مناهج تفسير القرآن مناهج كثيرة، مختلفة ومتنوعة، وهذه المناهج يمكن تصنيفها إلى أربعة أصناف رئيسية بحسب العلل الأربع، فقد يكون تتنوع التفاسير بلحاظ العلة المادية وقد تتنوع بلحاظ العلة الصورية كما قد تتنوع بلحاظ العلة الفاعلية أو العلة الغائية، ولكل تلك الأنواع اقسام وتفاصيل، وهذه...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(1) وقال جل اسمه: (وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(2) وقال جل وعلا: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ)(3).
محور البحث سيكون بإذن الله تعالى حول (مناهج التفسير) وتقييمها ودراسة نقاط القوة أو الضعف فيها أو مدى صحتها وسقمها، ولنمهد لذلك بتمهيدات:
القرآن هو الدليل على أفضل المناهج
التمهيد الأول: انه قد يقال ان خير دليل على الكتاب العزيز هو الكتاب نفسه، وان خير من يصف القرآن هو القرآن نفسه، فعلينا، لكي نكتشف المنهج الأسلم في التفسير والتأويل ان نستنطق الكتاب العزيز بنفسه، وهل انه، أصلاً، بحاجة إلى تفسير؟ ومن هو المفسر أو المفسرون للكتاب العزيز؟ وهل للتفسير والتأويل من ضوابط؟ وما هي تلك الضوابط؟ وهكذا. وسيأتي الكلام حول هذه المقولة.
طوائف أربع من الآيات حول علاقتنا بالقرآن الكريم
التمهيد الثاني: ان الآيات القرآنية التي تتحدث عن القرآن الحكيم وهذا الذكر العظيم، قد تبدو في النظرة الأولى متخالفة أو حتى متناقضة؛ وقد تنقسم بدواً إلى أربع طوائف:
الطائفة الأولى: ما يفيد ان تفسير القرآن وتبيينه موكول إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم كقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) والذكر هو القرآن، والآية مطلقة ولم تخصص بالمتشابه من الذكر بل إطلاقها يفيد العموم فرغم انه (نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) إلا انه ينبغي ان يبين الرسول صلى الله عليه واله وسلم (لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
الطائفة الثانية: ما يفيد بظاهره حاجة (التأويل) إلى المفسر، دون التفسير، وذلك كقوله تعالى: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) فالآية الكريمة خصّت (تأويل الكتاب) بالله تعالى وبالراسخين في العلم، مما يفهم منه عرفاً، ان (تفسيره) يمكن للكل ان يتناوله.
الطائفة الثالثة: ما يفيد بظاهره استغناء القرآن عن الحاجة إلى مفسر، وذلك كقوله تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ * بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ) ذلك ان ما هو مُبين فانه غير محتاج إلى مبيِّن؛ إذ لم يقتصر تعالى على (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ) ليقال بان العربي قد يكون غامضاً أو معقداً أو مبهماً بل وصفه بكونه (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ) ونظيرها قوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(4) فحيث ان القرآن قد يسره الله تعالى للذكر فلا يحتاج إلى مفسر ولا إلى مأوّل، بل وقوله تعالى: (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ)(5) إذ المفصل والمحكم غير محتاج إلى رفع إبهام وكشف إجمال حيث لا إجمال فيه ولا إبهام.
الطائفة الرابعة: ما تصرح بالأمر بالتدبر في القرآن الكريم أو التفكير فيه، كقوله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثيراً)(6) و(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(7) وكذلك قوله (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) بعد قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
والحاصل: ان ظاهر الطائفة الأولى: ان علاقة الإنسان بالقرآن الكريم مطلقاً تمر عبر مفسر وشارح ومبين هو الرسول العظيم (وكذلك أهل بيته عليهم السلام لأنهم مدينة علمه وبابها بل ولقوله تعالى: (وَأَنْفُسَنا) ).
والطائفة الثانية: تفيد مرجعية الراسخين في العلم في (التأويل) فيفهم منها ان العلاقة بين الإنسان والتأويل تمر عبر الراسخين في العلم وأولهم الرسول صلى الله عليه واله وسلم اما العلاقة بين الإنسان والتفسير فلا تحتاج إلى واسطة.
وظاهر الطائفة الثالثة: ان القرآن الكريم، لا يحتاج في فهمه وتفسيره و... إلى وسيط لأنه بلسان عربي مبين ولأن الله يسره للذكر ولم يجعله معقّداً ليحتاج إلى وسيط وشارح.
وظاهر الطائفة الرابعة: ان علاقة الإنسان بالقرآن علاقة مباشرة ولكنها مع ذلك تحتاج إلى التدبر والتفكير، فبالتدبر والتفكير ينال الإنسان جواهر القرآن الكريم، وليس بالنظرة السطحية العابرة.
وسيأتي الكلام بإذن الله تعالى عن وجه الجمع بين هذه الطوائف بما يكشف لنا (المنهج التفسيري) الأسلم والأكمل والأقرب للإصابة إن شاء الله تعالى.
التفسير والتأويل والتفكّر والتدبّر والاستلهام
التمهيد الثالث: ان هنالك ستة عناوين معرفية تشكّل الجسور الرابطة بين الإنسان والقرآن وهي بين ما صرّح به في الكتاب والسنة وبين ما اخترعه الإنسان، والعناوين الستة هي: (التفسير) و(التأويل) و(التدبر) و(التفكر) و(الاستلهام) و(التفسير بالرأي) والواجب دراسة معانيها ودلالاتها، ومدى صحتها أو سقمها، وضوابطها وقواعدها والمناهج الصحيحة أو الأقرب للصحة فيها، وهذا ما سيجري البحث عنه تباعاً بإذن الله تعالى، وسيجري التركيز، بالطبع على مناهج التفسير، وسيظهر منها، تبعاً، وبوضوح الضابط في (التدبر) في القرآن الكريم وفي (التفكير) في آياته، وهما اللذان حرضّ الله سبحانه عليهما بقوله: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اخْتِلافاً كَثيراً) و(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) وبقوله (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ولكن هل أبواب التدبر مُشرَعة على منتهاها؟ وهل أبواب التفكير مفتّحة على مصراعيها؟ وماذا عن الاستلهام؟
إشارة للاستلهام في التفسير
ولنشر ههنا إشارة عابرة للاستلهام لأنه يبدو مصطلحاً جديداً غير مطروح عادة، عكس التفسير والتأويل اللذين كثر الحديث عنهما، وعكس التفكر والتدبر اللذين لا شك في مشروعيتهما ومطلوبيتهما ولكن لم يجرِ الحديث عن حدودهما ونسبتهما مع التفسير بالرأي ومع التأويل والتفسير، اما (الاستلهام) فلم يطرح عادة..
والاستلهام نعني به اتخاذ آيات القرآن الكريم منطلقاً للسفر إلى آفاق أو رِحاب أخرى، مماثلة أو مقاربة أو مشابهة من وجهٍ دون وجهٍ، أو نفسره بانه نوع من أنواع توارد الخواطر لكن غير المنفلتة بالمرة بل التي تستهدي بالنص ولكن من دون ان تتقيد به، وقد نفسره بوجوه أخرى (وسيأتي الكلام عنها وعن تقييمها وعن الصحيح والسقيم فيها) وعلى أي فان التفسير الاستلهامي قد يراد به (الفيضي) وهو باطل دون شك، وقد يراد به غيره وفيه وجوه، ولكن نشير هنا إلى انموذج منها مما لا إشكال فيه، وسيأتي الكلام عنه وضوابطه والمائز بينه وبين التفسير بالرأي وبين ما لا يقبل منه أيضاً حتى وإن لم يعدّ تفسيراً.
فمن النماذج ما استلهمه السيد الأخ الأكبر قدس سره من الآية القرآنية الكريمة (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)(8) فقال في جملة تعليقاته على هذه الآية الشريفة:
(المثال الثاني: الخسارة... بدل الربح أما المثال الثاني، فهو يتعلق بخسارة المنافقين، بدل الربح.
وأساساً نقول: أن كل شيء نافع خلقه الله سبحانه، يمكن أن يتحول إلى عنصر هدم، إذا أساء الإنسان العمل.
فالكهرباء وسيلة نافعة في مجالات كثيرة من مجالات الحياة، كإعطاء الدفء في الشتاء القارس، وإعطاء البرد في الحر اللاهب، وتحريك المعامل الضخمة التي تخدم حياة الإنسان، ولكن هذه الوسيلة بذاتها يمكن أن تتحول إلى آلة لقتل الحياة والأحياء فيما إذا اسيء التعامل معها...
والذرة يمكن أن تكون عامل بناء، في الوقت الذي يمكن أن تصبح فيه معول هدم... وهكذا...
ولنعد إلى الآية الكريمة... فهي تتناول ظاهرة "المطر" وظواهر طبيعية أخرى:
إن المطر عامل بناء للحياة، فهو يسقي الحقول وينبت الزروع، ويحيي الأراضي الميتة، ويروي الظامئين... و... و...
ولكن هذا المطر الذي هو وسيلة خير ورحمة في النظام الكوني، يمكن أن يتحول إلى أداة هدم للحياة إذا اسيء التصرف معه. وهكذا الأمر في الظواهر الطبيعية الأخرى المصاحبة للمطر.
وإلا... تحول المطر بذاته إلى سيل مدمر يهدم الحياة، وكاد البرق يخطف أبصارنا، والرعد يصم آذاننا، والصواعق تصيبنا بالموت...
وهكذا حال المنافقين تجاه "الحجة الظاهر" (الرسالة الجديدة)... إنهم لم يستفيدوا من هذه الرسالة، بل تضرروا بها – بسبب سوء اختيارهم – أبلغ الضرر.
يقول القرآن الكريم في هذا الأمر:
(أو) مثل آخر يصور حال المنافقين تجاه "الحجة الظاهرة" (الرسول) بعد أن كان المثال الأول يصور حال المنافقين تجاه "الحجة الباطنة" (العقل).
(كصيب) مطر يهطل (من السماء) من جهة العلو...
(فيه) في هذا المطر لوازم طبيعية تكتنف به وتحيطه، من: (ظلمات) متكاثفة...)(9).
فلاحظ قوله (وأساساً نقول...) فليس هو تفسيراً بل هو استلهام وليس هو من باب الاستعمال بل من هو من باب الانتقال؛ ولذا يقول بعدها (ولنعد إلى الآية الكريمة) ثم قوله (وهكذا حال المنافقين). فتأمل
إشكال: القرآن ظني الدلالة في ظواهره: عموماته ومطلقاته و...
التمهيد الرابع: ان المعروف:
أولاً: ان (الدلالة) قد تكون قطعية وقد تكون ظنية.
وثانياً: ان (النصوص) دلالتها قطعية و(الظواهر) دلالتها ظنية.
وثالثاً: ان (العمومات) و(المطلقات) و(المفاهيم) وأشباهها، من الدوالّ الظنية؛ لوضوح انه ما من عام إلا وقد خص وان الإرادة الجدية كثيراً ما تنفك عن الإرادة الاستعمالية وان المطلق إنما يعمّ ببركة مقدمات الحكمة وهي ظنية عادة، وأن المفاهيم ظنية أو هي بأدنى درجات الظن كمفهوم اللقب والوصف، وحتى أقواها وهو مفهوم الشرط فانه يتراوح بين قطعي وظني.
ورابعاً: ان القرآن الكريم مليء بالعمومات والمطلقات والمفاهيم و...، ورغم انها من (المحكمات) وليست من (المتشابهات)، كما هو مبنى علماء الكلام والأصول والتفسير إلا الشاذ من بعض الاخباريين، إلا ان المشكلة التي قد تثار هي انها ظنية، إذ المتشابه ما تشابه المراد منه على سامعه فلم يكن له ظهور في معنى، والمحكم قد يكون نصاً وقد يكون ظاهراً فلا يتشابه المراد منه على سامعه ولكنه، على أية حال ظني.
والمشكلة في ظنية القرآن الكريم، في الكثير جداً من آياته التي هي المدار في الكلام والأصول والفقه والأخلاق ومختلف شؤون الحياة، كما يقول البعض: هي ان ذلك يعدّ وَهْناً في الدلالة وضعفاً وهو مخالف للإتقان والإحكام الذي يصرح به تعالى في (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكيمٍ خَبيرٍ) بل ادعى البعض انه منافٍ لإعجاز القرآن الكريم وسيأتي نقل كلام بعض العلماء في ذلك وسنجيب هنا عن الإشكال الأول بما سيلقي الضوء على الجواب عن الإشكال الثاني أيضاً ويفيد، فيما سنوضحه لاحقاً، بان ذلك هو الإعجاز بعينه فنقول:
أجوبة ثلاثة
انه قد يجاب عن شبهة ظنية الكثير من آيات القرآن الحكيم بوجوه ثلاثة:
أولاً: القرآن قطعي الدلالة في ظواهره
الوجه الأول: ان يقال: بان (الظواهر) كلها قطعية الدلالة وليست ظنية الدلالة، خلافاً للمبنى المشهور، وذلك استناداً إلى ان العرف يفهم من الظواهر مداليلها بالقطع واليقين ولا يتردد فيها ولا يرى مساغاً للتأمل قطعاً، ألا ترى ان الأب لو قال لابنه: (أكرم الضيوف) فانه يفهم منه قطعاً وجوب إكرام كل الضيوف، وانه يتساوى لدى نوع الناس قوله (أكرم كل ضيف) و(أكرم الضيوف) مع ان (كل) نص في العموم و(الضيوف) جمع محلى بأل وهو ظاهر في العموم إذ ما أكثر التخصيص في مثل هذا العام؟
ثانياً: القرآن قطعي الحجية وإن كان ظني الدلالة
الوجه الثاني: ان يقال بان المعيار هو (الحجية) وليس (الدلالة) والدلالة وإن كانت ظنية إلا ان الحجية قطعية والمدار في القرآن الكريم على الحجية بالأساس. توضيحه:
ان (الحجية) تعني لزوم الإتباع، حسب الشيخ الانصاري، أو تعني المنجزية والمعذرية حسب المحقق الخراساني أو تعني ما يقع أوسط في القياس حسب الميرزا النائيني أو تعني ما يحتج به المولى على العبد والعبد على المولى حسب المعنى اللغوي(10)، وهذه المعاني كلها قطعية في (الظواهر) فالظواهر حجة قطعاً ولا يضر بحجيتها القطعية ظنية دلالتها إذ (ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم) وذلك نظراً (لقطعية الحجية).
والمعيار هو (الحجية) لأن علاقتنا بالقرآن الكريم هي علاقة المخلوق بكتاب خالقه، والخالق جل اسمه أَمَرَ ونَهى ونَصَح ووَعَظَ ومثّل وأخبر، والمراد من العبد فيها: الانقياد والامتثال والاتعاظ والاعتبار والإذعان والتصديق، وهي قطعية في ذلك كله إذ يجب الانقياد قطعاً عند قيام الحجج الظاهرية.. وهكذا..
ثالثاً: الظواهر قطعية الدلالة بعد الفحص
الوجه الثالث: ان (الظواهر) قطعية الدلالة بعد الفحص وظنية الدلالة قبله، وهذا هو الرأي المختار(11) الذي تقودنا إليه الدقة كما يسوقنا إليه العرف فهو مجمع العرفية والدقية، ويعد هذا مدخلاً يستبطن الجواب عن إشكال تخالف الطوائف الأربع من الآيات الكريمة والذي مضى في صدر البحث، فنقول:
انه لا شك في ان العام، وهو من الظواهر، يمكن ان يخصّص، ولذلك فانك إذا سمعت عاماً صادراً من المولى فانه، في البدأ، ظني الدلالة، والمظنون هو تطابق إرادته الجدية مع الإرادة الاستعمالية؛ ولذا لا يجوز التمسك بعمومه قبل الفحص عن وجود مخصص له وعدمه، ولكنك إذا فحصت فلم تعثر على مخصص، فانك تقطع بان ظاهر الكلام هو المراد الجدي للمتكلم قطعاً، وذلك بعد مسلّمية قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، فتكون الدلالة ظنية قبل الفحص وقطعية بعده، واما إذا عثرت على مخصص فان العام سيكون قطعي الدلالة على ما عدا مورد الخاص (أي على الباقي) ويكون الخاص قطعي الدلالة على مورده.
وبذلك يظهر وجه الحاجة إلى الرسول صلى الله عليه واله وسلم والأئمة عليهم السلام وانه لا يجوز ولا يصح تفسير القرآن الكريم قبل الفحص، في كلمات الرسول صلى الله عليه واله وسلم وأبواب علمه عليهم السلام، عن مخصصاته أو مقيداته أو قرائن المجاز بمختلف أنواعه فيه.
وبذلك يتضح الوجه في قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فان الظواهر كلها تحتاج إلى بيان اما لتأكيدها وتثبيتها واما لصرفها إلى المراد الواقعي منها بقرينة من المتكلم نفسه أو ممن نصبه مسؤولاً عن تبيين كلامه.
وبذلك ظهر أيضاً انه لا يصح القول ان ظواهر القرآن حيث انها ظواهر فهي حجة مطلقاً ولنا ان نعمل بها من دون الرجوع إلى (أَهْلَ الذِّكْرِ) واننا إنما نحتاجهم في تفسير المتشابهات والمجملات لا غير، إذ ظهر اننا نحتاجهم عليهم السلام في تفسير الظواهر أيضاً وانه لا يجوز تفسيرها والعمل بها قبل الرجوع إليهم ليبينوا لنا تطابق الإرادة الجدية مع الإرادة الاستعمالية في هذه الآية أو تلك، وعدمها.
وبذلك ظهر أيضاً ان قوله تعالى (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ) لا يتنافى مع الحاجة إلى مفسر فانه قد يجاب بـ:
أ- انه (مبين) في مرحلة الظاهر والإرادة الاستعمالية، وبحاجة إلى الرسول صلى الله عليه واله وسلم ليبين المراد الجدي منه في مرحلة الواقع والإرادة الجدية.
ب- أو يجاب بانه مبين اما بذاته أو بقرائنه التي ترجع إليه أيضاً.
ج- أو يجاب بانه مبين مقيداً بالآية الأخرى (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ).
د- أو انه مبين بذاته، لكن القابل مختلف، والقابل المطلق الذي تتجلى له بيناته هو الرسول صلى الله عليه واله وسلم وآله عليهم السلام.
وسيأتي تنقيح هذه الأجوبة مع بعض الكلام حولها ومع ضميمة غيرها، تفصيلاً بإذن الله تعالى.
الأنواع الاثنى عشر لمناهج التفسير
التمهيد الخامس: ان مناهج تفسير القرآن مناهج كثيرة، مختلفة ومتنوعة، وهذه المناهج يمكن تصنيفها إلى أربعة أصناف رئيسية بحسب العلل الأربع، فقد يكون تتنوع التفاسير بلحاظ العلة المادية وقد تتنوع بلحاظ العلة الصورية كما قد تتنوع بلحاظ العلة الفاعلية أو العلة الغائية، ولكل تلك الأنواع اقسام وتفاصيل، وهذه فهرسة لأهمها:
1- تفسير القرآن بالقرآن، وهو الذي بني عليه تفسير الميزان واعتبره أمتن التفاسير وأدقها، ولكن سيأتي ان هذا المنهج صحيح بمعنىً وغير صحيح بمعنى آخر وانه رحمه الله لم يلتزم به بشكل كامل في تفسيره بل وناقض نفسه في ذلك، فانتظر.
2- 3- تفسير القرآن بأحاديث الرسول والأئمة عليهم السلام أو فقل تفسير القرآن بالمأثور، وهو يتنوع إلى تفسيره بمطلق ما وصل إلينا منهم عليهم السلام، وبتفسيره بخصوص الروايات المعتبرة.
4-6- تفسير القرآن بأقوال الصحابة أو التابعين، وبأقوال المفسرين، وبأقوال اللغويين، فهل أقوال المفسرين أو اللغويين مثلاً حجة مطلقاً أو في الجملة في التفسير؟
7-8- تفسير القرآن بالعقل المجرد أو الصريح، وتفسيره بالعقل المضاف او المشوب، وقد عبر عن هذا الأخير بتفسير القرآن بالرأي أو هو أعم منه.
9- تفسير القرآن بالمعطيات العلمية أو فقل التفسير العلمي.
10- التفسير الاستلهامي.
11-12- التفسير العرفاني والتفسير الصوفي وقد يجمعهما التفسير الباطني أو الإشاري أو الفيضي وقد يفرّق بينها، كما سيأتي.
13- التفسير الهرمينوطيقي.
14- التفسير الجامع بين مجموعة من المناهج السابقة، وليس بين جميعها إذ بين بعضها والبعض الآخر مانعة جمعٍ.
وهنالك تقسيمات أخرى للتفاسير كالتفسير النهضوي والتفسير التقليدي و... و...، سياتي الكلام عنها لاحقاً بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق