم الإمكان والمتصل بالله تعالى([13])، فما بالك بنا نحن؟.
ان الشورى في أوساط المجتمعات الإسلامية مغيبة، بل حتى الدعوة الى الشورى مغيبة أيضاً، فإذا قمنا باستقراء سريع لكتابات كتابنا ودروس أساتذتنا وخطب خطبائنا فكم يا ترى تجد من الدراسات والبحوث والكلمات والدعوات ومن التنظير قد صُب على مبدأ الشورى، من منظار اسلامي وليس من منظار علماني يوحي بدفع الشورى باتجاه مضاد للدين؟
ومن الغريب حقاً أن تجدنا على المستوى النظري مقصرين تأصيلا لمبدأ الشورى وتأطيرا ومنهجةً ومصدقةً، كما تجدنا على المستوى العملي ايضا مقصرين كذلك.
ومن المفارقات: ان الغرب يدرك ان تقدمه علينا إنما هو لانتهاجه وتمسكه بنوع من الشورية، لذلك تراه يتقصد ان ينسف الشورى لدينا نسفاً كي لا نأخذ بأسباب التقدم أبداً، فالمشكلة ذات بعدين وجانبين: جزء منها جهل مستحكم في أنفسنا، وجزء اخر تخطيط غربي ضارب بأطنابه في مختلف مناحي بلادنا.
ان الشورى والشورية اذا تجذرت في بلادنا، وتلاقحت الآراء والافكار فستنتج افضل النتائج وأطيب الثمار إذ "وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا"([14]) وهذا لا يريده الغرب لنا، وفي الاتجاه المقابل "مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ" وهذه هو عين يريده لنا الغرب.
تجربة رائدة وفق مبدأ الشورى القراني
وقد أسس السيد الوالد (قدس سره) مدرسة في احدى البلاد الإسلامية وكانت تسمى مدرسة (جابر بن حيان) وكان السيد الاخ الأكبر الرضا (رحمه الله) مشرفا على المشروع في بداية تأسيسه، فاقترحت عليه ان نطبق النظام الشوري في هذه المدرسة.
ثم عقدنا جلسات مكثفة حول كيفية تنفيذ هذه الفكرة وتقرر ان تكون هناك انتخابات ويكون الطلبة هم من ينتخب الادارة لمدة معينة وكانت ستة أشهر، وان يكون الطلبة هم الذين يقررون الضوابط الإدارية للمدرسة وان يكون اختيار الاساتذة والمادة الدراسية موكلاً لهم – أي للإدارة المنتخبة - ايضا وغير ذلك.
فلماذا نكون نحن من يفرض مديرا معيناً للمدرسة ويكون هو من يتحكم بكل شيء مع ان رأيه لا بد من ان يعاني من القصور في جهات متعددة إذ ورد "مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ" و(أعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله).
أفليس الأفضل ان تكون الإدارة منتخبة؟ إذ المنتخبون هم طلبة ايضا وهم حريصون على تقدم الطلبة الآخرين لكونهم منهم ولكون إعادة انتخابهم منوطة بحسن إدارتهم.
فلماذا لا نترك لطلاب المدرسة الانتخاب، وللإدارة المنتخبة بعد التداول والاستشارة فيما بينهم ومع الاخرين من الاختصاصيين والاكفاء، اتخاذ القرارات العامة المرتبطة بشؤون المدرسة والحوزة؟
ولقد كانت تلك التجربة حقاً تجربة رائعة رائدة، ثم تطورت وازدهرت وازداد حماس الطلاب للعلم وللعمل، بحيث اصبحت مدرسة مثالية ونموذجية تجاوزت سمعتها حدود البلاد.. لكن الدول المستبدة لا تتحمل التجارب الرائدة حتى في نطاق ضيق، فضايقوا الطلاب والأساتذة والإدارة واعتقلوا جمعاً منهم ثم نسفوا المدرسة نسفا واغلقت بأمر منهم، مع انها كانت مدرسة اعتيادية لا يتجاوز عدد طلابها المائة طالب لا غير، لكن النموذج الصحيح مهما كان صغيراً إلا انه يخيف الظالمين ويرعبهم فان الأفكار الحيوية الرائدة، مُعدِية، كعكسها من الأمراض المسرية.
وكان السيد الوالد يمثل بمثال لطيف: اذا رأيت شخصا ناصبيا قصيرا او كافرا حربيا دميماً فلا داعي لأن تقول للناس هذه قصير بل يكفي ان تمشي انت الطويل أو الجميل الى جواره فقط! فاذا سرت الى جواره ظهرت وبانت قباحته وضآلته.
لماذا لا تتحمل الحكومات النماذج الشورّية؟
ان الحكومات لا تتحمل وجود حتى نموذج شوري محدود النطاق؛ لأنه يفضحهم وينسف شرعيتهم المزعومة، والغرب أيضاً لا يتحمل وجود نماذج شورية – أو ديمقراطية – خارج دائرة شعوبه أو مستعمراته الفعلية التي لا يخاف من انفلات مصائرها من يديه إذا سارت في المسيرة الديمقراطية، ولذا حوّلوا الربيع العربي الى خريف عربي، مع ان الربيع العربي كان متطابقاً مع مبادئهم التي يتبجحون بها من الحرية والديمقراطية ولذلك غيروا مسيرة الديمقراطيات الوليدة هذه حتى تحولت إلى دول استبدادية جديدة أو إلى دول ممزقة يعم فيها سفك الدماء وتشريد الملايين من الناس.
وعوداً على بدء:
لماذا لا نجد تطبيق المسلمين لمبدأ الشورى والانتخاب في المدارس والمساجد والمواكب والحسينيات ومؤسسات المجتمع المدني بل وحتى الاحزاب؟ مع ان المفروض ان تكون هذه المواقع اسلامية في مرحلة العمل والتطبيق لكونها ترفع راية الإسلام كشعار ومنهج ودين ومبدأ وتنادي بتطبيق قوانينه وأنظمته؟.
ومن ذلك نعرف ان جوهر المشكلة هو اننا اعرضنا عن الايات الحيوية نظريا كالشورى فلم ندع إليها إلا عَرَضاً واعرضنا عنها عمليا فلم تتجسد فينا هذه القيم فاصبحنا في ذيل القافلة، واطلق علينا – بجدارة، ويا للأسف - العالم الثالث! ان لم نكن العالم الرابع والخامس!.
بين ولاية الفقيه وشورى الفقهاء
من أهم مصاديق الشورى التي يشملها قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) والتي دعى اليها السيد الوالد وعدد آخر من الفقهاء انطلاقاً من هذه الآية وغيرها، هو شورى الفقهاء والتي تقع في الوسط بين من رفض ولاية الفقيه المطلقة وبين من أثبتها؛ فان من المعروف ان قسماً كبيراً من الفقهاء رفضوا نظرية ولاية الفقيه المطلقة كالشيخ الانصاري وأقروا مجرد الولاية في الشؤون الحسبية في الدائرة الضيقة جداً أي الولاية على شؤون القصر والغيب وما اشبه وهي على أية حال دائرة الأحوال الشخصية وليس الشؤون العامة النوعية، بينما ارتأى قسم اخر من الفقهاء ولاية الفقيه المطلقة على تفاوت في حدودها وسعة إطلاقها.
والرأي الذي ذهب اليه السيد الوالد هو شورى الفقهاء والذي اصّل له وكتب مجموعة من الكتب حوله، والعبد الفقير كتب كتابا حول ذلك طبع منه المجلد الأول.
وتعدّ شورى الفقهاء، عمليا، الصيغة الأكثر قدرة على حل مشاكل المسلمين والصيغة الأكثر نجاحا ونجاعةً لتطوير وضعنا وانتشالنا من الازمات والفتن والمحن التي تعصف بالعالم الاسلامي بل في العالم كله.
أدلة ولاية الفقيه الثلاثة:
وقد استدل القائلون بولاية الفقيه بأدلة ثلاثة:
1- أدلة لفظية من آيات وروايات، مثل "الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الْإِسْلَام"([15]) و"وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا"([16]) وهو بحث تخصصي يبحث عادة في كتاب البيع من المكاسب بمناسبة استطراد الشيخ حول ذلك، ولسنا الآن بصدد تقييم هذه الأدلة.
2- ادلة الحسبة.. وليس كلامنا في هذا المبحث معقوداً لمناقشتها وما لها وما عليها.
الاستدلال بالقدر المتيقن على ولاية الفقيه
3- القدر المتيقن.. وهو ما طرحه بعض الاساطين([17])، وحيث لم يوفّ حقه من البحث واستدل به جمع على ولاية الفقيه المطلقة، فاننا سنتوقف قليلاً لمناقشته.
توضيح ذلك: ان بعض الأعلام بعد ان لم تتم لدية الادلة اللفظية ولا ادلة الحسبة ذهب إلى ولاية الفقيه من باب القدر المتيقن، وذلك نظراً إلى ان هنالك مصالح عامة للمسلمين لا يصح تفويتها ومفاسد عامة لا يصح السماح بحدوثها من شؤون حرب او سلم او معاهدات دولية ومن شؤونٍ عامة اقتصادية او اجتماعية او حقوقية وغير ذلك.
فكل هذه المصالح لا يمكن ان تعطل إذ ان في تعطلها اكبر الفساد فلا بد ان يتصدى لها من ينهض بها، ولكن من الذي يتصدى لكل ذلك؟
الجواب: ان القدر المتيقن من ذلك: هو الفقيه الجامع للشرائط.
وبعبارة أخرى: حفظ النظام واجب عقلي والا لزم الهرج والمرج ولذا قال الامام علي (عليه السلام): "لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ..."([18])
فاذا كان الأمر دائراً بين تصدي الفساق لأمور المسلمين وبين تصدي العدول من الناس غير الفقهاء وبين تصدي الفقيه الجامع للشرائط فان القدر المتيقن والذي تُحرز به الاصابة أكثر من غيرها والذي يطمئن اليه وتبرأ به الذمة هو تصدي الفقيه الجامع للشرائط.
الأجوبة على الاستدلال بالقدر المتيقن
ولكن هذا الاستدلال غير مجدٍ ولا تام:
إذ لو كان الملاك لولاية الفقيه هو كون الفقيه هو القدر المتيقن فان ذلك يستلزم لوازم أو اشكالات عديدة لا يلتزم القائلون بولاية الفقيه بها؛ فعليهم الالتزام بها أو التخلي عن الاستدلال بالقدر المتيقن([19]).
أ- القدر المتيقن هو الفقيه بشرط ضم اراء سائر الفقهاء
اذا كان المستند هو القدر المتيقن وهو الفقيه (ومآل ذلك الى باب الانسداد كما لا يخفى لكن في الولي والشؤون العامة مقابل الانسداد في الأحكام والمحمولات الشرعية) فان القدر المتيقن هو الفقيه منضماً اليه سائر الفقهاء؛ وذلك لأن الامر ليس دائرا بين ولاية الفقيه الجامع للشرائط وبين غير الفقيه أي العامي كي يقال هذا هو القدر المتيقن؛ لانه اخص مطلقا وانه متوفر على محتمل المدخلية وانه أقرب لمذاق الشارع، بل هناك خيار آخر أخص منه ومشتمل على محتمل ان لم يكن مظنون بل مقطوع المدخلية وهو القريب لمذاق الشارع بل المطابق للآيات والروايات، وهو القدر المتيقن الحقيقي له وهو ان تكون الولاية للفقيه بشرط قبول سائر الفقهاء، وبشرط مصادقتهم على أحكامه أو مصادقة أكثريتهم، بل الأكثر فلا شك ان هذا اتقن وانجح؛ من تحمّل فقيه واحد لتشخيص الشؤون العامة ومصالح البلاد
بل القدر المتيقن هو شورى الفقهاء
بل القدر الأكثر تيقناً منه هو (شورى الفقهاء والمراجع) فانه المطابق لآية الشورى ولأنه أقوى في استقرار البلاد والأقرب للإصابة ولأن مجموعة الفقهاء هم مراجع للامة لا أحدهم.
وبعبارة أخرى: ان ذلك هو القدر المتيقن الحقيقي بعد ملاحظة آية الشورى، فانها تصنع القدر المتيقن الحقيقي لولاية الفقيه، إذ يقول تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([20]) ولا شك ان الشؤون العامة هي أمر من الأمور بل هي أجلاها وأظهرها، فلو صرنا إلى ان القدر المتيقن هو الفقيه، والآخرون ايضا فقهاء جامعون للشرائط، فالقدر المتيقن هو ولايتهم جميعاً ثم المرتبة اللاحقة من القدر المتيقن هي ولايته لو ضمت إليه آراء سائر الفقهاء.
والحاصل: ان القدر المتيقن ينتج ولاية شورى الفقهاء جميعاً ثم عند الاختلاف فان القدر المتيقن اللاحق هو ولاية اكثرية الفقهاء.
الاستدلال بفطرية وعرفية شورى الفقهاء
وكان السيد الوالد يمثل لذلك بمثال فطري عرفي لطيف وهو اننا لو فرضنا ان امير المؤمنين (عليه السلام) ابان حكومته الظاهرية ارسل - مثلاً -كلاً من سلمان وعمار ومقداد وأبي ذر حكاما على الكوفة دون ان يحدد لكل منهم مساحة جغرافية خاصة أو حقلاً وجانباً خاصاً بل أطلق كونهم حكاماً على الكوفة، فهل يمكن لأحدهم ان يستبد بالأمر دون الاخريين؟ كلا؛ فان فان مقتضى القاعدة هو ان يتداولوا ويحكموا بالشورى وهو ظاهر الإطلاق ومع عدم وجوده فهو القدر المتيقن.
ظاهر إطلاقات روايات ولاية الفقيه
ونستطرد هنا بالرجوع إلى ظاهر الإطلاقات فان قوله (عليه السلام): "وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا" ظاهر في الإرجاع إلى مجموعهم وليس الى راوٍ بعينه فكيف يستبد أحدهم بالأمر ويمنع الآخرين عن إبداء الرأي أو إعمال الولاية مادام دليل النصب عاماً شاملاً لهم جميعاً بوزان واحد؟.
وبعبارة أخرى: المجموع في مقابل المجموع وليس الجميع في مقابل أحدهم فقط ففي كل شأن فردي كل ومرجعه، اما فيما يرتبط بالمجموع أي مجموع الامة فينبغي ان يكون الرجوع الى مجموع المراجع.
والحاصل: ان معنى "وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ" هو كل حادثة واقعة ومنها الشؤون العامة التي تمس مجموع الامة بناءً على تعميم هذه الرواية للشؤون العامة كما هو المستند للقائلين بولاية الفقيه "فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا" أي الى مجموع العلماء والفقهاء فان الجمع المضاف يفيد العموم.. وقد تطرقنا إلى تفصيل ذلك والأخذ والرد عليه وغيره في كتاب شورى الفقهاء فليراجع.
وعوداً إلى الشورية والاستبداد نقول:
كلام صاحب القوانين والقزويني عن استبداد المجتهد
لذلك نجد ان صاحب القوانين وهو الفحل الضرغام وليث الآجام في الفقه والاصول يقول في بحث مشابه وهو مبحث الاجتهاد، والذي يجري نظيره في المقام وهي الولاية بل هي أولى بذلك، يقول متحدثاً عن شروط الاجتهاد([21]):
ومنها: ان لا يكون مستبدا بالرأي في حال قصوره (في بداية اجتهاده) بل في حال كماله ايضا (حتى ولو وصل الى مقام الشيخ الانصاري!) فان الجهل جِبِلّة الانسان والغفلة والسهو كالطبيعة الثانية له!.
وهذا الكلام كما قلنا عن المجتهد في الفتوى فكيف بولي الفقيه؟ فان الحوادث الواقعة متشابكة ذات أبعاد مختلفة وترتهن بها الدماء والأعراض والأنفس والأموال، والكثير من الوقائع ترتبط بالسياسة الدولية وهي امر خطير ومعقد وخفي الجوانب.
وقال السيد مهدي القزويني في كتاب (الاستعداد لتحصيل ملكة الاجتهاد): (الثالث: أن لا يكون في حال قصوره مستبداً برأيه يستطيل على أقرانه ويدّعي التفوّق على علماء زمانه، أخذ جهلاً من جهّال ولفّق من رأيه باطلاً من ضلال، ويدّعي الوصول بغير محصول، فيعترض على المجتهدين ويطعن على أرباب الدين، ويُحبُّ أن يشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا من غير تأمل بأنه قاصر عن الوصول إلى تلك المراتب العلية، وإدراك تلك الأنوار السنيّة، فهو من علمه على مثل نسج العنكبوت كلما رام التخلّص من مقام وقع في أشدّ الانتقام).([22])
فاللازم على المجتهد بل للولي الذي يرتأي الولاية استناداً للقدر المتيقن بل اعتماداً على أي دليل كان من الادلة، ان يكثر من مفاوضة العلماء والفقهاء والجلوس اليهم والمشورة معهم والاستماع للآخرين لانه يريد ان يشخص الحادثة الواقعة التي تعم ربما الملايين من الشيعة والمسلمين الاخرين ايضا، فعندئذٍ يكون هو القدر المتيقن من الولاية، وإلا فلا ولاية له.
ب – القدر المتيقن من الولاة ينتج القدر المتيقن من الولايات
لو كان المستند هو القدر المتيقن من (الولاة)([23])، لكانت النتيجة الطبيعية لذلك هي القدر المتيقن من الولايات.
لان الدليل لبي وليس لفظيا لنتمسك بإطلاقه.. فكلما كان هناك إخلال حقيقي بالنظام بحيث يؤدي عدم التدخل الى هرج ومرج فهنا اضطرارا يتدخل الفقيه وما عدا ذلك ــ وهو المساحة الاكثر ـ وهو الذي تُعمل فيه الحكومات ارادتها في مختلف القضايا، فلا.
وهذا ما لا يلتزم به القائل بولاية الفقيه([24]) والذي يريد ان يؤسس حكومة اسلامية على ضوء ذلك إذ انه لا يلتزم في الشؤون الاجتماعية والشؤون الاقتصادية والشؤون السياسية وكافة الشؤون بمجرد القدر المتيقن المسلم الذي لولا تدخله واعمال ولايته لأخل ذلك بالنظام، بل يعمم الولاية إلى كافة مناحي الحياة ويرى الولاية هي للولي الفقيه حتى على ما تقرره القوة التنفيذية المنتخبة من الناس بل وحتى – حسب فقههم الاجتهادي – على ما يقننه البرلمان.
ج - القدر المتيقن: من جمع شروطاً كثيرة
هذا كله إضافة إلى ان القدر المتيقن من الولي الفقيه هو من جمع مواصفات أخرى أيضاً وقد ذكر بعضها صاحب القوانين بقوله:
عدم اعوجاج السليقة
ومنها([25]): عدم اعوجاج السليقة (فالمجتهد ينبغي ان لايكون معوج السليقة حسب راي صاحب القوانين فاذا كان معوج السليقة فلا يجوز تقليده فكيف يمكن الرجوع اليه في الشؤون العامة؟)
ان لا يكون جربزيا
ومنها: ان لا يكون جربزيا لا يقف ذهنه على شيء ولا بليدا لا يتفطن بالدقائق ويميل لكل ناطق حي..
ان لا يكون جريئا
ومنها: ان لا يكون جريئا في الفتوى غاية الجرأة ولا مفرطا في الاحتياط فإنّ الأوّل يهدم المذهب والدّين، والثاني لا يهدي إلى سواء الطريق ولا يقضي حاجة المسلمين، بل ربّما يشوّه الدِّين ويشوّش الشّرع المبين)([26]) فان البعض اذا قلت له ان الاجماع قائم على كذا، استخف به وقال: لا قيمة للإجماع... مع ان العقل والعقلاء يقضيان بان لا يستهين احد بآراء مجموع الفقهاء على مر التاريخ.
نعم من فتش عن الادلة واتضح له الامر وضوحا تاماً لا مجال للريب فيه، فانه يستند الى ما توصل اليه دون من ظن حسب ظواهر الأدلة فقط، ومع ذلك فعليه ان لا يستهين بالاجماع لانه اجماع، مع انه على الأقل يحتمل كونه كاشفاً عن رأي المعصوم (عليه السلام) بل ومما يحدس منه العقلاء بذلك فالأولى حينئذٍ الاحتياط.
والغريب انك تجد البعض يتبجح بمخالفة المشهور والإجماع، مع انه موهن وهو منقصة ان لم يكن هنالك وضوح في الرؤية يشارف اليقين.
ولذا نجد الفطاحل من الفقهاء اذا رأوا أدلتهم تقودهم الى مخالفة الاجماع فانهم حينئذٍ يحتاطون في الفتوى ولايخالفون الاجماع بالمرة.
ان لا يكون مكثرا من التوجيه والتأويل
وقال صاحب القوانين: ومنها: ان لا يكثر من التوجيه والتأويل، ولا يعوّد نفسه بذلك، فإنه ربما يجعل بذلك الاحتمال البعيد من الظواهر لأُنسه بذلك، فان للأنس بكل طريقة أثراً بيّناً في إزلال الذهن وإضلال الفكر عن الصراط السوي، ومن جملة ذلك الأنس بطريقة الحكمة والرياضي والنحو وغير ذلك، فإنّ طريقة فهم هذه العلوم مباينة لفهم الفقه، فربّما رأينا بعضهم يقول في القدح في بعض الأدلة الفقهية: يحتمل أن يكون المراد منه كذا، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال، وأنت خبير بأن الفقه أكثره ظني وأدلتها ظنية.
ومعنى الظن قيام الاحتمال، فبذلك لا ينتظم أساس فقه هؤلاء لتكثيرهم الاحتمال وإبطالهم الاستدلال.
ان لا يكون بحاثاً يحب البحث
ومنها: أن لا يكون بحّاثاً يحب البحث، وذلك المرض قد يكون طبيعياً كالعقارب المجبولة على حب اللسع، وقد يكون لحب الرئاسة وإظهار الفضيلة، فمثل هذا الشخص لا يرجى له الاستقامة على الحق، وإياك والمكالمة مع مثله، واستعذ بالله من خلقه إلا ان تظن إمكان إرشاده إلى الحق وردعه عن ذلك المنكر، ويقرب من ذلك كونه لجوجاً عنوداً.
ونحن رأينا كثيراً من صلحاء العلماء مبتلى بهذا المرض، فإذا تكلم بشيء في بادئ النظر غفلة أو لأجل شبهة سبقت إليه، فيلجّ ويكابر ويصادر بالمطلوب، وربّما يتمسك بما هو أوهن من بيت العنكبوت، إما من جهة خروجه عن الحالة الطبيعية المدركة إلى مقتضى حالته الأخرى المنكرة، أو للعناد والخوف عن خمود الذِّكر)([27]).
كما ذكر السيد مهدي القزويني في كتابه (الاستعداد لتحصيل ملكة الاجتهاد) والذي تصدى للمرجعية بعد الشيخ الانصاري كلاما يقرب مما ذكره صاحب القوانين، وقد تحدث في كتابه عن شروط المجتهد الجامع للشرائط (والتي نقول ان من جمع هذه الشروط فانه فقط القدر المتيقن مِن مَن له الولاية) فقال:
ان يناظر العلماء دوما
(الشرط السادس: مناظرة العلماء والمباحثة مع أرباب العلم) قال (يشترط في الاستعداد وتحصيله مناظرة العلماء وكثرة المباحثة مع أرباب العلم من القرناء والاساتيذ والفضلاء، فإنّ ذلك من جملة موازين الفكر والنظر، ومعرفة الصحيح منها والفاسد، والإصابة والخطأ)([28]).
فلا يكون للفقيه لو جمع كل الشرائط المعهودة وليا بناءً على مسلك القدر المتيقن الا لو جمع هذه الشروط ايضا، بل بناءً على الاطلاقات للانصراف في بعضها كما فصلناه في محله ولعله يأتي بيانه.
ان يعرف الآيات الافاقية والانفسية
وقال: (الشرط الخامس عشر: معرفة الآيات الافاقية والانفسية
(يشترط في الاستعداد([29]) الاحاطة بمعرفة الآيات الافاقية والانفسية المترتب عليها بعض الاحكام الشرعية قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)([30])فان الاستدلال بايات الافاق والانفس لا يختص بالمعارف الالهية...)
اقول: فكيف بالأمور المترتب عليها تشخيص الشأن العام المرتبط بعشرات الملايين من الشيعة ان لم يكن بمئات الملايين؟
ان يكون محيطاً بسيرة المسلمين
ثم يقول (الشرط السادس عشر: الإحاطة بسيرة المسلمين) (يشترط في الاستعداد الإحاطة بسيرة المسلمين وسيرة الإمامية من أرباب الشريعة والمتشرّعة بالنظر إلى الأحكام التشريعية من عبادات ومعاملات وعقود وأحكام، وما عليه الغالب من العقلاء والمتدينين وسيرتهم في الأفعال والأقوال من المتعبدين والملازمين للمساجد والجماعات والوعظ والتذكيرات والإرشادات والمطاعم والمشارب والمبايعات والتجارات والإجارات والزراعات والمشاركات والمباضعات والأمانات والمضاربات والوكالات والمناكحات والمفارقات والمملوكات والعصبيّات والمواريث والحدود والديّات، وما يتعلّق بالسياسات والعادات)([31]).
وعليه: يجب ان يكون الولي الفقيه محيطا بسيرة المسلمين فضلا عن الاعلمية على الفقهاء المعاصرين؛ لان للإحاطة بالسيرة كمال المدخلية في تشخيص الموضوعات فان أحوال الشؤون العامة كالأحكام الشرعية كثيرا ما تفهم عبر السيرة أي سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي وسائر المعصومين (عليهم السلام) بل وسيرة علماءنا الأبرار في الجملة.
ان يكون عارفاً بطبع الفقاهة
وقال: (الشرط التاسع عشر: معرفة طبع الفقاهة ومذاقها): (يشترط في الاستعداد معرفة طبع الفقاهة ومذاقها وهو معرفة مذاق الشارع في مشروعيّة الأحكام لابتناء مشروعيّة الأحكام عند الشارع على أساسات هي العلة العظمى في مشروعيتها من: سهولة الشريعة والمسامحة فيها، ورفع ما يلزم منه العسر والحرج، وما يلزم منه الضرر والرغبة في العبادات ووجوه الطاعات وأنواع القربات ورفع ما يلزم الإكراه وعدم القصد والاختيار لتحصيل الثواب وابتناء شرع العقود والإيقاعات والأحكام على قطع الخصومات ورفع المنازعات، وإيضاح ما يقع فيه الاشتباه والوقوع بالشبهات ومزج المحرمات بالمحلّلات من الأموال وخلط الأنساب من المناكحات والمفارقات، كحكمه بعصمة الفروج ولزوم الاحتياط بها، وإحكام أمر العدّة بأقسامها في المفارقات بأدنى إشتباه، واستبراء الأرحام في طلاق أو خلع أو بيع أو شراء أو صلح، وامتزاج المواليد بتقدير مدّة الحمل وأمور المواريث وحرمة الدماء وابتناء الشرع فيها على الحقن والحفظ، كما في درء الحدود والقصاص بأدنى شبهة وعسر مشروعية الاحتياط في الماليات لصعوبته على النفوس وعدم القدرة والتمكن منها غالباً)([32]).
ثم يذكر (قدس سره) شروطاً كثيرة:
ان يكون مستقيماً
منها: الاستقامة: (يشترط في المستعدّ الاستقامة. قال الله عز وجل: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)([33])، وقال تعالى: (أَوْفُوا الْكَيْلَ)([34]) (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ)، وقال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)([35])، وقال تعالى: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)([36])، وقال تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)([37])، وقال تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)([38])، وقال تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)([39])، وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)([40]).
والمراد بها النمط الأوسط بين الإفراط والتفريط. وقد أشار في الكتاب العزيز إلى هذا الصراط بقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)([41])، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)([42])، وقال: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)([43])، وقال: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)([44])
ان يكون ممن ينظر إلى ما قال
(ومنها: والنظر الى ما قيل لا الى من قال) فحتى لو كان المجتهد الاخر عدواً له فان عليه ان ينظر الى ما قال لا الى جهة عدواته.
ان لا يكون متوغلاً بالفلسفة وشبهها
وقال: (الثامن: أن لا يكون مدة عمره متوغلاً بالعلوم الكلامية والحكمية والرياضية والطبيعية، وغير ذلك من العلوم ممّا كان على غير طريقة الفقهاء بحيث يلتزم بتخريج الأحكام الشرعية على الدقائق الحكميّة والأمور الخفية ويخرجها عن مجاري الأمور اللغوية والعرفية والعادية، فيخرج فقهاً آخر خارجاً عن الشريعة المحمدية والطريقة المثلى الأحمديّة.
التاسع: أن لا يكون له أنس بالتوجيه والتأويل وتكثير الاحتمالات في الآيات والروايات إلى حدّ تصير عنده المؤولات كالظواهر، والمعاني الخفية أظهر من كل ظاهر. والشريعة ليست مبنية على الباطن والتأويل إلا ما اقتضاه العقل أو دلّ عليه الدليل.
ان لا يكون كثير التشكيك
العاشر: أن لا يكون كثير الشك والتشكيك بكل حكم أو دليل، بحيث تكون عنده أكثر الضروريات نظريات لزعمه أن ذلك من قوة النظر، وجودة البصيرة والبصر، فيجهل الحق وتكون مجهولاته أكثر من معلوماته، فلا يصل إلى حقيقة مطلب في ذاته مع أنّه يدخل في عموم قوله تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)([45])، وربما يصل إلى حدّ الكفر لإنكار بعض الضروريات)([46]).
ان لا يكون سريع الانكار
وقال: (الرابع عشر: أن لا يكون سريع الانكار إلى ما لا يصل إليه فهمه أو يدركه عقله فيحكم بكذبه إن كان رواية، وببطلانه إن كان قولاً أو دراية. كيف، وقد قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)، وقال أمير المؤمنين: "فإنّ أكثر الحق فيما لا تعلمون، وأكثر المعروف فيما تنكرون). وروى ثقة الإسلام في الكافي عن أبي عبيدة، قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: "والله إنّ أحبّ أصحابي إليَّ وأورعهم وأفقههم أكتمهم لحديثنا".
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: "إِذَا سَمِعْتُمْ مِنْ حَدِيثِنَا مَا لَا تَعْرِفُونَهُ فَرُدُّوهُ إِلَيْنَا وَقِفُوا عِنْدَهُ وَسَلِّمُوا إِذَا تَبَيَّنَ لَكُمُ الْحَق"([47]).
وعن أحد الصادقين (عليهما السلام) قال: "لَا تُكَذِّبُوا بِحَدِيثٍ أَتَاكُمْ بِهِ مُرْجِئِيٌّ وَلَا قَدَرِيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ نَسَبَهُ إِلَيْنَا فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَقِّ فَتُكَذِّبُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوْقَ عَرْشِه"([48]).
وفي آخر قال: "نَسْأَلُكَ عَنِ الْعِلْمِ الْمَنْقُولِ إِلَيْنَا عَنْ آبَائِكَ وَأَجْدَادِكَ قَدِ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِيهِ كَيْفَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى اخْتِلَافِهِ إِذَا نَرُدُّ إِلَيْكَ فَقَدْ اخْتُلِفَ فِيهِ فَكَتَبَ وَقَرَأْتُهُ مَا عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قَوْلُنَا فَالْزَمُوهُ وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَرُدُّوهُ إِلَيْنَا"([49]).
وفي آخر عن الباقر (عليه السلام) قال: "أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ أَحَبَّ أَصْحَابِي إِلَيَّ أَوْرَعُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَأَكْتَمُهُمْ بِحَدِيثِنَا وَإِنَّ أَسْوَأَهُمْ عِنْدِي حَالًا وَأَمْقَتَهُمْ إِلَيَّ الَّذِي إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يُنْسَبُ إِلَيْنَا وَيُرْوَى عَنَّا فَلَمْ يَعْقِلْهُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ قَلْبُهُ اشْمَأَزَّ مِنْهُ وَجَحَدَهُ وَكَفَرَ بِمَنْ دَانَ بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الْحَدِيثَ مِنْ عِنْدِنَا خَرَجَ وَإِلَيْنَا أُسْنِدَ فَيَكُونَ بِذَلِكَ خَارِجاً مِنْ وَلَايَتِنَا"([50]).
وفي آخر عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: "قَالَ إِنَّ اللَّهَ خَصَّ عِبَادَهُ بِآيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ أَنْ لَا يَقُولُوا حَتَّى يَعْلَمُوا وَلَا يَرُدُّوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)([51]) وَقَالَ تعالى: (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ)([52](([53])"
ان لا يكون همه جلب الاعتبار
ومنها: عدم الرغبة في الشيء لجلب الاعتبار، (يشترط في المستعدّ عدم الرغبة في الشيء، إما لجلب جاه واعتبار، وذلك أنه يُفتي بما إليه نفوس العامة أميل في تحليل لباس بعض الحرير واستعمال بعض أواني الذهب والفضة والمآكل اللذيذة، وإن كان فيها شبهة التحريم لأجل أن يجلب وجوه العامة إليه مع الفتوى والتقليد وإن لم يكن له في نفسه ميل وحب للشيء لتلك الغايات، (نعوذ بالله من ذلك) وإما لكون الشيء أو الحكم أسهل وأخف في التكليف فيكون بذلك صرف وجوه الناس إليه فهو كما قال الإمام (عليه السلام): "وَلِحَلْوَائِهِمْ هَاضِمٌ وَلِدِينِهِ حَاطِم"([54])
وهو يتخيل مع ذلك لضعف نفسه وفساد طبيعته واتباعه لهواه أن الدليل ساقه إلى الحكم به ومنعه من غيره، أو أنه يرى ضعف دليل المقابل المخالف لرغبته.
وهذا من أعظم مصائد إبليس اللعين للفقهاء الغير المتنبهين لدقائق الاستعداد والإرشاد، فتأمل)([55]).
ان لا يكون ممن يأخذ بالآراء الشاذة
ومنها: عدم الاخذ بالأقوال الشاذة والمذاهب النادرة، يشترط في المستعدّ عدم التعوّد للأخذ بالأقوال الشاذّة والمذاهب النادرة، بحيث يكون القصد منه إظهار المخالفة للفقهاء المحقّقين، إما لبيان أن الاقتحام بالفتوى بخلافهم من جهة وصوله وقصورهم، فإنّ هذا باب بيّن الفساد بنسبة الخطأ إلى الأفهام المتعددة والآراء المجتمعة مع افتراقها في الأعصار والأمصار واتفاقها بالاتفاق، وعدم نسبة الخطأ إلى نفسه والقصور إلى رأيه.
نعم قد يتفق الخطأ مع المشهور لخطأ في فهم الدليل لشاهدٍ من الأدلة غير عليل، فيجوز الانفراد إذ لا وحشة مع الحق وإن انفرد عن الخلق، والمؤمن وحده جماعة. وهذا بخلاف ما لو اتخذه عادةً، فإنه يلزم منه أن يُخرج فقهاً آخر لآلِ محمد غير معروف عند شيعتهم.
وإما أن يكون قصد المخالفة لحبّ الاشتهار حتى تشخص إليه الأبصار ويذكر خلافه في الأعصار والأمصار، وفي المثل المعروف: (خالف تُعرف)، ولم يعلم الفقير أن هذا الاشتهار يُسبب الإنكار، فهو وإن عُرف شخصُه فقد أنكر العلماء عقله وفضله. فيجب على المستعدّ المحافظة من الوقوع في أمثال هذا الأشراك والمصائد ليقاد إليه الاستعداد بغير قائد، فتأمل)([56]).
ان يكون كامل العقل
ومنها: كمال العقل وهذا من اصعب الشروط قال: (والمراد من كماله ما كملت به جنوده من أفعال الطاعات وترك المحرمات وما لا يرتكب المستعدّ خلاف ما أدركه من حسن أو قبح أو نفع أو ضرر دنيا وآخرة عمداً، أو الذي لا يرتكب معه ما يرتكبه الجاهل من الأمور الغير الشرعية.
وفي النهج قال (عليه السلام): "كَفَاكَ مِنْ عَقْلِكَ مَا أَوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيِّكَ مِنْ رُشْدِك"([57]). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إِنَّ الْعَاقِلَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَإِنْ كَانَ ذَمِيمَ الْمَنْظَرِ حَقِيرَ الْخَطَرِ وَإِنَّ الْجَاهِلَ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَإِنْ كَانَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ عَظِيمَ الْخَطَر"([58]) وقال (عليه السلام): "هِمَّةُ الْعَاقِلِ تَرْكُ الذُّنُوبِ وَإِصْلَاحُ الْعُيُوب"([59])، وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: "سَيِّدُ الْأَعْمَالِ فِي الدَّارَيْنِ الْعَقْل"([60])، "لِكُلِّ شَيْءٍ دِعَامَةٌ وَدِعَامَةُ الْمُؤْمِنِ عَقْلُهُ فَبِقَدْرِ عَقْلِهِ تَكُونُ عِبَادَتُهُ لِرَبِّه"([61]). وقال (عليه السلام): "اسْتَرْشِدُوا الْعَقْلَ تُرْشَدُوا وَلَا تَعْصُوهُ فَتَنْدَمُوا"([62]).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): "لِكُلِّ شَيْءٍ آلَةٌ وَعُدَّةٌ وَآلَةُ الْمُؤْمِنِ وَعُدَّتُهُ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ تَاجِرٍ بِضَاعَةٌ وَبِضَاعَةُ الْمُجْتَهِدِينَ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ خَرَابٍ عِمَارَةٌ وَعِمَارَةُ الْآخِرَةِ الْعَقْلُ، وَلِكُلِّ سَفَرٍ فُسْطَاطٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ وَفُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ الْعَقْل" ([63]).
ان يقول الحق ويعمل به
ومنها: (أن يقول بالحق ويعمل عليه ويفتي به وإن ثقل التكليف به على نفسه أو على غيره، حسب ما ساقه الدليل إليه وعوّل من الاجتهاد بعد استفراغ الوسع التام عليه.
فإن الحق حقيق بأن يتبع، (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ)([64])، وقال تعالى: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى)([65])، وقال تعالى: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ)([66])، وقال (عليه السلام): "أليس يحدثكم عني قال: قلتُ بلى بعد قوله يأتينا بالعظيم فتضيق صدورنا).
وقال (عليه السلام): في مدح علماء الدين: (وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُون)([67])، وقال (عليه السلام): في ذم علماء السوء: (يهون عليهم الجرائم ويصغر لديهم العظائم).
إلا أن يكون ذلك مما ينافي أدلة العسر والحرج بحيث تلزم منه المشقة التامة والكلفة العامة.
وأما مثل وجوب التسبيحات الثلاث في الأخيرتين أو الاكتفاء بواحدة، فإن الأوّل أثقل، وإن لم يلزم به العسر والحرج. ومثله الغسل من النجاسة مرتين أو الاكتفاء بالمرة الواحدة فإنه وإن ثقل العمل بالأكثر إلا أنه لا مانع منه. وهكذا ينبغي التأمل التام في كل مقام)([68]).
والحاصل: ان الولي الفقيه ينبغي بل يجب حسب مسلك القدر المتيقن([69]) ان يكون الاورع والاعلم والاتقى وان يكون كامل العقل بل اكمل القوم عقلا.
صفوة الكلام
ختاماً:
وعوداً إلى الآية الكريمة التي صدرنا بها البحث نقول:
ان الدعوة الى الله تكون أ- نظريا عبر الدعوة الى العمل بالآيات القرآنية الحيوية ومنها آيات الشورى المهملة في مجتمعاتنا الا ما شذ وندر.
وتكون ب- عملياً عبر التجسيد العملي لهذه الآيات القرآنية الكريمة، في الحياة العائلية والاجتماعية فكيف بالسياسية وغيرها.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق