تنطلق هذه الرؤية من فكرة تشابه التأثير الذي تخلفه المتغيرات والتحولات والأزمات الاقتصادية العابرة للحدود الوطنية على علاقة المجتمعات والدول بعضها ببعض ومكانتها وقوتها السياسية الدولية، وعلاقة المجتمع والأفراد بنظامهم السياسي من جهات مختلفة في ذلك السياق نفسه، فالحياة الإنسانية آخذة في التأثر أكثر فأكثر بأحداث ينبع أصلها من الخارج -أي– ان للعولمة بمختلف أشكالها وأنواعها، وخصوصا الاقتصادية منها تأثير وانعكاسات خطيرة على الدول والمجتمعات تتجاوز خطورة العولمة السياسية، وكما ان القوة الاقتصادية لبعض الدول تولد الحقد والكراهية لدى المجتمعات والدول النامية، فكذلك تتأثر الدول سلبا بالأزمات الاقتصادية التي تصيب بعضها.
وبالتالي فان العولمة بجميع أشكالها قضت على مفهوم الانعزالية الحضارية او التقوقع الإنساني الداخلي، فلا يمكن ان ينشا مجتمع مدني يسعى للتطور في القرن 21 ويقوم بعزل نفسه عن العولمة وتأثيراتها، فالأصل انه لا يوجد مجتمع مدني لا يرتبط بروابط وعلاقات عابرة للحدود الوطنية، ومن هنا برزت إشكالية بعض الصراعات الأيديولوجية في الدول والأنظمة السياسية التقليدية، او في تلك الدول التي تسعى الى التحديث والإصلاح الاقتصادي والسياسي والتحول الى المدنية الاجتماعية، (ونتيجة لذلك تم تعميم نمط جديد من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية أدى الى تغيير بنية المجتمع المدني وبروز قوى اقتصادية واجتماعية جديدة، ولا يزال القسم الأكبر من مجتمعات العالم التي تعرضت لتحدي التغيير والتحول، ومنها العديد من المجتمعات العربية يعاني جراء إشكاليات في العلاقة مع نظمها السياسية، الأمر الذي كان باعثا للتنافرات وعدم الاستقرار).(1)
فالعولمة العابرة للقارات وخصوصا العولمة الاقتصادية هي المرافق الرئيسي للمجتمعات المدنية الحديثة، ولا يمكن بحال من الأحوال عزل أي مجتمع تقليدي يسعى للتحول لمجتمع مدني عن تأثيرات العولمة العابرة للحدود بجميع أشكالها، فمن كان يفكر ان (الممارسات المصرفية الطائشة في اقتصاد صغير مثل تايلند في العام 1997م سوف تؤدي الى انهيار الروبل الروسي، او ان القروض الكثيفة سوف تدرأ أزمة اقتصادية في البرازيل، او ان تدخل مصرف نيويورك الاحتياطي الاتحادي سيمنع انهيار شركة استثمارات مغامرة من إيذاء الاقتصاد الاميريكي، - او ان خلالا او أزمة في أسواق المال والعقارات في الولايات المتحدة الاميركية او أوربا سيؤثر في دولة صغيرة في قارة أسيا او أفريقيا).(2)
وفي هذا السياق يقول بول كندي في كتابه نشوء وسقوط القوى العظمى (ان الفائض الكبير في الإنتاج الصناعي والزراعي خلق تخوفا واسع النطاق من عجز الأسواق المحلية على امتصاص هذه البضائع، وهذا ما أدى بالجماعات ذات المصالح بالضغط على الحكومة للمساعدة على التوجه نحو الخارج او على الأقل الإبقاء على فتح أسواق ما وراء البحار و فجاء التحريض على المحافظة على سياسة الباب المفتوح في الصين، وكذلك الاهتمام الجماهيري بجعل أمريكا القوة المهيمنة في أمريكا اللاتينية، ليمثل وجهين فقط لهذه العناية بتوسيع حصة البلد في التجارة العالمية).(3)
وهنا نطرح السؤال التالي: ما هو الرابط الفلسفي والنفسي بين المخاوف الاقتصادية للأفراد، وتأثير ذلك سلبا على بناء المجتمع المدني واستقراره وتطوره في دولة ما؟ وما دخل العولمة الاقتصادية في تحفيز نظرية الخوف في النفوس ودفع الأفراد الى الاتجاه نحو خرق القوانين او مواجهة أنظمتها السياسية بالقوة والعنف؟ وكيف يمكن ان تؤثر تلك النظرية على استقرار المجتمع المدني سلبا، مما قد يؤدي في نهاية المطاف الى انهيار المجتمع بأكمله؟
ونقول: (بانه حيثما حاز مجتمع ما اقتصادا قويا ومتوسعا، شعر الناس فيه بالأمن والاستقرار النفسي وبإحساس بالرفاهية والرحابة وتوفر فرص العمل وإمكانية التطور والتقدم الى الأمام، وسيكون هذا المجتمع واثقا من نفسه، فهو مجتمع لا يسيطر الشك على أفراده، فالاقتصاد القوي يجعل الناس يحسون بان الأمل موجود أمامهم، وأتصور ان الأمل هو شرط حيوي ومحفز قوي يدفع الناس لاحترام القانون، أما حين يفقد الأمل فان الشك يبدأ بالتغلغل الى النفوس والأفكار، وحيث يتواجد الشك ينتشر الخوف، وبكل تأكيد فان الخوف والشعور بالقلق من الناحية الاقتصادية يعد من أهم أسباب التحايل على القوانين والسعي لاختراقها، وكذلك ارتفاع نسب الجريمة والتطرف الفكري، فالفرد منا حين يشعر بانه مهدد من الناحية المادية والمعيشية يبدأ بالبحث عن وسائل أخرى للوصول الى هدفه الذي حالت الظروف والأزمات الاقتصادية او بعض القوانين دون الوصول إليه).(4)
وهو ما يؤكده هارولد لاسكي في كتابه –الحرية في الدول الحديثة– في قوله: (انه حين يبدأ اقتصاد المجتمع بالانكماش، حينئذ تكون الحرية في خطر، فالتقلصات الاقتصادية دائما تعني الخوف، والخوف يولد الشك باستمرار، -وهو ما يجعل أفراد المجتمع- أكثر استعدادا للسماع الى أصوات جديدة، وأنهم في الغالب يطالبون بتغييرات جديدة، وفي هذه الحالة لا تستطيع الدولة الاحتفاظ بسلطتها لذلك تلجا إما الى القمع الداخلي او الحرب مع الدول الأخرى) (5) فيما يطلق عليه بتصدير الأزمات الى الخارج.
هكذا نفهم ان (هناك علاقة تناسب عكسية بين التنمية الاقتصادية والعنف، -أي– كلما تزايدت مظاهر الإصلاح الاقتصادي، انحسرت مظاهر العنف السياسي ومعدلاته، -بمعنى– ان العنف ينخفض في النظم السياسية التي تعتمد الحداثة والإصلاح نظرا لوجود مؤسسات سياسية واجتماعية واقتصادية وسيطة تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتضبط ظاهرة الحراك الاجتماعي) (6)، والعكس صحيح، فكلما انخفضت او ضعفت مظاهر الإصلاح والتحديث الاقتصادي في أي دولة، ارتفعت مظاهر العنف السياسي والتطرف الفكري والديني ومعدلات الجريمة واختراق القوانين.
فالحركات السياسية الكبرى كالشيوعية والفاشية كما يقول ذلك – كارل بولانيي – (نبعت جزئيا من ردود الفعل الشعبية على حالات انعدام المساواة التي رافقت حرية العمل التجاري، والذي هو كذلك بسبب عدم تدخل سلطة الدولة واضطلاعها بمسؤولية المساعدة والمشاركة وليس السيطرة والتحكم والتسلط في حل تناقضاته الداخلية وتحدياته النابعة من ضربات العولمة العابرة للقارات والحدود وخصوصا في الجانب الاقتصادي منه)، (7) فليس من الممكن تسويغ كل التدخلات الحكومية في الاقتصاد تحت عنوان النزعة المؤسسية، ورؤية ان المجتمع المدني لا يمكن ان يتحقق إلا عبر الدولة كما أراه شخصيا.
بيد ان ذلك لا يمكن ان يكون عاملا مهددا او مقوضا لسلطة الدولة او استقرار المجتمع في حال تم التعامل مع الأمر بكل عقلانية ومهنية وحكمة اقتصادية، فلا العولمة الاقتصادية ولا السعي لتأسيس مجتمع مدني يمكن ان يقلق الأنظمة السياسية المستنيرة، فهي تدرك ان كل ذلك –أي– العولمة وتأثيراتها والسعي لتأسيس المجتمعات المدنية هو من الحتميات الحضارية والضروريات المعاصرة لمواكبة التقدم الإنساني، فلا يمكن بحال من الأحوال ان تدمر العولمة الاقتصادية العابرة للقارات دولة المؤسسات والقانون ومجتمعات ما بعد الحداثة، في حال كانت إستراتيجية الأنظمة السياسية الحاكمة فيها تهدف الى ان تكون وحدتها الأساسية المكونة للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي هي المدنية وليس الدولة السلطوية.
فالأنظمة السياسية والحكومات والدول (التي سوف تنجح في تجاوز التقسيم التقليدي الماضي للدول، والوصول الى توحيد المجال او الفضاء الثقافي والحضاري الذي يجمع بين شعوبها ويميزها، هي التي سوف تحظى بالمكانة الفضلى في تقسيم العمل العالمي المتزايد، وتضمن لنفسها أفضل الفرص لدفع عملية التنمية الحضارية في العقود القادمة من معايير المنافسة العالمية المنظورة).(8)
فاستقرار الدول والمجتمعات الوطنية كان ولازال وسيظل رهن بقوة وثبات واستقرار مؤسسات تلك الدول وذلك المجتمع بوجه عام، والاقتصادية منها على وجه الخصوص، وثقافة هذا المجتمع الحديثة في الحياة الوطنية، ولا رسوخ لتلك المؤسسات الوطنية في ظل أنظمة سياسية لا تملك اقتصادا حرا وقويا ومتوسعا يشعر فيه الأفراد بالطمأنينة والأمن والاستقرار والأمل في الحاضر القائم والمستقبل القادم، حيث لا تساورهم المخاوف والشكوك من قدرة حكوماتهم على تحقيق أمالهم وتطلعاتهم المستقبلية وخصوصا من الناحية الاقتصادية، فكما سبق واشرنا فان قوة الاقتصاد الوطني من ابرز أسباب الاستقرار السياسي والأمن الداخلي، وضعف الاقتصاد وتراجع مقومات التنمية الاقتصادية يعد ابرز واهم الأسباب التي يمكن ان تؤدي الى العنف السياسي والتطرف الفكري والديني وارتفاع نسب الجريمة في أي دولة.
اضف تعليق