إن الغرض من النظر إلى آثار الظالمين والاستماع إلى قصصهم هو الاعتبار، وليس الغرض إحياء أمجادهم وحث الناس إلى الاقتداء بهم، كما دأب عليه بعض الحكام الظلمة في العصر الحاضر، حيث قصدوا بذلك تثبيت دعائم حكمهم الاستبدادي عبر إيهام أنهم يعيدون الأمجاد الغابرة، فيكون نظير...
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {آل عمران/137} هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {آل عمران/138} وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {آل عمران/139}
137- ثم إن الله تعالى يحث المؤمنين على الطاعة وترك المعصية، بالاعتبار بما جرى على الأمم السابقة الذين كذبوا الرسل: {قَدۡ خَلَتۡ} مضت {مِن قَبۡلِكُمۡ} في الأمم السابقة {سُنَنٞ} سنّها الله تعالى في الأمم المكذّبة، وهي تجري فيكم أيضاً إن كذّبتم، {فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ} في البلاد التي كانوا فيها، {فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ} حيث أهلكوا ولم تبق من مساكنهم إلاّ الأطلال.
138- {هَٰذَا} السير والنظر في عاقبة المكذبين {بَيَانٞ} أي إيضاح الحق {لِّلنَّاسِ} عامة لتتم الحجة على الجميع، {وَهُدٗى} أي إرشاد إلى طريق الحق، {وَمَوۡعِظَةٞ} أي نصح وتذكير بالعواقب {لِّلۡمُتَّقِينَ} فمن لم يكن يعلم يهتدي، ومن كان يعلم يُذكر.
139- وحيث تبين لكم أن سنة الله جارية في إهلاك المكذبين وإزالة نعمهم فعليكم أن تستقيموا وتتحملوا صعوبات طريق الحق لتجري فيكم سنته تعالى في المؤمنين {وَلَا تَهِنُواْ} أي لاتضعفوا عن العمل ومنه جهاد الأعداء، {وَلَا تَحۡزَنُواْ} على ما أصابكم من المصائب، {وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ} الغالبون {إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} بامتثالكم أوامر الله ورسوله، وهكذا كان في غزوة أ ُحد حيث امتثلوا أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) في البداية فانتصروا، ثم خالفوا فانهزموا ونُكل بهم، ثم استجابوا لله تعالى ولرسوله (صلى الله عليه وآله) وصبروا فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء، فالعلو مشروط بالإيمان.
بحوث
الأول: قوله تعالى: {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ فَسِيرُواْ...} الآية.
بعد الدعوة إلى المسارعة إلى أسباب المغفرة والجنة، والدعوة إلى التوبة عن المخالفات، وبيان أن المصير سيكون إلى الجنة، بعد ذلك يتم بيان مصير المكذبين، فإنهم أهلكوا وزالت نعمهم وانقرضت حضارتهم، فعلى الإنسان أن ينظر إلى آثارهم الباقية ليعتبر بها، وليعلم أن مبادلة الخلود في الجنة بدنيا فانية زائلة ليس من شأن أولي الألباب.
واعلم أن الأمور العقلية الصرفة لا تؤثر في الكثير من الناس، فلا تتبدل عندهم تلك المعلومات إلى قناعات حقيقية بحيث تؤثر في تصرفاتهم وأعمالهم، إلاّ إذا اقترنت بإدراك الشيء عبر الحواس، فغالب الناس لايكترثون بالمعلومات الطبية - مثلاً - إلاّ بعد تجربة المضار أو المنافع، وهكذا في غالب أمورهم، وحيث إن مسائل الآخرة من الغيب الذي لايمكن إحساسه فدعوتهم إليها اقترنت بذكر الأمثال المحسوسة، وايجاد طرق محسوسة لإدراكها، وأهم الحواس في هذا المضمار البصر والسمع، فالعاقبة الدنيوية للظلم أو العدل إذا كانت ماثلة بين أيدي الناس ينظرون إليها ويستمعون إلى قصصها كان لها الأثر الكبير في ايجاد قناعة لدى الإنسان بحسن العدل وقبح الظلم، بحيث تؤثر تلك القناعة في سلوكه وأعماله.
وهكذا النظر في آثار الماضين وخاصة أطلال قصور حكام الدنيا، حيث يرى الإنسان زوال نعيمهم وهلاكهم بعد أن كانت حياة الناس وأرزاقهم رهن إشارتهم، فلم تشفع لهم عساكرهم ولا أموالهم ولا سطوتهم من الله شيئاً.
ثم إن الغرض من النظر إلى آثار الظالمين والاستماع إلى قصصهم هو الاعتبار، وليس الغرض إحياء أمجادهم وحث الناس إلى الاقتداء بهم، كما دأب عليه بعض الحكام الظلمة في العصر الحاضر، حيث قصدوا بذلك تثبيت دعائم حكمهم الاستبدادي عبر إيهام أنهم يعيدون الأمجاد الغابرة، فيكون نظير: {إِنَّا وَجَدۡنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰٓ أُمَّةٖ وَإِنَّا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ}(1).
فحفظ الآثار أمر حق لكن لابد أن يكون بغرض صحيح، وأهم تلك الأغراض هو الاعتبار بهم، قال تعالى: {فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ}(2).
فالغرض الأساسي هو معرفة تبعات الظلم والاستكبار على الله تعالى.
وأما الصالحون فآثارهم تُذكر بهم وبالله سبحانه وتعالى فلذا يلزم حفظها من هذه الجهة، وأيضاً تساعد في فهم كثير من قضاياهم المروية في كتب الآثار، وفي تصحيح أخطاء بعض الروايات التاريخيّة، وقد حفظ الله تعالى مقام ابراهيم (عليه السلام) تذكيراً به وتخليداً لتضحياته كما مرّ، ولذا كان من أهم الأمور حفظ آثار الرسول (صلى الله عليه وآله) في مكة والمدينة، والذي أزال الوهابيون كثيراً منها وهم يسعون إلى إزالة ما تبقى منها، سعياً لاطفاء نور الله تعالى، وليتمكنوا من تزوير بعض حقائق التاريخ أو التشكيك فيها بعد زوال آثارها.
قوله تعالى: {قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنٞ} أي لله تعالى سنن في خلقه، وهذه السنن غير قابلة للتغيير والتحويل كما قال: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗاۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحۡوِيلًا}(3) وهذه السنن تحكم التاريخ، وهناك علم يسمى (فلسفة التاريخ) يبحث عن هذه السنن.
وفي هذه الآيات تُذكر سُنّتان -مما يرتبط بغزوة أ ُحد-.
1- سنته سبحانه في المكذبين، بإهلاكهم وإزالة نعمهم.
2- سنته تعالى في المؤمنين، بأنهم الأعلون، بشرط إلتزامهم بلوازم الايمان.
ولكن لمّا كان المؤمنون قد يضعفون ويخالفون أو قد يختلط بهم غير المؤمنين لذا كانت له تعالى سنة أخرى أيضاً هي تداول الأيام بين الناس، فيكون رفعاً لدرجات المؤمنين وتمييزاً لهم عن غير المؤمنين ولغير ذلك من العِلل التي ذكرت في الآيات التالية.
وقوله: {سُنَنٞ} جمع سنة بمعنى الطريقة والعادة، و(سنة الله) هي الوقائع التي قدّرها الله تعالى بجعل شيء علة لشيء آخر وخاصة فيما يرتبط بأفعال الناس بحيث تكون لها آثار لاتنفك عنها.
وقوله: {فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ} بيان لعدم الاكتفاء بالاستماع عن بعيد، بل الذهاب والنظر بالعين والاستماع للقصص عن قرب، فإن ذلك أكثر تأثيراً وأشد إقناعاً.
الثاني: قوله تعالى: {هَٰذَا بَيَانٞ لِّلنَّاسِ وَهُدٗى وَمَوۡعِظَةٞ لِّلۡمُتَّقِينَ}.
أي السير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين ينفع الناس عموماً، والمتقين خصوصاً، فليس الأمر اعتباطياً، إذ إن الله تعالى حكيم، والحكيم لايضع الشيء إلاّ في موضعه، فيتعالى سبحانه عن اللغو والعبث والتكليف من غير مصلحة.
1- بيان للناس، أي ايضاح الحقائق للناس عامة، وذلك ليهتدي من شاء الهداية، ولتتم الحجة على من شاء الضلالة، فمن طرق البيان القول، ومن طرقه ترك الآثار، كما هناك طرق أخرى قال تعالى: {وَلَقَد تَّرَكۡنَا مِنۡهَآ ءَايَةَۢ بَيِّنَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ}(4)، وقال: {وَتَرَكۡنَا فِيهَآ ءَايَةٗ لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ}(5)، وأما الغرض من البيان فكما قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ}(6)، وقال: {لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ}(7)، وقال: {لَعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ}(8)، وقال: {لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ}(9)، وقال: {لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ}(10) وغيرها.
ولايخفى أن البيان أعم من الإيضاح بالقول أم بالفعل، تشريعاً أم تكويناً.
2- هدى للمتقين، أي زيادة هداية لهم وتثبيتهم على تقواهم، كما قال: {وَٱلَّذِينَ ٱهۡتَدَوۡاْ زَادَهُمۡ هُدٗى وَءَاتَىٰهُمۡ تَقۡوَىٰهُمۡ}(11)، وفي سورة الحمد: {ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ}، فالمراد هنا الهداية التكوينية بتوفيقهم في الاستمرار في هدايتهم وتقواهم.
3- موعظة للمتقين، أي بتذكيرهم للعواقب، فإن أصل الموعظة هي القول الذي يرق له القلب(12)، ثم تُوسّع فيه فأطلق حتى على الأفعال التي تُنبِّه الإنسان وتزيده بصيرة.
ومن هذا يتبين الفرق في هذه الآية بين الهداية والوعظ، فالهداية تثبيت على طريق الرشد والتقوى، والموعظة تذكير بالعاقبة، ويحتمل أن يراد بالهداية الابتداء بها لمن كانت له القابلية فأراد أن يتقى، وبالموعظة الاستمرار بالهداية لمن كان متقياً فتكون تثبيتاً له.
الثالث: قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ}.
هذا بيان لسُنّته تعالى في جانب المؤمنين، وهو علّوهم وغلبتهم على الكفار بشرط الإيمان، قال تعالى: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ}(13)، وقال: {فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ}(14)، وقال: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ}(15).
ولا يخفى أن الإيمان هو بمعنى الالتزام بجميع ما أمر الله تعالى، ومن ذلك التمسك بالأسباب الطبيعية للغلبة، كإعداد القوة، وعدم اطاعة الكفار، وعدم عصيان القيادة المشروعة، وعدم التنازع، وعدم الفرار من الزحف.
وقد بيّن الله تعالى هذه الأسباب في القرآن الكريم، بعضها في الآيات التالية تبياناً لأسباب هزيمتهم يوم أحد، وكقوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ}(16).
وفي هذه الآية تثبيت لقلوبهم لتطمئن، ولئلا تضعضع بسبب كثرة الخسائر في غزوة أحد، فيقال لهم إرشاداً وتبصرة: {وَلَا تَهِنُواْ} أي لايُصِبكم الضعف في أفعالكم وجهادكم في المستقبل، و{وَلَا تَحۡزَنُواْ} على هزيمتكم الماضية وكثرة خسائركم، بل عليكم بالإيمان الذي هو سبب لعلوكم وغلبتكم على الكفار، ولذا قيل: فأنتم الأعلون وكلمة الكفار السفلى لأنكم على الحق وهم على باطل، وقتالكم لله وقتالهم في سبيل الطاغوت، وشهداؤكم في الجنة وقتلاهم في النار، وأنكم منصورون في العاقبة وغالبون عليهم ولو بعد حين.
والحاصل: إنه بعد علمكم بهذه الحقيقة بأنكم الأعلون فلا مُبرِّر للضعف والحزن، فانظروا إلى المستقبل بنظرة متفائلة، والتزموا بدينكم وبما يأمركم من إعداد وسائل النصر، وانتهوا عما ينهاكم عنه من أسباب الهزيمة، واعتبروا بما جرى عليكم يوم أ ُحد حيث التزمتم فانتصرتم، ثم عصيتم فانهزمتم، ثم أطعتم فردّ الله الكفار عنكم.
اضف تعليق