بعض الآيات القرآنية يمكننا أن ننال بعض ما فيها من القواعد والمسائل من هذا العلم أو ذاك، ولكن لا بد لنا في ذلك من معرفة الضوابط كي لا نشط عن التفسير العلمي المطابق للواقع المسموح به إلى التفسير بالرأي المردوع عنه. التي يتكفل الالتزام بها طوال مراحل التفسير العلمي...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).
والبحث عن التفسير العلمي للقرآن الكريم يدور في ضمن المحاور التالية: تعريفه، والأدلة على صحته وحجيته بقول مطلق أو في الجملة، والمناقشات، والضوابط وغير ذلك، وذلك في ضمن المطالب التالية:
تعريف التفسير العلمي وأنواع العلوم
المطلب الأول: التعريف، فان المقصود بالتفسير العلمي التفسير بإحدى مجاميع العلوم الخمسة التالية:
1- العلوم الطبيعية، كتفسير بعض آيات القرآن الكريم بقواعد من علم الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء والفلك وعلوم الأرض والطب، كالآيات الكريمة التي تتحدث عن الزمن، النور، الصواعق، الذرة، الأجِنّة، تطور الخِلقة، الحرارة. إلخ.
2- العلوم الإنسانية، كتفسيره بقواعد من علم الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، الإدارة، النفس، فلسفة التاريخ...
وعلى سبيل المثال تفسير بعض آياته استناداً إلى الاستجابة الشرطية التي طرحها بافلوف أو استنباط هذه النظرية منها، أو تفسير بعضها استناداً إلى الآراء المطروحة في فلسفة التاريخ عن حركة التاريخ وانها دورية أو تصاعدية أو متأرجحة.
وهاتان المجموعتان من العلوم تندرجان تحت دائرة العلوم التجريبية.
3- العلوم العقلية، كالفلسفة والرياضيات والهندسة، وعلى سبيل المثال الكلام عن النظام الهندسي لآيات القرآن الكريم وعن حكومة المعادلات الرياضية على عدد الآيات والكلمات والحروف... إلخ وتفسير الآيات على ضوء ذلك.
4- العلوم النقلية، كتفسير القرآن بقواعد من علم التاريخ وعلم فقه اللغة وعلم اللغة...
5- العلوم الشهودية، كتفسيره بما يدعيه بعض العرفاء أو الصوفية من الكشف والشهود.
الاستدلال بـ(تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)
المطلب الثاني: المستند، فان الذين اعتمدوا هذا النوع من التفسير استدلوا بأدلة عديدة، نذكر احداها الآن مرجئين سائرها إلى البحث القادم إن شاء الله تعالى، فمن الأدلة قوله تعالى: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (سورة النحل: الآية 89) و(وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ في كِتابٍ مُبينٍ) (سورة الأنعام: الآية 59) فمادام القرآن تبياناً لكل شيء وأن كل رطب ويابس فيه، فاننا سنجد فيه كل رطبٍ كعلم الكلام والفلك والطب والفقه والكيمياء والفيزياء.. إلخ وكل يابسٍ كعلم السحر والشعبذة والأحلام، كما ان من أحدهما علوم الرمل والجفر والاسطرلاب والكف والفنجان.. إلخ.
وقد نقل الغزالي، مثلاً في إحياء العلوم عن بعض العلماء ان القرآن الكريم يحتوي على 77.200 علم بعدد كلماته(1) وأن ذلك يضرب في أربعة(2) نظراً إلى أن كل كلمة لها ظاهر وباطن وحدّ ومطلع(3).. ويكفي أن نقول له: من أين لك هذا؟ من أين أن كل كلمة تشكل علماً كاملاً؟ وإذا كان الأمر بمجرد الحدس أو التشهي فلم لا تقول: كل كلمة تشكل ألف علم أو مليون علم مثلاً؟ ولعلها تكون كذلك في علم الله تعالى ولدى الراسخين في العلم، لكن من أين لك هذا؟ ثم من أين أن حد ومطلع.. إلخ هو علم كامل؟ فلعلها، فيما نعلم، إشارات إلى قواعد أو مسائل أو معاني وليس علوماً.
