إسلاميات - القرآن الكريم

علائم المستقبل (قبل الظهور) في كلمات فاطمة الزهراء (ع)

وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ (3)

الخاتمة لمشروع الخلق بظهور المهدي (عجّ) حكم عقلي آخذ بأعناق العقلاء صوب تلك الحقيقة؛ إذ إنَّ الغاية من مشروع الخلق هو هدايتهم التي بها يصلون إلى ذروة تكاملهم البشري، وإن اقتضاء الهداية يشترط وجود هادٍ، وعدم المانع من إيصال هديه إلى الناس، وإلّا سيكون إيجاد الخلق عبثًا؛ والمآل...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 140).

وقال جل اسمه: (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرين‏) (سورة آل عمران: الآية 144).

وقالت الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام): (ثُمَّ احْتَلَبُوا مِلْ‏ءَ الْقَعْبِ‏ دَماً عَبِيطاً وَذُعَافاً مُبِيداً...)[1].

والكلام يقع في فصلين:

الأول: بحث موجز عن عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار والقيم في معادلة السلم الحضاري الصاعد أو الرجوع قهقرى في سلم التخلف المتسافل.

الثاني: بحث مختصر عن عالم ما بعد انقلاب السقيفة وحتى ظهور الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف)

الفصل الأول: رحلة الإنسان بين عوالم الأشياء والأشخاص والأفكار

وذلك على ضوء ما ذكره بعض علماء الاجتماع ونظّر له المفكر المعروف مالك بن نبي في كتابه (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي) حيث أشار إلى أن العوالم هي عوالم ثلاثة متدرجة تبدأ من أدنى الدركات لتصل إلى أعلى الدرجات وهي: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار (ونضيف: والقيم والمبادئ، كما سنضيف عالماً رابعاً هو عالم الأنظمة وهو مما لا يقل أهمية عن عالم الأفكار كما سيظهر).

1- عالم الأشياء

فإن كل إنسان (وكذا كل شعب من الشعوب) يبدأ، عادةً من مرحلة الأشياء، والأشياء تعني: الجسم والمادة والمال والثروة والممتلكات والمقتنيات من دار وثوب ودابة وغير ذلك، كما تعني القوة الغضبية والقوة الشهوية والسلطة وشبهها، والتي تعد (الأصنام) التي يعبدها السفهاء من الناس من دون الله سبحانه.

والطفل الرضيع يبدأ حياته بتلمس الأشياء: ثدي أمه والحليب الذي يرضعه وشبه ذلك ثم إذا كبر انتقل تدريجياً إلى عالم الأشخاص حيث نجده يدقق أكثر فأكثر في وجه أمه ووجه من يواجهه ويتعرف عليه تدريجياً ويتعلق به، وقد يستوحش من أي وجه جديد أو غريب.

والإنسان في مرحلة عالم الأشياء لا يتجاوز حدود البهيمة وإدراكاتها كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا)[2]، ولقد كانت الناس في الجاهلية تعبد الأصنام حتى انهم كانوا يصنعون من التمر صنماً فإذا جاعوا أكلوه! كما شاهد أحد عباد الأصنام ثعلباً (أو ثعلبين) يبول على أحد أصنامهم فهاله ذلك وعلم انه لا يعدو شيئاً حقيراً تافهاً لا يمكنه أن يقي نفسه من بول الثعلب فكيف يكون إلهاً، فأنشد شعراً:

أربٌ يبول الثعلبان برأسه --- لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالبُ

والثُّعلبان بالضم اسم لذكر الثعلب وهو مفرد، ولو قرأناه بالفتح كان تثنية ثعلب، وبعض الأدباء وإن قرأه بالضم فرآه مفرداً، ولكن لم يثبت ذلك تاريخياً، لكنه حيث قرأه بالضم قال انه رأى ثعلباً واحداً وليس انه عُلِم تاريخياً انه كان ثعلباً واحد فقرأ الكلمة بالضم، بل العكس: قرأه بالضم فقال: انه ثعلب واحد!

2- عالم الأشخاص

ومع تطور الشعوب البدائية، كما الحال مع تطور الأطفال، نجدها تنتقل من عالم الأشياء إلى عالم الأشخاص فتراها تقدِّس شيخ القبيلة وكبير القوم بل قد تؤلهه، كما الّهوا فرعون متوهمين أن من بيده عالم الأشياء الظاهرية هو الإله (وَنادى‏ فِرْعَوْنُ في‏ قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لي‏ مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْري مِنْ تَحْتي‏ أَفَلا تُبْصِرُون‏)[3]، مع انه لم يزد على انه ملك منها أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً (والفرسخ خمسة كيلومترات ونصف تقريباً).

والإنسان في عالم الأشخاص يكون مقياس الحق والباطل لديه الشخص، لذا تراه يدافع عن شيخه أو قائده أو كبير قومه سواء أكان على حق أم كان على باطل.

حكومة عالم الأشخاص بعد انقلاب السقيفة

ولقد مضت العامة على ذلك أي انهم بعد انقلاب السقيفة جمدوا على عالم الأشخاص فأصبح الحاكم وإن كان جائراً ظالماً، مقدساً وخطاً أحمرَ ومصدر الشرعية الذي لا يمكن تجاوزه وإن ظلم وإن اعتدى كما تجب إطاعته وإن زنا وإن سرق وإن قتل النفس التي حرم الله، وقد اختلقوا في ذلك أحاديث في ذلك ومنها:

محاكمة روايات إطاعة السلطان الجائر

عن عبد الله بن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً.

وفي لفظ: مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[4].

وذلك غريب حقاً ولا ريب انه من وضع وعّاظ السلاطين وأبواق حكام الجور حيث انهم كانوا يريدون تكريس أركان حكوماتهم الظالمة فجعلوا أحاديث على لسان النبي (صلى الله عليه وآله) واعتبروا الخروج على الحاكم الجائر معصية كبيرة بل جعلوها أكبر المعاصي حتى أن الخارج يموت ميتة جاهلية، أي انه يدخل النار!

وقد حرّفوا الحديث الصحيح الذي يقول (مَنْ‏ مَاتَ‏ وَلَمْ‏ يَعْرِفْ‏ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)[5]، مع ان الإمام هو المعصوم وهو وصي النبي (صلى الله عليه وآله) المنصوص عليه وهو الذي يدور مع الحق ويدور الحق معه (الْحَقُ‏ مَعَ‏ عَلِيٍ‏ أَيْنَمَا مَالَ)[6]، و(إِنَّ عَلِيّاً مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَهُ كَيْفَ مَا دَارَ دَارَ بِهِ)[7] فهذا هو الذي يموت من لا يعرفه (ومن خرج عليه) ميتة جاهلية؛ لأنه يجسّد الحق مائة في المائة، دون ذلك الذي تذكره الأحاديث المجعولة وهو السلطان الجائر الظالم فلاحظ مثلاً: (عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا! قالوا: يَا رسول الله، كَيْفَ تَأمُرُ مَنْ أدْرَكَ مِنَّا ذَلِكَ؟ قَالَ: تُؤَدُّونَ الحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)[8].

قال النووي في شرح هذا الحديث: (فيه الحث على السمع والطاعة وإن كان المتولي ظالماً عسوفاً، فيُعْطَى حَقُّه من الطاعة، ولا يُخْرَج عليه، ولا يُخْلَع، بل يتضرع إلي الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره، وإصلاحه)[9].

وقال الشيخ العثيمين: (أما حديث عبد الله بن مسعود فأخبر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "إنها ستكون بعدي أثرة" والأثرة يعني: الاستئثار بالشيء عمن له فيه حق.

يريد بذلك (صلى الله عليه وآله) أنه سيستولي على المسلمين ولاة يستأثرون بأموال المسلمين يصرفونها كما شاؤوا ويمنعون المسلمين حقهم فيها. وهذه أثرة وظلم الولاة، أن يستأثروا بالأموال التي للمسلمين فيها الحق، ويستأثروا بها لأنفسهم عن المسلمين.

ولكن قالوا: ما تأمرنا؟ قال: "تودون الحق الذي عليكم" يعني: لا يمنعكم استئثارهم بالمال عليكم، أن تمنعوا ما يجب عليكم نحوهم من السمع والطاعة وعدم الإثارة وعدم التشويش عليهم، بل اصبروا واسمعوا وأطيعوا ولا تنازعوا الأمر الذي أعطاهم الله "وتسألون الله الذي لكم" أي: اسألوا الحق الذي لكم من الله، أي: اسألوا الله أن يهديهم حتى يؤدوكم الحق الذي عليهم لكم،...

وقال أيضاً: فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يصبروا على ما سيرونه من الأثرة فإن صبرهم على ظلم الولاة من أسباب الورود على الحوض والشرب منه)[10]!

والغريب تصريح النووي ومن تبعه بذلك، والغريب تخوين الناس بذلك وانه ليس للناس إلا السمع والطاعة وأن يدعوا الله تعالى في الخلوات.. فأين إذاً واجب النهي عن المنكر؟

ان هذه الأحاديث كاذبة قطعاً لأنها عند عرضها على الكتاب العزيز نجد انه يكذبها، إذ القرآن الكريم مليء بالآيات التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[11]، فهؤلاء هم المفلحون لا المطيعون للحاكم الجائر الساكتون عن جوره وظلمه و(لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)[12]، و(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ)[13]، و(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏)[14]، و(لُعِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ بَني‏ إِسْرائيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُون‏)[15]، (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)[16]، فالذين ينهون عن السوء هم الناجون فقط دون الساكتين الذين يكتفون بدعاء الله تعالى في الخلوات!.

كما انه عند عرضها على سائر الأحاديث يظهر وضعها وكذبها فقد ورد في الحديث (وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ‏ لَكُمْ‏ عَلَيْهِمْ)[17]، فلا فائدة من الدعاء المجرد حينئذٍ بل الواجب الأمر والنهي ومعهما الدعاء، وفي الحديث (اعْقِلْ‏ وَتَوَكَّل‏)[18].

وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَدْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلًّا لِحُرُمِ اللَّهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللَّهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ وَتَوَلَّوْا عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْ‏ءِ وَأَحَلُّوا حَرَامَ اللَّهِ وَحَرَّمُوا حَلَالَهُ)[19].

وورد: (أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ)[20].

وروى مسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله): (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لم يستطع فبلسانه، ومن لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ)[21].

وروى مسلم أيضاً: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ. يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ. يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ. فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بيده فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حبَّةُ خَرْدلٍ)[22].

ومنه يظهر أن كلمة (أثرة علينا) مجعولة مدسوسة في الحديث في الرواية التالية: (عن أَبي الوليدِ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُول اللَّه ﷺ عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ في العُسْرِ وَاليُسْرِ، والـمَنْشَطِ والـمَكْرَهِ، وَعلى أَثَرَةٍ عَليْنَا، وعَلَى أَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدكُمْ مِنَ اللَّه تعالَى فِيهِ بُرهانٌ، وَعَلَى أنْ نَقُولَ بالحقِّ أينَما كُنَّا، لا نخافُ في اللَّه لَوْمةَ لائمٍ" متفقٌ عَلَيهِ)[23].

الخيار الثالث: النهي عن المنكر، فلا إطاعة ولا خروج

والغريب انهم يصوّرون القضية وكأنها منفصلة حقيقية: إما أن تطيع الجائر وإما أن تخرج عليه بالسيف فتدخل النار، مع من البديهي وجود مراتب بينهما إذ يمكن أن لا يخرج بالسيف ولكن ينهاهم عن المنكر وينتقدهم، لكنهم يُغفِلون هذا الحل الوسط الواضح.

ولذلك تناقضت كلماتهم بين مُطلِقٍ بحرمة الخروج على حاكم الجور مطلقاً وبين مقيِّد لذلك بـ (ما اقاموا الصلاة) وبين مصرح بأنه (قلّ أن يخرج خارج على جائر إلا تولد من خروجه شر أعظم) مما يعني عدم حرمة الخروج مطلقاً بل إذا كان ضرره أعظم فقط فلاحظ الكلمات الثلاث:

1- (قال الحسن البصري: اعلم – عافاك الله – أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع).

2- (قال ابن تيمية: وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ)[24] وسرد جملة من الأحداث وعدّدها مما يوضح ما قال.

3- (وقال ابن القيم: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة- وإن ظلموا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة، سدا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعاف ما هم عليه، والأمة في بقايا تلك الشرور إلى الآن)[25].

واللطيف: انه قد خرج الصحابة على عثمان، فحسب مبناهم يجب أن يكونوا كلهم في النار! كما خرج بنو العباس على بني أمية فهل يلتزمون بأنهم كلهم في النار؟، وقد خرج كثير من حكام المسلمين قديماً وحديثاً على الحاكم السابق فعلى مسلكهم فكلهم مات ميتة جاهلية ودخل النار!

وقال بعضهم: (يقول تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).

ننطلق من هذه الآية، التي أثارت نقطة الجدل والاختلاف من هم (أُولِي الْأَمْرِ) الذين أمرنا الله بطاعتهم؟. فذهب جماهير أهل العلم إلى أنّها في الأمراء، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّها في العلم والفقه، وقال آخرون هم عامّة تشمل الصنفين.

 وبعد بحث مستفيض قمتُ به وجدتُ أنّ الترجيح الأقوى حسب رأي العلماء، هو الذي يختص في الأمراء، لأنّه لو عدنا إلى أدلّة الشرع من القرآن والسنّة لوجدنا أنّ النصوص لا تأمر بطاعة العلماء والفقهاء، إنّما الأمر بالطاعة للأمراء لما في طاعتهم مصلحة البلاد والعباد)[26]، مع وضوح أن (أُولِي الْأَمْرِ) هم الحكام العدول الذين نصبهم الرسول (صلى الله عليه وآله) يوم الإنذار قال تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الْأَقْرَبين‏)[ [2

(أبان خلافته علنا... يوم الإنذار وفي خيبر).

وقد ورد (لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ‏ فِي‏ مَعْصِيَةِ الْخَالِق‏)[28] ولذا يتوصل الباحث بعقله الفطري إلى: (ولو افترضنا أنّ زعيما ربض على قلب شعبه عقودا من الزمن يقهرهم ويستولي على خيرات ومقدّرات الشعب لوحده فهل يجب أن نصفق له، ونرضى بالغبن من باب منع الفتنة والقتل، ونتحمّل الظلم والجور، وهو يستغل هذه "الحقوق" و"الامتيازات"، بينما لا يقوم باختصارها من الأساس وتوفير الخروج أو الانقلاب عليه؟ وماذا إذا قمنا بتوجيه النصيحة للحاكم مرارا ولم يقم بتغيير أحوال الرعيّة، بل استمر في نهجه الظالم، وماذا مع الحديث "أعظم الجهاد عند الله كلمة حق في وجه سلطان جائر"، والذي اعتبره بعض العلماء إنّه حجّة غير مقبولة لا تبرر التمرد على الحاكم)[29].

3- عالم الأفكار

ومع تطور الإنسان والأمة ينتقل من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار والقيم والمبادئ، حيث يكون الحق وحده رائدة وقائدة وسائقة وصاحب ولذلك نجد قوله تعالى: (وَالَّذينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون * وَالَّذينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُون‏‏)[30] فهذه كلها قيم ومبادئ عظمى يقيَّم بها الإنسان لا العكس، وهي:

إجتناب الإثم والفواحش من رشوة وسرقة وغش وربا وأكل أموال الناس بالباطل وشرب خمر وزنا وغيبة وتهمة ونميمة... إلخ.

العفو والصفح الذي يجسد التسامي عن القوة الغضبية.

الاستجابة للرب الذي هو مصدر الكمال المطلق ومن بيده الخير كله.

وإقامة الصلاة التي تجسد أسمى مظهر لارتباط المخلوق بالخالق.

الشورى التي تنظم العلاقة بين أفراد المجتمع والتي تلغي الأنا الضيقة والاستبداد والعجب بالرأي والتفرد بالقرار.

الإنفاق الذي يعني التعالي عن سلطان المادة والتمسك بالقيم العليا في الإيثار والمواساة والإحسان.

