البعض يجد في أمثال هذه الرواية تبريراً لتقاعسه عن النشاط والعمل وعن التبليغ والهداية والإرشاد ونصرة الدين وأهله والدفاع عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، اما البعض الآخر فليس بالمتقاعس المتخاذل بل هو المستسلم الذي خيّم اليأس على زوايا قلبه فاستسلم للأمر الواقع أو الذي...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ)(1)
السؤال الذي أرّق الكثير من الباحثين في علم الكلام والفلسفة على مرّ التاريخ هو ان الهداية هل هي فعل الله تعالى تكويناً أم هي فعل العبد؟ وإذا كانت فعل العبد فهل هي فعله طوعاً أو هي فعله قسراً؟
أقسام عطايا الله تعالى
ان تحقيق ذلك يبتني على مقدمة هامة وهي: ان عطايا الله ومنحه للعباد على ثلاثة أقسام:
الأول: ما يمنحه الله تعالى لعبده من دون توسط مشيئته(2) أي من غير ان تكون للعبد مشيئة فيه أو إرادة واختيار، وذلك كنعمة الوجود إذ وهبها الله لنا من غير ان يكون لنا من الأمر شيء، وكذلك بعض الصفات والملكات الأخرى، كالذكاء والبلادة، والشجاعة والجبن، والبخل والكرم وشبه ذلك؛ حيث ان بعض الناس يولد ذكياً أو شجاعاً أو كريماً بطبعه أو العكس، وذلك بنحو العلة المحدثة.
ثم تنقسم الصفات إلى ما لا تكون لإرادة للعبد مدخلية فيه حتى في مرحلة علته المبقية وما يكون له التغيير في أصل الصفة أو الملكة أو في بعض درجاتها والطول والقصر والجمال والقبح من قبيل الأول، بشكل عام، اما الصفات النفسانية فمن قبيل الثاني بشكل عام فانه وإن كان من الصعب جداً تغييرها لكنها تبقى ممكنة، نعم قد يقال بان البعض غير قادر على تغيير بعض ملكاته.. وتحقيق ذلك في مبحث (الشاكلة).
ما يمنحه له بواسطة مشيئته وإرادته
الثاني: ما يمنحه الله تعالى لعبده بتوّسط إرادته(3) فلا يملِّكه قسراً بل طوعاً، وذلك إن شاء وسعى وجدّ واجتهد، وذلك نظير العلم النظري الاكتسابي، وهو ما عدا الفطري وما عدا مطلق الأوليات اليقينية، فان العلم موكول أمره إلى الإنسان فإن سعى وتعلم عَلِم – بدرجة أو أخرى – سواء أكان تعلّمه بدراسة أو تفكير أو اعتبار أو تجربة أو غير ذلك، وإن لم يسعَ ولم يتعلم فانه يبقى جاهلاً، واما العلم اللدني بالإفاضة الإلهية، فنادر مختص بالأنبياء والأوصياء.
ما يكون مزيجاً من الأمرين
الثالث: ما يكون مزيجاً من الأمرين، فقد يكون بسعي الإنسان وإرادته وقد لا يكون وذلك نظير الرياسة والرزق والمحبوبية:
أ- الرياسة
فالرياسة كثيراً ما يصل إليها الإنسان بالسعي، ولكنها قد تصل للبعض بدون أي نوع من أنواع السعي بل قد تراه يفرّ منها لكنها تطارده حتى تقتحم عليه حياته وتوقعه في شباكها طائعاً أو مكرهاً! وقديماً قال الشاعر:
أَتَتــهُ الخِلافَــــــةُ مُنقادَة......إلَيـــهِ تُجَــــرِّرُ أَذيــالَها
وَلَــم تَـــكُ تَصلُحُ إِلّا لَـهُ......وَلَـــم يَــكُ يَصلُـحُ إِلّا لَها
وبالعكس من ذلك مَن تجده يسبب كافة الأسباب الظاهرية ليصل إلى الرياسة الدنيوية ولكن لا تتحقق له أمنيته؛ لطارئ غير اختياري أو حتى لأن ملك الموت سارع إليه قبل ان يحقق أحلامه أو وهو على بعد خطوات منها!
ب- الرزق
وكذلك الرزق، وقد ورد ((الرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ...))(4) ومنه ما هو بالسعي والزراعة والتجارة ومنه ما ليس هو بالسعي كما فيما يصل للإنسان من إرث أو هبة غير متوقعة أو غير ذلك، وذلك لأن الأرزاق توزع بين الطلوعين فمن نام بينهما تعداه رزقه.
وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: ((نَوْمَةُ الْغَدَاةِ مَشُومَةٌ تَطْرُدُ الرِّزْقَ وَتُصَفِّرُ اللَّوْنَ وَتُقَبِّحُهُ وَتُغَيِّرُهُ وَهُوَ نَوْمُ كُلِّ مَشْئُومٍ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقْسِمُ الْأَرْزَاقَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَإِيَّاكُمْ وَتِلْكَ النَّوْمَةَ))(5) و((وَقَالَ الرِّضَا عليه السلام فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) قَالَ الْمَلَائِكَةُ تُقَسِّمُ أَرْزَاقَ بَنِي آدَمَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ فَمَنْ يَنَامُ فِيمَا بَيْنَهُمَا يَنَامُ عَنْ رِزْقِهِ))(6) والظاهر ان المراد نوع من الرزق وهو الذي قد يسمى برزق الفضل مقابل الرزق المحتوم، والمحتوم هو الذي يطلب الإنسان حتى يدركه وإن فرّ منه، والفضل رزق جعل له الله تعالى أسباباً غير مادية كصلة الرحم، واليقظة بين الطلوعين والصدقة وقد ورد ((اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ))(7) وإن كانت هناك وجوه ظاهرية أو مادية أيضاً لتأثيراتها.
ج- المحبوبية
وكذلك المحبوبية فقد ترى من يحبه الناس حبا جمّاً رغم انه لا يسعى إليها بل قد لا يفكر فيها أبداً، وقد ترى من يكرهه الناس رغم انه يسبّب ليحبه الناس كل الأسباب، وقد ورد ما مضمونه ان الملائكة تضحك في موضعين: الأول: إذا أراد الله ان يعز عبداً وأراد الناس ان يذلوه (ولا يكون إلا ما يشاء الرب) الثاني: إذا أراد الله ان يذل عبداً وأراد الناس ان يعزّوه (ولا يكون إلا ما يريد الرب تعالى).
الكافي: الهداية فعل الله، ولا يمكننا هداية من أراد الله ضلالته
واما الهداية، فهل من النمط غير الاختياري؟ أو هي من النمط الثاني الاختياري؟ أم هي من النمط الثالث المزيج المنوع منهما؟
ذهب البعض إلى ان الهداية غير اختيارية أبداً بل هي فعل الله قسراً وذلك استناداً إلى عدد من الروايات ولنقتصر ههنا على واحدة منها:
عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السَّرَّاجِ عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ ((قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام يَا ثَابِتُ مَا لَكُمْ وَلِلنَّاسِ كُفُّوا عَنِ النَّاسِ وَلَا تَدْعُوا أَحَداً إِلَى أَمْرِكُمْ فَوَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ ضَلَالَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُضِلُّوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُضِلُّوهُ كُفُّوا عَنِ النَّاسِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ عَمِّي وَأَخِي وَابْنُ عَمِّي وَجَارِي فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْراً طَيَّبَ رُوحَهُ فَلَا يَسْمَعُ مَعْرُوفاً إِلَّا عَرَفَهُ وَلَا مُنْكَراً إِلَّا أَنْكَرَهُ ثُمَّ يَقْذِفُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ كَلِمَةً يَجْمَعُ بِهَا أَمْرَهُ))(8)
وقبل الخوض في تحليل هذه الرواية نشير إشارة هامة إلى حقيقة مفتاحية نوعية هامة تتعلق بشاكلة الناس وباتجاههم العام في الحياة وهي:
المواقف المتنوعة من هذه الروايات
ان مواقف الناس تجاه أمثال هذه الرواية، تتوزع بين ثلاث أنواع من المواقف:
موقف المستسلم
الموقف الأول: موقف المستسلم بل المتواكل بل المتخاذل، والمتخاذل اسوأ حالاً من المتواكل والمتواكل اسوأ حالاً من المستسلم؛ ذلك ان البعض يجد في أمثال هذه الرواية تبريراً لتقاعسه عن النشاط والعمل وعن التبليغ والهداية والإرشاد ونصرة الدين وأهله والدفاع عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، اما البعض الآخر فليس بالمتقاعس المتخاذل بل هو المستسلم الذي خيّم اليأس على زوايا قلبه فاستسلم للأمر الواقع أو الذي عدّ كل ذلك من القضاء القاسر والقدر اللازم القاهر، ومن ذلك ما فسّر به هذا الفريق من الناس أحاديث الانتظار كـ((أَفْضَلُ أَعْمَالِ أُمَّتِي انْتِظَارُ الْفَرَجِ))(9) إذ لا يرون في معناه إلا السكون والجمود والانتظار السلبي فقط، مع ان المنتظر الحقيقي هو من يُعدّ ويستعد وينتظر بقوله وعمله وقلبه وسلوكه؛ ألا ترى من ينتظر غائباً عزيزاً عليه كأمّه أو أبنه يستعد أبلغ الاستعداد ليستقبله أفضل الاستقبال؟
موقف المتهور
الموقف الثاني: موقف الاقتحامي والثوري المتهور، الذي ما ان يسمع برواية من أمثال هذه إلا وتجده يرميها بالضعف أو يضرب بها فوراً عرض الحائط أو حتى، لا سمح الله، يستهزأ بها أيضاً.
وكنت قد جمعني مجلس بأحد العلماء:
فقال لي: يجب ان نهذب الكافي ونظائره من كثير من الروايات؟
فقلت: مثل ماذا؟
فقال: مثل ما ورد في الكافي مما ظاهره التجسيم نظير: ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال: ((إِذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلَى رُءُوسِ الْعِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَ كَمَلَتْ بِهِ أَحْلَامُهُمْ))(10)
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضِ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ عَنْ يَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، وُجُوهُهُمْ أَشَدُّ بَيَاضاً وَأَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ الطَّالِعَةِ يَغْبِطُهُمْ بِمَنْزِلَتِهِمْ كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ يَقُولُ النَّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ فَيُقَالُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ))(11)
فقلت له: وماذا تصنع بالقرآن الكريم؟ قال كيف؟
قلت: جوهر المضمون نفسه ورد فيه نظير: (وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(12) و(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(13) و(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(14)؟ فتحير وقال: وما العمل؟
قلت: كما ان الآيات تحمل على المجاز بقرينة سائر الآيات كـ(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(15) وبقرينة القواعد العقلية المسلّمة، كذلك أمثال هذه الروايات فما تقوله في الآيات قلة في الروايات!
موقف الصراط – الوسط
الموقف الثالث: هو موقف الصراط – الوسط، وهو موقف الباحث عن الحقيقة والمنصف غير المتسرّع الذي لا يحكم بعجلة ولا يبدي رأياً بغير رويّة، وهو الموقف الذي يتصفح جميع الآيات الكريمة والروايات الشريفة ويستعرض مختلف القواعد الأصولية والفقهية، ويبحث عن وجوه الجمع والمحامل الصحيحة، إذ قد ورد ((أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ مَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا إِنَّ كَلَامَنَا لَيَنْصَرِفُ عَلَى سَبْعِينَ وَجْهاً))(16) وورد عن أبي عبد الله عليه السلام: ((قَالَ حَدِيثٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ تَرْوِيهِ وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فَقِيهاً حَتَّى يَعْرِفَ مَعَارِيضَ كَلَامِنَا، وَإِنَّ الْكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِنَا لَتَنْصَرِفُ عَلَى سَبْعِينَ وَجْهاً لَنَا مِنْ جَمِيعِهَا الْمَخْرَجُ))(17)
وجوه الجواب عما ظاهره قسرية الهداية
والوجوه التي يمكن ان تذكر:
1- عرضها على كتاب الله
الوجه الأول: عرض هذه الروايات وأشباهها على الكتاب فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَ عَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَ مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ))(18) وورد أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ))(19) وقال الإمام الصادق عليه السلام: ((إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثَانِ مُخْتَلِفَانِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَرُدُّوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوهُمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاعْرِضُوهُمَا عَلَى أَخْبَارِ الْعَامَّةِ فَمَا وَافَقَ أَخْبَارَهُمْ فَذَرُوهُ وَمَا خَالَفَ أَخْبَارَهُمْ فَخُذُوهُ))(20)
وظاهره إرادية الدعوة والهداية
وعند عرض هذه الطائفة من الروايات على الكتاب نجدها مخالفة لقوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(21) و(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)(22) حيث ورد فيهما الأمر بالدعوة والحض على التبليغ، وكذلك: (هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)(23) و(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)(24) وقوله عزَّ وجل: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)(25) فهذا من جهة.
وهي ما يُحلّ بالطولية
ويمكننا عرض هذه الروايات على الكتاب من جهة أخرى إذ ان هذه الرواية وأشباهها هي صغرى كبريات آيات كريمة قد يتوهم منها الجبر، والجواب عنها هو الجواب عنها، قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى)(26) و(أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)(27) و(وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ)(28).
وظاهر هذه الآيات اننا لسنا الزارعين بل ( نَحْنُ الزَّارِعُونَ) بل وأقوى (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى) لكن وجه الحل بالطولية الذي هو صريح الآية الأخيرة (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) إذ ان الله تعالى أعطانا القدرة والإرادة والمشيئة فنفعل الأشياء بها، ولكنّ مشيئتنا رغم ذلك هي تحت هيمنته جل اسمه فله ان يمنع تكويناً عن نفوذ مشيئتنا وله ان يسلبها أصلاً، لكنه سبحانه لمقتضيات الامتحان لا يفعل ذلك عادة أي انه منحنا القدرة على الطاعة والمعصية وأعطانا الإرادة فإذا أطعنا كان بإرادتنا وإذا عصينا كان بإرادتنا أيضاً لكن ذلك كله تحت سيطرته فلو شاء لمنع.
وقد وجّه السيد الوالد أمثال هذه الآيات والروايات بان إرادته جل اسمه هي على (حسب ما قرره من القوانين) فمثلاً في قوله تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)(29) المراد انه إن أراد ان يهديه بحسب ما قرره من السنن فمن سلك سبيل الهداية وأسلم نفسه لله هداه (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى)(30) هذا في الزيادة وأما في الأصل ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)(31) فلاحظ موقع باء السببية في (بِإِيمَانِهِمْ) والأمر في الرواية كذلك: ((فَوَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ ضَلَالَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا عَلَى أَنْ يَهْدُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يُضِلُّوا عَبْداً يُرِيدُ اللَّهُ هِدَايَتَهُ مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يُضِلُّوهُ...)) فـ(يُرِيدُ اللَّهُ ضَلَالَتَهُ) أي بحسب ما قرر من السنن، فمن أكثر من المعاصي ران على قلبه فانحرف وضل وأضل وربما كفر، ومن أكثر من الطاعات كان ذلك سبباً لهدايته بنحو العلة المعدّة.
2- طرحها؛ للإشكال سندياً فيها
الوجه الثاني: طرح هذه الروايات؛ وذلك للإشكال السندي فيها، فإن هذه الرواية مجهولة كما صرح به العلامة المجلسي، لكون بعض رواتها مجهولين وبعضهم مشترك، ولكن هذا الوجه قد يردّ بتواترها الإجمالي أو المضموني. فتأمل
3- حملها على انها قضية خارجية ومن التقية
الوجه الثالث: حملها على انها قضية خارجية وليست حقيقية، ومن وجوه كونها خارجية انه كانت صادرة تقية.
كلام العلامة المجلسي في مرآة العقول
قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: (ويمكن الجمع بينها بوجوه: «الأول» حمل أخبار النهي على التقية والاتقاء على الشيعة فإنهم لحرصهم على هداية الخلق ودخولهم في هذا الأمر كانوا يلقون أنفسهم في المهالك، ويحتجون على المخالفين بما يعود به الضرر العظيم عليهم وعلى أئمتهم عليهم السلام، كما كان من أمر هشام بن الحكم وأضرابه، فنهوهم عن ذلك وأزالوا التوهم الذي صار سببا لحرصهم في ذلك من قدرتهم على هداية الخلق بالمبالغة والاهتمام في الاحتجاج فيها، بأن الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب من قبل الله تعالى، ولو علم الله المصلحة في جبرهم على اختيار الحق لكان قادرا عليه ولفعل، فإذا لم يفعل الله ذلك لمنافاته للتكليف وغير ذلك من المصالح، فلم تتعرضون أنتم للمهالك، مع عدم
قدرتكم عليه، وقد منع الله نبيه صلوات الله عليه من ذلك وقال: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(32) وأما إظهار الحق فإنما يجب مع عدم التقية، مع أنه قد تبين الرشد من الغي وتمت الحجة عليهم بما رأوا من فضل الأئمة وعلمهم وورعهم وكمالهم، وفجور خلفائهم الجائرين وبغيهم، وانتشرت الأخبار الدالة على الحق بينهم، ويكفي ذلك لهدايتهم إن كانوا قابلين، ولإتمام الحجة عليهم إن كانوا متعنتين)(33).
مؤيدات للتقية في الرواية
ويمكن تأييد كلام العلامة المجلسي بوجوه:
منها: ان كلمة (الناس) في مصطلح الروايات، كما هو مقتضى تحقيق بعض الأعلام، يراد به أهل العامة، لا عامة الناس ولا ما يشمل الكفار والمسيحيين واليهود، فيدل هنا تخصيص الكف عن الدعوة بهم، على ان في أهل العامة خصوصيةً وليست إلا التقية إذ كان المذهب الرسمي هو مذهب أهل العامة وكانوا على عداء شديد مع أهل البيت عليهم السلام وكانت دعوة أهل العامة للتشيع تعد جريمة سياسية خطيرة.
ومنها: ورود كلمة (أمركم) فان (الأمر) في (هذا الأمر) ظاهر في ان المراد به أمر التشيع واما (أمركم) فهو صريح في ذلك إذ لا يقال (أمركم) إلا في مقابل العامة ولم نجد إطلاق أمركم في مقابل الكفار مثلاً. وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق