إسلاميات - القرآن الكريم

مناهج التفسير.. مؤاخذات على منهج التفسير الباطني

(مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات) (4)

أولئك الذين لا يعتقدون بالمنهج الباطني أبداً، ولكنهم وقعوا في بعض مفرداته إما جهلاً أو غفلة أو عجزاً بمعنى انهم حيث عجزوا عن تفسير آية أو آيات، على حسب مقتضى أفهامهم أو بحسب ما توصل إليه العلم في زمانهم، لذلك أغفلوا اللفظ ومعانيه الظاهرة واستبطنوا كُنه باطن القرآن، فيما توهموا...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ))(1).

الحديث يدور بإذن الله تعالى ضمن مبحثين:

المبحث الأول: بصائر قرآنية

ومن البصائر القرآنية التي تلقي الضوء على المرجعية العامة والمقياس في مدى سلامة واستقامة شتى المناهج والاتجاهات التفسيرية، ما نستنبطه من قوله تعالى ((وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)) وذلك ان المسلمين على مرّ التاريخ اختلفوا في هذا المقطع من الآية الكريمة على قولين:

هل الواو في ((وَالرَّاسِخُونَ)) عاطفة أم استئنافية؟

القول الأول: يتبنّى كون الواو في ((وَالرَّاسِخُونَ)) واو الاستئناف، بمعنى ان الجملة الأولى من الآية تنتهي عند لفظ الجلالة ((وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)) ثم تبتدأ جملة أخرى هي ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)) وهذا القول يلتزم بان الراسخين في العلم لا يعلمون تأويل القرآن، وهذا القول تتزعمه عائشة.

القول الثاني: يتبنّى كون الواو في ((وَالرَّاسِخُونَ)) واو العطف، وعلى ذلك تعني الآية الكريمة: ان الله تعالى والراسخون في العلم يعلمون تأويله، وعلى هذا القول تكون جملة ((يَقُولُونَ...)) حالية بمعنى انه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم حالة كونهم يقولون أمنا به... فالآية الكريمة تفيد انهم يعلمون تأويله ويؤمنون به أيضاً؛ إذ يمكن الانفكاك بينهما كما في قوله تعالى: ((وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا))(2).

ومما يوضح الحالية قول ابن المفرغ الحميري:

الريح تبكي شجوةً-----والبرق يلمع في غمامة

يقصد: ان البرق يبكي أيضاً لامعاً في غمامة.

فان الجمال كل الجمال في ان تكون الواو عاطفة، أي ان الريح والبرق يبكيان على فقيده، أما لو كانت استئنافية لفقدت أي طعم ونكهة.

الأدلة على عطف ((الرَّاسِخُونَ)) على ((اللَّهُ )) في الآية

وتدلّ على القول الثاني أدلة كثيرة نستعرض منها ستة في هذا البحث:

1- ((لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ))

الأول: قوله تعالى: ((وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ))(3) فان من الواضح ان المحكمات لا تحتاج إلى البيان لفرض كونها محكمات، وإنما المتشابهات هي التي تحتاج إلى بيان تأويلها، ولو لم يُؤتَ الرسول ((صلى الله عليه و اله و سلم)) علم تأويل المتشابهات، فما الذي يبيّنه للناس وقد أمر بالبيان في صريح الآية الكريمة؟.

بعبارة أخرى: بيان المحكمات من تحصيل الحاصل بل انه من التهافت بين المضاف (بيان) والمضاف إليه (المحكمات) إذ لو احتاج إلى البيان لما كان محكماً ولو كان محكماً لما احتاج إلى البيان، فلا بد أن يكون ((صلى الله عليه واله وسلم)) مأموراً ببيان تأويل المتشابهات وكيف يؤمر بذلك وهو لا يعلم تأويلها؟

2- ((لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ))

الثاني: قوله تعالى: ((وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ))(4) ولتفصيل الكلام في الآية الكريمة موضع آخر.

3- الروايات الشريفة

الثالث: الروايات الشريفة التي صرحت بان الرسول وأهل بيته هم الراسخون في العلم الذين أوتوا علم التأويل بأكمله فعن أحدهما ((عليهما السلام)) في قول الله عز وجل: (( ((وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) فَرَسُولُ اللَّهِ ((صلى الله عليه و اله و سلم)) أَفْضَلُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنْزِيلِ وَالتَّأْوِيلِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْئاً لَمْ يُعَلِّمْهُ تَأْوِيلَهُ وَأَوْصِيَاؤُهُ مِنْ بَعْدِهِ يَعْلَمُونَهُ كُلَّهُ))(5).

وعن أبي بصير عن أبي عبد الله ((عليه السلام)) قال: ((نَحْنُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ))(6).

وورد عن الإمام أبي جعفر عليه السلام انه قال: ((كان رسول الله أفضل الراسخين في العلم، قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل والتنزيل، وما كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلِّمه تأويله، وهو وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله))(7).

وقال في المجمع: (ومما يؤيد هذا القول إن الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن، ولم نرهم توقفوا على شئ منه، ولم يفسروه بأن هذا متشابه لا يعلمه إلا الله. وكان ابن عباس يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم) (8).

ويشهد لذلك شأن النزول فقد (اختلف في الذين عنوا بهذا فقيل: عني به وفد نجران، لما حاجوه في أمر عيسى، وسألوه، فقالوا: أليس هو كلمة الله وروحاً منه؟ فقال ((صلى الله عليه واله وسلم)): بلى. فقالوا: حسبنا. فأنزل الله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) يعني أنهم قالوا إن الروح ما فيه بقاء البدن، فأجروه على ظاهره. والمسلمون يحملونه على أن بقاء البدن كان في وقته به، كما أن بقاء البدن بالروح. وقد قامت الدلالة على أن القديم تعالى ليس بذي أجزاء وأعضاء، وإنما يضاف الروح إليه تشريفاً للروح، كما يضاف البيت إليه)(9).