فلسفة الواجبات والمحرمات، في فقه الزهراء (عليها السلام)

والجدير بالذكر: ان فلسفة وجوب الواجبات وحرمة المحرمات تكمن في ذلك؛ حيث أن تجنّب المعاصي يعني الخروج عن سلطنة الأشياء وعن البهيمية، وتهذيب النفس والعروج إلى مصاف الملائكة بل وأكثر، وكذلك الطاعات فإن مهمتها (صلاة كانت أم صوماً أم حجاً أو خمس أو زكاة...) صقل الروح والعروج بالإنسان من عالم الأشياء المنحط وعالم الأشخاص المتسافل إلى عالم القيم والمبادئ المتعالي.

ولذلك قالت الصديقة الزهراء (عليها السلام): (فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَمَاءً فِي‏ الرِّزْق‏)[31].

أما أن (الْإِيمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ) فلأن الشرك يجسّد أسوأ دركات الجهل من جهة والجحد من جهة أخرى:

أما أنه جهل فلأنه جهل بأعظم حقيقة. وإذا كان الجهل بالفقه والأصول أو الحساب والهندسة أو الطب أو كيفية معاشرة الناس نقصاً وعيباً فما بالك بالجهل بأعظم حقيقة وأجلى حقيقة؟

وأما انه جحد فلأنه إنكار للمتفضل المنّان ونكران لحق أعظم منعم، وإذا كان الجاحد حق معلِّمه أو مدّربه أو مَن وفّر له فرصة عمل أو عالجه دون مقابل، ظالماً وفاعلاً منكراً، ومكروهاً لدى العقلاء فما بالك بمن يجحد حق أعظم منعم عليه، الواحد القهار الذي إليه تعود النعم كلها، فيشرك به صنماً أو وثناً أو شخصاً لا يعدو كونه عبداً لله داخراً ومخلوق له فاقرأ؟

وأما ان (الصَّلَاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ) فلأنها تقي الإنسان من التكبر على الله تعالى، والكبر على الله سبحانه أسوأ أنواع الكبر ثم الكبر على أولياء الله ثم الكبر على أي مخلوق، والكبر على الله جل اسمه يعني التكبر عن عبادته وعن طاعته والالتزام بأحكامه وقوانينه، فهي (عليها السلام) إذاً تشير إلى أن حكمة الصلاة هي الخروج عن أسر الكبرياء والتي تشكل (الشيء - البهيمي) إلى كمال الارتباط بالله عز وجل والخضوع له والتسليم لأمره.

وأما ان (الزَّكَاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ) فلأنها تطهرها وتحررها من عبودية الأموال والمادة فتتصفى من الشوائب وتتهذب من المعايب إلى تزكية النفس وتتطهر من الأدران، ثم تضيف (عليها السلام) (وَنَمَاءً فِي‏ الرِّزْق‏) مشيرة إلى أن من ارتقى إلى عالم القيم لا يحرم من الأشياء بل يزداد منها أيضاً (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)[32]،[33]، إذ (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)[34].

ولقد كانت مهمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كسائر أنبياء الله العروج بالإنسان من عالم الأشياء والبهيمية ومن عالم الأشخاص والعبودية، إلى عالم القيم والمبادئ والأفكار السامية.. وهكذا كان.. ولكن انقلاب السقيفة كان انقلاباً على الأعقاب بحق وذلك لأن انقلاب السقيفة، أعاد الأمة من عالم الأفكار والقيم والمبادئ إلى عالم الأشياء والأشخاص وشكّل انتكاسة كبرى في السُّلم الحضاري للأمة الإسلامية وسار بهم سيراً عكسياً، القهقرى إلى الوراء.

كيف حوّل انقلاب السقيفة مسيرة التاريخ الإسلامي؟

فجريمة السقيفة هي جريمة الانقلاب على الأعقاب (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ‏)[35] وتخريب مسيرة الأنبياء على مر التاريخ والتراجع قهقرى عن عالم القيم والمبادئ والمثل العليا إلى عالم الأشياء وعبادة السلطة والثروة، والأشخاص والخضوع للحاكم الجائر لمجرد ان بيده القوة فصارت القوة هي مبدأ الشرعية، تماماً كما في الانقلابات العسكرية، حيث ان مصدر الشرعية لا يكون الكفاءة ولا انتخاب الناس ولا النص الإلهي، بل مجرد القفز على السلطة على وقع السيوف والاسنّه أو ظهور الدبابات والكاتيوشا والقاذفات.

مسيرة الأمة وحركتها على لسان الزهراء (عليها السلام)

ولقد كانت مسيرة التاريخ تصاعدية منذ أن بعث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث انتقل بالناس من أسفل دركات البهيمية إلى أعلى درجات الإنسانية فلقد كانوا كما قالت عنهم الصديقة الزهراء (عليها السلام)

هكذا كانوا:

أ- (وكنتم على شفا حفرة من النار[36]، مذقة الشارب، ونهزة الطامع[37]، وقبسة العجلان[38]، وموطئ الأقدام[39]، تشربون الطرق[40]، وتقتاتون الورق[41]، أذلة خاسئين[42]، " تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم "[43]. فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي[44]، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب[45]، " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله")[46].

وهكذا صاروا:

ب- حتى صاروا كما قالت صلوات الله عليها (أيها الناس! اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أقول عودا وبدءا[47]، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا[48] *: لقد جاءكم رسول من أنفسكم[49] عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم[50] (بالمؤمنين رؤوف رحيم)[51] *[52] فإن تعزوه[53] وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم). فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة[54] مائلا عن مدرجة المشركين[55]، ضاربا ثبجهم[56]، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة[57]، يكسر الأصنام وينكت الهام[58] حتى انهزم الجمع وولوا الدبر،

حتى تفرّى الليل عن صبحه[59] وأسفر الحق عن محضه[60]، ونطق زعيم الدين[61]، وخرست شقاشق الشياطين[62]، وطاح وشيظ النفاق[63]، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص[64] في نفر من البيض الخماص[65])[66].

 (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله "، أو نجم قرن للشيطان[67]، وفغرت فاغرة من المشركين[68] قذف أخاه في لهواتها[69]، فلا ينكفئ[70] حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه[71]، مكدودا في ذات الله[72]، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله سيد أولياء الله[73]، مشمرا ناصحا[74]، مجدا كادحا[75]، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون[76]، تتربصون بنا الدوائر[77]، وتتوكفون الأخبار[78]، وتنكصون عند النزال[79]، وتفرون عند القتال) ثم عادوا القهقرى:

وهكذا ارتكسوا

ج- (فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق[80]، وسمل جلباب الدين[81]، ونطق كاظم الغاوين[82]، ونبغ خامل الأقلين[83]، وهدر فنيق المبطلين[84].

فخطر في عرصاتكم[85]، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه، هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين[86]، وللغرة فيه ملاحظين[87]. ثم استنهضكم[88] فوجدكم خفافا[89]، وأحمشكم فألفاكم غضابا[90]، فوسمتم[91] غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم[92]، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب[93]، والجرح لما يندمل[94]، والرسول لما يقبر[95]، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة[96]، " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين[97])[98]

فذلك كله، وبإيجاز، عن رحلة الأمة من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار والقيم ببركة رسول الإنسانية المصطفى (صلى الله عليه وآله) ووصيه المرتضى j ثم عودتهم القهقرى وانقلابهم على الأعقاب.

والمحصلة من مجمل هذا الفصل والفصل الآتي: ان الأزمة في بلادنا هي أزمة أفكار ومبادئ وقيم، وليس أزمة ثروات وأشياء كيف وان بلادنا تعد من أخصب بلاد الله وأغناها بآبار النفط والغاز ومناجم الحديد والنحاس واليورانيوم وغيره؟

ويكفي أن نعرف أن اليابان وألمانيا خسرتا في الحرب العالمية الثانية كل القدرة والقوة والسلطة والمادة والثروات، ولكنها امتلكتا الأفكار، فنهضتا وأصبحتا في مصاف الأمم الأكثر تقدماً.

وفي المقابل كان الاتحاد السوفياتي يمتلك كل الثروات والأموال والقوة العسكرية والسياسية، لكنه كان يفتقد الأفكار والقيم فتحطم وانهار شر انهيار حتى لم يبق منه شيء يذكر إلا لعنة التاريخ.

الفصل الثاني: مميّزات عصر الغيبة

السفياني واليماني أو الفتنة والاستبداد؟

وفي هذا الفصل نشير بإيجاز إلى عالم ما بعد الانقلاب على الأعقاب المستمر على امتداد الأزمنة إلى مرحلة ما قبل الظهور، وملامحه الرئيسة وعلاماته الكبرى، وذلك لأن الصديقة فاطمة (عليها السلام) اشّرت على ملامح وعلائم أخرى غير ما هو معهود لدى الناس من العلائم العامة للظهور المبارك كخروج السفياني واليماني والخراساني، وغير ذلك، سواء العلامات المحتومة أم غير المحتومة.

والفارق أن العلامات التي ذكرتها الصديقة فاطمة (عليها السلام) هي علامات واضحة جلية ظاهرة لكل أحد أولاً كما انها ممتدة على امتداد الفترة الزمنية الفاصلة بين انقلاب السقيفة والظهور المبارك، على العكس من علائم كخروج السفياني والخراساني واليماني فإنها خاصة بآخر الزمن فقط (قبل الظهور مباشرة) كما ان هذه العلائم مما لم نؤت علمه إما كبرىً وإما صغرىً.

هل لنا أن نصدق مدعي اليمانية؟

بمعنى أن العلائم حتى مثل خروج اليماني والسفياني والخراساني وإن كانت مما لا شك فيها، لكن تحديد المصداق هو من الغيب الذي لا يجوز لنا أن نقول فيه بغير علم، إذ من أين أن هذا المدعي لليمانية هو اليماني حقاً؟ وهل يتم الأمر بالادعاء؟ والغريب أن هنالك العديد ممن ادعوا انهم اليماني، في بلاد شتى، فمن أين أن هذا هو الصادق دون ذاك أو كلهم كاذبون؟ فليصفّوا الأمر بينهم وليقنع أحدهم سائر من ادعى اليمانية ثم ليدعُ سائر الناس؟

ثم أين هي العلائم القطعية؟ والمعجزة؟ خاصة وقد ورد عنهم (إِنَّ أَمْرَنَا قَدْ كَانَ أَبْيَنَ مِنْ هَذِهِ الشَّمْسِ)[99]، بينما هؤلاء متخفّون يحيط بهم الغموض الشديد..

والغريب ان عمدة مستندهم إنما هو من قبيل مغالطة الكبرى والصغرى والتمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ لا شك في خروج اليماني ولكن من أين أن هذا هو هو؟ انه كمن يقول يجب احترام أعلم الأطباء، فيقول أحدهم: انّ احترام أعلمهم مادام واجباً مسلّماً فاحترمني لانني هو؟ ما الدليل؟ قالوا: علامته مثلاً (ان رايته من أهدى الرايات) وهذه كبرى صحيحة، ولكن من أين إن رايتك هي أهدى الرايات، فإن قال كلماتي صدق لأنها من القرآن والعترة! قلنا: مدعي اليماني الآخر كلماته أيضاً من القرآن والسنة؟ وهل كل من كانت كلماته من القرآن والسنة فهو يماني؟ وكيف تشهد هذا الكبرى على المصداق والصغرى؟.

هذا مع قطع النظر عن أن الراية لا تعني مجرد العلم والكلمة الصحيحة، وعن ان اليماني والسفياني تفصل بينهما ستة أشهر، وان خروج اليماني مع خروج الإمام (عليه السلام) يكون في نفس السنة[100] وهؤلاء ادعوا انهم اليماني منذ سنين!!

من هو السفياني؟

وأما السفياني، فإن مغالطة العنوان والمصداق فيه ظاهرة أيضاً إذ لا شك في خروج السفياني وانه مفسد في الأرض، ولكن من أين انه هو هذا المفسد؟ فلعله سيخرج بعد مائة عام أو ألف سنة أو حتى بعد أيام؟ من أدرانا؟

والحاصل: ان القول بأن هذا يماني وذاك سفياني ما لم يكن أبين من الشمس لدى جميع العقلاء، إنما هو قول بغير علم بل افتراء على الله تعالى (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُون‏)[101].

ومن هنا تظهر لنا أهمية كلمات الزهراء صلوات الله عليها، حيث ذكرت علائم ومميزات لما بين الحدين (الانقلاب على الأعقاب، والظهور المبارك) جلية واضحة مكررة على امتداد الأزمان وهي أكثر التصاقاً بنا وبواقع الأمة كما ظهر وسيظهر.

وهذا الفصل يرتبط جوهرياً بالفصل السابق حيث يشكّل العمق له والخلفية والعِلّة، وهو دراسة بعض نتائج جريمة الانقلاب على الأعقاب وموقعها في حركة التاريخ والحضارة الإسلامية بل والبشرية.

وكما سبق فبدل أن تشير الزهراء (عليها السلام) إلى علامات مثل خروج السفياني واليماني مما تحدث في آخر الزمن، ولا يد لنا فيها بل ولا علم لنا بتاريخها وخصوصياتها إلا بالقدر الإجمالي الكلي الذي أشارت إليه الروايات، أشارت (عليها السلام)، بدلاً عن ذلك، إلى علامات ممتدة بامتدد الزمن الواقع بين مرحلة الانقلاب على الأعقاب في يوم السقيفة وبين زمن الظهور المبارك، إذ انه: (لَمَّا اشْتَدَّتْ عِلَّةُ فَاطِمَةَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) اجْتَمَعَ عِنْدَهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ لَهَا: يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ أَصْبَحْتِ؟ فَقَالَتْ: أَصْبَحْتُ عَائِفَةً لِدُنْيَاكُمْ، قَالِيَةً لِرِجَالِكُمْ، لَفَظْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ، وَسَئِمْتُهُمْ بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ، فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ، وَخَوْرِ الْقَنَاةِ وَخَطْلِ الرَّأْيِ، (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ‌)[102]، لَقِحَتْ، فَنَظِرَةٌ رَيْثَمَا تُنْتِجُ، ثُمَّ احْتَلِبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَذُعَافاً مُمْقِراً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ.

ثُمَّ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْفُساً، وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِمٍ، وَهَرْجٍ شَامِلٍ؛ وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ، يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً، وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً، فَيَا خُسْرَى لَكُمْ، وَأَنَّى بِكُمْ وَقَدْ عَمِيَتْ عَلَيْكُمْ؟ (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ‌)[103] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ عَلَى أَبِي سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ).

من فقه كلمات الزهراء (عليها السلام)

وهنا نقاط:

1- (قَالَتْ (عليها السلام): أَصْبَحْتُ... ) الملفت انها بدل أن تجيب عن السؤال الشخصي (كَيْفَ أَصْبَحْتِ) إجابةً شخصية، انتقلت إلى إجابة رسالية من دائرة عالم الأفكار والقِيَم (عَائِفَةً لِدُنْيَاكُنَّ)

وحتى بغض الرجال (قَالِيَةً لِرِجَالِكُمْ) إنما هو لابتعادهم عن المبادئ والقِيَم إذ قد كلّت وَفلّت سيوفهم عن الدفاع عن الحق وضعفت قناتهم (رماحهم) عن استهداف أعداء الدين والقِيَم والرسالة، واخطأ رأيهم إذ أخذوا جانب الباطل والبهيمية وعارضوا جبهة الحق والإنسانية والرسالة السماوية.

2- (لَقِحَتْ) أي حملت، ولقاح الشجر والأزهار معروف، فلم يكن انقلاب السقيفة حدثاً مؤقتاً تنحصر آثاره في حدود ذلك الزمن أو تمتد إلى عقود أو قرون محدودة، بل ان آثاره السلبية تمتد وتشمل جميع الأزمنة الضاربة في عمق المستقبل المجهول حتى مرحلة ظهور ولي الله الأعظم (صلوات الله عليه).

3- وأما العلامات المميزة لما بين العصرين (عصر الانقلاب على الأعقاب وعصر الظهور) والثمرات المرّة الكريهة الناجمة عن ذلك فهي:

أ- (احْتَلَبُوا مِلْ‏ءَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً) والقعب هو القدح الكبير من الخشب الذي تحلب فيه الناقة أو البقرة.. فإذا حلبوها أكثر من الحد الطبيعي خرج الدم مع الحليب فإذا زادوا الضغط عليها زاد خروج الدم وكذا لو كانت مريضة.

والحاصل: ان مخرجات انقلاب السقيفة هي الدماء والأشلاء بدل الحليب والغذاء.

(وأما عبيطاً) فيعني طرياً، وهي من معاجز الكلمات والإشارات الغيبية حيث تشير (عليها السلام) إلى أن نهر الدماء سوف لا يتوقف بل يتجدد سفك الدماء على امتداد الأزمان ولذا فالأمة المنقلبة على الأعقاب تحتلب مدى الدهر دماء طرية طازجة.

وهكذا وجدنا حال الأمة الإسلامية حيث استمر شلال الدماء على أيدي الجبابرة والحكام الظلمة طوال ما بعد الانقلاب السقيفي[104] وأزمنة بني أمية وبني العباس وبني عثمان... ثم في بلادنا طوال المائة سنة الأخيرة إما في العراق أو في سوريا أو مصر أو لبنان أو إيران أو اليمن... ولئن توقف شلّال الدم فترة عاد كأشد ما يكون بعد فترة أخرى.

ب- (وَذُعَافاً مُمْقِراً) والذعاف السم والممقر أي المر المهلك، وبلادنا هي كذلك لا تزال تذوق السم بأنواعه من فقر، وبطالة، وتضخم، وجريمة وإدمان على الخمر أو المسكرات أو المخدرات... إلخ.

ج- (وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ) والغِب يعني العاقبة، فهل عرفنا حقاً عواقب انقلاب السقيفة؟

وموجز القول: انه إذا عرفت الأمة حقاً عواقب ذلك الانقلاب المشؤوم ورجعت إلى القرآن الكريم وإلى أهل البيت (إِنِّي‏ تَارِكٌ‏ فِيكُمُ‏ الثَّقَلَيْنِ‏ أَمَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا- كِتَابَ اللَّهِ وَ عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي‏)[105] وإلى نهج البلاغة والصحيفة السجادية وأصول الكافي... حينئذٍ قد يأذن الله تعالى لوليه الأعظم بالفرج. (اللَّهُمَّ أَرِنِي الطَّلْعَةَ الرَّشِيدَةَ وَالْغُرَّةَ الْحَمِيدَةَ وَاكْحُلْ نَاظِرِي بِنَظْرَةٍ مِنِّي إِلَيْهِ وَعَجِّلْ فَرَجَهُ وَسَهِّلْ مَخْرَجَهُ وَأَوْسِعْ مَنْهَجَهُ وَاسْلُكْ بِي مَحَجَّتَهُ وَأَنْفِذْ أَمْرَهُ وَاشْدُدْ أَزْرَهُ وَاعْمُرِ اللَّهُمَّ بِهِ بِلَادَكَ وَأَحْيِ بِهِ عِبَادَك‏)[106].

د- (وَأَبْشِرُوا بِسَيْفٍ صَارِم‏) وهي علامة ممتدة على مدار الألف وأربعمائة وخمسة وثلاثين سنة الماضية.. وكما ستستمر حتى نعود إلى الله تعالى وتعاليمه والقرآن وأهل البيت (عليهم السلام) والقيم والمبادئ والمثل العليا.

هـ - (وَبِهَرْجٍ شَامِلٍ) والهرج الفتنة، والأمة الإسلامية كانت ولا تزال تخوض في أنواع من فتن الضلالات في كل حدب وصوب وناحية.

و- (وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ) وهي علامة واضحة شاملة، فبدل أن نفكر فيما لم نُؤت علمه (مثل من هو السفياني، ومتى يخرج) علينا أن نفكر في معضلة الاستبداد وظلم الحكام وسبل العلاج، لكننا ما دمنا راضخين لهم مبررين للتقاعس عن نهيهم عن المنكر، فسوف يستمر الاستبداد والبؤس إلى ما لا نهاية ولذلك ورد (وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيُوَلِّيَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ‏ لَكُمْ‏ عَلَيْهِمْ)[107].

ز- (يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً) وهل هنالك أزهد من فيئنا؟ كيف؟ والقوة الشرائية للعملة، في عامة بلاد الإسلام، في انخفاض مستمر، والفقر أصبح سمة عامة للشعوب الإسلامية حتى انك ترى الطبقة الفقيرة هي الأكثر عدداً مقابل الطبقة المتوسطة والغنية.

ح- (وَجَمْعَكُمْ حَصِيداً) وها هي الحروب والفتن تحصدنا باستمرار: يوماً في فلسطين ويوماً آخر في اليمن وثالثاً في سوريا ولبنان ورابعاً في مصر والسودان وهكذا وهلم جرا.

ط- (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُون)[108] كلا؛ لأن الدار دار امتحان وابتلاء، فما دمتم ماضين على مسيرة السقيفة فـ (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)[109] بل عليكم أن تغيّروا ما بكم لكي يغير الله ما دهاكم.

... وأخيراً: سترجع الدنيا لأئمة الهدى (عليهم السلام) وستحكم القِيَم العالمَ من جديد

وان ذلك كائن لا محالة إذ قال الإمام علي (عليه السلام) (لَتَعْطِفَنَّ اَلدُّنْيَا عَلَيْنَا بَعْدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ اَلضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا وَتَلاَ عَقِيبَ ذَلِكَ (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ)[110] )[111] ولكن الكلام متى؟ وهل أعددنا واستعددنا؟ إذ (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُم‏)[112].

و(روي: أنّ الصادق عليه السّلام كان يقول:

لكلّ اناس دولة يرقبونها ودولتنا في آخر الدّهر تظهر[113]

«وتلا عقيب ذلك» أي: شاهداً لعطف الدّنيا عليهم أخيراً: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ)[114].

وبعدها: (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُون‏)[115].

قال القمي: أخبر اللَّه تعالى نبيّه صلّى اللَّه عليه وآله بما لقى موسى عليه السّلام وأصحابه من فرعون من القتل والظلم، ليكون تعزية له فيما يصيبه في أهل بيته من أمته، ثمّ بشّره بعد تعزيته أنّه يتفضّل عليهم بعد ذلك، ويجعلهم خلفاء في الأرض وأئمّة على أمّته يقول: (... مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُون‏) أي: من آل محمّد، ولو كانت نزلت في موسى لقال: منه ما كانوا يحذرون. ولم يقل منهم[116].

وقال ابن أبي الحديد: والإمامية تزعم أنّ ذلك وعد منه بالإمام الغائب الّذي يملك الأرض في آخر الزّمان، وأصحابنا يقولون إنّه وعد بإمام يملك الأرض ويستولي على الممالك، ولا يلزم من ذلك أنّه لا بد أن يكون موجوداً، وأن يكون غائباً إلى أن يظهر، بل يكفي في صحّة هذا الكلام أن يخلق في آخر الوقت[117].

قلت: الإماميّة إنّما قالوا إنّه إشارة إلى الإمام المنتظر، وأمّا وجوده وغيبته فيثبتونه بأدلّة اخرى عقليّة ونقليّة، وقد مرّ من النّقليّة قوله عليه السّلام: (لَا تَخْلُو الْأَرْضُ‏ مِنْ‏ قَائِمٍ‏ بِحُجَّةٍ ظَاهِرٍ أَوْ خَافٍ مَغْمُورٍ)[118] وقوله عليه السّلام: (إِذَا خَوَى‏ نَجْمٌ‏ طَلَعَ‏ نَجْمٌ)[119].

وقال ابن أبي الحديد أيضاً: وقال بعض أصحابنا: إنّه إشارة إلى ملك السّفاح والمنصور[120].

قلت: لا بد إن كان ذاك البعض من النّصاب، وكيف يصحّ قوله ولم يكن شماس الدّنيا على أهل بيته في زمان العبّاسيين أقل من زمان الامويين؟

هذا، ومثل تلك الآية في البشارة لأهل بيته عليه السّلام قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)[121]، وقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَني‏ لا يُشْرِكُونَ بي‏ شَيْئاً‏)[122].

ولم يكن عباد صالحون ولا مؤمنون عاملون للصالحات مثل أهل البيت عليهم السّلام، فلا بد بمقتضى الآيتين أن يرثوا الأرض ويستخلفوا فيها حسبما وعد تعالى، ونرى أنّ ذلك لم يتّفق في زمان الأحد عشر منهم (عليهم السلام)، فلا بد أن يكون في عصر ثاني عشرهم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وحيث إنّ الجميع بمنزلة نفس واحدة يصدق بإرثه الأرض إرثهم، وباستخلافه فيها، وتمكين اللَّه تعالى له دينه الذي ارتضاه له، وتبديل خوفه بالأمن، استخلافهم وتمكينهم وتبديل خوفهم صلوات اللَّه عليهم أجمعين).

إضافة إلى انهم (عليهم السلام) حسب روايات عديدة سيرجعون ويحكمون بعده (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إلى آخر الدنيا.

و(عن المولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) قال: ((لتعطفنَّ[123] الدنيا علينا بعد شماسها[124] عطف الضروس[125] على ولدها، وتلا عقيب ذلك: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) ))[126]، وعنه أيضًا: ((هي لنا أو فينا هذه الآية: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...)))[127]، وعنه (صلوات الله عليه) قال: في (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...) هم آل محمد يبعث الله مهديهم بعد جهدهم فيُعزَّهم ويُذلَّ عدوهم))[128]، وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مبشرًا بظهور المنقذ المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) من أهل بيته قائلًا: ((لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلًا من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملؤها عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا))[129]، وأيضًا: ((لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلًا من ولدي، يواطئ اسمه اسمي، يملؤها عدلًا وقسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا))[130].

وعن لابدِّية تحقق هذا الأمر وعدم تعلق البداء به مطلقًا[131] لأجل أنَّه من الميعاد روي عن أبي هاشم الجعفري قال: ((كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليهما السلام) فجرى ذكر السفياني وما جاء في الرواية من أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: نعم. قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم، فقال: إنّ القائم من الميعاد والله لا يخلف الميعاد))[132]، فيتحصَّل من النقل المتقدِّم أنَّ المهدي الموعود (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف) من الذرية الطاهرة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حصرًا، وهو تمام عدة الخلفاء الإثني عشر للرسول (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، وإنَّ ظهوره من المحتوم؛ بل من الميعاد الذي لا خلف فيه ولا تبديل.

وأضف إلى ذلك أنَّ الخاتمة لمشروع الخلق بظهور المهدي (عجّل الله تعالى فرجه) حكم عقلي آخذ بأعناق العقلاء صوب تلك الحقيقة؛ إذ إنَّ الغاية من مشروع الخلق هو هدايتهم التي بها يصلون إلى ذروة تكاملهم البشري، وإن اقتضاء الهداية يشترط وجود هادٍ، وعدم المانع من إيصال هديه إلى الناس، وإلّا سيكون إيجاد الخلق عبثًا؛ والمآل الطبيعي للخلق هو الضلال، وسيكون الخالق (وحاشاه) هو من ألجأهم إلى هذه النتيجة لعدم امدادهم بمتطلبات هدايتهم ومن ثم تكاملهم، وهذا ما سيقدح في حكمة الخالق، الذي ثبت في حقِّه أبتداءً بأنَّه منزه عن فعل ما لا ينبغي، وأنَّ اللطف سيرته مع خلقه، وعليه أصبح وجود هاد بين ظهراني الخلق ضرورة عقلية عضدها النقل مؤكِّدًا ومفصِّلًا، إضافة إلى ذلك لا يقدح في وجود الهادي أن يكون ظاهرًا معروفًا أو غائبًا مغمورًا مادام أن الهداية تتحقق على يديه، وتصل إلى الناس بنحو من الأنحاء، عن أمير المؤمنين مصرِّحًا بذلك في خطبة له من على منبر الكوفة قائلًا: ((اللهمَّ إنَّه لا بُدَّ لك من حجج في أرضك، حجة بعد حجة على خلقك، يهدونهم إلى دينك، ويعلمونهم علمك كيلا يتفرق أتباع أوليائك، ظاهر غير مطاع، أو مكتتم يترقب، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم مبثوث علمهم، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون... اللهم فإنَّي لأعلم أنَّ العلم لا يأزر كله ولا ينقطع مواده، وإنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك، ظاهر ليس بالمطاع، أو خائف مغمور كيلا تبطل حجتك ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم))[133]، فالحجة وإن غاب لابدَّ عند ذاك من سبيل تتحصل منه هدايته وإلّا لاعترى غرض الخالق في الهداية النقض[134]، فكان العلماء العاملون سبيلًا متعينًا في توجيه الناس وهدايتهم في غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه)، فعن الإمام الهادي (صلوات الله وسلامه عليه) مشيدًا بدور العلماء قائلًا: ((لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحدٌ إلاّ ارتدّ عن دين الله، ولكنّهم الذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ))[135].

ونختتم الكلام بعلي الكلام، وفيه أنَّهم (صلوات الله عليهم) فاتحة الهداية وخاتمتها فقال (صلوات الله عليه): ((أيها الناس! إن قريشا أئمة العرب، أبرارها لأبرارها وفجارها لفجارها، ألا! ولابد من رحى تطحن على ضلالة وتدور، فإذا قامت على قلبها طحنت بحدتها، ألا! إن لطحنيها روقا وروقها حدتها وفلها على الله، ألا! وإني وأبرار عترتي وأهل بيتي أعلم الناس صغارا، وأحلم الناس كبارا، معنا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، إنا أهل الرحمة، وبنا فتحت أبواب الحكمة، وبحكم الله حكمنا، وبعلم الله علمنا، ومن صادق سمعنا، فان تتبعونا تنجوا، وإن تتولوا يعذبكم الله بأيدينا، بنا فكَّ الله ربق الذل من أعناقكم، وبنا يختم لا بكم)[136])[137].

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

..........................................

[1] الاحتجاج على أهل اللجاج، مكتبة المرتضى ـ مشهد المقدسة: ج1 ص109.

[2] نهج البلاغة: الكتاب 45.

[3] سورة الزخرف: الآية 51.

[4] ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ج1 ص ١١٣، الحديث بروايتيه – مع اختلاف يسير في الألفاظ – عن ابن عباس في: البخاري 9/47 (كتاب الفتن، باب قول النبي – صلى الله عليه وسلم – سترون بعدي أموراً تنكرونها)، مسلم: 3/1477-1478 (الكتاب والباب السابقان) سنن الدَّرامي: 2/241 (كتاب السير، باب في لزوم الطاعة والجماعة)؛ الـمُسند (ط. المعارف) 4/164،245- 246-297.

[5] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص409.

[6] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص294.

[7] كتاب سليم بن قيس الهلالي، مؤسسة الهادي ـ قم: ج2 ص881.

[8] جلال السيوطي، الجامع الكبير، الأزهر الشريف ـ القاهرة: ج5 ص٢٥٩، النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج12 ص٢٣٢.

[9] النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج12 ص٢٣٢.

[10] ابن عثيمين، شرح رياض الصالحين، دار الوطن للنشر ـ الرياض: ج1 ص٢٨٠-282.

[11] سورة آل عمران: الآية 104.

[12] سورة المائدة: الآية 63.

[13] سورة آل عمران: الآية 110.

[14] سورة التوبة: الآية 71.

[15] سورة المائدة: الآية 78-79.

[16] سورة الأعراف: الآية 165.

[17] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص52.

[18] ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) ـ قم: ج1 ص75.

[19] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت: ج44 ص382.

[20] ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) ـ قم: ج1 ص432.

[21] صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة: ج1 ص٦٩

[22] صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة: ج1 ص٦٩-70.

[23] صحيح مسلم، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ القاهرة: ج3 ص ١٤٧٠.

[24] ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ج4 ص٥٢٧-528.

[25] ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية: ج5 ص٦٤.

[26] https://www.raialyoum.com

[27] سورة الشعراء: الآية 214.

[28] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج2 ص621.

[29] https://www.raialyoum.com

[30] سورة الشورى: الآية 37-38.

[31] الاحتجاج: ج1 ص99.

[32] سورة البقرة: الآية 201.

[33] لمزيد من التفصيل يراجع (من فقه الزهراء عليها السلام) للمرجع الكبير السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).

[34] سورة الأعراف: الآية 32.

[35] سورة آل عمران: الآية 144.

[36] شفا كل شيء: طرفه وشفيره، أي كنتم على شفير جهنم مشرفين على دخولها لشرككم وكفركم.

[37] مذقة الشارب: شربته. والنهزة بالضم: الفرصة، أي محل نهزته. أي كنتم قليلين أذلاء يتخطفكم الناس بسهولة.

[38] القبسة بالضم: شعلة من نار يقتبس من معظمها. والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة.

[39] وطي الأقدام مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.

[40] الطرق بالفتح: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتعبر.

[41] الورق بالتحريك: ورق الشجر. وفي بعض النسخ: " تقتاتون القد " وهو بكسر القاف وتشديد الدال: سير يقد من جلد غير مدبوغ. والمقصود وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم، ولفقرهم وقلة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي.

[42] الخاسئ: المبعد المطرود.

[43] التخطف: استلاب الشئ وأخذه بسرعة، اقتبس من قوله تعالى: " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ". وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام إن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، والمراد بالناس ساير العرب أو الأعم.

[44] اللتيا بفتح اللام وتشديد الياء: تصغير التي، وجوز بعضهم فيه ضم اللام، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة.

[45] يقال: مني بكذا - على صيغة المجهول - أي ابتلي. وبُهَم الرجال – كـصُرَد -: الشجعان منهم، لأنهم لشدة بأسهم لا يدرى من أين يأتون. وذؤبان العرب: لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم. والمردة: العتاة المتكبرون المجاوزون للحد.

[46] الشيخ محمد فاضل المسعودي، كتاب الأسرار الفاطمية، ص478-480.

[47] أي أولا وآخرا، وفي رواية أبن أبي الحديد وغيره " أقول عودا على بدء "، والمعنى واحد.

[48] الشطط بالتحريك: البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شئ. وفي الكشف: " ما أقول ذلك سرفا ولا شططا ".

[49] أي لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية، بل عن نكاح طيب، كما روي عن الصادق (عليه السلام).

وقيل: أي من جنسكم من البشر، ثم من العرب، ثم من بني إسماعيل.

[50] أي على إيمانكم وصلاح شأنكم.

[51] التوبة: آية ١٢٨

[52] أي رحيم بالمؤمنين منكم ومن غيركم، والرأفة: شدة الرحمة. والتقديم لرعاية الفواصل.

وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره. فالتقديم للاهتمام بالمتعلق.

[53] يقال: " عزوته إلى أبيه " أي نسبته إليه، أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا بن عمي، فالأخوة ذكرت استطرادا، ويمكن أن يكون الانتساب أعم من النسب ومما طرأ أخيرا، ويمكن أن يقرأ " وآخا " بصيغة الماضي، وفي بعض الروايات: " فإن تعزروه وتوقروه ".

[54] الصدع: الإظهار تقول: صدعت الشئ، أي أظهرته، وصدعت بالحق إذا تكلمت به جهارا، قال الله تعالى: " فاصدع بما تؤمر ". والنذارة بالكسر: الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف.

[55] المدرجة: المذهب والمسلك. وفي الكشف: " ناكبا عن سنن مدرجة المشركين " وفي رواية ابن أبي طاهر " مائلا على مدرجة " أي قائما للرد عليهم، وهو تصحيف.

[56] الثبج بالتحريك: وسط الشئ ومعظمه، والكظم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق، أي كان صلى الله عليه وآله لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة.

[57] كما أمره سبحانه: " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ". وقيل: المراد بالحكمة: البراهين القاطعة، وهي للخواص وبالموعظة الحسنة،: الخطابات المقنعة والعبر النافعة، وهي للعوام، وبالمجادلة التي هي أحسن: إلزام المعاندين والجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلمة، وأما المغالطات والشعريات فلا يناسب درجة أصحاب النبوات.

[58] النكت: إلقاء الرجل على رأسه، ويقال: طعنه فنكته. والهام جمع الهامة، بالتخفيف فيهما، وهي الرأس والمراد قتل رؤساء المشركين، وقمعهم وإذلالهم، أو المشركين مطلقا وقيل: أريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها، ولا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى ما بعده. وفي بعض النسخ: " ينكس الهام " وفي الكشف وغيره: " يجذ الأصنام " ومن قولهم: جذذت الشئ: كسرته. ومنه قوله تعالى:

" فجعلهم جذاذا ".

[59] الواو مكان حتى كما في رواية ابن أبي طاهر أظهر: و " تفرى الليل " أي انشق حتى ظهر ضوء الصباح.

[60] يقال: " أسفر الصبح " أي أضاء.

[61] زعيم القوم: سيدهم والمتكلم عنهم. والزعيم أيضا الكفيل. والإضافة لامية، ويحتمل البيانية.

[62] خرس بكسر الراء. والشقاشق جمع شقشقة بالكسر، وهي شئ كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج. وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل. وإسناد الخرس إلى الشقاشق مجازي.

[63] يقال: طاح فلان يطوح، إذا هلك أو أشرف على الهلاك وتاه في الأرض وسقط. والوشيظ بالمعجمتين: الرذل والسفلة من الناس، ومنه قولهم: إياكم والوشايظ. وقال الجوهري: " الوشيظ:

لفيف من الناس " ليس " أصلهم واحد " ا " أو بنو فلان وشيظة في قومهم أي هم حشو فيهم.

والوسيط بالمهملتين: أشرف القوم نسبا وأرفعهم محلا: وكذا في بعض النسخ وهو أيضا مناسب.

[64] يقال: فاه فلان بالكلام - كقال - أي لفظ به، كتفوه. وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد. وفيه تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم.

[65] البيض: جمع أبيض وهو من الناس خلاف الأسود. والخماص بالكسر: جمع خميص، والخماصة تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام، يقال: فلان خميص البطن من أموال الناس، أي عفيف عنها. وفي الحديث: " كالطير تغدو خماصا، وتروح بطانا ". والمراد بالبيض الخماص إما أهل البيت عليهم السلام ويؤيده ما في كشف الغمة: " في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "، ووصفهم بالبيض لبياض وجوههم، أو هو من قبيل وصف الرجل بالأغر، وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل ولعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل. أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان - رضي الله عنه - وغيره،

ويقال لأهل فارس: بيض، لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذا الغالب في أموالهم الفضة، كما يقال لأهل الشام: حمر، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم، والأول أظهر. ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان، وبالبيض الخماص الكمل منهم.

[66] الشيخ محمد فاضل المسعودي، كتاب الأسرار الفاطمية، ص477-478.

[67] نجم الشئ - كنصر - نجوما: ظهر وطلع. والمراد بالقرن: القوة. وفسر قرن الشيطان بأمته ومتابعيه.

[68] فغر فاه، أي فتحه، يتعدى ولا يتعدى. والفاغرة من المشركين: الطائفة العادية منهم تشبيها بالحية أو السبع. ويمكن تقدير الموصوف مذكرا على أن يكون التاء للمبالغة.

[69] القذف: الرمي، ويستعمل في الحجارة، كما أن الحذف يستعمل في الحصا، يقال: هم بين حاذف وقاذف. واللهوات بالتحريك: جمع لهاة وهي اللحمة في أقصى سقف الفم. وفي بعض الروايات: " في مهواتها " بالميم وهي بالتسكين: الحفرة وما بين الجبلين ونحو ذلك. وعلى أي حال المراد أنه صلى الله عليه وآله كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث عليا عليه السلام لدفعها وعرضه للمهالك. وفي رواية الكشف وابن أبي طاهر: " كلما حشوا نارا للحرب ونجم قرن للضلال ". قال الجوهري: " حششت النار: أوقدتها ".

[70] انكفأ، بالهمزة: أي رجع، من قولهم: كفأت القوم كفأ: إذا أرادوا وجها فصرفتهم عنه إلى غيره فانكفؤا، أي رجعوا.

[71] الصماخ، بالكسر: ثقب الأذن، والأذن نفسها. وبالسين كما في بعض الروايات لغة فيه.

والأخمص: ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي. ووطي الصماخ بالأخمص عبارة عن القهر والغلبة على أبلغ وجه، وكذا إخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شايعة.

[72] المكدود: من بلغه التعب والأذى. وذات الله: أمره ودينه وكل ما يتعلق به سبحانه. وفي الكشف: " مكدودا دؤوبا في ذات الله ".

[73] بالجر صفة الرسول، أو بالنصب عطفا على الأحوال السابقة، ويؤيد الأخير ما في رواية ابن أبي طاهر " سيدا في أولياء ".

[74] التشمير في الأمر: الجد والاهتمام فيه

[75] الكدح: العمل والسعي.

[76] قال الجوهري: "الدعة: الخفض، تقول منه: ودع الرجل فهو وديع أي ساكن، ووادع أيضا، يقال: نال فلان المكارم وادعا من غير كلفة". وقال: "الفكاهة بالضم: المزاح، وبالفتح مصدر فكه الرجل - بالكسر - فهو فكه: إذا كان طيب النفس مزاجا والفكه أيضا: الأشر والبطر "وقرئ: "ونعمة كانوا فيه فاكهين" أي أشرين، وفاكهين أي ناعمين. والمفاكهة: الممازحة. وفي رواية ابن أبي طاهر: "وأنتم في بلهنية وادعون آمنون" قال الجوهري: "هو في بلهنية من العيش أي سعة ورفاهية، وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره، وإنما صارت ياء لكسرة ما قبلها "وفي الكشف: "وأنتم في رفهنية" وهي مثلها لفظا ومعنى.

[77] صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة. أي كنتم تنتظرون نزول البلايا علينا، وزوال النعمة عنا.

[78] التوكف: التوقع. والمراد إخبار المصائب والفتن. وفي بعض النسخ: " تتواكفون الأخيار "، يقال: واكفه في الحرب أي واجهه.

[79] النكوص: الإحجام والرجوع عن الشئ. والنزال بالكسر: أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى خيلهما فيتضاربا. والمقصود من تلك الفقرات أنهم لم يزالوا منافقين لم يؤمنوا قط.

[80] الحسيكة: العداوة. قال الجوهري: " الحسك: حسك السعدان، الواحدة: حسكة. وقولهم:

في صدره علي حسيكة وحساكة أي ضغن وعداوة ". وفي بعض الروايات " حسكة النفاق " فهو على الاستعارة.

[81] سمل الثوب - كنصر -: صار خلقا. والجلباب بالكسر: الملحفة، وقيل: ثوب واسع للمرأة غير الملحفة، وقيل: هو إزار ورداء، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها.

[82] الكظوم: السكوت.

[83] نبغ الشئ - كمنع ونصر - أي ظهر، ونبغ الرجل: إذا لم يكن في إرث الشعر ثم قال وأجاد.

والخامل: من خفي ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له. والمراد بالأقلين: الأذلون. وفي بعض الروايات: " الأولين " وفي الكشف: " فنطق كاظم، ونبغ خامل ".

[84] الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله.

[85] يقال: خطر البعير بذنبه يخطر - بالكسر - خطرا وخطرانا: إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه، ومنه قول الحجاج لما نصب المنجنيق على الكعبة: " خطارة كالجمل الفنيق "، شبه رميها بخطران الفنيق.

[86] مغرز الرأس، بالكسر: ما يختفي فيه. وقيل: لعل في الكلام تشبيها للشيطان بالقنفذ، فإنه إنما يطلع رأسه عند زوال الخوف، أو بالمرجل الحريص المقدم على أمر، فإنه يمد عنقه إليه. والهتاف: الصياح. " وألفاكم " أي وجدكم.

[87] الغرة، بالكسر: الاغترار والانخداع. والضمير المجرور راجع إلى الشيطان. وملاحظة الشئ: مراعاته، وأصله من اللحظ وهو النظر بمؤخر العين، وهو أينما يكون عند تعلق القلب بشئ، أي وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للانخداع كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله. ويحتمل 0 أن يكون " للعزة " بتقدم المهملة على المعجمة. وفي الكشف: " وللعزة ملاحظين " أي وجدكم طالبين للعزة.

[88] النهوض: القيام، واستنهضه لأمر أي أمره بالقيام إليه.

[89] أي مسرعين إليه.

[90] أحمشت الرجل: أغضبته، وأحمشت النار: ألهبتها. أي حملكم الشيطان على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه، أو من عند أنفسكم. وفي المناقب القديم: " عطافا " بالعين المهملة والفاء، من العطف بمعنى الميل والشفقة، ولعله أظهر لفظا ومعنى.

[91] الوسم: أثر الكي، يقال: وسمته - كوعدته - وسما.

[92] الورود: حضور الماء للشرب، والإيراد: الإحضار. والشرب بالكسر: الحظ من الماء، وهما كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة. وفي الكشف: " وأوردتموها شربا ليس لكم ".

[93] لكلم: الجرح. والرحب بالضم: السعة.

[94] الجرح بالضم، الاسم، وبالفتح المصدر. و " لما يندمل " أي لم يصلح بعد.

[95] قبرته: دفنته.

[96] " ابتدارا " مفعول له للأفعال السابقة، ويحتمل المصدر بتقدير الفعل. وفي بعض الروايات:

" بدارا زعمتم خوف الفتنة " أي ادعيتم وأظهرتم لناس كذبا وخديعة أنا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعا للفتنة، مع أن الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها وهو عين الفتنة. والالتفات في " سقطوا " لموافقة الآية الكريمة.

[97] التوبة: ٤٩.

[98] الشيخ محمد فاضل المسعودي، كتاب الأسرار الفاطمية، ص480-482.

[99] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص650.

[100] بل ذكرت بعض الروايات أن لخروج اليماني والخراساني علامات تدل عليهما, منها أن خروج السفياني واليماني والخراساني يكون في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد.

[101] سورة يونس: الآية 59.

[102] سورة المائدة: الآية 80.

[103] سورة هود: الآية 28.

[104] وفي فترة حكم الإمام علي والإمام الحسن (عليهما السلام) جرت دماء الأبرياء على أيدي الخوارج ومعاوية وعائشة في الحروب الثلاثة التي شنوها ضد إمام المتقين ووصي رسول رب العالمين.

[105] محمد بن الحسن الصفار، بصائر الدرجات، مكتبة المرعشي النجفي ـ قم: ج1 ص413.

[106] بحار الأنوار: ج99 ص112.

[107] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج7 ص52.

[108] سورة هود: الآية 28.

[109] سورة الرعد: الآية 11.

[110] سورة القصص: الآية 5.

[111] نهج البلاغة: الحكمة 209.

[112] سورة محمد: الآية 7.

[113] أمالي الصدوق: 396 ح 3 المجلس 74.

[114] سورة القصص: الآية 5.

[115] القصص: 6.

[116] تفسير القمي 2: 133، و النقل بتلخيص.

[117] شرح ابن أبي الحديد 4: 336.

[118] الشيخ الصدوق، الخصال، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ج1 ص187.

[119] نهج البلاغة: الخطبة 100.

[120] شرح ابن أبي الحديد 4: 336.

[121] الأنبياء: 105.

[122] النور: 55.

[123] لتعطفن: لتميلن.

[124] شماسها: انعطافها وإدبارها.

[125] الضروس: الناقة سيئة الخلق، فهي مع ضيق خلقها تعطف على ولدها.

[126] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح: 506.

[127] الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381): 566.

[128] الغيبة: الشيخ الطوسي: (ت: 460 هـ): 184، ح143.

[129] الإرشاد، الشيخ المفيد (ت: 413 هـ): 2/340.

[130] المصدر نفسه: 2/340-341.

[131] البداء: الظهور بعد الخفاء في اللغة، وتصح نسبته لله تعالى في الاصطلاح بمعنى رفع الأمر التكويني الظاهر في الاستمرار وإظهار أمر جديد على خلاف المتوقع، من غير أن يطرأ حدوث في علم الله تعالى أو تبدل، فيكون من جهته تعالى ابداءً واظهارًا للأمر الخفي، ومن جهة الناس ظهور أمر كان خافيًا عنهم أو غير متوقع لديهم. ينظر: تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد (ت: 413 هـ): 65 – 66.

[132] الغيبة، ابن أبي زينب النعماني (ت: 380 هـ): 314-315، ح10.

[133] الكافي: الشيخ الكليني (ت: 329): 1/339، ح13.

[134] أو النقص.

[135] الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 1/9-10.

[136] كنز العمال، المتقي الهندي (ت: 975): 14/592، ح 39679.

[137] مؤسسة نهج علوم البلاغة: https://inahj.org

اضف تعليق