كما ضرب السيوطي في الاتقان في علوم القرآن مثلاً لقول بعضهم باشتمال القرآن الكريم على جميع العلوم فقال: (وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ مِنَ الْقُرْآنِ لِمَنْ فَهَّمَهُ اللَّهُ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمُ اسْتَنْبَطَ عُمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ: (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) فَإِنَّهَا رَأْسُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً وَعَقَّبَهَا بِالتَّغَابُنِ لِيَظْهَرَ التَّغَابُنُ فِي فقده)(4) ومن أين أن وقوع هذه الآية في آخر السورة رقم 63 يدل على أن عمره الشريف 63 سنة؟ فلعله يدل على أنه بقي من عمره 63 يوماً منذ نزول الآية؟ أو لا يدل على شيء من ذلك أبداً؟.
وذهب عبد الرزاق نوفل في قوله تعالى: (تفسير الآية (هُوَ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها...) (سورة الأعراف: الآية 189) إلى أن المراد بالنفس هو البروتون والإلكترون، فيكون معنى الآية حينئذٍ أن جميع الأشياء في الكون والحياة مخلوق من هذه الأجزاء السالبة والموجبة)(5) رغم وضوح أن البروتون لا يطلق عليه النفس في اللغة ولا في العرف العام ولا لدى المختصين.
المناقشة
ولكنّ هذا الاستدلال ضعيف لأنه من الخلط بين الثبوت والإثبات، فإن وجود كل رطب ويابس في كتاب مبين، ثبوتاً وواقعاً مما لا شك فيه، ولكن من أين لك أنت أن تصل إليه؟ نعم، لقد أودعت علومه لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) دالة إذ (وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (سورة آل عمران: الآية 7) و(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ في إِمامٍ مُبينٍ) (سورة يس: الآية 12) و(أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعلي بَابِهَا، فَمَنْ أَرَادَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ فَلْيَأْتِهَا مِنْ بَابِهَا)(6) و (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)(7).
نعم، من الصحيح القول أن بعض الآيات القرآنية يمكننا أن ننال بعض ما فيها من القواعد والمسائل من هذا العلم أو ذاك، ولكن لا بد لنا في ذلك من معرفة الضوابط كي لا نشط عن التفسير العلمي المطابق للواقع المسموح به إلى التفسير بالرأي المردوع عنه.
ضوابط التفسير العلمي
المطلب الثالث: الضوابط، فان هنالك مجموعة من الضوابط العامة والخاصة التي يتكفل الالتزام بها طوال مراحل التفسير العلمي، بخروج المفسر من دائرة التفسير بالرأي إلى دائرة التفسير الحجة المبرئ للذمّةِ:
1- أن تكون الآية ظاهرة الدلالة عرفاً
الضابط الأول: أن تكون الآية الكريمة ظاهرة الدلالة عرفاً على تلك الحقيقة العلمية، ولو بالنحو التعليقي بمعنى ان تكون بحيث لو أُلفِتَ العرف إلى دلالتها لوجدها، بفطرته، ظاهرة الدلالة بالفعل.
وذلك كقوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديراً) (سورة الفرقان: الآية 2) و(صُنْعَ اللَّهِ الَّذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (سورة النمل: الآية 88) فانها ظاهرة الدلالة، إن لم تكن نصاً، في أن كل شيء مُهندَسٌ على أبلغ نظام وأتقنه، ومن هنا فان كافة الاكتشافات العلمية لمدى الإتقان الذي يلفّ الكون كله: من خلق الذرة إلى المجرة وفواصل عناصر الذرة وأطراف الكواكب والسيارات والمجرات والمادة والطاقة والكوانتوم.. إلخ، يمكن أن تعتبر مصداقاً لقوله تعالى: (فَقَدَّرَهُ تَقْديراً) وهو من التفسير بالمصداق.
تفسير الفلاسفة والمجلسي للعرش والكرسي
وذلك على العكس من تفسير العرش والكرسي بالفلك الثامن والتاسع، كما نقل عن العلامة المجلسي (قدس سره) وغيره (7- العلامة المجلسي (ت1111هـ): صاحب كتاب بحار الأنوار: تعرّض لهذا النوع من التفسير في بعض أجزاء هذا الكتاب، وذكر أنّه لا يوجد تعارض بين "السماوات السبعة" الموجودة في القرآن في الآية (29) من سورة البقرة، وما ثبت في علوم النجوم من الأفلاك التسعة؛ لأنّ الفلك الثامن والتاسع في لغة القرآن هو الكرسي والعرش(8).
