الأنبياء أُرسلوا إلى القرى من أجل إصلاحها، وهذه القرى لم تكن جميعها مؤمنة، المجرمون في هذه القرى كانوا يشكلون العائق الرئيسي أمام الدعوات الإلهية، وكانوا يحاولون إفساد المجتمع بمختلف الوسائل، القرآن في هذه الآية يتحدث عن التفاعلات الاجتماعية والدينية في تلك المجتمعات حيث كانت القيادات الفاسدة تتآمر ضد الرسالات الإلهية...
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. الانعام ١٢٣
ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ. الانعام ١٣١
تتحدث الاية، وهناك ايات اخرى مشابهة، عن "القرى" وهي التجمعات السكانية الزراعية التي نشأت في الارض بعد انتهاء العصر الجليدي الاخير، تتحدث الاية عن القرى الابتدائية التي ظهرت في مناطق متعددة من بلاد ما بين النهرين (العراق والشام الكبرى ومناطق من تركيا) وغيرها من المناطق بعد اكتشاف الإنسان للزراعة وتحوله الى زراعة الارض بدل البحث عن الطعام في ارجائها. ولا يبدو ان الملكية الخاصة للارض قد ظهرت في البداية. لكن الانسان كان يملك ثمار ما يزرعه طعاما لأبنائه وزوجته او زوجاته.
سياسيا، كانت هذه القرى تدير شؤونها بنفسها، بطريقة اشبه ما تكون بالديمقراطية المباشرة التي طبقت في اثينا في عصور لاحقة.
وقد حكى القران عن حالة هذا التجمعات البشرية في قوله تعالى:"اني جاعل في الارض خليفة"، بمعنى ان الله استخلف هذه التجمعات في الارض. والاستخلاف هنا يعني تكليف الجماعات البشرية بادارة شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بنفسها، بطريقة جماعية، نظرا لصغر الحجم العددي لهذه القرى وبساطة حياتها.
دينيا، لا يبعد ان تكون هذه المجتمعات مؤمنة على الفطرة، والقران كثيرا ما يستخدم مصطلح "الفطرة" لتوصيف هذه الحالة. ولا يبعد ان يكون قد ظهر في هذه التجمعات انبياء يعلمون اهل هذه القرى ابجديات الايمان بالله، وتوحيده بالعبادة. بعض الدراسات تفترض العكس وترى ان تلك المجتمعات الابتدائية لم تكن تعرف الله وانها كانت اقرب الى الشرك او الالحاد.
وبسبب تفاوت امكانيات الافراد على صعيد الزراعة وظهور تفاوت في انتاجياتهم اخذ الافراد الاكثر انتاجا يحققون نفوذا اكثر من أقرانهم وتحولوا الى شيوخ يأمرون غيرهم. اخذ هؤلاء يمثلون نوعا من السلطة الاولية في القرى الزراعية. لا يمكن ان نفترض ان كل هؤلاء كانوا "مجرمين" بتعبير القران، لكن الاية تتحدث تحديدا عن "اكابر مجرميها"، وهم اشخاص ذوو نفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي كبير.
تشير الاية: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَبَارَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا"* (الأنعام: 123) إلى حالة من المكر والفساد التي كانت تحدث في المجتمعات القديمة، وفيها نجد عدة تساؤلات تتعلق بالأنبياء والمجتمعات في تلك القرى. فيما يلي احلل طبيعة تلك المجتمعات حسب رؤية القران الكريم:
1. هل كان يوجد أنبياء في هذه القرى؟
نعم، وفقًا للقرآن، كان في العديد من القرى أنبياء. فالقرآن يذكر أن الله أرسل رسله إلى مختلف الأمم والقرى، ومن بينها القرى التي وردت في الآية. وهم الانبياء الذين ظهروا قبل نوح بالدرجة الاولى. هؤلاء الأنبياء أُرسلوا لتحذير الناس من الفساد ولإرشادهم إلى الطريق المستقيم.
