إيمان المستشرقين بكون النسخ في القرآن مبنيًا على التدريج قد قادهم إلى الطعن بالقرآن الكريم والدين الإسلامي وإظهاره دين حرب وقتال من خلال نظرتهم إلى ظواهر النصّوص القرآنية التي تدعو للجهاد، فصّوروا الإسلام دين حرب لا دين سلام بسبب من رؤيتهم السطحية لظاهرة النصّوص الداعية إليه...

بحث المستشرقون في أمور إسلامية وعربية كثيرة، وكتبوا في ذلك الكثير حتى أصبحت بعض آرائهم تدرس في جامعاتنا ومعاهدنا، فقد كتبوا في التراث العربي والإسلامي، في التاريخ واللغة والقرآن والمذاهب والتيارات الإسلامية، ولم يكتفوا بدراسة العموميات، بل تعمقوا في دراسة أدق التفاصيل في العقيدة والشريعة، ومن الامور التي كان لهم فيها آراء هي الدراسات القرآنية، ومنها الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم.

 ومن الذين بحثوا في هذه القضايا المستشرق كولدزيهير وكان يعزو النسخ في القرآن إلى التطور الداخلي فيه، ويرى أنّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله) قد أُرغم واضطر إلى ذلك، فقال: (إنّ الرسول نفسه قد اضطر بسبب تطوره الداخلي الخاص وبحكم الظروف التي أحاطت به إلى تجاوز بعض الوحي القرآني إلى وحي جديد في الحقيقة، وإلى أن يعترف أنه يُنسخ بأمر الله ما سبق أن أوحاه إليه).

 فهو يشير إلى أنّ القرآن بيد محمد (صلى الله عليه وآله) يفعل به كيفما يشاء بحسب الظروف التي تحيطه فيشرّع ما يشرّع، وينسخ ما ينسخ، بعد أن يتجاوز الوحي الذي جاءه من قبل.

 من تداعيات هذا الرأي أنه كان يرى أنّ من الأوْلى أن يقع النسخ بعد النبي (صلى الله عليه وآله) عند توسّع الدولة الإسلامية واحتياجها إلى قوانين متطورة لتساير حركة التطور، فوسّع من النسخ إلى أبعد من دور العصمة النبوية، فيقول: (فإذا كان الأمر كذلك في عصر النبي، فمن الأوْلى أن يكون كذلك –بل أكثر من ذلك– عندما تجاوز الإسلام حدود البلاد العربية وتأهّب لكي يصير قوة دولية).

 وهذا التوجه في النسخ إنما ينطلق به من المنهج الذي يتبعه المستشرقون في دراسة التراث العربي الإسلامي بأدوات غربية، فمثل كولدزيهير وغيره لا يؤمنون بالوحي، لذا كان عليهم أن يجدوا ما يتلاءم مع مناهجهم فذهبوا في النسخ وفي غيره من علوم القرآن هذا المنهج الذي لا يتفق مع طبيعة الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية عمومًا.

 غير أنّ المنصفين من المستشرقين لا يروْن هذا الرأي بل حصروا مسألة النسخ بالعصر النبوي، قال المستشرق مايكل كوك: إنّ محتوى الوحي المنزّل عرضة للتغيير من عهد نبوي الى عهد نبوي آخر، وغير متجاوزٍ لعصر النبوة، بعد انقطاع الوحي، لأنّ أيَّ تغير أو نسخٍ في القرآن يُعدُّ تحريفًا، وأنّ ليس لأحدٍ فِعْلُ ذلك بعد النبوة.

 أمّا مونتجمري واط فكان يرى في النسخ أنّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ما كان ليُقحم آياتٍ من تأليفه في القرآن، وأنّه (صلى الله عليه وآله) كان يميّز بين ما يُوحى إليه وبين ما ينتجه عقله الواعي، وأمّا مفهوم النسخ عنده فهو تصويب للنص، قال: (وربما يكون قد حاول ـ أي النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ـ أن يُصوَّب النصّ إذا أحسَّ أنّ النصّ الموحى به يحتاج الى إصلاح)، وهذا مفهوم خاطئ للنسخ، لأنّ النصّ القرآني محفوظ بعناية الله سبحانه، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9)، لكنه فَهمَ النسخ بمعنى إصلاح الخلل، فيما أنّ الرؤية الإسلامية له أنّه إبدال حكم ثابت بحكم آخر، تبعًا للظروف التي أحاطت بالنصّ الحامل لذلك الحكم.

 فهو يتصوّر القرآن من تأليف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وهو وحده الذي يزيد أو ينقص أو يصحح به كيفما يشاء، ولا يرى أنه وحي من الله، لأنّ في عقيدته أنّ القرآن من صنع محمد (صلى الله عليه وآله)، وإنّ النبي عندما كان يصدر هذه التصحيحات والمراجعات ينسبها إلى الله تعالى ـ بحسب زعمه ـ وفضلًا عن ذلك كان رودنسون يرى أنّ مسألة النسخ في القرآن كانت بدافع مراعاة الضَعْف الذي يعتري البشر، فبالنسخ يخفّف عنهم الواجبات الملقاة عليهم فيكون ذلك بنسخ الأحكام وإحلال أحكام بدلها أخفّ منها.

 فيما يرى المستشرق (روبير برونشنج)، في دراساته الإسلامية إنّ النسخ ما كان إلاّ بسبب التناقض، ولأجل تجاوز التناقض في النصّوص القرآنية شُرِّع النسخ، والنسخ عنده (يعني رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخّر عن دليل ذلك الحكم)، غير أنّه كان يرى أنّ من الصعوبة قبول التغيير أو التبديل في القوانين الإلهية الصادرة عن الله المتّصف بالحكمة والخلود، وهذا مما يومئ إلى أنّ النسخ مما يتصف به عمل البشر في الأحكام الوضعية، وهذا الرأي مصدره من كونه يرى أنّ القرآن من تأليف النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لا من الله تعالى.

 فضلاً عن ذلك كان يجد في التناقض الذي يدّعيه في النصّ القرآني معنى التعارض بين الآيات القرآنية المُدّعَى فيها النسخ، وقد ألمحنا من قبل إلى الفرق بين المصطلحين.

 إذن، من مجمل ما قدّمنا من آراء بعض المستشرقين لقضية النسخ في القرآن الكريم نجد أنّهم قد عارضوا هذه القضية، ويرون أنّ ما قام به المسلمون في النسخ لم يلجؤوا إليه إلاّ لإزالة التعارض بين الآيات المتناقضة، مع علمنا أنهم لا يروْن فرقًا بين التعارض والتناقض كمصطلحين عاملين في البحث القرآني والفقهي، ثم أنهم لا يقرّون بحكمة النسخ، طبقًا للنظرية الإسلامية.

 ويُرجع الدكتور حسن حنفي ذلك إلى تشبث المستشرقين بالمناهج العلمية التي لا تقرّر في النهاية الإيمان بالوحي الإلهي من الناحية العقلية، وبيان ذلك أن النسخ في القرآن يدلّ على وجود الوحي في الزمان وتغيرّه طبقًا للأهلية، ومن هنا كان خطل الرأي الذي يتصوّر الوحي الإلهي خارج الزمان، والتشريع خارج تطور المجتمعات، ويرى الدكتور الساسي، أنّ منهجهم هذا مصدره عدم إيمانهم بالتطوّر والتدرّج في التشريع كما يُؤمن به المسلمون، ولا يعتقدون أنّ النسخ تمليه طبيعة المجتمع وتطوّره من حالة إلى أخرى.