8- الملا صدرا الشيرازي(9) (ت 1050هـ): الفيلسوف الشهير أكدّ على هذا الاحتمال في تفسيره وكذلك الملا هادي السبزواري في شرح المنظومة(10).(11)
أقول: لفظ العرش والكرسي من المتشابهات المجمل المراد منهما، في حد ذاتهما كلما وردا في الآيات القرآنية فكيف يقال مثلاً أن (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (سورة هود: الآية 7) أي كان على الفلك التاسع بالمصطلح الفلكي؟ وعلى أي فانه، لولا الروايات المفسرة، مجملٌ في المقصود منه، وليس لهما ظهور إلا في معناهما اللغوي والعرفي المعهود وحيث انه ممتنع في حقه تعالى فيراد به معنى آخر مجازي أو حقيقي لا نعلمه أو قد نعلمه عبر الروايات الشارحة، ودعوى كون المراد منهما الفلك الثامن والتاسع تخرص من القول ودعوى بلا دليل وهو من التفسير بالرأي المنهي عنه، والنسبة إلى العلامة المجلسي غير صحيحة إذ أولاً: انه (قدس سره) صرح بان هذا الرأي هو رأي الحكماء، أي الفلاسفة، قال: (وأقول: جملة القول في ذلك أن الحكماء أثبتوا أفلاكا تسعة، لأنهم وجدوا أولا لجميع الكواكب حركة سريعة من المشرق إلى المغرب، وهي التي بها يتحقق طلوعها وغروبها، وبها يتحقق الليل والنهار، وهي المسماة بالحركة اليومية وبالحركة الأولى وبحركة الكل، فأثبتوا لها فلكاً واحداً يشتمل على الجميع، ثم وجدوا لكل [واحد] من الكواكب السبعة المعروفة بالسيارة حركة من المغرب إلى المشرق مخالفة لحركة آخر منها في السرعة والبطء، فأثبتوا لكل واحدة منها فلكا، ثم وجدوا لجميع الكواكب التي غير السبعة حركة واحدة غربية بطيئة جداً فأثبتوا لها فلكا على حدة، فحصلت تسعة أفلاك لتسعة حركات، وهي المسماة بالأفلاك الكلية. وأما ترتيب السيارات فالمشهور أن القمر في الفلك الذي هو أقرب إلينا، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ ثم المشتري، ثم زحل، ثم فلك الثوابت، ثم الأطلس الذي هو غير مكوكب، وما ورد في لسان الشرع بلفظ السماوات ينزلونها على أفلاك السيارات وبلفظ الكرسي على فلك البروج وهو الثامن وبلفظ العرش على التاسع)(12).
ثانياً: انه صرح ببطلان هذه النظرية وتزييف هذا القول قال: (تحقيق وتوفيق: اعلم أن ملوك الدنيا لما كان ظهورهم وإجراء أحكامهم على رعيتهم إنما يكون عند صعودهم على كرسي الملك وعروجهم على عرش السلطنة ومنهما تظهر آثارهم وتتبين أسرارهم، والله سبحانه لتقدسه عن المكان لا يوصف بمحل ولا مقر وليس له عرش ولا كرسي يستقر عليهما، بل يطلقان على أشياء من مخلوقاته أو صفاته الكمالية على وجه المناسبة، فالكرسي والعرش يطلقان على معان:
أحدها: جسمان عظيمان خلقهما الله تعالى فوق سبع سماوات، وظاهر أكثر الاخبار أن العرش أرفع وأعظم من الكرسي، ويلوح من بعضها العكس، والحكماء يزعمون أن الكرسي هو الفلك الثامن، والعرش هو الفلك التاسع، وظواهر الاخبار تدل على خلاف ذلك من كونهما مربعين ذاتي قوائم وأركان، وربما يؤولان بالجهات والحدود والصفات التي بها استحقا التعظيم والتكريم، ولا حاجة لنا إلى هذه التكلفات.
وإنما سميا بالاسمين لبروز أحكامه وتقديراته من عندهما، وإحاطة الكروبيين والمقربين وأرواح النبيين والأوصياء بهما، وعروج مَن قرّبه من جنابه إليهما، كما أن أوامر الملوك وأحكامهم وآثار سلطنتهم وعظمتهم تبدو منهما، وتطيف مقربوا جنابهم وخواص ملكهم بهما، وأيضا لما كانا أعظم مخلوقاته الجسمانية وفيهما من الأنوار العجيبة والآثار الغريبة ما ليس في غيرهما من الأجسام فدلالتهما على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته سبحانه أكثر من سائر الأجسام، فلذا خصا بهذين الاسمين من بينهما، وحملتهما في الدنيا جماعة من الملائكة كما عرفت، وفي الآخرة إما الملائكة أو أولوا العزم من الأنبياء مع صفوة الأوصياء عليهم السلام كما عرفت، ويمكن أن يكون نسبة الحمل إليهم مجازا لقيام العرش بهم في القيامة وكونهم الحكام عنده والمقر بين لديه.
وثانيها: العلم كما عرفت إطلاقهما في كثير من الاخبار عليه وقد مر الفرق بينهما في خبر معاني الأخبار وغيره، وذلك أيضا لان منشأ ظهوره سبحانه على خلقه العلم والمعرفة، وبه يتجلى على العباد، فكأنه عرشه وكرسيه سبحانه وحملتهما نبينا وأئمتنا عليهم السلام لأنهم خزان علم الله في سمائه وأرضه لا سيما ما يتعلق بمعرفته سبحانه.
وثالثها: الملك، وقد مر إطلاقهما عليه في خبر (حنان) والوجه ما مر أيضا.
ورابعها: الجسم المحيط وجميع ما في جوفه أو جميع خلق الله كما ذكره الصدوق - ره - ويستفاد من بعض الأخبار، إذ ما من شيء في الأرض ولا في السماء وما فوقها إلا وهي من آيات وجوده وعلامات قدرته، وآثار وجوده وفيضه وحكمته فجميع المخلوقات عرش عظمته وجلاله، وبها تجلى على العارفين بصفات كماله وهذا أحد المعاني التي خطرت ببالي الفاتر في قولهم عليهم السلام (وارتفع فوق كل منظر) فتدبر.
وخامسها: إطلاق العرش على كل صفة من صفاته الكمالية والجلالية إذ كل منها مستقر لعظمته وجلاله، وبها يظهر لعباده على قدر قابليتهم ومعرفتهم فله عرش العلم، وعرش القدرة، وعرش الرحمانية، وعرش الرحيمية، وعرش الوحدانية، وعرش التنزه كما مر في خبر حنان وغيره. وقد أوّل الوالد - ره - الخبر الذي ورد في تفسير قوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) أن المعنى: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء، أن المراد بالعرش هنا عرش الرحمانية والظرف حال أي الرب سبحانه حال كونه على عرش الرحمانية استوى من كل شيء، إذ بالنظر إلى الرحيمية التي هي عبارة عن الهدايات والرحمات الخاصة بالمؤمنين أقرب، أو المراد أنه تعالى بسبب صفة الرحمانية حال كونه على عرش الملك والعظمة والجلال استوى نسبته إلى كل شيء، وحينئذ فائدة التقييد بالحال نفي توهم أن هذا الاستواء مما ينقص من عظمته وجلاله شيئا.
وسادسها: إطلاق العرش على قلب الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وكُمّل المؤمنين فإن قلوبهم مستقر محبته ومعرفته سبحانه، كما روي أن قلب المؤمن عرش الرحمن وروي أيضا في الحديث القدسي (لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن).
ثم اعلم أن إطلاقهما على بعض المعاني عند التصريح به أو إقامة القرائن عليه لا ينافي وجوب الاذعان بالمعنى الأول الذي هو الظاهر من أكثر الآيات والاخبار، والله المطلع على الاسرار)(13).
إذاً: العلامة المجلسي يرفض أولاً تفسير العرش والكرسي بالفلك الثامن والتاسع، بالصراحة في أول كلامه وفي منتهاه، ثم انه لا يتبرع بتفسيرهما من عندياته ولا يحاول تفسيرها بحسب، حتى، مسلمات علم الفلك ذلك اليوم، بل انه يتتبع في تفسيرهما الروايات ويدور مدارها، كما ويرجّح المعنى الأول الذي صار إليه بحسب ما استظهره من أكثر الآيات والروايات.
2- أن تكون الحقيقة العلمية قطعية
الضابط الثاني: أن يكون التفسير العلمي قطعياً، بمعنى أن تكون الحقيقة العلمية قطعية، فانه حينئذٍ وإن لم يكن اللفظ القرآني ظاهر الدلالة عليه، يصح تفسير الآية به، بمعنى تطبيقها عليه، من باب التفسير بالمصداق.
فمثلاً: قوله تعالى (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (سورة الحجر: الآية 22) فقد ثبت علمياً أن الرياح تلقح السحب فتُمطِر كما أنها تلقح الأشجار فتثمر، إذ تنقل غبار الطلع مثلاً من المئبر في الشجرة الذكر إلى الميسم في الشجرة الأنثى، (وفي علم النبات ادرك الخبراء ان التلقيح هو عملية اساسية من اجل الإخصاب وتكوين البذور، حيث تنتقل حبوب اللقاح من الاعضاء التكاثرية الذكرية للزهرة (المئبر) إلى الاعضاء الانثوية في الزهرة (الميسم)، ويتم بذلك الإخصاب، وعندما يتم التلقيح بين العناصر الذكرية والانثوية في الزهرة الواحدة يسمى التلقيح بالتلقيح الذاتي، اما عندما يكون بين زهرتين مختلفتين، يسمى عندها بالتلقيح المختلط.
تتم طرائق التلقيح بأساليب مختلفة باختلاف نوع النبات، وهناك طرق للتلقيح غير الطرق التي يقوم الإنسان بها للتأكد من تلقيح الزهرة وهي:
1- التلقيح عن طريق المياه
2- التلقيح عن طريق الرياح
3- التلقيح عن طريق الحيوانات: مثل الحشرات، والطيور
الرياح لها دور كبير في عمليات نقل حبوب اللقاح في النباتات التي ليس لديها ازهار ذات رائحة ورحيق والوان بإمكانها ان تجذب الحشرات، فتقوم الرياح عندها بنقل حبوب اللقاح لمسافات واسعة، مثال على ذلك هو نقل الرياح للقاح الصنوبر لمسافة يمكن ان تصل إلى 800 كيلومتر قبل ان تصل الرياح للعناصر الانثوية ويحدث عندها الإلقاح.
النباتات التي تعتمد على التلقيح بواسطة الرياح متعددة ونذكر منها: الصنوبريات، والحور والسنديان، والبندق، والقراص والقنب، وقد اكدت المراجع العالمية ان الرياح تسهل نشر حبوب اللقاح، لأن العناصر الذكرية التي تنتج حبوب اللقاح تكون معرضة للرياح والهواء، أو لأن حبوب اللقاح متواجدة في اعلى الشجرة أو النبتة)(14) وحينئذٍ يصح أن نقول أن من مصاديق الآية الكريمة لقاح الرياح للسحب وللأشجار والنباتات.
ولكن قد يكشف تطور العلم خطأ بعض المسلّمات؟
ولكن قد يعترض على ذلك بأن القطعيات العلمية، قد يُكتشف إثر تطور العلم، بطلان بعضها، فكيف نجوّز التفسير العلمي للقرآن والقرآن مما (لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميدٍ)؟ (سورة فصلت: الآية 42) عكس بعض المسلمات العلمية؟.
والجواب: أولاً: ان العلم حجيته ذاتية (أو القطع على ما قيل) فمادام متحققاً فانه لا يمكن الردع عنه مادام طريقياً.
ثانياً: لا يخلّ بحجية الحجج تخلّفها أحياناً؛ ألا ترى أن خبر الثقة الضابط حجة من غير أن تخلّ بحجيته الحقيقة المسلّمية التالية وهي: أنّ الثقة قد يخطئ أحياناً بل قد يكذب أحياناً؛ فانه غير معصوم لكن الأصل العام حجية خبره ما لم يعلم كذبه أو خطؤه ولم تقم قرينة على الخلاف، فكذلك الأمر في القطع بل هو أولى بالحجية.. بعبارة أخرى: ان الحجة تتعايش مع احتمال الخلاف في الظنون المعتبرة، ومع الخلاف الثبوتي، في القطع، بنحو القضية الحقيقية.
ثالثاً: ان التفسير العلمي القطعي الذي ثبت علمياً، مع تطور العلوم، خطؤه إضافة إلى كونه نادراً، فانه معلول للعلة التالية وهي: أن الخطأ نشأ من عدم ثبوته بالطرق العلمية السليمة، بل إنما تُلِقّي بالقبول تقليداً فقط مع كونه مستنداً في حينه إلى مجرد حدس من أحد العلماء أو عدد منهم لا إلى مشاهدة وحس ودراسة علمية حقيقية.
وعلى هذا فان الواجب لدى التفسير العلمي للقرآن الكريم الفحص عن منشأ تلك الحقيقة العلمية المسلّمة فإن كان المنشأ مستجمعاً لشرائط التحقيق العلمي القطعي، صح التفسير وإلا فلا.