2. هل كان سكان القرى مؤمنين؟
الآية تلمح إلى أن بعض هذه المجتمعات لم تكن مؤمنة. بل كانت مجتمعات مشركة أو كافرة، حيث كان فيها مجرمون كبار يعارضون الدعوات النبوية ويعيقون مسار الإصلاح. هؤلاء "المجرمون الأكابر" كانوا قادة المجتمع أو النخبة التي كانت ترفض دعوة الأنبياء، وتُصر على الفساد والانحراف، مما جعل حياة الناس في تلك المجتمعات أكثر صعوبة. وبالتالي، كان هناك صراع بين الأنبياء والقيادات المفسدة في تلك القرى.
3. هل يتحدث القرآن عن الشؤون الدنيوية للقرى أم عن الشؤون الدينية؟
القرآن في هذه الآية لا يقتصر على الحديث عن الشؤون الدينية فقط، بل يربطها مباشرةً مع الشؤون الدنيوية. هناك بعد دنيوي في الآية يتعلق بوجود القيادات المفسدة التي تسعى إلى تدمير المجتمع بكل جوانبه، سواء كان ذلك من خلال إعاقة الأنبياء أو من خلال إفساد الأخلاق والظلم الاجتماعي. لكن في نفس الوقت، الأبعاد الدينية تلعب دورًا أساسيًا في توجيه هذه الآية، حيث يتحدث القرآن عن مقاومة الفساد الديني والعودة إلى الهدى الذي أتى به الأنبياء.
4. ما هو المكر الذي قام به أكابر المجرمين في تلك القرى؟
- المكر في هذه الآية يشير إلى الخطط الخبيثة التي كان يحيكها القادة الفاسدون (أكابر المجرمين) ل إيقاف الدعوات الإلهية التي جاء بها الأنبياء. قد يتضمن هذا المكر عدة أوجه، منها:
- تحدي دعوة الأنبياء: كان هؤلاء المجرمون يسعون إلى إغلاق آذان الناس عن سماع الدعوة الإلهية ويمنعونهم من الاستماع إلى الأنبياء.
- الإفساد في الأرض: كان هؤلاء القادة يسعون إلى تشويه الحقائق و إشاعة الفساد في المجتمع من خلال نشر الفتن أو الظلم أو الاستبداد.
- تحريف الدين: بعض المفسدين كانوا يروجون لأفكار بعيدة عن الرسالة الإلهية الحقيقية لتضليل الناس وإبعادهم عن الطريق الصحيح.
- الاضطهاد والتعذيب: في بعض الأحيان، كانوا يظلمون الأنبياء وأتباعهم كما حدث مع نوح و إبراهيم و موسى ويكذبونهم ويسجنونهم.
إذن، "المكر" هنا هو مكر سياسي واجتماعي وديني يتجسد في إعاقة التغيير و الإصلاح، وزرع الفتنة داخل المجتمعات من خلال نشر الانحرافات في العقيدة وفي المجتمع بشكل عام.
5. تقول الاية:"وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ". وتشير هذه الكلمات القليلة الى حقيقة اجتماعية كبيرة وهي ان مكر المجرمين الكبار سوف ينعكس سلبيا عليهم وعلى مجتمعاتهم. ذلك ان الفساد والظلم والانحراف كلها عوامل تنخر المجتمع من داخله الى ان يسقط. وبالتالي فان القضاء على كبار المجرمين يحمي المجتمع من السقوط بسبب مكر وفساد كبار المجرمين.
الخلاصة:
- الأنبياء أُرسلوا إلى القرى من أجل إصلاحها، وهذه القرى لم تكن جميعها مؤمنة.
- المجرمون في هذه القرى كانوا يشكلون العائق الرئيسي أمام الدعوات الإلهية، وكانوا يحاولون إفساد المجتمع بمختلف الوسائل.
- القرآن في هذه الآية يتحدث عن التفاعلات الاجتماعية والدينية في تلك المجتمعات حيث كانت القيادات الفاسدة تتآمر ضد الرسالات الإلهية وتعمل على إفساد الناس وإبعادهم عن الطريق الحق.
الآية إذًا ليست مجرد حديث عن دين أو دعوة دينية فقط، بل هي تحليل اجتماعي سياسي لفترة كان فيها الأنبياء في مواجهة قوية مع من كانوا يحكمون المجتمعات، وكان هؤلاء الحكام يرفضون الحق ويمكرون به.
لا يبعد ان يشير مصطلح "القرى" الى التجمعات الزراعية قبل ظهور المدن ودول المدن في وادي الرافدين.
اضف تعليق