وإذا اتضحت رؤية الإنسان، وأرهفت أحاسيسه، وتعود الصبر، واتجه إلى الله لتعديل حياته وتصحيح مسيرته، في هذه الحالة حيث يريد الإنسان، دفع الشر وكسب الخير، لا بد أنه يدرس حياته برؤية أوضح وأحاسيس أرهف في عملية استكشاف لنقاط الضعف والقوة، حتى يطلب من الله إنقاذه...
ليلة قدر كل إنسان هي الليلة التي يبلغ وعيه فيها ذروته
فيتخذ قراراً مصيرياً بشأن مستقبله
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (ليلة القدر)(1).
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ): أنزلنا (القرآن) دفعة واحدة من (اللوح المحفوظ) إلى (البيت المعمور) ـ في السماء ـ الرابعة ـ (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، تمهيداً لإنزاله نجوماً ـ وحسب المناسبات ـ خلال 23 سنة.
(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أهمية وعظمة، فهي ليلة عظيمة شريفة منحها الله لك ولأمتك ـ يا محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)! ـ مقابل ما أخذ منك ومن أمتك خلال ألف شهر.
وذلك: أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى في المنام أن (قردة) تنزو على منبره، وعرف أن تفسير هذه الرؤيا أن منبره ـ الذي هو رمزه ـ يعرض لإفراد يحملون بين جوانحهم نفوس القردة، ومعنى ذلك أن خلافته تخرج من أهلها، فحزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حزناً شديداً، ونزل عليه (جبريل) فأخبره بأن (بني أمية) يستخلفونه (ألف شهر). فأراد الله أن يسرّي عن نبيه، فأنزل عليه هذه السورة، ومنحه وأمته (ليلة القدر)(2).
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ) لك ولأمتك ـ (مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) تصادر فيها الخلافة منك ومن أمتك.
ذلك، أن لليلة القدر ثلاث خواص: إحداها مشتركة بينك وبين أمتك، والثانية خاصة بك وبخلفائك، والثالثة خاصة بأمتك. وهي بالتتابع:
1ـ نزول (القرآن) في هذه الليلة المباركة. ونزول القرآن يعني إيضاح الرسالة لك، وإيضاح الطريق في الحياة لأمتك.
2ـ عرض (أقدار الناس) عليك في حياتك، وعلى خليفتك القائم بالأمر في كل زمان. فتنزل (الملائكة) ـ من أول المغرب إلى طلوع الفجر ـ على (المعصوم) القائم بالأمر في كل زمان، فتعرض عليه أقدار الناس، ويتاح له التدخل فيها بالدعاء على أن يغيرها الله، إن كانت حكمته تقتضي ذلك.
لأن الله يقرر أقدار الناس لسنة كاملة في هذه الليلة، فهي ليلة تقرير الأقدار من قبل الله. وإن ساغ التشبيه لقلنا: إن في هذه الليلة يوقع الله الأقدار المعلقة فتصير محتومة. فكما أن (المحاكم) تصدر أحكامها ولكنها تبقى معلقة حتى يوقع عليها الملك أو رئيس الجمهورية فتصح معلقة، حتى تكون ليلة القدر فيقررها الله ـ تعالى ـ فتصبح محتومة وتوضع موضع التنفيذ.
وفي هذه الليلة يعرض الله ـ بواسطة الملائكة ـ أقدار العباد لسنة كاملة على المعصوم القائم بالأمر، لما يشبه أخذ الموافقة: فإذا كان موافقاً قررها الله، وإذا كان يرغب في تغييرها دعا الله أن يغيرها فيستجيب الله لدعاءه ويغيرها وفق رغبته.
وهذا... نوع من إشراك المعصوم في أقدار العباد، فهو تشريف له وتكريم له إلى أقصى درجات الأشراف والتكريم.
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ) الذي هو من أعظم ملائكة الله، (فِيها): في ليلة القدر، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) وبفضل ربهم وتكريمه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من بعده، (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) من أقدار الناس. وتستمر الليلة كلها من المغرب حتى الفجر، فـ(سَلامٌ هِيَ): الليل (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
ولم تكن (ليلة القدر) لسائر الأنبياء (عليهم السلام)، فلم تكن تعرض عليهم أقدار الناس قبل تقريرها، وإنما أكرم الله بها نبيه العظيم محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) من بعده.
وبهذا المعنى يكون لليلة القدر معنى فوقي، فهي تجري ـ من فوق الناس ـ بين الله ووليه المعصوم على الأرض، دون أن يكون لهم إلا التوقع والانتظار، شأن الواقف في (المحكمة) لا يعلم: هل سيصدر الحكم له أو عليه؟ فليس له أكثر من الترقب.
3ـ إفساح المجال لكل الناس أن يتدخلوا في أقدارهم بـ : (الدعاء، والتضرع، والالتجاء إلى الله... فإن الله يفتح أبواب الدعاء في هذه الليلة، ويرحم الداعين التائبين، ويعتق رقابهم من النار. ففي هذه الليلة يتاح لكل فرد أن يسأل الله كل ما يحلم به خلال عامه القادم، والله يجعل الدعاء في هذه فرصة ذهبية للتدخل في أقداره. فتشبه هذه الليلة ما لو سمحت (المحكمة) للقائم فيها أن يتدخل في الحكم الذي سيصدر بحقه، ويسأل تغييره، وقطعت المحكمة على نفسها وعدا بتغييره إذا طلب الواقف فيها ذلك.
وهذا المعنى يجعل (ليلة القدر) فرصة ذهبية لكل إنسان، من أمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة.
فكل فرد يعرف ذلك ينهمك هذه الليلة في: الدعاء، والصلاة، وتلاوة القرآن، والخيرات، وكل ما يقربه إلى الله...
ولذلك: أخفيت (ليلة القدر)، لأن الناس إذا عرفوها عبدوا الله فيها وتركوا العبادة في سائر الليالي، فأخفيت حتى يكرس الناس أكثر من ليلة للعبادة. كما يفهم من الحديث الوارد عن المعصوم (عليه السلام): أن رجلاً سأل الإمام عن ليلة القدر، فأجاب الإمام جواباً عرف منه السائل أنها إحدى ليلتين: إما الواحدة والعشرين، أو الثالثة والعشرون من شهر رمضان المبارك. فسأل الرجل من الإمام تحديدها في ليلة، فقال الإمام: (وما ضرك أن تعبد الله في ليلتين)(3)؟!
وقد بحثنا عن ليلة القدر في تفسير الآيات الأول من سورة (الدخان).
ويمكن تفسير (ليلة القدر) بمعنى آخر يحتاج إلى بيان مقدمة، وهي:
إن (الصوم) يحرر الإنسان من أغلاله وتمسكاته الذاتية، فإذا صام الإنسان وأضرب عن الطعام والشراب والجنس... أياماً متوالية، يقل نزوعه إلى هذه الأشياء، وتستهلك فيه كمية كبيرة من الخلايا الفضولية التي لا حاجة إليها. فتنشط روحه، ويحد فكره، فتتضح رؤيته.
ويرتاح قلبه ـ نتيجة لهذا الإضراب ـ فتتحرك أحاسيسه بشكل أرهف.
كما يتعود (الصبر). وصلة الصبر بالصوم صلة عضوية بررت للقرآن الكريم التعبير عن الصوم بالصبر، فقال:
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ...)(4). أي بالصوم والصلاة، كما في بعض التفاسير. فعلى أثر الصوم تبطؤ (الدورة الدموية) في جسم الإنسان، فتهدأ أعصابه، فيستطيع احتمالاً أكثر... وتروياً أكثر...
كل هذا... من ناحية.
ومن ناحية أخرى.
هناك صلة وثيقة بين الصوم والدعاء، سمحت لآية الدعاء: (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ، أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ. فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، وَلْيُؤْمِنُوا بِي، لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)(5) أن تأتي بين آيات الصوم.
وإذا اتضحت رؤية الإنسان، وأرهفت أحاسيسه، وتعود الصبر، واتجه إلى الله لتعديل حياته وتصحيح مسيرته، في هذه الحالة حيث يريد الإنسان، دفع الشر وكسب الخير، لا بد أنه يدرس حياته برؤية أوضح وأحاسيس أرهف وتوئدة وأناة. في عملية استكشاف لنقاط الضعف والقوة، حتى يطلب من الله إنقاذه من نقاط الضعف وتقوية نقاط القوة فيه.
وعندما نصح الإنسان بالإكثار من (تلاوة القرآن) في شهر رمضان، ربما كان لأن يبقى متصلاً بالقرآن حتى تتم دراسته لحياته على وعي القرآن. وعندما استحب للإنسان أن يكثر (الأدعية الموجهة) في شهر رمضان، ربما كان لأن يأخذ منها المشورة الأمينة الهادفة.
وعندما تتكرر عملية دراسة الإنسان لحياته ـ في أيام شهر رمضان الرخية، ولياليه الهادئة ـ فمن الطبيعي أن يتجه إلى وعي شديد لواقعه، وما لا ينبغي أن يتكرر في حياته وما ينبغي أن يتجدد في حياته.
وبتكرار هذه العملية من جهة، وبتبلور صفاءه ـ على أثر الصوم ـ من جهة أخرى، لا بد أن يبلغ ـ في إحدى الليالي الأخيرة من الشهر المبارك ـ قمة وعيه، فيتخذ القرار، ويقرر مصيره. وهكذا... يكون هذا الشهر، شهر قرار المصير.
ولعل من الممكن استنتاج ذلك، بجمع ثلاث مجموعات من الأحاديث:
1ـ تقول المجموعة الأولى: إن (ليلة القدر) ليلة من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان.
2ـ تقول المجموعة الثانية: إن (ليلة القدر) مستمرة إلى يوم القيامة.
3ـ تقول المجموعة الثالثة إن لكل إنسان (ليلة قدر).
فليلة قدر كل إنسان هي الليلة التي يبلغ وعيه فيها ذروته: فيفحص ماضيه ويختار منه خيره، ويفحص مستقبله على ضوء ظروفه وإمكاناته، فيتخذ قراراً مصيرياً بشأن مستقبله، يكون خطة عمله لسنة واحدة على الأقل.
فإذن، لليلة القدر معنيان:
1ـ المعنى الإلهي: وهو أن يقدر للعباد أقدارهم في هذه الليلة، ويعرضهما على (القائد البشري الأعلى): تكريماً له، وليتيح له فرصة (الشفاعة لمن يراه أهلاً للشفاعة. وفي نفس الوقت: يتيح للعباد ـ أنفسهم ـ حق الاشتراك في تقرير أقدارهم بالدعاء، وقد وعد الإجابة بشروطها.
2ـ المعنى البشري: وهو أن يتبلور الناس بالصوم، ويقرأوا القرآن والأدعية، ويتأملوا في ماضيهم وحاضرهم، حتى يتخذوا لأنفسهم قراراً يقررون به خطة حياتهم المستقبلية.
اضف تعليق