إشارة إلى منشأ الخطأ في هيئة بطليموس
وعلى سبيل المثال فان هيئة بطليموس (أو بطلُميوس)(15) كانت هي الحاكمة على جميع العلماء طوال حوالي ألف واربعمائة عام فقد كان يذهب إلى أن الأرض ساكنة وهي مركز الكون وأن الشمس وسائر السيارات كالقمر وزهرة وعطارد والشمس والمريخ والمشتري وزحل، بالترتيب، تدور حولها في مدارات دائرية وقد رصد 1222 نجماً ودرس حركاتها بدقة بالغة، وأثبت أن الأفلاك تسعة، لكن البولندي كوبرنيك(16) المتوفى 1543 أثبت بعد طول عناء أن العكس هو الصحيح وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس، لا العكس...
والمهم: ان التحقيق يقودنا إلى أن منشأ إجماع العلماء طوال 14 قرناً على الخطأ في هذه القضية الفلكية الخطيرة هو تقليدهم من دون تحقيق، لشخص واحد هو بطليموس وان هذا الشخص اعتمد على مجرد حدسه في تسجيل نظريته في كتابه الشهير الـمَجَسْطي.. وذلك انه وإن أصاب في دراسته لحركات الكواكب ومساراتها، لكنه اخطأ في الجانب الحدسي من الأمر:
أولاً: في حدسه أن الأرض هي المركز الذي تدور حوله الشمس، لا العكس، إذ وقع في مصيدة خطأ الباصرة.
وثانياً: في حدسه الآخر وذلك انه لاحظ أن للكواكب حركات منتظمة فاخترع نظرية أن هنالك أفلاكاً ومسارات محددة دائرية.. لكنه حيث لاحظ، مع ذلك، وجود حركات غير منتظمة أيضاً من تباطؤ ورجوع أو ثبات وإقامة ورجعة، اخترع فكرة أخرى هي (التدوير) وارتأى انها أفلاك أخرى دائرية صغيرة تدور داخل مسارات الأفلاك الكبيرة فان المريخ مثلاً ضمن حركته العامة في فلكه الدائري الكبير يتحرك بحركات أخرى متباطئة أو متراجعة ضمن فلك داخلي صغير اسماه التدوير(17)، ثم انه يواصل مسيرته العامة وهو في دائرة هذا الفلك الصغير.. لكنه بعد ذلك حيث لاحظ بعدها أن نظرية التدوير لا تحل المشكلة كلها نظراً لوجود حركات أخرى لا يمكنه تفسيرها بحركات فلك التدوير اخترع فكرة وجود أفلاك أخرى أصغر داخل دائرة فلك التدوير أسماها (الممثّل).. وقد سجل ذلك كله في زيجه (الـمَجَسْطي).
فأنت ترى أن فكرة الأفلاك والافلاك داخل الأفلاك ثم الأفلاك داخل الأفلاك التي هي داخل الأفلاك، كلها حدسية مبنية على فرضية أن الأرض ساكنة وهي مركز العالم.. وعلى فرضية وجود أفلاك متداخلة.
ثم جاء كوبرنيك فاكتشف العكس وان الأرض هي التي تتحرك حول الشمس، لكنه بقي معتقداً بخطأ آخر وهو أن الأفلاك ومساراتها دائرية معتمداً، بدوره، على الحدس والتقليد الأعمى لأقوال السابقين.. إلى أن جاء تيخو براهي(18) الدانماركي المتوفى 1601م فاكتشف بالمراصد الدقيقة، وجه الخطأ وأن حركة الأفلاك ليست دائرية بل هي بيضية بل هي في الواقع شبه بيضية وأن لها مركزين وليس مركزاً واحداً كما هو شأن الدائرة، لكنه، بدوره، اخطأ إذ رجع إلى نظرية بطليموس في سكون الأرض.
3- أن يجعل المفسِّر القرآن أمامه
الضابط الثالث: أن يجعل المفسِّر للقرآن الكريم بالتفسير العلمي، القرآن أمامه فيهتدي به لا العكس، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (فَعَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ وَمَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ)(19) والماحل يفيد معنى مقابلاً للشافع تماماً فان الماحل هو من يسعى بك إلى السلطان، والشافع هو من يشفع لك عنده، فالقرآن شافع للمؤمنين والعاملين به ومن استحقوا الشفاعة بوجهٍ، وماحل للظالمين ومن استحقوا المحل بوجه، فهو لهؤلاء، على أولئك.
ومن هنا نعرف أن توظيف القرآن الكريم لخدمة آراء علمية مسبقة اتخذها المفسر، والذي يسميه بعضهم بتحميل الآراء عليه، هو الخطأ بعينه وأن على المرء أن يُخلي قلبه وعقله من المسبقات ويجلس كتلميذ صغير على مائدة القرآن الكريم ليستلهم منه، ولا يحمّله آراءه أو يوظفه لها وذلك، التوظيف، في الفرق الضالة كثير.
(وقد انتشر هذا النوع من التفسير في مصر، إيران، وأدّى ببعض العلماء إلى أن ينظروا بسلبية إلى مطلق التفسير العلمي، واعتبروه من التفسير بالرأي، كما اعتبره العلامة الطباطبائي نوعاً من التطبيق وهو الحق؛ لأن الـمُفسّر لا بد أن يبتعد عن كل رأي مسبق عند التفسير، حتى يمكنه أن يصل إلى نتائج صحيحة، وإلا فإنّه يؤدي إلى تحميل القرآن بعض النظريات المنتقاة من قبل الـمُفسر، وهي خطوة للوقوع في التفسير بالرأي الذي وعدت الروايات بأشد العذاب للذين يمارسونه)(20).
هل كان هابيل شيوعياً وقابيل إقطاعياً؟
وعلى سبيل المثال: التفسير الشيوعي لقضية هابيل وقابيل فـ(في موضع آخر قاموا بتطبيق الآيات التي تتحدث عن قابيل وهابيل على المجتمع الشيوعي والإقطاعي حتى تتماشى مع آرائهم في النظرية الماركسية)(21).
وخلاصة القصّة: أن نزاعاً نشب بين هابيل وقابيل، حسب بعض المفسرين، فقال آدم (عليه السلام) لهما أن يحتكما إلى قاعدة تقريب القربان، ثم سافر آدم (عليه السلام) إلى الحج، فعمد هابيل إلى أفضل غنمه وعمد قابيل إلى اسوأ زرعه، وقيل إلى تبنٍ، فوضعاه على جبل، فجاءت النار إلى غنم قابيل، علامة على القبول، فاستشاط قابيل غيظاً فقتله، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (سورة المائدة: الآيات: 27-31).
لكنّ الغريب أنّ بعض الشيوعيين جعل آراءه أمام القرآن الكريم، فقالوا: بأن هابيل كان شيوعياً وأن قابيل كان إقطاعياً! ولكن ما الدليل على ذلك إلا شطحات الخيال الجامح والقول بلا دليل؟ فمن أين ان قابيل كان إقطاعياً؟ وما الدليل على انه كان يمتلك مزارع كبيرة وقد استعبد، أو استخدم، الكثير من المزارعين كخدم أو عبيد وصادر جهودهم لصالحه؟ كي يكون إقطاعياً، فان من الثابت تاريخياً انه كان يزرع الأرض فأين الدليل على انه كان له مزارعون يستعبدهم.. إلخ ثم من أين ان قابيل كان يعتقد بالإقطاع؟ وبعد ذلك من أين أن هابيل كان يعتقد بالشيوعية أو الاشتراكية؟ بل ان امتلاكه الأغنام قد يكون دليلاً على العكس فهل يصح القول انه كان رأسمالياً لمجرد انه كان يملك بعض الأغنام؟ ومن أين ثبت لكم ما اسميتموه بالمادية التاريخية (وبشكل أعم المادية الديالكتيكية) ونظرية تِز، آنتي تزن وسنتز (الأطروحة ثم نقيضها ثم التوليف بينهما)؟ والغريب فوق ذلك كله توظيف آيات القرآن الكريم وتفسيرها لإثبات نظرية أكلها عليها الدهر وشرب!
وملخص القول: ان الضابط العام هو ما أشارت إليه الآية الكريمة (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) فان التفسير العلمي متى اندرج في دائرة المحكمات كان صحيحاً وإلا فلا، ولا يندرج في دائرة المحكمات إلا مع تحقق الضوابط الثلاثة الماضية وضوابط أخرى آتية إن شاء الله تعالى.
* * *
- اذكر أمثلة أخرى للتفسير العلمي للقرآن، وبرهن على انها من التفسير بالرأي أو العكس انها من التفسير المقبول.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق