أعلن الإسلام واقعية المميزات السبع الأولى، من دون الاعتراف بها قيماً إنسانية. وأعلن الميزة الثامنة قيمة إنسانية. وهي في الأساس ـ تختلف عن أخواتها، لأنها لا تعني أكثر من الإنضباطية والاستقامة، فلا تشكل خطراً على صاحبها ولا على غيره، والتميز بها لا يعني أكثر من...
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ، لِتَعارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ. إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات: آية 13.
أوجدناكم متمايزين بمائزات عديدة:
1ـ المائز الذاتي: فهذا... ذكر، وتلك... أنثى، وهذا... مائز خلقي له آثاره.
2ـ المائز السياسي: فهذا... من شعب، وذلك... من شعب آخر. وهذا... مائز سياسي. لأن الشعب يتكون من مجموعة بشرية، متعايشة على قطعة من الأرض، تحددها حدود معينة وتسودها سلطة معينة. ولكل حدود إيحائها، ولكل سلطة اتجاهها. وتفاعل ذلك الإيحاء وهذا الاتجاه مع مزاج الشعب، يخلع عليه طابعاً ويركز فيه مرتكزاً لهما آثارهما.
3ـ المائز القومي، فهذا... من هذه القبيلة، وذلك... من تلك القبيلة. فالانحدارات السلالية توزع الناس أقواماً يختلفون بها في النسب، ولكل سلالة خواص تكون مجتمعاً خاصاً ومناخاً معيناً لهما آثارهما.
وهذه المائزات الثلاثة، هي المائزات الرئيسية التي يحملها التعبير ويحفظها التسجيل: فهذا ـ مثلاً ـ (حبيب بن مظاهر)، من قبيلة (بني أسد) من شعب (العراق)، وبهذا... يعرف. وتلك ـ مثلاً ـ (آمنة بنت وهب)، من قبيلة (قريش)، من (شعب الحجاز) وبهذا... تعرف... وإلى الآن، تعتمد الجنسيات والسجلات الرسمية على هذه المائزات الثلاثة، وإن كنت قد استبدلت اسم الشعب باسم الدولة واسم القوم باسم البلد، لتضخم الشعوب والأقوام وانتشارها بشكل يمكن تزييفها بسهولة. وبقيت المائزات الثلاثة تلك، هي... هي... المائزات الرئيسية:
فالدولة هي العبارة السياسية عن الشعب، والبلد هو التعبير السكني عن القوم، لأن كل قوم ـ غالباً ـ يكون متساكناً.
ولكن هذه المائزات الثلاثة ليست كل المائزت بين الأفراد، فالمائزات بين الأفراد ألوف... وألوف...: ففي كل العالم لا يوجد وجهان متطابقان في القسمات، ولا توجد أنامل لفردين متطابقان في الخطوط، ولا يوجد صوتان متطابقان في النبرات، ولا توجد يدان متطابقتان في الذبذبات التي تظهر في اختلاف الخطوط ـ.
وهذه المائزات الأربعة ـ أيضاً ـ من المائزات الرئيسية التي يسهل تسجيلها والتعبير عنها بواسطة الأجهزة الحديثة، وإلا فلا يوجد فردان متطابقان في أي عضو أو جهاز من الأعضاء الخارجة والأجهزة الخفية، كما لا يوجد التطابق بين فردين في الخطوط المكتوبة على جسم الإنسان من قمة رأس إلى قاعدتي قدميه.
ولكن: جعلناكم متمايزين بهذه المائزات: (لِتَعارَفُوا): فيعرف بعضكم بعضاً من هو؟ ومن أي شعب؟ ومن أي قبيلة؟ وليست هذه المائزات قيماً تتفاضلون بها.
وإن كان الناس قد تعودوا أن يتفاضلوا بأشياء، هي ـ في عالم اليوم ـ:
1ـ المال: في المجتمعات الرأسمالية يفضل الأثرياء بمستويات ثروتهم، حتى بالنسبة إلى ما لا يأمل في الانتفاع بتلك الثروات.
2ـ الإقطاع: وفي المجتمعات الرأسمالية يفضل الإقطاعي بمقدار إقطاعه، حتى بالنسبة إلى غير فلاحيه.
3ـ القومية: ففي بعض المجتمعات المتخلفة يفضل المنتمي إلى القومية الساحقة، ويستأثر بحقوق مقابل واجبات تفرض على من لا ينتمي إلى تلك القومية. وربما يفلسفون هذا الحيف والجور ـ في تعديل الحقوق بالواجبات ـ بسفسطات وادعاءات: فيبرر (اليهود) ذلك بأنهم من عنصر الله وسائر الناس من عسيب حصان وبذور حشرات.
وقال (النازيون): إن عدد الكريات الحمر في دم (الألماني) أكثر منها في دم غيره...
4ـ الطبقة: ففي بعض المجتمعات المتخلفة تفضل طبقة النبلاء ـ أو الأسرة الحاكمة ـ على غيره. وربما فلسفوا هذا التفضيل: فكان الناس يعتقدون ـ قبل الثورة الفرنسية ـ بأن الدم الذي يجري في عروق النبلاء دم أزرق ودم غيرهم أحمر أو أسود...
5ـ السلطة: ففي كل المجتمعات القديمة والمعاصرة يفضل صاحب الكرسي على عامة الناس، ويفضل صحاب الكرسي الأعلى على صاحب الكرسي الأدنى بمقدار الفاصل بين الكرسيين.
6ـ العلم: (ورمزه الحديث: الشهادة)، والفن. ففي كل المجتمعات القديمة والمعاصرة وربما المستقبلة، يفضل العالم ـ بأي علم ـ على غيره، والفنان على غيره.
7ـ العنصر: ففي بعض المجتمعات، يفضل ذو اللون الغالب على أفراد المجتمع: فالأبيض ـ في البلاد التي يغلب أهلها البياض ـ يفضل على غير الأبيض، والأسود ـ في البلاد الأفريقية ـ يفضل على الأبيض...
8ـ الجنس: ففي أكثر المجتمعات يفضل الرجل على المرأة.
9ـ الجمال الجسماني في الرجل أو المرأة، والكمالات الجمسانية ـ كالقوة التي تظهر في: الملاكمة، والمصارعة، والسباحة، والعدو... ـ، ففي كل المجتمعات القديمة والمعاصرة وربما المستقبلية، يفضل صاحب الجمال والكمال الجسمانيين على فاقدهما.
وهذه الفواضل جملتان:
1ـ الجملة الأولى: فواضل خارجة عن الإنسان، كالمال والإقطاع والسلطة والعلم. فكلها غير ذات الإنسان، وإن كان للسلطة والعلم تعلق بالإنسان، كتعلق الإلكترون بالسلك الذي يجري فيه.
2ـ الجملة الثانية: فواضل جسد الإنسان، كالقومية والطبقة والجمال والعنصر والجنس. وهوية الإنسان بروحه، وأما جسده: فمجرد لباس للروح، وأداة متحركة به. الجسد ـ كله ـ يبلى ويتبدل، باحتراق خلاياه. ففواضل الإنسان الحقيقة هي فواضل روحه، والكلمة الجامعة لفواضل الروح هي: (التقوى). لأن التقوى هي الحذر، والمتقي هو الذي لا يتحرك حركة ـ فكرية أو عضلية ـ إلا بعد التأكد والتثبت من استقامتها وصحتها، والمتقون هم الأصحاء الذين لا يهيمون ولا يندفعون وأكرم الأصحاء أكثرهم صحة:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) ـ الذي يتقن إكرام الناس حسب ذاتياتهم الأصلية، ولا يفضل أحداً لقرابة تقربه إليه، ولا يخدع، ولا يفتر ـ (أَتْقاكُمْ) وأكثركم صحة واتزاناً وحكمة في ممارسة الحياة.
المميزات في المجتمع
إن المميزات في المجتمع كثيرة، نذكر منها:
1ـ الميزة الجسدية: التي بها يتفوق أفراد المجتمع فيصبحون أبطال في: المصارعة، والملاكمة، والجمال الجسماني، والركض، والسباحة، والكرة... إلى سائر الألقاب التي تكتسب نتيجة لتفوق جسدي.
2ـ الميزة الفكرية: التي بها يتفوق أفراد فيصبحون: دكاترة، وأساتذة، وشعراء، وكتاب، وقضاة، واقتصاديين... إلى سائر الألقاب التي تكتسب نتيجة لتفوق فكري.
3ـ الميزة المراسية: التي بها يتفوق أفراد فيصبحون: مهنيين، وحرفيين، وفنيين... إلى سائر الألقاب التي تكتسب نتيجة لتنمية طاقة من الطاقات المتوفرة ـ عادة ـ في أكثر الناس، بدون أي تفوق جسدي أو فكري.
4ـ الميزة الاقتصادية: التي بها بتفوق أفراد فيصبحون أغنياء.
5ـ الميزة الاجتماعية: التي بها يتفوق أفراد فيصبحون نبلاء.
6ـ الميزة النظامية: التي بها يتفوق أفراد فيصبحون رؤساء.
7ـ الميزة النجاحية: التي بها يتفوق أفراد ـ نتيجة لإحرازهم نجاحاً من النجاحات: كميزة الغالب على المغلوب، وكميزة الفرد المركز على الفرد المبعثر...، فيصبحون ناجحين.
8ـ الميزة التناسبية: التي بها يتفوق أفراد، فيصبحون صالحين لأعمال أو مراكز معينة، لتناسبهم وانسجامهم معهاً. ربما مع ضئالة مواهبهم وعدم تناسب أو إنجسام غيرهم معها، وربما مع غزارة مواهبهم.
وكل من يتمتع بشيء من هذه المميزات، يوظفها ـ عادة ـ لتحسين حالته المعيشية، عن طريق جمع المال والإكثار منه وادخاره.
وإذا اصطدم بحواجز تمنعه من جمع المال باسمه الشخصي، فإنه يوظف ميزته لتحسين حالته المعيشية عن طريق توجيه المال إلى ميزته، كما يعمل كبار الموظفين ـ من: الرؤساء والوزراء، والمدراء... ـ الذين يجدون قوانين تمنعهم من جمع المال وصرفه بأسمائهم الشخصية، فيجمعون المال ويصرفونه بألقابهم، ويوجهون الكثير من (ميزانية الدولة) لـ: منازلهم وسياراتهم، ومستخدميهم، ومجاملاتهم... باسم: الدولة، والوظيفية، أو المركز... والنتيجة واحدة، وهي توظيف الميزة لتحسين الحالة المعيشية.
(والفكر الشيوعي)، وجد الميزة الاقتصادية تؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى طبقتين: غنية وفقيرة، وربما إلى طبقات: غنية ومتوسطة وفقيرةـ فطرح فكرة (الصراع الطبقي)، و(ديكتاتورية البروليتاريا)، وانتهى إلى إلغاء (الملكية الفردية) كعلاج كامل ووحيد لمشكلة (الطبقات). ولكنه فوجئ بمشاكل:
1ـ إنه منع المتميزين من توظيف مميزاتهم في تحسين أحوالهم المعيشية عن طريق جمع المال باسمائهم الشخصية، ولكنه لن يتوصل إلى منعهم عن توظيف مميزاتهم في تحسين أحوالهم المعيشية عن طريق جمع المال وصرفه بألقابهم.
2ـ إن إلغاء (الملكية الفردية) أدى إلى تعطيل الوازع الداخلي، الذي أدى ـ بدوره ـ إلى تقليص الإنتاج. وتقليص الإنتاج أدى ـ بالتسلسل الطبيعي ـ إلى: إبقاء الفقير في مستواه، وإنزال الغني إلى مستوى الفقير. لأن الفائض الذي كان يتمتع به الغني ـ نتيجة لمبادراته الفردية بدافع من الوازع الداخلي لم يظهر للوجود بسبب تعطيل الوازع الداخلي.
3ـ إن المتميزين لا يكفون عن تحسين أحوالهم المعيشية ـ سواء أكان عن طريق جمع المال وصرفه بأسمائهم، أو بألقابهم ـ غير أنهم مع وجود (الملكية الفردية) يحاولون تحسين أحوالهم المعيشية بالضغط على الإنتاج، ومع فقدان (الملكية الفردية) يحاولون تحسين أحوالهم المعيشية بالضغط على الاستهلاك.
4ـ إنه لم يتناول بقية المميزات بالعلاج، ولم يطرحها للحوار، وكأنها غير قائمة، فبقيت: تحرك الامتيازات، وتوزع المجتمع إلى طبقات، تصيب المجتمع بسلبيات أكثر من سلبيات الطبقية الاقتصادية.
و(الثورة الفرنسية)، وجدت الميزة الاجتماعية تفصل المجتمع طبقتين أو طبقات، فاستهانت بطبقة (النبلاء) ـ في غوغائية الثورة ـ، وارتكبت بحق بعض أفرادها جرائم، ليعتبر بهم الآخرون، حتى لا يكونوا (نبلاء). ولم تأخذ (الثورة) عنصر الميزة بعلاج، فبقيت جذوره تعرق وتورق، وبقيت (فرنسا: الثورة على النبلاء)، مزرعة (النبلاء) اكثر من أي بلد في العالم.
والإسلام حينما نظر إلى المجتمع من خلال مشكلة الطبقات، رأى:
1ـ أن المجتمع منقسم على نفسه ضمن طبقات، لها سلبيات لا بد من معافاته منها، مقدمة لانفتاحه وتصحيح مسيرته.
2ـ إن المميزات التي تحرك الامتيازات، كثيرة. وهي قائمة، وستبقى قائمة. لاعتمادها على نوازع متأصلة في عمق الإنسان. فلا يمكن إلغائها كلياً.
3ـ وحتى لو أمكن إلغائها كلياً، لم يكن من الصحيح إلغائها. لأنها من المحركات التي تفجر المواهب، وإلغائها يؤدي إلى تجميد الإنسان وتعطيل كثير من طاقاته.
4ـ فلا بد من توضيبها ضمن قنوات: تضمن إيجابياتها، وتكبح سلبياتها.
5ـ إن المميزات السبع الأول، هي مميزات فعلية. ولكنها جميعاً ـ مميزات للجانب الأرضي من الإنسان، ولا ترتبط بجانبه السماوي. فليست قيماً إنسانية، لأن الجانب الأرضي للإنسان جانب طارئ للإنسان، فمميزاته طارئة لا أهمية لها في المقياس الإنساني، فلا يصح الاعتراف بها، ومن ثم يكون التفاضل بها ظاهرة غير صحية.
والميزة الثامنة، تتعلق بالجانب السماوي للإنسان، فهي قيمة متأصلة لا يد من الاعتراف بها، ومن ثم يكون التفاضل بها ظاهرة صحية.
ووفق هذه الرؤية الواقعية الواضحة، أعلن الإسلام واقعية المميزات السبع الأولى، من دون الاعتراف بها قيماً إنسانية. وأعلن الميزة الثامنة قيمة إنسانية. وهي في الأساس ـ تختلف عن أخواتها، لأنها لا تعني أكثر من الإنضباطية والاستقامة، فلا تشكل خطراً على صاحبها ولا على غيره، والتميز بها لا يعني أكثر من اعتبار صاحبها أسوة. فيما أخوتها تعني الاستعلاء بالميزة، فتشكل خطراً: على صاحبها، لأنها تضعه في إطار أكبر من حجمه. وعلى غيره، لأنها تفرض عليه الخنوع أمامه. والتميز بها، يعني طغيان الإنسان على أخيه الإنسان.
كل هذا... إلى جانب حقيقة بديهية، وهي: أن سيادة عقلية المميزات والامتيازات، تفرق ولا تجمع، وتستفز ولا تستقطب.
وهكذا... أعاد الإسلام كل شيءٍ إلى حجمه الطبيعي، وجعل الهوية الإنسانية فوق كل التقلبات المادية.
اضف تعليق