نجد النبي أعظم القادة على الإطلاق فقد نجح في تبني جميع قضايا الإنسان، ومضى في خطين خط فكري انتهى إلى تشريع دين، وخط تربوي انتهى إلى تكوين أمة، حتى بلغ تياره من القوة أن أنعكس النبي في كل فرد من المسلمين، ولو من خلال بعض أفكاره...
((محمّد) رَسُولُ اللهِ. وَالَّذِينَ مَعَهُ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ، تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلاً ـ مِنَ اللهِ ـ، وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ. لِيَغِيظَ ـ بِهِمُ ـ الْكُفَّارَ. وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ـ مِنْهُمْ ـ: مَغْفِرَةً، وَأَجْراً عَظِيماً)(1).
ـ 1 ـ
الآية تنقسم إلى جزئين:
1ـ الجزء الأول يتناول وصف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (محمّد رَسُولُ اللهِ).
2ـ الجزء الثاني يتناول وصف المؤمنين به بقوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ...).
والجزء الأول مقتضب جداً: (محمّد رَسُولُ). ذلك: أن كلمة (رَسُولُ اللهِ) أكبر إطار يمكن أن يوضع فيه شخص من البشر، وأعظم هالة تحف بإنسان. لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يختار لرسالته إلا أكفأ الناس، من جميع الجهات: الخلقية، والخلقية. فالرسول ـ أي رسول ـ ليس مجرد إنسان أخلص لله بكله، فاختاره الله لمجرد إخلاصه له، وإنما هو أكفأ الناس، فحتى لو جرد من الرسالة لبقي متفوقاً على جميع أهل زمانه، ولأنه أكفأ الناس جميعاً يختاره الله رسولاً.
وهذا أمر واضح في واقع الحياة: فأي فرد ـ منا ـ أراد تبليغ رسالة إلى قوم، فإنه يختار لأدائها أكفأ من يجد، فكيف بالله الذي يحمل أحد خلقه رسالة السماء، فلا بد أن يختار لها أكفأ خلقه.
وهذا أمر واضح في واقع الإسلام، وكل الأديان:
فالرسول الأعظم ـ مثلاً ـ يقول: (إن الله نظر إلى أهل الأرض، فاختارني وأختار علياً، فبعثني: رسولاً، ونبياً، ودليلاً، وأوحى إلي: أن اتخذ علياً أخاً، ودليلاً، ووظيفاً، وخليفة في أمتي من بعدي...)(2).
إذن: فالعملية عملية اختيار دقيق، دقة مقاييس السماء، التي ترفض كل جزاف واعتباط. فالله الذي أتقن كل شيء، وأحاط بكل شيء علماً، لا يمكن أن يكون اختياره جزافاً أو اعتباطاً. فعملية اختيار الرسول، تكون من جزئيات عملية اختيار الشخص المناسب للعمل المناسب. والله أحسن من يختار، ويختار الأحسن.
والرسول ـ مطلق الرسول ـ هو: القمة البشرية العليا، التي تتربع على ملايين الكفاءات ـ المتوالدة، والمتوارثة ـ التي تدعم كيانه من قبل آلاف السنين. كما أن قمة الجبل، صخرة ضخمة، تعاونت على إبقائها فوق سطح الماء بألوف الأقدام، ملايين الأحجار المختلفة الأحجام والمستويات... كما أن رئيس الدولة، رجل ضخم المؤهلات، يقف على ملايين الأيدي والمؤهلات، التي تعاونت في تكوين الدولة منذ تأسيسها، وتكوينه منذ تكوينه... كذلك: الرسول ـ إضافة إلى قدسيته في القمة ـ رجل هائل المؤهلات، اشتركت في تدعيم كيانه العظيم، وتوفير المؤهلات فيه، الرجال الصالحون والنساء الصالحات، منذ فترات عريقة... وعريقة... جداً.
هكذا... القرآن يفسر تكوين الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم):
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)(30). وهكذا... يقول الإمام الصادق للإمام الحسين (عليه السلام): (يا مولاي! يا أبا عبد الله! أشهد: أنك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة، لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها)(4).
والجزء الثاني الذي يتناول وصف المؤمنين، فحيث لا توجد كلمة جامعة لكل الكمالات الإيمانية، وردت لهم أوصاف أربعة:
1ـ (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ): فلهم عواطف بها يبغضون ويحبون كسائر الناس، ولكنهم يتفوقون على سائر الناس ـ في هاتين الصفتين ـ من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن عواطفهم كاملة، فبغضهم كامل... وحبهم كامل... فهم يبالغون في البغض حتى درجة الشدة، ويبالغون في الحب حتى درجة الرحمة، والمبالغة في الأوصاف من نتائج الكمال، لأن الكمال يعني توفر الطاقة بشكل كامل لا تدع فراغاً، لا من حيث الكم ولا من حيث الكيف.
الناحية الثانية: إن عواطفهم ليست مرسلة على سذاجتها، وإنما هي خاضعة للفكر، وهم لا يسترسلون مع عواطفهم كيفهما تهيم، ولا يرسلون كيفما تهيم، وإنما يمنطقونها. فبغضهم وحبهم، لا ينطلقان من قاعدة المصلحة، التي تتقلب حسب تقلبات المصلحة، وإنما ينطلقان من قاعدة ثابتة هي: (قاعدة الإيمان) التي تبقى فوق دوافع التقلب.
فالمقياس الذي يسود عواطفهم هي: (الدين). فالكافر يحارب بشدة، والمؤمن يدعم رحمة، مهما كانت المقتضيات الخاصة، فكلها جانبية بالنسبة إلى الخط العريض، الفاصل بين الكافر والمؤمن.
2ـ (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً): فهم يركعون ويسجدون كثيراً وهذا... لا يدل على أنهم لا يصفون أقدامهم قياماً، ولا يدل على أنهم لا يأتون بسائر العبادات، ولا يدل على أنهم رهبان يهملون الحياة، ولا يدل على أنهم ركوع لا ينتصبون أو سجود لا يجلسون حتى لا تراهم إلا وهم ركوع أو سجود... وإنما يدل على أن العبادة تطبع حياتهم ـ والركوع والسجود هما من أتم مظاهر العبادة ـ حتى لكأنهم ركّع سجّد ولو كانوا منهمكين في سائر جوانب الحياة، لأن بقية حياتهم ـ في مختلف الأعمال ـ مطبوعة بطابع العبادة، فهم في كل تصرفاتهم:
3ـ (يَبْتَغُونَ فَضْلاً ـ مِنَ اللهِ ـ وَرِضْواناً) لأنهم، إما يمارسون الأعمال المعيشية كما خطط لهم الله، فكأنهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ)، حيث لا يتجاوزونه إلى من خطط لهم الشيطان، أو سولت لم أنفسهم، من ممارسة الأعمال المعيشية لمجرد أنها تدر عليهم أرباحاً مادية، مهما كانت نوعية تلك الممارسة. وإما يمارسون الأعمال الحياتية بالشكل الذي أراده الله لهم، فكأنهم يبتغون (َرِضْواناً)، حيث لا يتجاوزونه إلى ما أراده الشيطان، أو أرادته أنفسهم لهم، من ممارسة الأعمال الحياتية لمجرد أنها تشبع رغباتهم، مهما كانت نوعية تلك الممارسة. فعلى حياتهم مسحة الخشوع والانقياد لله، حتى كأن تلك المسحة وسم أرتسم على جباههم.
4ـ (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ): فخشوع الإيمان... ونور الإيمان... يعلو حياتهم كلها، فأقوالهم... وأعمالهم... كلهاـ توحي بشي هو: (الإيمان) الذي أراح ضمائرهم، فبدت راحة ضمائرهم في اطمئنان أعصابهم، وسماح وجوههم، وإن لم تكن الثفنات على جباههم، فالتاريخ لم يعرف الثفنات على جباه: النبي، وعلي، والحسنين... هم قادة المؤمنين، لأن الثفنات ترتسم على جباه السجادين إذا كانت أمزجتهم ضعيفة تتأثر بالسجدات الطوال، وأما الأمزجة القوية، فتعوض الخلايا الميتة على أثر ضغطة السجود. وهذه السيما في وجوه المؤمنين (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) والعبادة المطلقة لله، فهي التي وفرت عليهم عافية الضمير والأعصاب.
هذا (المثل) النموذجي للمؤمن ـ بتلك الصفات الأربع ـ الذي ظهر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليس مثل المؤمن بالله عن طريق محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن فحسب، وإنما هو (مثل) المؤمن بالله عبر الرسالات والكتب السماوية.
(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ): فالذين كانوا مع موسى على طريق الله، كانوا على نفس الصفات.
(وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ): فالذين كانوا مع عيسى على طريق الله، كانوا على نفس الصفات.
فالمؤمن الصحيح الإيمان، هو: المؤمن بالإله الواحد، الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وبعث الأديان، والمؤمن به، هو هو ذاته، عبر أولئك الرسل... وتلك الكتب... وهاتيك الأديان...
ـ 2 ـ
هنا نطرح قضايا، نستلهمها من مميزات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في أصحابه:
الأولى: قوة القائد في القاعدة
بمقدار ما تكون قوة القائد في القاعدة، تكون مرونته في التحرك، وقدرته على تحريك القاعدة بدقة وشمول. لأنه هو الذي ينعكس على القاعدة، التزاماً بتنفيذ تعاليمه، بتضحية ونشاط. فمدى قوة القائد في قاعدته، مقياس لذاتياته من جهة، ولإمتداداته ـ الوقتية، والتاريخية ـ من جهة أخرى.
وإذا أردنا أن نرسم خطوطاً بيانية لقوة القادة في قواعدهم، برز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأعظم قائد في التاريخ. فلا يعرف التاريخ قائداً تكون كلمة مصدر قناعات، وحجة تنهار دونها الأدلة والبراهين.
الثانية: ترجمة القائد في القاعدة
فترة نشاط كل فرد، عدة آلاف من الأيام، لا تقل عن ثلاثة ولا تزيد على عشرة ـ غالباً ـ. فإذا بددها في المفردات... والمتفرقات... لا يستطيع استثمارها. ويستغل بعضها المركزون، ويضيع بعضها في المتاهات. تماماً كمن ينثر القمح في البحر، تأكل الحيتان بعضها، ويفسد بعضها في طيات الوحول... أو كمن ينثر دراهمه من الجو، يعثر الأطفال على بعضها، وبعضها يدفن في التراب... وإذا ركز نشاط عمره على هدف معين، أصبح كياناً ضخماً، يلفت الأنظار.
والإنسان يمل متابعة هدف واحد، بكل نشاطهم، طوال ساعات يومه، عبر سنوات نشاطه كلها. فلا بد له من هدف رئيس يكرس له وفر نشاطه، وهدف جانبي يمنحه فضل نشاطه. والأفضل ـ عندئذٍ ـ أن يكون له خطان: خط فكري، لا يحيد عنه، مهما تجاوبت المغريات على جانبي الطريق. وخط تربوي، لا يتوانى عنه، مهما فاجأته سلبيات الأفراد. شريطة: أن ينطلق الخطان من موقع واحد، وفي اتجاه هدف واحد، بحيث يدعم أحدهما الآخر، فيكون الخط الفكري صيغة نظرية للخط التربوي، والخط التربوي صيغة بشرية للخط الفكري.
والعبقري، ليس هو الذي يتمتع بمواهب متفوقة... متعددة الألوان... وإنما الذي يحسن اختيار قضية، تلخص اهتمامات الناس. وينجح في تركيز اهتماماته في خطين: فكري وتربوي، ينتهيان إلى تلك القضية. ليمتلك الناس فكرياً ومسلكياً، ويجعل منهم تياراً متوثباً، يرتمي فيه المتردون غير آسفين.
وإذا أردنا أن نأخذ بهذا المقياس، نجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم القادة ـ على الإطلاق ـ: فقد نجح في تبني جميع قضايا الإنسان، ومضى في خطين: خط فكري انتهى إلى تشريع دين، وخط تربوي انتهى إلى تكوين أمة، حتى بلغ تياره ـ من القوة ـ أن أنعكس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل فرد من المسلمين، ولو من خلال بعض أفكاره... وتصرفاته...
الثالثة: توظيف القاعدة في الخط
والقائد القوي لا يكتفي بمجرد انتماء قاعدته إليه، لأن مجرد انتمائها إليه لا يوجه طاقاتها إلى الهدف بالزخم المطلوب لتحقيقه، فلا بد من تفريغ القاعدة ـ بكل نوازعها ـ في الخط المنتهي إلى الهدف.
وإذا استعرضنا النوازع المحركة للإنسان، تبرزت في طليعتها نازعتان، هما: (نازعة البأس، ونازعة الرحمة).
ونازعة البأس هي: التي تلخص سلبيات الإنسان الدافعة إلى العنفوان، والتمرد، والبطش، والتدمير...
ونازعة الرحمة هي: التي تلخص إيجابيات الإنسان الدافعة إلى التواضع، والانقياد، والتسالم، والتآلف...
وإذا استطاعت القيادة تفريغ نازعتي: (الهدم، والبناء) في اتجاه هدفها، فقد وظفت القاعدة ـ بكل طاقاتها ـ في الخط. وخاصة ـ وأن القيادة إذا أهملت توجيه هاتين النازعتين، وتولاهما الفرد، فمن الممكن أن يخطئ استخدامهما، فيضع البأس موضع الرحمة، والرحمة موضع البأس. واحتمال الخطأ يمنعه من استنفادهما، فتهدر الطاقة، ويتعقد هو بكبحها. وإذا تم تقنينهما، وكملت مبرراتهما، فلا يتردد الفرد في التعبير عن بأسه بشدة، لتحديد الانحراف بأقصى القوى... وعن رحمته بفتوة، ملافاة السقطات بأقصى العواطف... فيساهم في إصلاح المجتمع، بلا تناقص مع المنهج العام الذي تضعه القيادة.
وقد بلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضبط نازعتي: (البأس، والرحمة) في قاعدته، مبلغاً مثالياً، حتى كان المسلمون يقاتلون آبائهم... وإخوانهم... من الكفار، ويتعاطفون مع من لا يعرفونهم من المسلمين...
(وَالَّذِينَ مَعَهُ) لا أصحابه، ففيمن صحبه من آمن بلسانه دون قلبه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) الذين يمثلون جبهة المنحرفين والهدامين، (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) من المسلمين.
اضف تعليق