 بيد أنّ تغيّر الأحكام بحسب قانون التدرّج ليس من النسخ في شيء، كما صوره الدكتور الساسي ونسبهُ الى المستشرقين، وقد نبّه إليه كثير من علمائنا القدامى والمعاصرين منهم الإمام أبو القاسم الخوئي عند مناقشته بعض الآيات التي ادُّعِي نسخها وبُنيت فيها الأحكام على التدرّج من نحو النسخ في آيات الجهاد عندما لم يكن الإسلام وقتها قويًا ثم قوِيت شوكته، قال (إنّ النبي الأكرم لم يُؤمر بالجهاد في بادئ الأمر، لأنّه لم يكن قادرًا على ذلك حسب ما تقتضيه الظروف من غير طريق الإعجاز وخرق نواميس الطبيعة، ولمّا أصبح قادرًا على ذلك، وكثر المسلمون، وقويت شوكتُهم، وتمّت عِدَّتُهم وعُدّتهم أُمِرَ بالجهاد، وقد أسلفنا أن تشريع الأحكام الإسلامية كان على التدريج، وهو ليس من نسخ الحكم الثابت بالكتاب في شيء).

 وإلى هذا يذهب الدكتور نصر حامد أبو زيد، إذ يعدّ التدرّج في الأحكام من باب المنسأ وقد أخرج العلماء المنسأ من باب الناسخ والمنسوخ، قال: (إنّ تحديه وظيفة النسخ، في التسهيل والتيسير والتدريج في التشريع، تجعل المنسوخ كله من باب (المنسأ) ويكون معنى التبديل في الآيات … هو تبديل الأحكام لا تغيير النصّوص بإلغاء القديم بآخر جديد لفظًا وحكمًا، وأنّ فهم معنى (النسخ) بأنّه الإزالة التامة للنص تتناقض مع حكمة التيسير والتدرّج في التشريع).

 إنّ إيمان المستشرقين بكون النسخ في القرآن مبنيًا على التدريج ـ كما وضحنا ذلك ـ قد قادهم إلى الطعن بالقرآن الكريم والدين الإسلامي وإظهاره دين حرب وقتال من خلال نظرتهم إلى ظواهر النصّوص القرآنية التي تدعو للجهاد، فصّوروا الإسلام دين حرب لا دين سلام بسبب من رؤيتهم السطحية لظاهرة النصّوص الداعية إليه.

 فهذا كولدزيهير يدرس ما جاء في آية السيف، ويستشف منها دعوةً إلى قتال المشركين أينما وُجدوا بل يرى من خلالها أنّ قتالهم واجبٌ يفرضُه النصّ المبارك بسبب من تغيّر الزمن الذي فرض عليه سلوكًا آخر مع المشركين لا يدعو إلى المهادنة والمصالحة كما كان من قبل في أيام ضَعْفِه في مكة فيقول: (فمنذ تركه مكة تغيّر الزمن ولم يصر واجبًا بعد (الإعراض عن المشركين) أو دعوتهم كما يقول القرآن (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(النحل:125)، بل حان الوقت لتتخذ كلمته لهجة أخرى (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)(التوبة:5)، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ)(البقرة:244)، متغافلًا السبب الذي نزلت فيه هذه الآية المباركة الذي خصَّ مجموعة من المشركين لا عمومهم ممّن نقض العهد والميثاق الذي عُقِد بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وحلفائه مع قريش وحلفائها.

مفهوم النسخ وتطبيقاته عند جلكريست

 كما مرّ في المقدمة، حاول جلكريست أن يربط النسخ بجمع القرآن ارتباطاً وثيقاً كأنه لا ينفك أبداً، معتمداً على الرأي القائل: بأن سبب عدم جمع القرآن هو ما يَرِدُ عليه من النسخ في حياة النبي. ومن خلال ما يعدهُ هو نسخاً، اعتماداً على بعض مصادر المسلمين، يحاول إثبات ان نصوصاً كثيرةً فقدت بالكامل من القرآن، ويقول: إن بعض المسلمين لا ينكر هذا الفقدان، لكنّ هؤلاء يقدمون، جواباً مغايراً بمبدأ أن الله نفسه قد نسخ هذه الآيات حين كان محمد ما زال يتلقى الوحي منه وكان القرآن في طور النشوء.

فيفهم النسخ من آية: (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أو نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أو مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: 106)، بأنه حذف وإلغاء ورفع الآية من القرآن كلياً وتغيير النص، ويقول: «هنالك مقاطع قرآنية أخرى تدعم التأويل الواضح، من بينها: (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(النحل: 101)، هذه الآية تدل بوضوح على استبدال وحذف بعض النصوص من القرآن نفسه فهي لا تقول إن الله استبدل كتاباً معيناً (التوراة أو الإنجيل) بكتاب آخر بل استبدل آية بأخرى».

لكن هذا الفهم متعمد الخطأ؛ لأن النسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها، بل زوال الحكم؛ إذ تجد في الآية الكريمة المتقدمة، علّق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ)، أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو إذهاب أثر الآية من حيث إنها آية، أعني إذهاب كون الشيء علامة مع حفظ أصله، فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله.

النسخ في منهج أهل البيت (عليهم السلام)

 سؤال: ما هي فكرة علم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم في فكر أهل البيت (عليهم السلام)؟ 

الجواب: النسخ قد يأتي بمعنى الإزالة، وقد يأتي بمعنى نقل صورة الكتابة من موضع إلى آخر، ومنه قولك: نسخت الكتاب، إذا نقلت لفظه وخطه كما هو.

 وقد ورد نص عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله: ((المحكمات من الناسخات والمتشابهات من المنسوخات)) الكافي: 2/28.

 نفهم من هذا النص: إنّ الناسخ والمنسوخ كالمحكم والمتشابه في القرآن الكريم، يبقى الحكم سار في الإثنين والرد أحدهما إلى الآخر إذا التبس الفهم على المتلقي، وهذا يختلف عما جاء في مفهوم النسخ عند المفسرين ومن تبعهم.

 والنظر في القرآن الكريم باعتبار أن آية من آياته مبينة لإنهاء أمد حكم تضمنته آية أخرى وانقضاء أجله ورفعه، ودعوى من لا يرى وقوع النسخ وتفسيره للآيات المقول بنسخها وحججه على ما يقول، وأقسام النسخ بالنسبة للقائلين به، وهل الأصل في الآيات الأحكام إلا عند قيام دليل شرعي لرفع حكم شرعي ثابت، كل هذا يتكفل بها علم الناسخ والمنسوخ.

 وأهمية هذا العلم كبيرة في معرفة استمرار ثبوت حكم الآية أو ارتفاعه. ولهذا فإنَّ لعلم الناسخ والمنسوخ أهمية خاصة بالنسبة للفقه والقضاء والتفسير ومعرفة الأحكام. 

 ومن الجدير بالذكر إن النسخ في القرآن الكريم ليس من باب التناقض أو تعطيل الآيات المنسوخة ــ كما جاء في نص الامام الصادق (عليه السلام) ــ ؛ وإنَّما الآيات المنسوخة تحمل حكماً في المنع او التغيير لكن هذا الحكم غير ظاهر للعيان فتأتي الآية الناسخة لتأكيد وتبيين ذلك الحُكم بألفاظ صريحة مباشرة.

كما في قوله تعالى في الآية المنسوخة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ..) النساء/43، فلم يكن المنع مباشر وظاهر للعيان ولكن العلم أثبت أن الخمر لا يذهب من الرأس إلا بعد (12) ساعة، فيتبين من ذلك أن الآية تحمل الحُرمة القطعية؛ لكنها غير مباشرة، فجاءت الآية الناسخة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) {المائدة/90}، فكانت الحرمة مباشرة وصريحة، وهذا للمثال لا للحصر.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق