الإيمان بالغيب ضروري للإنسان، لأن كل عمل حياتي في تطور ـ نتيجة لسيرها الدائب نحو الكمال ـ. وكل شيء متطور، متغير وغير ثابت. والإنسان ـ في حياته ـ يحتاج إلى الاعتماد على أرضية صلبة، يعتمد عليها للانطلاق منها في دفع الحياة إلى الأمام. فالفلسفة، والعلم...
(الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)(سورة البقرة: 3ـ 4)
ذلك الكتاب: هدى للمتقين. والمتقون، لهم مواصفات خمس:
1ـ الإيمان بالغيب، الذي لا يحسونه. يؤمنون به، لأن العقل أرشدهم إليه، لا لأن الحس دل عليه.
2ـ إقامة الصلاة، والتكريس لذلك الغيب الذي آمنوا به.
3ـ الإنفاق لبعض ما رزقهم الله، بلا بدل، تطبيقاً لذلك الإيمان بالغيب.
4ـ الإيمان بالأنبياء الذين: يبشرون بذلك الغيب، ويوجهون تكريس الإنسان لذلك الغيب، ويقدرون الانفاق.
5ـ اليقين بالآخرة، التي تجمع آثار عمل الإنسان، في صيغة حياتية مثلى.
1ـ أما بالنسبة إلى النقطة الأولى:
الإيمان بالغيب ضروري للإنسان، لأن كل عمل حياتي في تطور ـ نتيجة لسيرها الدائب نحو الكمال ـ. وكل شيء متطور، متغير وغير ثابت. والإنسان ـ في حياته ـ يحتاج إلى الاعتماد على أرضية صلبة، يعتمد عليها للانطلاق منها في دفع الحياة إلى الأمام.
فالفلسفة، والعلم، والتكنولوجيا، وكل شيء فكري أو مادي... يتغير: فالعلم يثبت اليوم ما نفاه بالأمس، وينفي اليوم ما أثبته بالأمس. وما هو صحيح اليوم يصبح خطأ غداً، وما خطأ اليوم يصبح صحيحاً غداً.
وكما هو في العلم، كذلك: في الفلسفة، وفي التكنولوجيا... فلو اعتمد الإنسان على ما هو متغير وغير ثابت، يصبح الإنسان ـ مثله ـ متغيراً وغير ثابت، فيعيش قلقاً مضطرباً.
إن الأشياء الفكرية تبدأ من الإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يبدأ بها. وإن الأشياء المادية مشابهة للإنسان، ومتساوية له، في أنها ـ أيضاً ـ تحتاج إلى مبدأ ثابت، فلا يمكن للإنسان أن يبدأ بها.
وبقدر ما تزداد سرعة الحياة وتطورها، تزداد حاجة الإنسان إلى تلك الأرضية الصلبة الثابتة، التي ينطلق منها. وفي عصرنا الحاضر، حيث ازدادت سرعة الحياة، ازدادت حاجة الإنسان إلى الأرضية الثابتة، حتى يصبح ـ هو ـ ثابتاً، يستطيع أن يرى بوضوح، وأن يتحرك باستقامة، وأن يحرك بدقة.
وتلك الأرضية الثابتة، التي تصلح قاعدة للإنسان، ومنطلقاً له، هو الإيمان بالغيب لأن الغيب = ما وراء الطبيعة، غير خاضع لنظام التطور لأنه كامل لا يحتاج إلى السير نحو الكمال.
ولو لم يبدأ الإنسان حياته من الإيمان بالغيب، يبدأ حياته من نفسه، فيعبد رغبته ـ إذ لا مطلق يدجن رغبته ـ، ويصبح عبد هواه:
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلَـَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَىَ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىَ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىَ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ) سورة الجاثية: آية 23. ورغبته تتجسد في مصلحته، ومصلحته تعبير رغبته. والمصالح تتوافق وتتناقض، فيتآلف الناس ويتناقضون بتآلف وتناقض تلك المصالح. وتتوزع الحياة إلى شركات متنافسة، لا إلى وحدات متآلفة: كل فرد إله في نفسه، وتائه في حياته. صديق مصلحته، وعدو منافسه.
وكما لا بد من الإيمان بالغيب في تحديد المنطلق الرئيس للإنسان، كذلك لا بد من الإيمان بالغيب في تحديد المنطلقات الفرعية، وهي الأخلاق. فلو لم ترفد الأخلاق من الإيمان بالمطلق، فيتبنى الإنسان: الصدق، والوفاء، والإخلاص، والأمانة، والحق، والعدل... لأن الله أمر بها؛ يضطر إلى أن يتبناها، لأن المصلحة توحي بها. فلا يبقى صدق مطلق يمكن الانطلاق منه، وإنما يكون: صدق مصلحي، وعدل مصلحي، وحق مصلحي... يتغير ويتطور بتغير وتطور المصلحة. فلا تصلح منطلقات للإنسان.
إن القيم والأخلاق، لا تصح منطلقات للإنسان، إلا إذا كانت مطلقات، ولا تكون مطلقات، إلا إذا أخذت من مصدر الغيب، وهو: المطلق.. المطلق... (الله)، الغائب عن كل الحواس والعقول، الذي يشير إليه كل محسوس وكل معقول.
إن المنطلق، لا بد أن يكون أسبق من الإنسان، وأثبت من الإنسان...
وإلا تصبح الحياة كما هي في القرن العشرين، رغم جميع المكاسب الطبيعية والنظرية، قلقة مضطربة، تظهر تشنجاتها في: الحروب، والثورات، والتناحرات السياسية، والتمردات الفردية والفكرية، والانتحار... وكل مظاهر الشذوذ التي أصبحت ضمير القرن العشرين، وطابع القرن العشرين.
وكما لا يغني العلم عن الإيمان، كذلك: لا يغني الإيمان عن العلم. لأن الإنسان يحتاج إلى المنطلق الثابت، حتى لا يتشنج، وهو: (الإيمان). ويحتاج إلى الحركة الواعية حتى لا يجهد، وهو: (العلم). فلكل من الإيمان والعلم، دوره. وكلاهما ضروريان.
2ـ إقامة الصلاة:
التي هي تكريس للإنسان ـ بروحه وجسده ـ أمام الله.
سؤال: هل الصّلاة تقام، تكريماً، وإشباعاً لرغبة الألوهية؟
كلا.. فالله أكبر من أن يكرم بشيء من أعمالنا، وأعلى من أن تكون له رغبة، أو أن تشبع رغبته بشيءٍ منا.
سؤال: هل الصّلاة تقام، رياضة لأجسامنا، وتقويماً لأخلاقنا؟
كلا.. فالصلاة أرفع من أن تقدر برياضة جسدية، أو ترقية خلقية.
إذن: فلماذا تقام الصلاة؟
تقام الصّلاة لـ:ـ
1ـ لتأصيل الإيمان في النفس، ذلك: أن الإنسان، ليس كيانين معزولين مستقلين: كيان روحي، له أوضاعه ومستقلاته. وكيان جسدي، له أوضاعه ومستقلاته. وإنما الروح والجسد، كيانان متواحدان في الخلقة، وإن كانا مختلفين في المصدر. فما من شيء يترسب في الروح إلا وينعكس على الجسد، وما من شيء يمارس بالجسد إلا ويمتد عمقه إلى الروح ففي بعض الحديث: «لو خشع قلبه لخشعت جوارحه ـ بالنسبة إلى من كان يصلي ويعبث بيده ـ» (مجمع البيان تفسير القرآن ج7 ص157 ط دار المعرفة بيروت)، وفي الآية:
(إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ) سورة العنكبوت: آية 45.
فلا يمكن أن يكون الفرد مؤمناً بقلبه، ولا يعمل بجسده عمل الإيمان. ولا يمكن أن يعمل عمل الإيمان، ولا يتأثر به روحه. وليس من الصحيح تصور من يزعم: أنه مؤمن بقلبه، والإيمان هو الهدف، إذن: فلا حاجة إلى عمله. ولا ادعاء من يدعي: أنه وصل إلى الحق، فلا عليه لو ترك الفرائض. فالإيمان طاقة ـ كأية طاقة ـ، إذا لم تمارس تتهافت وتنسحب. وأين هو الإيمان الذي، لا يملك قوة الفرض ولا قوة الرفض بالنسبة إلى جسده؟! وكيف يمكن افتراض التناقض بين الروح والجسد؛ والروح ضمير الجسد، والجسد قشرة الروح، أو الوجه الظاهر للروح؟! إذن: لا تناقض بينهما. فمن آمن قلبه عمل جسده، ومن عمل جسده ـ قربة إلى الله ـ آمن قلبه. فالروح والجسد، عندما يصليان ينسجمان في الانقياد أمام الله، فيتمليان من الخضوع لله، ومن تعود الخضوع لله، لا يعصي الله في سره أو في علنه: (إِنّ الصّلاَةَ تَنْهَىَ عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ).
2ـ إذا صلينا (صلاة صوفية) بأرواحنا لله، فعودناها على الاتجاه إلى الله، ولم نعود عضلاتنا على الخشوع لله؛ نحاول فصل الروح عن الجسد ـ وإن كان من غير الممكن ـ، إلا أنه إذا لم نعود الجسد على الاتجاه إلى الله، يبقى شاغلاً للروح عن الله كلما اتجه الجسد إلى عمل، فلا يستطيع أن يتجه إلى الله وهو يمارس أي عمل آخر. بينما لو عودناهما الصلاة، يستطيع الإنسان ـ في أي عمل ـ أن يبقى متجهاً إلى الله، حتى ولو كان في حقله، أو معمله، أو مكتبه، أو حانوته، أو في طريقه... ولعل ذلك هو المطلوب، وهو التعويد على البقاء متصلاً بالله، لقوله تعالى:
(واستعينوا بالصبر والصلاة...) سورة البقرة: آية 45.
فالاستعانة بالصبر ـ الذي يطلب في الأعمال المرهقة ـ قرنت بالاستعانة بالصلاة. إذن: لا بد أن يبقى الإنسان ـ في كل حياته، وخاصة: في اللحظات الحرجة ـ مصلياً، متجهاً إلى الله.
3ـ الإنفاق مما رزقهم الله:
(ومما رزقناهم ينفقون).
والإنفاق، هو: العطاء. وما رزقهم الله: كل شيء منفصل عن الإنسان ذاتاً، والمتعلق به عرضاً. فيشمل: المال، والعلم، والفن، والخبرة، والجاه، والإيمان... وليس المطلوب من المؤمن، أن يتجرد من كل ما رزقه الله، حتى يدقع ـ هو ـ ويتسكع. وإنما المطلوب هو: إنفاق الفضل من رزقه، وبذل ما يمكنه الاستغناء عنه.
والعطاء لا يمكن، إلا بأحد شعورين:ـ
الأول: الشعور الإيماني، بأن ما يملكه الإنسان، أمانة أودعها الله عنده، لافتتانه وتجربته، كيف يتصرف بها؟
الثاني: الشعور الإنساني، بأنه وسائر الناس، رؤوس لجسم كبير هو الإنسانية العامة. فهو لا يتميز عن غيره إلا بمقدار ممارسته لهذا الشعور، بواسطة ما تمكن منه من ثروة وقدرة، فممتلكاته ليست إلا وسائل لتصعيد ذاته: فالذي يبخل إنما يبخل على نفسه، لأنه يحصرها في حدود الـ (أنا)، ويدعها مشدودة بجواذب الأرض، فيكون أشبه بمن لا يأكل ليوفر، فيضعف جسمه ويقلصه. ومن يعطي إنما يعطي لنفسه قبل أن يمتد عطاؤه إلى غيره، لأنه يطلق نفسه من حدود الـ (أنا)، أو يعبر عن سعته وقدرته على الشمول والاحتواء، حيث يضم إليه كل من يعطيه فيجعلهم أعضاء فيه، فيجعل لنفسه كوناً واسعاً، يستوعب العشرات، أو المئات والألوف وربما الملايين، بمقدار من يحولهم عطاؤه إلى أعضاء فيه.
وأما الذي لا ينفق مما رزقه الله، يتحمل عبء ما رزق دون أن يستخدمه في تمديد ذاته، ويمثل دور الحارس أكثر مما يقوم بدور المالك. لأنه لا يتصرف فيه، وإنما يخزنه، ويكون أشبه بالأفعى الرابضة على الكنز، لا تحركه هي ولا تدع غيرها يحركه.
بالإضافة إلى: أنه يجمد الطاقات التي رزقها، ويميتها حتى لا تؤدي حركتها الطبيعية: كمن يملك الأرض فيدعها مرقصاً للزوابع، وكمن يملك الجبل فيتركه حقلاً لتجارب الشمس.
فيخون الأمانة التي أودعها الله عنده.
ويكفر بالإنسانية التي تعتبره عضواً في جسم، عليه أن يعمل لكل الجسم كما يعمل كل الجسم له.
4ـ الإيمان
بما أنزل على النبي محمد (ص)، وبما أنزل على سائر الأنبياء عليهم السلام:
(والّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ).
فالإيمان بأي نبي يلزمه الإيمان بكل الأنبياء، لأن النبي يعني التعبير البشري عن الله. والله ـ تعالى ـ جعل له تعابير بشرية كثيرة، ومختلفة باختلاف مستويات البشر، تماماً كالمعلمين لصفوف الطلاب، ابتداء من الروضة وانتهاء بالجامعة. فالمعلمون كثيرون، ومختلفون باختلاف مستويات الطلاب، ولكنهم ـ جميعاً ـ يعبرون تعبيراً متفقاً عن المادة التي يلقنونها لطلابهم.
والأنبياء ـ جميعاً ـ كانوا متفقين في الخطوط العريضة للرسالة السماوية الواحدة، المعبرة عن حقائق الكون الثابتة، والموجهة إلى مصلحة الإنسان: الثابتة كمصلحة، والمتغيرة بوسائلها. وإذا كانت رسالات الأنبياء مختلفة فبمقدار ما تتجاوب مع الظروف والحاجات المتغيرة.
فالإيمان بأي نبي، يلزمه الإيمان بكل الأنبياء، والالتزام بأية رسالة، يلزمها الالتزام بكل الرسالات ـ في ما عدا الفرعيات المتغيرة ـ.
5ـ اليقين بالآخرة:
(وبالآخرة هم يوقنون).
والآخرة أعم من القيامة، فالقيامة هي افتتاح الآخرة. وأما الآخرة، فهي العالم الأوسع من هذا العالم، بنسبة هذا العالم إلى الموطن السابق للإنسان، وهو: «الرحم».
أولاً: والآخرة واقع كوني، لا يمكن أن لا تكون إلا إذا لم يكن هذا الكون. فهذا الكون، «عالم الكون والفساد» ـ حسب تعبير الفلاسفة ـ، أو هو مجموعة تفاعلات ذرية، تجري على سنة واحدة، هي سنة انبثاق النتيجة من مقدماتها.
فإذا التقت شحنة موجبة بشحنة سالبة، يؤدي إلى الاحتراق. وإذا تأثر الماء بالطاقة، تجزأ وتصاعد. وإذا تلقحت بويضة الأنثى ببويضة الذكر، في المناخ المناسب، كان الإخصاب... فكلما ترتبت المقدمات، كانت النتيجة. وحتمية النتيجة بعد ترتب المقدمات، ترفض الشك والحوار.
في مثل هذا الكون، نجد الملايين من المقدمات تترتب ـ وهي أعمالنا المختلفة ـ، ولا تظهر نتائجها، فهل يمكن أن تكون عقيمة لا تنتج؟! إن أية ذرة ـ في الكون ـ لا تتحرك من موقعها شعرة إلا بسبب، ولا تتحرك دون أن تترك أثراً، فهل البشر ـ والبشر يتحرك كثيرا.. ويحرك كثيراً..ـ لا يندفع عن سبب، ولا يؤدي إلى أثر؟؟!! إن ذلك مستحيل، إلا إذا كان الكون ـ كله ـ غلطاً ومتناقضاً.
فكل حركة فكرية ـ أو عضلية ـ تولد أثراً، وإذا كنا لا نرى ـ في وضعنا المعاصر ـ أثرها، فأثرها واقع، نعجز اليوم عن رؤيته، وسنراه في يوم من الأيام، وهو يوم القيامة:
(يؤمئذٍ:..يره) سورة الزلزال: آية 6 ـ 8.
ثانياً: والآخرة واقع فلسفي، لا يمكن إنكاره إلا إذا أنكرنا فلسفة الكون، لأن الكون منطلق من فلسفة واعية ودقيقة، تظهر في كل مظاهر الكون، من الذرة إلى السديم. وهذه الفلسفة الواعية والدقيقة، تظهر ـ بجلاء ـ في كون الإنسان. فأين تظهر هذه الفلسفة، في الهدف من الإنسان؟
إن أصل وجود الإنسان ـ بهذا الشكل المتآكل ـ لا مبرر له على الإطلاق، إن كان لهذه الدنيا فقط. فوجوده ـ في هذه الدنيا ـ تجربة ألم مريرة، منذ سقوطه على رأسه ـ في القبر ـ مقهوراً بالموت. فلا بد أن يكون تمريره ـ في هذه الدنيا، بهذا الشكل المأساوي ـ لهدف كبير، يبرر هذه التجربة المريرة. وهذا الهدف لا يتجسد في الدنيا، فلا بد أن يكون في الآخرة.
ثالثاً: وهذا التناقض الكبير بين اتجاه الكون المستقيم وبين اتجاه الإنسان المنحرف، وذلك الانضباط الدقيق في الموجات البشرية؛ لا بد أن يستمر كل حتى يبلغ مداه، فننتهي إلى مجابهة مدمرة، وينتهي الكون والإنسان بانفجار، وعندئذٍ: ينجو الهواء، والطاقة، والقيم، وكل فاعلات الكون... من اللوث بشيءٍ اسمه: (أنا).
إن انفلات (بروتون) موجب من مداره، يؤدي إلى حريق هائل، وانفلات أجيال من البشر لا يولد حرائق؟!
رابعاً: إن الآخرة خبر غيبي، اتفق المخبرون الغيبيون على نقله. وقد كانوا صادقين في كل إخباراتهم الغيبة، فلا بد أن يكونوا صادقين في هذا الخبر.
خامساً: إن الدليل على نفي الآخرة واحد، وهو: (الاستبعاد). والاستبعاد غير وارد في شأن الناس المزودين بالقوى السماوية، وحتى في شأن الناس العاديين المزودين بالقوى الأرضية ـ فهاهم يعملون كل ما يستبعده الإنسان، ولا يصدقه إلا إذا صدمته الرؤية، فتقاعس عن استبعاده ـ، فكيف يكون وارداً بالنسبة إلى العظيم القدير؟!
ولليقين بالآخرة أثر تربوي كبير، فعندما يتركز في وجدان الإنسان إشعار بالحساب ـ أي حساب ـ، يتحرك في الشعور بالمسؤولية، فلا يقدم على أي عمل إلا بعد دراسة، ولا يمارس أي عمل إلا بإتقان؛ فكيف إذا تردد ـ في يقينه ـ إيحاء مستمر بالمحاكمة والقرار؟!
وليست تلك المحاولات الكثيرة، التي تبذلها الأديان لتحرير الإنسان من قوقعة (أنا)، وتوسيع أفقه حتى يسع الأبوين، ثم الأخوة والأقرباء، ثم الجيران، ثم الأصدقاء، ثم أبناء وطنه، ثم المؤمنين جميعاً، ثم البشرية جمعاء؛ ليست تلك المحاولات، إلا مقدمات تمهيدية لتميد أفقه إلى الآخرة، حتى يتطابق مداه الفكري مع خطه الذي يتحرك فيه، ويصبح على مستوى الواقع.
اضف تعليق