أقول: وجه كون قوله (روحاً منه) متشابهاً، هو ان (من) يحتمل كونها تبعيضية (أي روحاً هي جزء منه) كما يحتمل كونها نشوية (أي روحاً نشأت من أمره تعالى وإرادته) فقد زاغت قلوبهم إذ حملوها على من التبعيضية مع انه لا يعقل لواجب الوجود ان تكون له أجزاء، وبوجه آخر: الإضافة فيما لو قيل (عيسى روح الله) و(كلمة الله) هي إضافة تشريفية وليست إضافة بيانية كما تقول القرآن كتاب الله، ولا يعني ذلك انه عين الله، وتقول: كتاب من الله، ومن هنا نشوية، وتقول: أنا عبد الله، فان الإضافة حقيقية كما هو الأصل فيها، وهي تستلزم مغايرة المضاف للمضاف إليه، فكلمة عبد في (عبد الله) مغايرة له أي له جل اسمه، معلولة له، وكلمة روح في روح الله مغايرة له معلولة له، وكما تقول موسى كليم الله وإبراهيم خليل الله فان الإضافة تشريفية.

4- الأصل في الواو العطف

الرابع: ان الأصل في الواو كونها واواً عاطفة، وأما الواو الاستئنافية فهي خلاف الظاهر جداً لا يصار إليها إلا بقرينة، بل ان واو الإستئناف قليلة بل قليلة جداً بالقياس للعاطفة فكيف تحمل الآية على الفرد شبه النادر؟

5- والعقل والحكمة شاهد آخر

الخامس: ويدل على ذلك أيضاً الاعتبار، فان مقتضى القاعدة في أعظم رسل الله تعالى محمد المصطفى ((صلى الله عليه و اله و سلم)) والوسيط بين الله تعالى وكافة الخلائق وخاتم الأنبياء والرسل إلى يوم القيامة وأشرفهم وأفضلهم وأكملهم عقلاً، أن يُؤتى علم تأويل الكتاب، بل ان خلاف ذلك غريب جداً بل هو محال وقوعي لكونه خلاف الحكمة، بل حسب قاعدة (إمكان الأشرف) فانه لا مناص من وجود مخلوق يكون المجلى الأكبر لعظمة الله تعالى بما أوتي من كل شيء أوسَعَهُ وأكملَهَ وأعلاه وأتمه إلى أقصى الحدود الإمكانية. فتأمل.

6- مناسبات الحكم والموضوع

السادس: مناسبات الحكم والموضوع، إذ ان المناسب لقوله تعالى: ((وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) ان يكون الراسخون في العلم عالمين بتأويله، بل لو قال: (وما يعلم تأويله إلا الله والعلماء) لكان شاهداً على ان المراد علمهم بتأويله فكيف بقوله ((الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))!

بعبارة أخرى: مقتضى القاعدة انهم ماداموا قد وصفوا بالراسخين في العلم ان يكونوا يعلمون تأويله.

بوجه ثالث: انه لو كانت الواو استئنافية، لكان المناسب بدل ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) ان يقال (والمؤمنون يقولون آمنا به) إذ المناسب للمؤمن الإيمان والتسليم والمناسب للعالم العلم والمعرفة، نعم يمكن القول بخلاف ذلك، لكنَّ الكلام في الظهور العرفي.

المبحث الثاني: المنهج التأويلي في دائرة الضوء

إنّ المنهج التأويلي، والغوص إلى البطون مع تجاوز الظواهر، أي الانتقال إلى البطون واستكناهها من دون وجود دلالة من ألفاظ القرآن الكريم عليها، يستند إلى وجوه أهمها:

الواردات القلبية والإلهامات النفسية

القول بان الواردات القلبية أقوى من الأحكام العقلية وان الالهامات النفسية لها المرجعية دون العلوم الظاهرية، ولهم كلمات كثيرة في هذا الحقل، ولكن احدى أدنى كلماتهم وأقلها غلواً هو ما نقل عن التفتازاني من (أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فيها إشارات خفيّة إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان)(10).

وقال بعض الباحثين: (أمّا أهل التحقيق أو الصوفية فإنّهم يقرّون هذا التفسير ويرونه هو الأصل، ولكن لا يقولون إنّ هذا التفسير الظاهري هو المقصود فقط، لأنّه تحديد لكلام الله غير المحدود فهناك شيء فوق إدراك العقل وهو القلب الذي يمتاز بذوق خاص كالشخص الذي يأكل شيئاً لذيذاً ولكنه لا يستطيع ان يصف ذلك الشيء للآخرين، فلغة القلب لا تحيط بها الألفاظ وإنما يُعبَّر عنها بالإشارة. فالإشارة ترجمان لما يقع في القلوب من تجلّيات ومشاهدات قلبية، وتلويح لما يفيضه الله على صفوته وأحبائه من أسرار كلام الله وكلام رسوله، ولكن لا يقتصر معنى الآيات القرآنية على هذه الإشارات القلبية وتفسير الصوفية كما يقول الباطنية ويعدّون الشريعة باطلة، ولا يخضعون مقابل نصوص القرآن"(11))(12).

ردّ نظرية الواردات القلبية وحكومة إدراك القلب على العقل

ولكن يمكن مناقشة دعوى الواردات القلبية وأن إدراك القلب فوق إدراك العقل.

1- الواردات القلبية قد تكون شيطانية

أولاً: بان الواردات القلبية قد تكون شيطانية كما قد تكون رحمانية، وقد قال تعالى: ((وَإِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))(13)

ولعل أكثرها من وساوس الجن حتى وردت فيها سورة كاملة ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ))(14)

ثانياً: ان القلب يستقي من عدة مصادر، فمنها العقل، ومنها الوهم، ومنها الحواس. ومنها: الجنّ، ومنها: مصادر أخرى مجهولة في الكون.. وسيأتي الكلام عن هذه المصادر مفصلاً(15). فتكون دعوى كون هذه الإلقاءات رحمانية، من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

ما الذي يقف وراء التفسيرات الباطنية؟

ثالثاً: ان الواقع الخارجي إضافة إلى التحليل العقلي، يشهد بان الواردات القلبية و(الشطحات) والاستنباطات الباطنية والمسلك الإشاري الصوفي أو العرفاني أو الشهودي ونظائرها، تتنوع لدى الاستقراء والفحص إلى الأنواع التالية:

التفسير على حسب المعتقدات والمباني

النوع الأول: التشبث بالمباني والمعتقدات لتفسير الكلمات والآيات، ولكن الغطاء يكون ادّعاء انّ ذلك كان إنما هو من دائرة الإلهام الإلهي أو الكشف والشهود الحق، ولكنه في واقعه من عطف الكتاب على الآراء بدلاً من عطف الآراء على الكتاب، بمعنى انه بدل ان يجعل القرآن إمامه وأمامه يجعل مبانيه العرفانية والصوفية هي الإمام، وإنما استخدم القرآن الكريم كمجرد وسيلة وآلة لتمرير مبانيه ومعتقداته، وذلك هو ما يعد من أظهر أنواع التفسير بالرأي، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:

خلقناكم بإظهاركم بوجودنا

1- (فقد فسر بعضهم الآية ((نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ))(16) بـ: نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا و ظهورنا في صوركم‌)(17).

فهذا الرجل يعتقد بمبنى وحدة الموجود وقد اعتبره الأصل الذي يدير تفسير القرآن وتأويله مداره، ولذلك فسر الآية بما يخالف العرف واللغة والعقل فمع ان ((نَحْنُ خَلَقْناكُمْ)) نص في ان هنالك خالقاً ومخلوقاً، والخالق غير المخلوق بالبداهة لكنه يفسرها بـ(بإظهاركم بوجودنا) فليس لكم وجود (ليس للإنسان وجود بل ولا للحيوان وجود ولا للنبات وجود... إلخ) بل الوجود لله تعالى الذي ظهر في قالبكم وصوركم ولذا فنحن، أي الله تعالى، الذي ظهر في صوركم إذ كما قالوا (ليس في الدار غيره دّيار)!

اسم ربك هو أنت!

2- (وفي آية: ((وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ))(18) يقول: ((وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)) الذي هو أنت، أي أعرف نفسك وأذكرها ولا تنسها فينساك الله، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها، ((وَتَبَتَّلْ)) وانقطع إلى الله بالإعراض عمّا سواه انقطاعاً تاماً معتداً به، ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)) أي الذي ظهر عليك نوره، فطلع من أفق وجودك بإيجادك، والمغرب الذي اختفى بوجودك وغرب نوره فيك واحتجب بك(19))(20).

وكيف يفسر عاقل ((وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ)) بـ: الذي هو أنت!

وهل ترون في سوق عقلاء العالم صحة تفسير ((رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ)) بالذي ظهر عليك نوره... إلخ، أليس ذلك من أظهر مصاديق تفسير القرآن على حسب المباني والمعتقدات؟ ولو صح ذلك لأمكن ان يفسر كل لفظ بكل مبنى ومعنى ومسلك ومنهج على ما بينها من تناقض وتهافت.

ولذلك قال في الميزان: (وأمّا المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسيّة دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شيء على كل شيء، حتى آل الأمر إلى تفسير الآيات بحساب الجمّل، وردّ الكلمات إلى الزبر والبيّنات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك)(21).

وسنرجع في بحوث قادمة بإذن الله تعالى إلى تحليل أعمق لهذا المنهج الباطني الذي يجيّر آيات القرآن وكلمات الله تعالى لحساب مبانيه ولا يرى فيها إلا الجسر لمراداته ومقاصده.

التفسير الرمزي نتيجة العجز عن تحليل الآيات وفهم فلسفتها

النوع الثاني: أولئك الذين لا يعتقدون بالمنهج الباطني أبداً، ولكنهم وقعوا في بعض مفرداته إما جهلاً أو غفلة أو عجزاً بمعنى انهم حيث عجزوا عن تفسير آية أو آيات، على حسب مقتضى أفهامهم أو بحسب ما توصل إليه العلم في زمانهم، لذلك أغفلوا اللفظ ومعانيه الظاهرة واستبطنوا كُنه باطن القرآن، فيما توهموا، ففسروه بباطنٍ لا يشهد له الظاهر ولا يشهد له الذين نزل القرآن في بيوتهم.. بل فسروه بخلاف الصريح من آياته والنص من بيانه.

هل كانت قصة آدم مجرد رمز؟

ومن الأمثلة على ذلك ما نسب إلى الشهيد المطهري فيما طبع من آثاره بعد شهادته من (أنّ الأستاذ مطهّري يرى أنّ اللغة التي استعملها القرآن في بيان خلقة الإنسان هي لغة كنائية ورمزية، مُشيراً إلى أنّ الكتاب الكريم قد عرض قصة آدم(22) بصورة رمزية، من دون أن يعني ذلك أنّ آدم لم يكن شخصاً(23))(24).

أقول: يرى بعض المحققين ان الكتب التي لم تطبع في حياته نظير حماسة حسيني / مجموعة آثار، لا يعتمد عليها نظراً لعدم دقة القائمين على تقرير تلك الأبحاث وكتابتها(25).

ولا يستبعد ان تكون هذه النسبة مجعولة عليه وذلك لأنها تناقض مبناه العام المعروف عنه حيث انه وكما قال بعض الباحثين: (إلا أنّنا نراه، أي المطهري، يرفض بشدّة القول برمزية البيان القرآني، عادّاً إيّاه المصدر الأساسي للدين ولبيان المسائل الضرورية لسعادة الإنسان(26))(27).

وعلى أي تقدير فلو صحت هذه النسبة إلى الشهيد المطهري لورد عليه:

أولاً: بداهة ان آيات آدم والجنة وحواء والشيطان و... نص في معانيها، وليست ظواهر ليمكن التجوز فيها، وذلك هو ما فهمه كافة المسلمين من العامة والخاصة على مرّ التاريخ بل هو ما يفهمه أي إنسان يعرف العربية من أي دين لو قرأ هذه الآيات ((وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمينَ))(28) و((وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ أَبى‏ وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ))(29) و((فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدينَ))(30) إلى غيرها من الآيات الكريمة.

القول برمزية قصة آدم بداية بلا نهاية

ثانياً: ان الالتزام برمزية قصة آدم ((عليه السلام)) مما كانت مبرراته، لا يتوقف عند حد، فانّ من عجز عن تفسير قصته أو تأويلها لو أنساق وراء ذلك لوجدته يقوم بالتدريج بتعميم ذلك المنهج الرمزي إلى القرآن كله.

وذلك هو ما وقع فيه بأجلى صوره السيد أحمد خان الهندي الذي لجأ إلى التأويل تحت تأثير الثقافة والحضارة الغربيّتين فابتدأ بتأويل القرآن وغالب مفاهيمه، ومن خلال مراجعة تفسيره يتضح أنّه لا يكتفي بظاهر القرآن، وأنّه يعتقد بالتأويل. فهو يقول حول حديث الله مع الملائكة قبل خلق آدم: ((وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَليفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ))(31): "إنّ جميع علماء الظاهر حملوها على معنى واقعي، تعالى شأنه عمّا يقولون...". ثمّ يؤيّد رأيه بكلام بعض المتصوّفة، ويستنتج أنّ قصة آدم والملائكة والشيطان تمثّل لسان حال الفطرة الإنسانية(32). كما يرى أنّ المراد من آدم في قوله تعالى: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها))(33) هو آدم النوعيّ وليس المراد شخصاً حقيقياً يطلق عليه اسم آدم(34). ويرى أنّ قصة تمرّد إبليس عن السجود لآدم في قوله تعالى: ((وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْليسَ))(35) هي قصة تمرّد القوى الحيوانية على وجود الإنسان، ومراد إبليس من قوله: أنا خير نه، هو الحرارة الغريزية للقوى الحيوانية)(36).

عجزوا عن فهم الإعجاز الإلهي فلجأوا للغة الرمزية!

والظاهر ان الذي الجأهم إلى ذلك عجزهم عن هضم بعض مظاهر الإعجاز الإلهي أو تفسيرها علمياً إذ كأنّهم عجزوا عن تصور إمكانية ان يحيط آدم، كشخصٍ، بكل علوم الكون ففسروه بآدم النوعي غفلة عن ان الله تعالى قادر على كل شيء، افيعجز ان يمنح آدم الأسماء كلها؟ وإذا كان الله قادراً على ان يعطي النملة مثلاً كل العلوم(37) فلماذا ننكر عليه صريح كلامه بانه ((وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها))!

وإذا كان الإنسان، وهو مخلوق من مخلوقات الله تعالى، قادراً على ان يصنع شريحة الكترونية صغيرة وحاسوباً قادراً على إجراء تريلوني (2000.000.000.000) عملية حسابية في الثانية الواحدة(38) والعلماء على وشك صناعة شريحة، ينوون زرعها في دماغ الإنسان، تحتوي على مليوني كتاب(39)! ويأملون ان تنزل إلى الأسواق خلال سنتين إلى ثمان سنين، أفلا يستطيع الإله القوي العزيز الجبار الخالق لهذا الإنسان الضعيف، ان يخلق بشراً أو غيره ويغذيه بكل علوم الكون ويعلمه الأسماء كلها؟

ولذلك نجد ان بعض الذين تصدوا للتفسير(40) يذهبون إلى تسطيح القصص القرآنية وتفسيرها بخلاف نصها واعتبارها مجرد لغة رمزية، ومن ذلك:

- قصة أصحاب الكهف ((إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا * وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا))(41).

فحيث عجز هؤلاء عن فهم كيف يمكن لأشخاص ان يعيشوا 309 سنوات دون طعام وشراب.. التزموا بانها لغةٌ رمزية وليست قصة حقيقية!!

- نار إبراهيم ((عليه السلام)): ((قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ))(42).

- قصة سليمان وعصاه والهدهد والنملة وتفاصيلها الأخرى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ))(43).

- قصة إبراهيم والطيور ((وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِني‏ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي‏ قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى‏ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ))(44)

والجامع لذلك كله إنكار قدرة الله تعالى أو استبعاد أن يفعل ذلك كله مع ان الكون كله مليء بعجائب صنعه وغرائب تدبيره وبالمتشابهات التكوينية التي نعجز عن إدراكها (البعد الرابع، الحفر السوداء في الفضاء، خفايا ميكانيكا الكم، بل وحتى أسرار الجسم الإنساني فكيف بأبعاد الروح وخفاياها... إلخ) والقرآن الكريم صريح إذ يقول: ((هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ)) فبدلاً من ان يقولوا آمنا بهذه الآيات سواء أكانت محكمة أريد بها ظاهرها بل نصّها كما هو الحق، أم متشابهة كما قد يتوهم، نراهم يلجأون إلى رفضها المطلق ولكن بقالب مهذب وهو ان لغة القرآن رمزية!!

النوع الثالث: الكاذبون في دعاويهم الكشف والشهود وانهم قد حصلت لهم بالفعل وارادت قلبية وإلهامات سماوية.. وسيأتي التمثيل لذلك.

هل يقف مرض الهلوسة وراء المكاشفات الصوفية؟

النوع الرابع: أولئك الذين ابتلوا بمرض الهلوسة، وهذا عامل مهم لعل أغلب الباحثين غفل عنه وعن مدى فاعليته في (الشطحات الصوفية) وفي أنواع من (التفسير الباطني والتأويل والكشف والشهود)، ولذلك كان لا بد لنا من ان نتوقف قليلاً أولاً عند تعريف الهلوسة والإشارة إلى بعض أهم أنواعها ونتطرق ثانياً لنماذج من الشطحيات الصوفية، التي إن لم نفسرها بكونهم كاذبين عامدين فانهم في أحسن الفروض كانوا يعانون من مرض الهلوسة حين تجلّى لهم، بزعمهم باطن القرآن كما يقولون، أو حين تحدثوا، كما قالوا، مع رب الأرباب أو حين إذ عرجوا إلى السماء!!.

أولاً: الهلوسة

(تعرف الهلوسة (بالإنجليزية: Hallucination)، بأنها الشعور بأحاسيس تبدو حقيقية لكنها من إنتاج العقل ولكنها ليست موجودة فعلاً، وشعور حسي غير ناتج عن تحفيز الأعضاء الحسية.

تؤثر الهلوسة على الحواس الخمس، مثل سماع المريض صوت أشخاص غير موجودين، أو رؤية صورة غير موجودة بالواقع، وتظهر هذه الأعراض بسبب الأمراض النفسية، أو الآثار الجانبية لأدوية معينة، أو أمراض أخرى كالصرع، أو إدمان الكحول.

يحدث الهلس باستمرار في فترات متناوبة في بعض الحالات المرضية مثل حالات التخليط التسممي، والهذيان، والارتعاش، أو الإثارة الانفصالية الحادة، وهي مترافقة مع إحباط عاطفي شديد وشذوذ سلوكي، وقد يحدث الهلس دون وجود اعتلال عقلي عند المريض.

أسباب الهلوسة

وتشمل الأسباب التي قد تؤدي إلى الهلوسة ما يلي:

شرب الكحول أو تعاطي المخدرات، كالماريجوانا والمنشطات كالكوكايين والأمفيتامين، وقد تحدث الهلوسة بعد التوقف المفاجئ أو الانسحاب عند الأشخاص المصابين بالإدمان، وتعد الهلوسة البصرية أكثر أنواع الهلوسة انتشاراً في هذه الحالة.

الخرف، وتعد الهلوسة البصرية أكثر أنواع الهلوسة انتشاراً بين المصابين بهذا المرض.

الصرع الذي يحدث في منطقة دماغية تعرف بالفص الصدغي، وتعد الهلوسة الشمية أكثر الأنواع انتشاراً بين المصابين بهذه الحالة.

الهلوسة عند كبار السن، وقد تتزامن مع بعض الحالات المرضية مثل التهابات الجهاز التنفسي والتهابات المسالك البولية.

الهلوسة بسبب الحمى وارتفاع درجات الحرارة، ويكون هذا النوع من الهلوسة عند الأطفال وكبار السن أكثر من غيرهم.

الهلوسة بعد الجلطة أو الإصابة بالسكتة الدماغية.

الأمراض الشديدة مثل فشل الكبد وسرطان الدماغ ومرض الإيدز)(45).

(الهلوسة Hallucination بمفهومها العام هي الإحساس بأمر غير موجود، وبمعنى أدق، يمكن تعريف الهلوسة بأنها الإحساس في حالة اليقظة، والوعي بأمر غير موجود يتميز بخواص المحسوسات الموجودة كالحياة والمادية والتحقق في الخارج (وجود مصداق خارجي للمحسوس)، وبالتالي ومن خلال هذه الخصائص يمكننا تمييز الهلوسة من الحلم الذي لا يحصل في حالة الوعي...

تعتبر الهلوسة في الحالة الانتقالية ما بين النوم واليقظة (hypnagogia hallucination) والهلوسة في الحالة الانتقالية ما بين اليقظة والنوم (hypnopompic hallucination) تعتبران ظاهرتان طبيعيتان وليستا حالتان مرضيتان.

الهلوسة الهبناكوكية (hypnagogic)

وتحدث قبل أن يغط الإنسان في النوم، ويحدث هذا النوع لدى عدد كبير من الناس ويمكن أن تستمر الهلوسة من ثوان إلى دقائق، ويحدث هذا النوع من الهلوسة لدى أشخاص أصحاء عقليا، كما يحدث لدى من يعانون من مرض (narcolepsy)، وهو حالة مرضية تتميز بنوم كثير أثناء فترة النهار وفي أوقات غير مناسبة مثلا أثناء العمل أو في المدرسة، ويترافق هذا النوع من الهلوسة أحيانا مع بعض أنواع الخلل في عنق الدماغ إلا أن هذه الحالات نادرة...

تفسيرات علمية

وضعت العديد من النظريات العلمية لتفسير ظاهرة الهلوسة، فعندما كانت النظريات النفسية الحركية (نظريات فرويد) شائعة في الطب العقلي، كان التفسير الشائع على أساسها هو أن الهلوسة ما هي إلا بروز الأماني والأفكار والرغبات من العقل اللاواعي على صفحة الوعي، ولاحقا تصدرت النظريات البيولوجية وأخذ العلماء (الأخصائيون النفسيون على الأقل) بتفسير الهلوسة على أساس أنها خلل وظيفي في الدماغ.

ويمكن القول أيضا بأن فعالية ووظيفية الناقل العصبي المعروف بالدوبامين تعتبر مهمة بالخصوص، وقد حققت بعض بحوث علم النفس حديثا في القول بأن السبب المسؤول عن الهلوسة هو حدوث تحيزات في القدرات الميتا إدراكية metacognitive abilities، وهذه القدرات تسمح لنا بمراقبة وسحب الاستدلالات من حالاتنا النفسية الداخلية (مثل النوايا، والذكريات، والعقائد والأفكار).

وتعد القدرة على التمييز ما بين مصادر المعلومات الداخلية ذاتية-التولد ومصادر المعلومات الخارجية (المحفزات) تعد هذه القدرة مهارة ميتا-إدراكية مهمة، ولكنها قد تتحلل مسببة الهلوسة، كما قد يتشكل بروز الحالة الداخلية أو تفاعل الشخص اتجاه شخص آخر على شكل هلوسات وبالخصوص هلوسات سمعية)(46).

أنواع الهلوسة

(الهلوسة السمعية: حيث يبدأ المريض بسماع أصوات لا وجود لها في الحقيقة وكأنها تحاول أن تقول له شيئًا، وهو النوع الأكثر شيوعًا.

الهلوسة البصرية: هنا يشعر المريض وكأنه يرى أمورًا وكائنات غير موجودة في الحقيقة، وهو النوع الثاني في ترتيب أنواع الهلوسة الشائعة.

الهلوسة في الروائح: حيث يشعر المريض وكأنه يشم روائح لا وجود لها قادمة من محيطه الخارجي أو من جسمه نفسه.

الهلوسة في حاسة الذوق: هنا يشعر المريض بمذاق غريب مجهول المصدر في فمه، وهو أقل أنواع الهلوسة شيوعًا.

الهلوسة اللمسية: حيث يشعر المريض وكأنه يتم لمسه باستمرار من شخص وهمي يعتقد أنه موجود إلى جانبه، أو يشعركأن هناك شيء يتحرك تحت جلده.

الهلوسة الجسدية: إذ يمكن أن تؤثر هذه الهلوسة على الجسم بالكامل، مسببة أحاسيس غير واقعية، مثل: الإحساس بحشرات زاحفة على الجسم)(47).

و(يصاب حوالي ثلث مرضى الشقيقة بحالة من الهلوسة البصرية تحديدًا أثناء النوبة أو قبلها بقليل، حيث يبدأ المريض برؤية ما يشبه هالة من الضوء وبقعًا وألوانًا غير موجودة أو صورًا أخرى غير عادية.

ويمكن أن يسبب ورم الدماغ أنواعًا مختلفة من الهلوسة اعتمادًا على مكان وجوده.

كما قد تتسبب أمور وعوامل وحالات مرضية أخرى بالإصابة بالهلوسة، مثل:

الأمراض الشديدة والمزمنة، مثل: فشل الكلى أو الكبد، والمرحلة الثالثة من الإيدز.

انسحاب الكحول أو الأدوية أو المواد المخدرة من الجسم.

أمراض ومشاكل الأيض.

الحرمان من النوم لفترات طويلة.

أمراض والتهابات الأذن المتوسطة.

الجلطات.

مشاكل العصب السمعي.

العزلة الاجتماعية، وخاصة عند كبار السن.

الصمم أو العمى أو مشاكل الرؤية.

إصابة بالرأس.

التهاب الجيوب الأنفية)(48).

و(تبدأ الهلوسة عندما يكون سكر الدم لدى مريض السكري مرتفعاً جداً لفترة طويلة. وإذا كان الشخص لديه أكثر من 600 ملليغرام من السكر لكل ديسيلتر من الدم، قد يكون مصاباً بمتلازمة فرط ارتفاع سكر الدم. وتشمل مضاعفات داء السكري العطش الشديد والحمى والارتباك والهلوسة.

الفصام، سماع الشخص لأصوات في رأسه هو أحد الأعراض الشائعة عند المصابين بالفصام. ويصاب بعض مرضى الفصام بهلوسات بصرية. ويعتقد العلماء أن سبب هذه الأعراض ربما يكون مزيجاً من التغييرات في الدماغ والجينات الوراثية والبيئة المحيطة بالمريض.

ويتسبب الصداع النصفي المصحوب بهالات في رؤية المريض لومضات ضوئية أو بقع وهمية، كما يحدث تغيرات أخرى في الرؤية. وقد يشعر المريض أيضاً بالخدر أو الوخز في اليدين والوجه. تحدث هذه الأعراض عادةً قبل حوالي ساعة من الشعور بألم الرأس. يعتقد الخبراء أن الهالات ربما تكون موجة كهربائية أو كيمياوية تعبر في الجزء المسؤول عن الرؤية في الدماغ.

وفي حالات نادرة، يمكن أن يسبب اضطراب ما بعد الصدمة الهلوسة السمعية. ويسمع المصاب بالصدمة أصواتاً خياليةً أو يعاني من طنين في الأذنين. وتتفاقم بعض هذه الحالات لتصل إلى شعور المريض بالارتياب والشك في الآخرين)(49).

أخيراً: (أظهرت الدراسات بأن الناس من جميع أنحاء العالم قد يصابون بالهلوسة، وقد قررت إحدى الدراسات القديمة التي أجريت عام 1894 بأن حوالي 10% من العينة المدروسة عانوا من الهلوسة، ولاحقا أجري مسح عام 1996-1999 غطّى أكثر من 13000 شخصا. وكانت النتيجة بأن حوالي 39% من الناس اعترفوا بأنهم قد كانت لهم تجارب هلوسية، وكان 27% من أولئك أصيبوا بالهلوسة خلال فترة النهار وغالبا من دون أن يكونوا قد عانوا من مرض آخر أو يستخدموا أي دواء)(50).

ثانياً: نماذج من الهلاوس الصوفية:

جاء في تذكرة الأولياء للعطار النيشابوري: (... ولما غبت(51) من المخلوقات، وصلتُ إلى الخالق، وأطلعتُ رأسي من وادي الديمومية، وتجرَّعتُ كأساً، فعطشتُ حتى لا أَرتوي إلى الأبد، ثم طرتُ ثلاثين ألف سنة في فضاء وحدانيته!!، وثلاثين ألف سنةٍ في ألوهيته!!، وثلاثين ألف سنة في فردانيته!!، فلـمَّا عبر سبعون ألف سنة(52) خرجتُ من جلدي، ورأيتُ أبا يزيد، ثم قطعتُ أربعة آلاف بادية، وانتهيت إلى المقصود، ثم نظرتُ، فإذا أنا في بداية درجة الأنبياء عليهم السلام، سعيتُ إلى العالم الغير المتناهية حتى ظننتُ أنّه ما سبقني أحدٌ في هذا العالم...

ثم عبر روحي على جميع عالم الملكوت، وعُرضت عليه الجنة والنار، فلم يلتفتْ إليهما، وما وصلتُ في عروجي إلى روحٍ إلا سلّمتُ عليه، حتى وصلتُ إلى الروح المحمدي ((صلى الله عليه و اله و سلم))، رأيتُ هناك بحوراً من النار، وألف حجابٍ من النور)(53).

أربع تفسيرات للمكاشفات الصوفية

والأمر يدور ههنا بين أربعة احتمالات:

الأول: ان الرجل كاذب تماماً في كل ما يقول.

الثاني: انه مبتلى بمرض الهلوسة في كامل السيناريو الذي جاءنا به خاصة في قوله: (ثم طرتُ ثلاثين ألف سنة...).

الثالث: ان يكون صادقاً في مكاشفاته هذه، وهذا ما يعتقده الكثير من الصوفية من أتباعهم.

الرابع: ولكن يوجد هنالك تفسير آخر غير ما سبق، والغريب ان أتباع هؤلاء أعرضوا عن هذا التفسير رغم ان الشخص نفسه (الذي تحدث عن نفسه وعن سيره في عوالم الوحدانية والالوهية والفردانية، ومكاشفاته) يصرح بهذا الاحتمال الرابع مراراً عديدة... لكنهم ألغوا تصريحه وأخذوا بنفس السيناريو الذي طرحه وأسهب فيه، والتفسير الرابع هو ان كل هذه المكاشفات ما هي إلا (أوهام) وليست إلا (خدعة)!

بقدم الأوهام طِرت ثلاثين ألف سنة!

ويكفي ان نقتطع النصين الآتيتين من كلامه:

أ- قال: (فلـمّا خطوتُ قَدَماً من الحضرة إلى الخلق سقطتُ في القدم الثاني، فسمعتُ منادياً يقول: ارجعوا حبيبي، فإنّه لا يطيق إلا بي، ولا يهتدي إلا بي، ثم رجعت ووصلت إلى أول مقام التوحيد، فسعيتُ في ذلك الوادي سنين بقدم الأوهام حتى صرتُ طيراً عينُهُ من الوحدانية، وجناحُهُ من الديمومية، كنت أطيرُ في هواءٍ بلا كيف، ولما غبت من المخلوقات، وصلتُ إلى الخالق، وأطلعتُ رأسي من وادي الديمومية، وتجرَّعتُ كأساً، فعطشتُ حتى لا أَرتوي إلى الأبد، ثم طرتُ ثلاثين ألف سنة في فضاء وحدانيته، وثلاثين ألف سنةٍ في ألوهيته، وثلاثين ألف سنة في فردانيته...)(54).

فلاحظ تصريحه بـ(فسعيتُ في ذلك الوادي سنين بقدم الأوهام) فهو صريح في انها مجرد أوهام وكأضغاث أحلام، فإن لم يقبلوا انها أوهام فلا مناص من كونها هلوسة!

علمت ان هذا كله خدعة!

ب- وجاء في كتاب (اللُّمَعْ لأبي نصر السراج الطوسي): (قال الشيخ رحمه الله: قلتُ: وقد حُكى أيضاً عنه أنه قال: أول ما صِرْتُ إلى وحدانيته، فصرتُ طَيراً جسمه من الأحدية، وجناحاه من الدَّيمومية؛ فلم أزَل أطيرُ في هواء الكيفية عشر سنين، حتى صرتُ إلى هواء مثل ذلك مائة ألف ألف مرة، فلم أزل أطيرُ إلى أن صرتُ في ميدان الأزلية، فرأيت فيها شجرة الأحدية.

ثم وَصَفَ أرضها وأصلها وفَرْعها وأغصانها وثمارها، ثم قال: فنظرتُ فعلمتُ أن هذا كله خدعة!!)(55).

فهو يصرح بان هذا كله خدعة فلماذا يعتقد مريدوه بانه واقع وكشف وشهود ومكاشفة؟!!

ثم نقول: إذا كان الشخص بنفسه يصرح بانه سار بقدم الأوهام وانه علم آخر الأمر ان هذا كله خدعة، فلماذا يسوِّق لخدعة هذه؟ ولماذا يملأ بها صفحات وصفحات من رسائله وأحاديثه.. وهل تجد عاقلاً يسطّر أوهامه؟ اللهم إلا إذا كان يقصد من ذلك ردع أتباعه عن توهم ان ما رآه كان مكاشفة وواقعاً وحقاً، ولذا يصرح بانه (سار بقدم الأوهام) و(علمتُ ان هذا كله خدعة)!.

ومع ذلك هل يبقى عذر لمعتذر في توهم حصول بعض المقامات الكشفية والشهودية لأمثال هؤلاء؟..

إذا كانت خدعة فلماذا الإصرار؟

بل نقول: إذا كان يصرح هو بان هذا كله خدعة وانها مجرد أوهام، فلماذا يصر على طرح أوهامه الأخرى في أحاديث كثيرة أخرى له ولماذا يقول مثلاً: (فنظرتُ من الحقِّ إلى الحقِّ، وأقمتُ في معقد صدق، واطمأننتُ هناك، وسددتُ صِماخَيْ أُذني، وجررتُ لساني في فمي، وتركتُ العلم الكسبيَّ ورفعت من أجمة النفس الأمّارة من البين)(56).

و(فسكتُّ مدّةٌ بلا آلةٍ وعدّة، فالحق جل جلاله رحمني، وعلّمني من علوم الأزل، ووضع في فمي لساناً من لطفه، وخلق لي عيناً من نوره، فرأيتُ بالحق جميع الموجودات، وناجيت الله تعالى بلسان اللطف، وحصل لي علم من علوم الحق، فنظرتُ إليه بنوره، ثم قلت: إلهي، لا اغترُّ بهذا وبوجودي، لا أستغني عن وجودك، وأنت تكون لي بلا أنا خيرٌ لي من أن أكون لي بلا أنت، وأتكلم بك معك خيرٌ من أن أتكلم مع نفس بلاك. فقال: لازم الشريعة، ولا تجاوز حدود الأمر والنهي؛ لئلا يَضيع لدينا سعيُكَ، وتصيرُ مشكوراً عندنا. قلت: إن شكرتني منك لا منّي، وإن ذممتني فأنت مُنزّهٌ عن العيون، فحين نظر الحق جل جلاله صفاء سرّي، وسمع قلبي نداء رضا الحق، ورقم عليَّ بقلم الرضا، ونوّرني، وعبّرني عن ظُلماتِ النفس وكدورات البشرية، علمتُ أنّ حياتي به، ومن فضله بساطُ المسرّة في قلبي، فقال: سل ما تُريد. قلت: ما أُريد إلا إيّاك، فأنت أفضل من الفضل، وأكبرُ من الأكبر، وأكرمُ من الكرم، وقنعتُ بك منك، إذا أنت كنت لي فأنا أطوي منشورَ الفضل والكرم، لا تُبعدني منك، ولا تُعطني ما دونك.

فلم يجبني زماناً، ثم وضع على رأسي تاجَ الكرامة، وقال: لا تقل إلا الحقَّ؛ لأنَّك تطلب حقيقتي، ورأيت الحق وسمعت الحق. قلتُ: إن رأيتُ فبك رأيتُ، وإن سمعتُ فبك سمعتُ، وأثنيت عليه حتى أعطاني من كبريائه جناحاً أطيرُ به في ميادين عزّه، وأنظر إلى عجائب صنعه)(57)!!.

فأي أقواله نصدق؟ وهل هو كاذب أو هو مهلوس؟ خاصة بعد ان ناقض نفسه فتارة يصرح بانها أوهام وانه علم ان هذا كله خدعة وتارات أخرى يطرح مكاشفات وكرامات ويصرّ عليها أي إصرار وينمقها بألفاظ وعبارات ولمحات عرفانية وإشراقات، بزعمه، نورية! وللبحث صلة بإذن الله تعالى.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

...........................................
(1) سورة آل عمران: الآية 7.
(2) سورة النمل: الآية 14.
(3) سورة النحل: الآية 44.
(4) سورة النساء: الآية 83.
(5) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص213.
(6) المصدر.
(7) الشيخ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج2 ص241.
(8) المصدر: ص241.
(9) المصدر: ص240.
(10) عبد الرحمن العك، أصول الدين وقواعده، دار النفائس ـ بيروت، ص214.
(11) مقدمة تفسير القشيري: 1/4-6.
(12) محمد علي الرضائي الاصفهاني/ تعريب: قاسم البيضاني، دروس في المناهج والاتجاهات التفسيرية للقرآن، مركز المصطفى ((صلى الله عليه واله وسلم)) العالمي للترجمة والنشر، ص239-240.
(13) سورة الأنعام: الآية 121.
(14) سورة الناس: الآيات 1-6.
(15) وقد تحدثنا عن أحدها في كتاب (نقد النظرية الحسية).
(16) سورة الواقعة: الآية الواقعة 56.
(17) محيي الدين بن عربي، تفسير ابن عربي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج2 ص296.
(18) سورة المزمل: الآية 8-9.
(19) محيي الدين بن عربي، تفسير ابن عربي، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ج2 ص360.
(20) محمد باقر سعيدي روشن / ترجمة: رضا شمس الدين، منطق الخطاب القرآني – دراسات في لغة القرآن -، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، ص429.
(21) العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، منشورات إسماعيليان، ج1 ص7.
(22) بلحاظ سكنه في الجنة وإغواء الشيطان له ومسألة الطمع والحسد وطرده من الجنة وتوبته و... إلخ.
(23) مطهري، مجموعة آثاره، ص514-515.
(24) محمد باقر سعيدي روشن / ترجمة: رضا شمس الدين، منطق الخطاب القرآني – دراسات في لغة القرآن -، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، ص373.
(25) بل شكك بعض المحققين في أمانتهم العلمية وانهم نسبوا بعض المعتقدات إليه مما لا يقول به.
(26) قال الشيخ المطهري في كتاب (آشنائي باقرآن): (قرآن مثل بعضی کتابهای مذهبی نیست که یک سلسله مسائل رمزآسا در مورد خدا وخلقت وتکوین مطرح کرده باشد وحداکثر یک سلسله اندرزهای ساده اخلاقی هم ضمیمه کرده باشد وبس، به طوری که مومنین ناچار باشند دستورها واندیشه ها را از منابع دیگر اخذ کنند. قرآن اصول معتقدات وافکار و اندیشه هایی را که برای یک انسان به عنوان یک موجود (با ایمان) وصاحب عقیده لازم و ضروری است وهمچنین اصول تربیت و اخلاق و نظامات اجتماعی وخانوادگی را بیان‌کرده وتنها توضیح و تفسیر و تشریح و احیانا تطبیق اصول بر فروع را بر عهده سنت و یا بر عهده اجتهاد گذاشته است. این است که استفاده از هر منبع دیگر موقوف به شناخت قبلی قرآن است. قرآن مقیاس و معیار همه منابع دیگر است، ما حدیث وسنت را باید با معیار قرآن بسنجیم تا اگر با قرآن مطابق بود بپذیریم و اگر نه نبپذیریم) (مطهري، آشنايي باقرآن، ج1، ص۸).
(27) محمد باقر سعيدي روشن / ترجمة: رضا شمس الدين، منطق الخطاب القرآني – دراسات في لغة القرآن -، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي ـ بيروت، ص373.
(28) سورة البقرة: الآية 35.
(29) سورة البقرة: الآية 34.
(30) سورة الأعراف: الآية 20.
(31) سورة البقرة: الآية 30.
(32) أحمد خان، تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان، ص55-63.
(33) سورة البقرة: الآية 31.
(34) أحمد خان، تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان، ص66.
(35) سورة البقرة: الآية 34.
(36) أحمد خان، تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان، ص78-79.
(37) كما ورد في احتجاج الإمام الجواد ((عليه السلام)).
(38) توصلت الصين إلى صناعة حاسوب يجري أربعة مليارات عملية في الثانية الواحدة، وقيل انهم توصلوا إلى صناعة حاسوب يجري 40 تريليون عملية حسابية في الثانية.
(39) قارن ذلك بان كل المعلومات التي في ذهنك الآن والتي يمكنك تذكرها لعلها لا تبلغ المائة كتاب!
(40) السيد أحمد خان الهندي في تفسيره (تفسير القرآن وهو الهدى والفرقان).
(41) سورة الكهف: الآيات: 10-25.
(42) سورة الأنبياء: الآية 68-69.
(43) سورة النمل: الآيات 15-18.
(44) سورة البقرة: الآية 260.
(45) من موقع https://altibbi.com.
[1]Marcia Purse. What Are Hallucinations? Retrieved on the 13th of May, 2022.
[2] National Health Service. Hallucinations. Retrieved on the 13th of May, 2022.
[3] Chitra Badii. What Causes Hallucinations? Retrieved on the 13th of May, 2022.
[4] Joseph Goldberg. What Are Hallucinations? Retrieved on the 13th of May, 2022.
[5] Medline Plus. Hallucinations. Retrieved on the 13th of May, 2022.
[6] Ananya Mandal. Hallucination Treatments. Retrieved on the 13th of May, 2022.
(46) من موقع المعرفة https://m.marefa.org/.
INTERVOICE Online, website of the international hearing voices movement
Hearing Voices Network
"Anthropology and Hallucinations", chapter from The Making of Religion
"The voice inside: A practical guide to coping with hearing voices"
Psychology Terms
(47) من موقع https://www.webteb.com/
(48) المصدر.
(49) من موقع https://www.alarabiya.net/.
(50) https://m.marefa.org/.
(51) الكلام لأبي يزيد البسطامي.
(52) المفروض أن يقال تسعون ألف سنة!
(53) الشيخ فريد الدين العطار النيشابوري، تذكرة الأولياء، 2008م مصحح: أحمد آرام، تحقيق: محمد أديب الجادر، ص221.
(54) المصدر.
(55) أبو نصر السراج الطوسي، اللُّمَع، دار الكتب الحديثة ـ مصر ومكتبة المثنى ـ بغداد، ص494.
(56) الشيخ فريد الدين العطار النيشابوري، تذكرة الأولياء، 2008م مصحح: أحمد آرام، تحقيق: محمد أديب الجادر، ص219.
(57) المصدر: ص220.

اضف تعليق