القرآن الكريم يضع أسسًا معرفيةً متوازنةً تمنح الإنسان منهجًا واضحًا لفهم ذاته وربه والكون، دون إغفالٍ لجوانب الروح أو العقل أو المادة. إنه يدعو إلى معرفةٍ لا تنفصل عن القيم، وعلمٍ لا يتعالى على الأخلاق، وعقلٍ لا يستغني عن الهدى الإلهي. وفي عصرٍ طغت فيه الماديةُ وتشظت فيه المعارف، تظل الرؤية القرآنية التكاملية منارةً للإنسانية نحو معرفةٍ شاملةٍ...
القرآن الكريم ليس مجرد كتابٌ دينيٌ يُتلى للتبرك أو العبادة فحسب، بل هو منهجٌ شاملٌ يقدم رؤيةً عميقةً لطبيعة المعرفة الإنسانية ومصادرها، ويؤسس لقواعد فهم الوجود والإنسان والحياة. فمنذ نزوله قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا، مثّل القرآن مرجعيةً معرفيةً عابرةً للزمان والمكان، تطرح إجاباتٍ على الأسئلة الوجودية الكبرى، وتفتح آفاقًا للتفكير النقدي والاكتشاف العلمي، مع الحفاظ على التوازن بين العقل والوحي، والمادة والروح. فكيف يشكّل القرآن الأسس المعرفية للإنسان؟ وما الركائز التي يقدمها لبناء عقلٍ متكاملٍ وفعّالٍ؟
الوحي كمصدرٍ أصيلٍ للمعرفة
يؤكد القرآن أن الوحي الإلهي هو المصدر الأول للمعرفة اليقينية، التي تُرشد الإنسان إلى حقائق لا يستطيع العقل البشري الوصول إليها بمفرده، كالغيبيات وأسرار الخلق والغاية من الوجود. يقول الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: ٢). فالقرآن يقدم "خريطة طريق" معرفيةً تُصحح مسار العقل البشري، الذي قد يضل في متاهات الظن أو المادية البحتة. لكن هذا لا يعني إلغاء دور العقل، بل تفعيله ضمن إطارٍ مرجعيٍّ يحميه من التناقض.
دعوةٌ للتفكر والاستدلال
يوجه القرآن الإنسان مرارًا إلى استخدام عقله في تأمل الآيات الكونية والاستدلال بها على وجود الخالق وحكمته، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: ١٩٠). وهنا تبرز فلسفة قرآنية فريدة تجمع بين الإيمان والعلم؛ فالتفكر في الكون ليس نشاطًا ماديًّا فحسب، بل هو عبادةٌ تُقرّب الإنسان إلى الله. كما أن القرآن ينتقد الجمود الفكري ويذمّ الذين يتبعون الآباء بلا وعي: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ (الأنبياء: ٥٢)، داعيًا إلى تحرير العقل من التقليد الأعمى.
البعد القيمي في المنظور القرآني
لا تنفصل المعرفة في القرآن عن البعد الأخلاقي؛ فالعلم الحقيقي هو ما يُترجم إلى عدلٍ وإحسانٍ وتقوى. يُعرِّف القرآنُ الحكمةَ بأنها ﴿مَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: ٢٦٩)، والحكمة هنا تشمل الفهم العميق والفعل الصالح. كما يربط بين العلم والخشية من الله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (فاطر: ٢٨)، ليؤكد أن المعرفة التي لا تُنتج وعيًا أخلاقيًّا وروحيًّا هي معرفةٌ ناقصةٌ.
تجاوز الثنائيات الضيقة
يقدم القرآن نموذجًا تكامليًّا يجمع بين مصادر المعرفة المتنوعة (الوحي، العقل، الحواس، القلب) دون تضاد. ففي الوقت الذي يحترم فيه الاكتشافات العلمية، يرفض اختزال الحقيقة في المادة وحدها، ويذكر الإنسان بأن قدراته المعرفية محدودةٌ: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: ٨٥). كما يرفض الصراع التاريخي بين الدين والعلم الذي عانت منه الحضارة الغربية، مؤكدًا أن الوحي والعلم جناحان للحقيقة.
القرآن الكريم يضع أسسًا معرفيةً متوازنةً تمنح الإنسان منهجًا واضحًا لفهم ذاته وربه والكون، دون إغفالٍ لجوانب الروح أو العقل أو المادة. إنه يدعو إلى معرفةٍ لا تنفصل عن القيم، وعلمٍ لا يتعالى على الأخلاق، وعقلٍ لا يستغني عن الهدى الإلهي. وفي عصرٍ طغت فيه الماديةُ وتشظت فيه المعارف، تظل الرؤية القرآنية التكاملية منارةً للإنسانية نحو معرفةٍ شاملةٍ تُعيد للعلم روحه، وللإنسان توازنه.
اضف تعليق