بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ)(1) في هذه الآية الكريمة الكثير من البصائر والدقائق والحقائق واللطائف والإشارات، ومنها:
من البصائر: القرآن رحمة للموقنين وبدرجة أقل لغيرهم
أولاً: ان الظاهر من الآية القرآنية الكريمة هو ان القرآن الكريم (رحمة) لقوم يوقنون، فمن لا يوقن بآياته فانه ليس رحمة له مطلقاً أو ليست رحمة له بحسب إحدى درجاتها أو في بعض مراحلها ومحطّاتها، وليس ذلك استناداً إلى إثبات الآية الكريمة الرحمة للموقنين فان إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، بل لأنه المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع وشهادة الحقائق الخارجية أيضاً: فان اندفاع الموقنين بالآخرة وبالثواب والعقاب، نحو الإطاعة والامتثال أقوى من إطاعة الظانّ بلا ارتياب، فالقرآن رحمة للموقن بدرجة أقوى حيث أسلس قِياده له بشكل أفضل أو أكمل، والحاصل: إن اليقين حيث كان مقتضياً أقوى للانقياد كان مقتضياً أقوى لاستجلاب الرحمة الإلهية، بل ان اليقين في حد ذاته قد يكون هو المستجلب للرحمة وذلك فيما كان المطلوب هو هو في حد ذاته كشؤون العقائد، وإن لم ينفِ ذلك مطلوبيته لجهة الطريقية أيضاً.
القرآن بصائر وهدى للموقنين فقط
ثانياً: وقد يقال بان الظاهر منها أيضاً هو ان القرآن الكريم هو (بصائر وهدى) لقوم يوقنون وذلك إذا كان الجارُّ والمجرور (لقوم يوقنون) متعلقاً بالمفردات الثلاث جميعاً (بصائر، هدى، ورحمة) للموقنين وليس متعلقاً بالمفردة الأخيرة كما هو الاحتمال الآخر والذي مفاده ان (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى) هي جملة مستقلة و(رَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ) جملة أخرى مستقلة معطوفة على الأولى.
هل تبصير الموقنين تحصيل حاصل؟
وبناءً على تعلق الجارِّ بكل المفردات الثلاثة فذلك يعني ان القرآن الكريم مبصّر للموقنين وهو هدى لهم، ولكن كيف يمكن ان يكون ذلك؟ إذ المتيقن بصير بالفعل فلا محلَّ لأن يُبصَّر كما ان الموقن بوجود الله ووحدانيته وعدله وبرسوله والأئمة (صلوات الله عليهم اجمعين) والمعاد وشبه ذلك، هو مهتدٍ بالفعل فكيف يقال هذا هدى للموقن يهديه إلى سواء السبيل؟
الجواب باختلاف المتعلق
ويمكن الإجابة على ذلك بوجوه نقتصر على إحدى تلك الوجوه ههنا فقط (2) وهو ان ذلك بلحاظ تغاير المتعلق من حيث كونه السبب والمسبب، وذلك انطلاقاً من السبب نحو المسبب حسب معادلة البرهان اللِّمي أو من المسبب إلى السبب حسب معادلة البرهان الإنّي.
وتوضيحه: ان اليقين بالأسباب ببصِّر الإنسان الموقن بها، بالمسببات، وفي الاتجاه المقابل فان اليقين بالمعاليل يهدي الإنسان إلى اليقين بالعلل: فمن أيقن بحرمة الكذب والغيبة والنميمة والرشوة والظلم مثلاً أبصر أضرارها الدنيوية الفردية والاجتماعية وأبصر مخاطرها الاخروية أيضاً، ومن أيقن بعذاب النار وشدته اهتدى إلى ضرورة الإيمان بالله تعالى ولزوم المضي على الصراط المستقيم.
ومن أيقن بخاتمية الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم ونزول القرآن الكريم كدستور خالد لحياة سعيدة ربانية اهتدى لوجوب الالتزام بطاعة الأئمة الكرام إذ يقول تعالى: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)(3) و(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(4).
وصفوة القول: أن الموقن يبصِر وأن المبصِر يوقن، فالموقن بالآخرة يبصر مواطن الحظر والخطر والخطأ والخطل والزلل، والمبصر بأضرار المعاصي يوقن بحسن تحريمها ولزومه ووجه الحكمة فيه. هذا. ولعله يأتي بإذن الله تعالى بيان وجه صحة ذلك مع وحدة المتعلق أيضاً(5).
معنيان لـ((الْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ))
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وَتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ وَمَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وَسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ:
فَمَنْ تَبَصَّرَ فِي الْفِطْنَةِ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ تَأَوَّلَ الْحِكْمَةَ عَرَفَ الْعِبْرَةَ، وَمَنْ عَرَفَ الْعِبْرَةَ عَرَفَ السُّنَّةَ، وَمَنْ عَرَفَ السُّنَّةَ فَكَأَنَّمَا عَاشَ فِي الْأَوَّلِينَ))(6).
والمحتمل في قوله عليه السلام: ((وَالْيَقِينُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ)) أمران:
الأول: ان المراد ان اليقين يبتني على هذه الشعب الأربع وهو ما جرينا عليه في البحث حتى الآن.
الثاني: ان المراد ان اليقين يتشعب إلى أربع شعب، ولكنّ مما يرجّح المعنى الأول ورود (على) في كلامه عليه السلام بينما المناسب للمعنى الثاني هو ورود (إلى) ولعله يأتي مزيد بحث عن ذلك إذا شاء الله تعالى.
وقد سبق الكلام عن (تبصرة الفطنة) وبقي الكلام عن الجمل الثلاث الأخرى:
معاني (الحِكمة):
ثانياً: مما يبتني عليه اليقين هو: ((تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ)) والحكمة يمكن تفسيرها بوجهين:
1- العلم الرادع عن القبيح
الأول: ان الحكمة تعني: العلم الذي يمنع المرء عن قبيح العمل وعن الخطأ والخطل والزلل.
2- وضع الشيء موضعه
الثاني: انها تعني: وضع الشيء موضعه.
والمعنى الأول تفسير للحكمة على مستوى العقل النظري بينما المعنى الثاني هو تفسير لها على مستوى العقل العملي، وكلاهما صحيح؛ ويشهد لهما الجذر اللغوي للحكمة فانها مأخوذة من (حكم) ومادة (حكم) تعني المنع ويسمى لجام الدابة بالحَكَمة لأنه يمنعها من ان تهرب أو ان تسير على غير هدى في أي اتجاه بدون قيادة من صاحبها.
3-4- القرآن والسنة والإمام وطاعته
وقد ورد تفسير الحكمة في بعض الروايات بـ(القرآن والسنة) كما ورد في بعضها تفسيرها بـ(طاعة الإمام ومعرفته) وكلاهما صحيح أيضاً إذ هما من التفسير بالمصداق الأجلى فان القرآن والسنة وطاعة الإمام ومعرفته تمنع الإنسان من الانحراف والعصيان والطغيان، كما ان القرآن والسنة تتضمن المثل العليا والقيم الفضلى والتعاليم والمناهج التي تمنع الإنسان عن قبيح العمل وعن الخطل والزلل وهي التي لو فهمها الإنسان لأمكنه وضع الأشياء في مواضعها.
المراد بـ((تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ))
فذلك كله هو المقصود من (الحكمة)، وأما ((تَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ)) فالمراد به أوْلها ورجوعها، وذلك متحقق في ضمن حالتين:
الأولى: أوْل الحكمة إلى جذورها.
الثانية: أوْل الحكمة إلى نهاياتها بمعنى مآلها المستقبلي.
فتفيد على الأول: علم الماضي المسمى بعلم التاريخ والانثروبولوجيا وغيرهما، كما تشير على الثاني إلى علم المستقبل.
الحكمة وعلم المستقبل
وسينصرف الحديث الآن إلى المعنى الثاني، فقد سبق ان نقلنا عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: ((يستدل على إدبار الدول بأربع: تضييع الأصول والتمسك بالغرور وتقديم الأراذل وتأخير الأفاضل))(7) و((تولي الأراذل والأحداث الدولَ دليل انحلالها وإدبارها))(8) و((إِنَّ مِنْ ذُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَهَلَاكِ الدِّينِ، أَنَّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَدْعُو الْأَرَاذِلَ وَالْأَشْرَارَ فَيُجَابُ...))(9)
و(اليقين) بمستقبل هذه الأمة أو الحضارة أو مستقبل هذه الحكومة أو المنظمة أو هذه العائلة أو الشركة مبني على (تأول الحكمة) بمعنى اننا نستطيع ان نستكشف أوْل أمورها على ضوء الحكمة التي تسير على ضوئها تلك الشركة أو المنظمة أو الحكومة أو الأمة فإذا نحّت الأفاضل وسلطت الأراذل فلم تضع الأمور مواضعها كما هو مقتضى الحكمة آل أمرها إلى الخراب وعمرانها إلى اليباب، فلا تزال زراعتها وتجارتها وصناعتها وأمنها وأمانها وأخلاقياتها في تراجع وفي تدهور إلى ان تنهار تماماً وتضمحل، على العكس مما لو عملت بمقتضى الحكمة فان أول أمورها سيكون إلى التقدم والاستقرار والعزة والسمو والازدهار.
واليقين يبتني على معرفة هذه المعادلة البسيطة – المعمقة في الوقت نفسه: على معرفة (الحكمة) ومقتضياتها، وعلى معرفة (تأولها) وتأويلها ونتائجها ومآلاتها في عمق مجاهيل الزمن.
دروس وعبر من نهضة اليابان بعد الدمار الشامل
ولنضرب لذلك مثلاً مليئاً بالعبر والحِكَم والتجارب من نهضة عملاقة لشعب عريق أصيب بنكسة كبرى استمرت عقوداً طويلة لكنه بنى أمره من جديد على الحكمة فنهض من حضيض التخلف وقلب الخراب والدمار إلى مجد العزة الدنيوية وقمة الغنى والثروة والتقدم العلمي والحضاري والازدهار حسب المقاييس الدنيوية المعروفة.
(توكو جاوا) الحاكم المستبد
وذلك الشعب هو الشعب الياباني، فلقد ابتلي هذا الشعب بحاكم مستبد يسمى (توكو جاوا) أسس لسلطة استبدادية في اليابان له ولعائلته منذ بدايات القرن السابع عشر وحتى أواخر القرن الثامن عشر أي حتى 1868م...
وقد جاء (توكو جاوا) بطبقة الساموراي والعسكريين وسلّطهم على رقاب الشعب، كما منع اليابانيين من السفر للخارج وعزلهم عن العالم الخارجي تماماً حتى انه منع بناء السفن القوية خشية ان يقطعوا بها المحيط نحو العالم الخارجي.
ولكن وبعد هذه العقود الطويلة من الاستبداد والاستعباد وفي العام 1868م جاء إلى الحكم حاكم إصلاحي يسمى (موتسو هيتو) قاد ثورة إصلاحية شاملة وأرسى دعائم حكم متطور حتى عرف بـ(الميجي) أي (الحاكم المستنير).
وقد بنى هيتو استراتيجيته على الأسس التالية:
أ- إنهاء حكم الطبقة العسكرية والساموراي
أولاً: إنهاء حكومة الطبقة العسكرية في البلاد وتجريد الساموراي من امتيازاتهم ليعودوا إلى أناس عاديين كعامة أفراد الشعب، وقد اقتضى ذلك ثمان سنوات كاملة من التخطيط الشامل والعمل الدؤوب ليستطيع التخلص من هيمنة العسكر والساموراي، ورغم ان ذلك كان محفوفاً بالمخاطر الكبرى، إذ كان من المحتمل ان يقود العسكر انقلاباً مضاداً ضده، بل قاموا بالفعل بمحاولتين خطيرتين، إلا ان ذلك لم يثنه عن مواصلة مسيرته الإصلاحية.
ب- إصلاح جذري لنظام التعليم
ثانياً: إصلاح نظام التعليم حيث قام بثورة حقيقية نهضوية في هذا المجال ووضع أسساً لنظام تعليم علمي – تطبيقي متميز، ولا تزال اليابان من أكثر، إن لم نقل أكثر، الدول المتطورة في حقل التعليم حتى الآن.
والسبب في ذلك واضح فإن الطالب تتكون شخصيته العلمية والثقافية ونفسياته وأخلاقياته أيضاً بدءً من الروضة والصف الأول الابتدائي مروراً بالمتوسطة والثانوية وانتهاء بالجامعة، فهنالك يتربى على النظام والنظافة والجدّ والمثابرة وحسّ التعاون واحترام الوالدين والآخر بشكل عام، كما يتعلم أحدث العلوم والأفكار والمناهج، أو العكس: هنالك يتربى على الفوضى والاحتيال والمؤامرات وهتك الحرمات، ويتعلم علوماً أكل عليها الدهر وشرب..
مناهج المدارس في السعودية والعراق مثالاً
والمؤسف ان المدارس في بلادنا تعاني الأمرّين فمن جهة تجد ان المناهج التربوية، كمادة التربية والتاريخ، تعاني من أخطاء فادحة بل من تزوير فاضح وأكاذيب مذهلة تؤسس لتقديس المستبد والإطاعة للحكم والحاكم مهما كان.. فلاحظ مناهج السعودية والدول التي تدور في فلكها مثلاً.. بل لاحظ حتى مناهج العراق رغم مرور 14 عاماً على سقوط الطاغية المقبور لكن مناهجه لا تزال تحمل بصمات عميقة من سياسة التجهيل ومن الكذب والخداع وتحريف الحقائق وتزوير التاريخ حتى ان بعض الكتب التي لا تزال تدرس حتى الآن تتضمن إضفاء صورة مشرقة حضارية على (الحجاج) ذلك السفاح الدموي الرهيب وذلك من أغرب الغرائب حقاً! وحتى ان بعض المناهج أيضاً تضمنت تسقيطاً للشخصية الإنسانية – الإسلامية – الحضارية الخالدة (الشريف الرضي) حيث صوّرته بصورة سيئة.. إلى غير ذلك.
فهذا كله من جهة ومن جهة أخرى تجد ان نظم التعليم في بلادنا بائسة وان الكتب الدراسية لا تواكب العصر إذ تجد الكتاب الذي كتب قبل سنين طويلة لا يزال يدرَّس بنفسه بعد عشرين أو ثلاثين سنة! مع ان الدول المتطورة تجري تطويراً جذرياً وتعديلات أساسية على الكتب الدراسية في فترات متقاربة، بل ان بعض الكتب الجامعية في الدول المتطورة: يتم تحديثها كل سنتين أو حتى أحياناً بين سنة وأخرى، ومن تلك الكتب كتاب (الاقتصاد) لـ: بول آ. سامويلسون، ومايكل ج. ماندل، ووليام د. نوردهاوس، والذي كان يدرس في الجامعات الأمريكية لسنين طويلة ولكن كان مؤلفوه يقومون بتحديثه طوال العالم ليعاد طبعه كل سنة أو سنتين وهو يحمل تغييرات تتضمن أحدث النظريات والآراء والإحصاءات وغيرها.
تجربة مدارس علوي في طهران وإرسال وفد لليابان
وذلك هو بالضبط الذي دعى احدى القامات الشامخة من علمائنا الصالحين لتأسيس سلسلة من المدارس سميت بمدارس (علوي) في العاصمة طهران قبل حوالي خمسين عاماً.. فلقد كان الشيخ كرباسجيان أحد طلاب الخارج لدى المرجع الأعلى في زمانه السيد البروجردي وقد تتلمذ لديه ما يقارب الخمس عشرة سنة ثم ارتأى ان تربية أجيال متميزة من الاخصائيين المتميزين إضافة إلى العلم والكفاءة بأعلى درجاتها، بالأخلاق والتقوى والحس الإنساني الرفيع، هو أكثر من ضرورة، لذلك تفرغ لتأسيس مدارس أصبحت نموذجية في وقت قصير ولا تزال حتى بعد رحيله مثالية وقد توالدت وتكاثرت وامتدت لدول أخرى ومنها العراق أيضاً..
والغريب في أمره والذي يكشف عن ثاقب نظرته انه ارسل قبل حوالي خمسين سنة بعض معلمي مدرسته إلى (اليابان) ليدرسوا عن كثب المناهج التعليمية هنالك ويحيطوا بنقاط قوتها وكافة تضاريسها.. وبعد ان عاد أولئك الرسل عقد جلسات مطولة لاستثمار النافع من تلك المعلومات القيمة في تحديث مدارسه.. ثم بعث معلماً آخر ليدرس نظم التعليم في بريطانيا.. فذهب وعاد.. وتدارس الكرباسجيان الأمر أيضاً مع مستشاريه واختار ما ينسجم مع القواعد العامة.. وهكذا استطاع التعرف على أكثر النظم التعليمية تطوراً في ذلك الزمن واكتشف نقاط قوتها وضعفها وفوارقها عن نظم التعليم في بلادنا..
ولكن لنسأل أنفسنا الآن.. اننا وبعد خمسين سنة من مبادرته هل كررنا، في الحوزة العلمية أو بعض مدارسها، على الأقل هذه التجربة؟ وهل بعثنا رسلاً إلى مختلف دول العالم للتعرف على أفضل ما لديهم وعلى نقاط ضعفهم أيضاً وعلى الفوارق بين انظمتنا وانظمتهم لنستطيع، بعد الرجوع إلى القواعد الإسلامية العامة، الأخذ بالأحسن منها قال تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا)(10) وورد في الحديث ((اطْلُبُوا الْعِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّينِ))(11) و((الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُمَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ضَالَّتَهُ فَلْيَأْخُذْهَا))(12).
ج- إصلاح النظام الإداري
ثالثاً: إصلاح النظام الإداري.. وقد حاول اليابانيون تعلم أفضل النظم الإدارية عبر إرسال خبراء إلى الدول المتطورة كألمانيا مثلاً للإحاطة بأبعاد هذا العلم المتنامى في الأهمية والذي يزداد أهمية يوماً بعد يوم مع تعقّد الحياة وزيادة التحديات وتوسع المجالات الحيوية التي تتوقف على أنماط إدارية متطورة ذات مرونة عالية.
علم الإدارة علم حيوي ومعقد
والجدير ذكره ان بعضنا يتصور ان الإدارة علم بسيط سهل أو هي فن أو مهارة يمكن تعلمها ببعض التجارب أو بمطالعة بعض المقالات أو الكتب، مع ان الإدارة أضحت علماً واسع الأبعاد متعدد الجوانب بل صارت تخصصاً من أهم التخصصات الحيوية، بل هي علم وفن ومهارة..
ويظهر الفارق في ان بعضنا لا يستطيع ان يدير شركة من عشرة أشخاص بالشكل المطلوب أو لا يستطيع حتى إدارة عائلته بينما تجدهم في الشركات المتطورة يديرون وبنظم إدارية متطورة خمسين ألفاً أو مائة ألفاً أو حتى ثلاثمائة ألف موظف(13) من مختلف المستويات ورغم كونهم منتشرين عبر دول كثيرة في أرجاء العالم.
ومن الواضح ان ضعف الإدارة ينعكس فوراً على ضعف الإنتاج بل قد يحطم الشركة بالكامل.
ويكفي ان نعرف ان الشركات حتى الصغيرة منها إذا لم تحسن إدارتها فانه سيكثر فيها غياب الموظفين وإهمال الأعمال وسيزداد فيها الغش والسرقة والاحتيال وستدب الفوضى في أرجائها خلال أيام من غياب النظم الإدارية المتطورة، فما بالك بشركة ذات فروع في كل العالم تضم علماء ومهندسين ومفكرين ومستشارين، وأيضاً: تضم حراساً وطباخين وعمال نظافة، وأيضاً: محاسبين ومحامين ورجالاً ونساءً وغير ذلك؟ ولكن كيف تسنى لهم إدارة عشرات الألوف من الموظفين وضبط الأمور كما تضبط عقارب الساعة؟
د- إصلاح نظام الشرطة
رابعاً: إصلاح نظام الشرطة.. لأن حفظ أمن البلاد بيد الشرطة.. فإذا كانت الشرطة نزيهةً، جادةً، ملتزمةً مدرّبةً منضبطةً، حكيمةً ورفيقةً أيضاً، عمّ الأمنُ البلادَ، عكس ما لو كانت أو الكثير من أفرادها بل حتى لو كان البعض منها مرتشياً أو قاسياً أو متراخياً أو غير كفوء فانه ستكثر حالات التسلل، والاختراقات، والسرقات والتعديات، بل سيتواطئ أفرادها مع الإرهابيين والعصابات والسياسيين الفاسدين وغير ذلك
لذلك جعلت حكومة اليابان الناهضة من أولوياتها إصلاح نظام الشرطة.
هـ - إيجاد اتحاد بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني
خامساً: وأيضاً: أوجدوا اتحاداً بين أجهزة الدولة وبين اتحاد شركات القطاع الخاص، وهو ما عرف بـ(اتحاد زايبا تسوا) الذي اضطلع بمهمة النهوض بالصناعة الوطنية وبترشيد الشركات التجارية والأنشطة المالية بشكل عام.
وليس المقصود تصحيح كل ما قام به قادة النهضة لوجود نواقص وأخطاء بلا شك، بل المقصود انهم اعطوا الأولوية القصوى لهذه الجهات: (إصلاح نظام التعليم، التطوير الإداري، إنهاء حكم العسكر، إصلاح نظام الشرطة، تعاون الحكومة مع المجتمع المدني) فتقدموا على غيرهم.
نموذج من الإدارة الكارثية الأمريكية لليابان
وقد ظهرت الثمرات العظمى لتلك السياسة الرشيدة، حتى بعد قصف أمريكا لمدنيتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية التي تسببت في قتل مئات الألوف وجرح وتشريد الملايين، ثم كان ان احتلت أمريكا اليابان عسكرياً ونصبت الجنرال مالك ارثر كحاكم فعلي لليابان من 1945م حتى 1951م.
وقد انتجت الإدارة الأمريكية السيئة بل المتعمدة لليابان نتائج كارثية على كافة الأصعدة حيث انهار الاقتصاد الياباني تماماً وحدثت مجاعات كبرى نتيجة النقص الهائل في إنتاج السلع والطعام والغذاء، وارتفعت الأسعار نتيجة ذلك بشكل مذهل.
كما قامت الإدارة الأمريكية بخطوة مأساوية أخرى وهي: إصدار قرار بحلّ الجيش الياباني فسرَّحت خمسة ملايين جندي ياباني، متذرعةً بالحجج المعروفة، ولكنها كانت بذلك السبب الأساس في انتشار الجريمة والفساد وزيادة الفقراء نظراً لضخ خمسة ملايين عاطل عن العمل، فجأة في الشوارع والمجتمع.. ومن الواضح ان العاطل عن العمل لا يجد عادةً أمامه إلا الفراغ والضياع مما يبعث الكثير منهم نحو الفساد والجريمة والسرقة والاعتداء على الآخرين ومما يجعلهم طعماً جاهزاً لشتى التنظيمات الإرهابية والمافيات المنظمة...
عيّنة من الإدارة الكارثية الأمريكية للعراق
والغريب ان أمريكا كررت نفس المخطط ونفس السيناريو في العراق فحلّت الجيش العراقي بالكامل مما تسبب في واحدة من أعظم المخاطر التي واجهها العراق طوال تاريخه.. إذ ان من الواضح ان مئات الألوف من الجنود الأقوياء عندما يُسرَّحون ويُتركون بلا عمل وبدون خطة لاستيعابهم واحتوائهم في أعمال وحِرَف وصنائع وبرامج منتجة أخرى، فانهم بذلك يتحولون، كما حدث بالفعل، إلى أفضل احتياطي يمكن تجنيده من قبل الجماعات الإرهابية والضالة كالقاعدة والبعث المنحل التي هربت قياداته للسعودية والأردن والأمارات وغيرها، ولداعش لاحقاً.. ولا عجب إذا رأينا ان قوام كافة الحركات الإرهابية والمسلحة كان هو ضباط وجنود من الجيش العراقي المنحل بذاته.
وذلك مع ان الصحيح كان هو التسريح التدريجي لبعض قادة الجيش وضباطه أو حتى المشبوهين من الجنود وليس حله بأكمله وذلك في ضمن خطة احتواء بديلة في شتى الميادين المنتجة: في الزراعة والصناعة والتجارة، وفي شتى الحرف: كالخياطة والنجارة والحدادة، وفي شتى الوظائف أيضاً.
من نتائج السياسات الإصلاحية في اليابان
والآن وبعد ذلك كله لنلقِ نظرة على نتائج تلك السياسات الحكيمة التي اقترنت في اليابان مع ترسيخ مبدأ التداول السلمي للسلطة والانتخابات العامة الحرة، ولنقرأ الأرقام التالية:
فقد كان متوسط دخل الفرد الياباني بالنسبة إلى الفرد الأمريكي في العام 1950 – واليابان لا تزال تحت الاحتلال – هو 1/14 أي كان دخل الأمريكي أربعة عشر ضعفاً من دخل الفرد الياباني، فإذا كان دخل الأمريكي بالشهر مثلاً 2800 دولاراً كان دخل الياباني 200 دولاراً فقط.
ثم في غضون عشر سنوات فقط وفي العام 1960 وصل دخل الفرد الياباني إلى 1/6 من دخل الفرد الأمريكي أي تضاعف دخل الياباني فصار دخل الأمريكي ستة أضعافه فقط!
ثم في العشر سنوات اللاحقة وفي عام 1970م وصل دخل الفرد الياباني إلى 1/2.5 من دخل الفرد الأمريكي أي صار دخل الأمريكي ضعفان ونصف فقط فإذا كان دخل الياباني 200 دولار عام 1950 فانه وصل عام 1960 إلى أقل من 500 دولاراً بقليل(14) ثم وصل عام 1970 إلى حوالي ألف ومائة دولار بالشهر(15).. وهو تقدم مذهل بكل المقاييس.
ولكي نعرف هذا الإنجاز المذهل ما علينا إلا ان نقارن اليابان خلال العشرين سنة بعد انتهاء الاحتلال مع العراق خلال الـ14 سنة بعد الاحتلال والتحرير فهل تطور وارد الفرد العراقي خلال هذه السنوات؟ بل هل بقي على حاله أو ازداد ضعفاً وانهياراً بمرور الزمن؟ وذلك رغم حجم الوارد المذهل من النفط طول عقد ونصف والذي لم يسبق للعراق في تاريخه خلال ألوف السنوات ان حصل على مثل هذا الوارد أبداً!
فهذا هو الداء في بلادنا وهذا هو الدواء!
ان المشكلة الأساسية تكمن إذاً في عدم وجود الحكمة بمعنييها:
الأول: عدم وضع الأشياء مواضعها.
وثانياً: عدم العلم والكفاءة التي تمنع من الخطأ والزلل إذ لا ترى الخبراء من التخصصات الرفيعة هم الذي يديرون البلد في الاقتصاد والصناعة والتجارة والزراعة وغيرها، ويكفي ان نتصفح سجلات غالب الوزراء ورؤساء الوزراء – إن لم يكن شبه المستوعب منهم – لنرى افتقادهم لذلك، وكما ان من الطبيعي ان غير المجتهد لا يمكنه تدريس البحث الخارج كذلك فان الطالب بالثانوية لا يمكنه التدريس بالجامعة، فكيف يمكن ان يكون وزير الداخلية أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها خريجاً عادياً في ذلك الحقل؟ وكيف يمكنه ان يدير الاقتصاد أو الزراعة أو الداخلية أو الكهرباء والماء والطاقة في دولة تعج بها المشاكل وتواجه التحديات من كل حدب وصوب؟.
وبعد ذلك إذا عرفنا مقتضى الحكمة وعرفنا مقتضى اللاحكمة سنعرف مآلات أمور هذا البلد أو ذاك وانه يسير نحو الاستقرار والازدهار والتطور والتدهور؟ أو انه يراوح مكانه؟ أو انه ينتقل من معضلة إلى أخرى ومن مأزق إلى آخر ومن خراب إلى آخر؟ وبذلك كله سنصل إلى مرحلة (العلم واليقين) بمستقبل البلاد أو الأمم أو الأحزاب والمنظمات والنقابات أو العشائر والمؤسسات والشركات والعوائل! وللبحث صلة بإذن الله تعالى.
اضف تعليق