مئات الدراسات والمقالات والبحوث، وعشرات الندوات والمؤتمرات واللقاءات الإعلامية والصحفية التي سعى أصحابها ومنظميها ومنظريها خصوصا من الجانب الحكومي الى فك طلاسم أسباب استمرار وتضخم الأزمة الاقتصادية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط حتى وقتنا الراهن، وانعكاساتها على العديد من جوانب الحياة الوطنية للعديد من دول العالم، خصوصا في دول البترو-دولار، او الدول التي تعتمد موازناتها المالية على عائدات النفط بشكل رئيسي، وتأثير ذلك على التنمية البشرية والعمرانية.

وحتى نكون منصفين لأنفسنا في أطروحاتنا، قبل إنصافنا للآخرين، لابد من الاعتراف بوجود بعض المعالجات الايجابية الطيبة التي ساهمت حتى الآن في التخفيف من أضرار وانعكاسات الأزمة الاقتصادية على اقتصاديات تلك الدول، وان هناك محاولات جدية للخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر، سواء كان ذلك على مستوى الأضرار التي يمكن ان تلحق بجانب استقرار المؤسسات الرسمية والنظام السياسي على سبيل المثال، او تلك المتعلقة بالجانب الشعبي.

إلا ان الملاحظ على تلك التوجهات الرسمية ومختلف القرارات والمعالجات التي وجهت لاحتواء الأزمة الاقتصادية القائمة او الأزمات السابقة، وبالرغم من الجهود والأفكار الايجابية المطروحة للحد منها، او للتخفيف من قوة ارتداداتها، أنها تركزت للأسف الشديد على جانب الحلول والمعالجات والتوجهات والقرارات الاقتصادية بشكل بحت، -وبمعنى آخر– ان اغلب الحلول المطروحة والمعالجات الموجهة اقتصرت الى حد بعيد على الجانب الاقتصادي والاستثماري دون مراعاة للعلاقة الوثيقة والارتباط المستمر بين الاقتصاد والسياسة، وفي مختلف الأطروحات الموجهة لاحتواء مخاطر مختلف الأزمات الاقتصادية العابرة للحدود الوطنية.

اللهم بعض أشكال التغيير السياسي الناجحة التي خرجت على استحياء وخجل نتيجة مخاض سياسي وصراع مؤسساتي عسير، او نتيجة ضغط الرأي العام، وهذا الأخيرة، أي الضغوط الجماهيرية، تعد بحد ذاتها مشكلة اكبر للأنظمة السياسية التي لا تقوم بالتغيير والإصلاح إلا بعد الضغط عليها، فتقع بين كبرياء النفس السياسية بعدم الانصياع لأصوات الرأي العام رغم صحتها، او تنجرف بشكل عام مع اندفاع وعاطفة الجماهير، فتقوم بتغيرات متسرعة وغير صحيحة، لتدخل بعدها في أزمات متعددة ومختلفة، وعلى رأسها الأزمات الاجتماعية مع مواطنيها، والتي تكون في اغلب الأوقات اخطر بكثير من الأزمة الاقتصادية التي تحاول احتواء مشاكلها.

وباعتقادي ان أهمية هذا الأمر، وضرورة تلك الموائمة بين الجانب السياسي والاقتصادي في الحلول والتوجهات والقرارات التي تطرح لا يخفى بشكل كامل على أصحاب القرار سواء السياسي او الاقتصادي منه في أي حكومة حديثة، إلا ان التحديات والعوائق التي تقف حائلا دون موائمة تلك الحلول بشكل متكامل ومتجانس في جانب العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسي تبرز من جوانب مختلفة ومتعددة، منها ما ينبع من الخارج الوطني، كتحكم بعض الدول المصدرة للنفط بالمشهد الاقتصادي، او تسييس قراراته الاقتصادية، او نتيجة عوامل صراع المصالح الجيوسياسية العابرة للحدود الوطنية، او نتيجة محاولات افتعال الأزمات او تصديرها دوليا، والأهداف كثيرة خصوصا اذا أخذنا في الاعتبار ان المشهد الاقتصادي العالمي لا تتحكم به الدول فقط، بل هناك جماعات ومنظمات ومتنفذين دوليين وأفراد يملكون بعض أزرار ريموت كنترول الاقتصاد العالمي من أصحاب النفوذ والثروات الاقتصادية العابرة للحدود الوطنية.

أما على الصعيد الداخلي او الوطني، فتدور الكثير من التحديات التي تفاقم هذا النوع من الأزمات بسبب أصحاب القرار المعني بحل الأزمة الاقتصادية أنفسهم، سواء كان ذلك نتيجة ضعف التفكير او القدرة على الإدارة، وكذلك في إشكاليات النظام السياسي التقليدي الذي يقوم على القبلية السياسية خصوصا، او تنبع تلك التحديات من متلازمات الفساد (الثروة، السلطة، الديموقراطية) وتأثير الأثرياء والنافذين كذلك في تلك الحكومات على مختلف القرارات الاقتصادية من جهة بعيدا على الرقابة او المحاسبة، او في ظل محاسبة ورقابة شكلية، تحتاج بنفسها الى رقابة ومحاسبة، وبمعنى آخر، ان يكون صاحب القرار السياسي الموجه لحل الأزمة الاقتصادية او احتواءها، هو نفسه صاحب مصلحة اقتصادية من عدم حلها، او ان مصالحه ستتضرر نتيجة ذلك القرار، ففي مجتمعات اسواق النفوذ تهدد المصالح الخاصة سلامة ونزاهة المؤسسات العامة، حيث تتحول هيئات حكومية كاملة الى مؤسسات ربحية، ويتخذ رجال الاعمال الطموحون الذين يتمتعون بالحماية الرسمية من خلال الشركاء مكانة شبه رسمية ويقومون ببناء امبراطوريات تجارية على حساب تلك البلدان والاوطان.

على ضوء ذلك (تزداد العلاقة تعقيدا والتباسا حينما يكون الفاعل السياسي فاعلا اقتصاديا في نفس الوقت. ففي مثل هذه الحالة تتم الإساءة للاقتصاد وللسياسة معا، فلا الاقتصاد يمكن أن يتطور في بيئة تنعدم فيها شروط المنافسة الاقتصادية، ولا السياسة يمكن أن تتطور بسبب هيمنة المال على الشأن السياسي، وقديما حذر ابن خلدون من الجاه المفيد للمال، كما أفتى الكثير من الفقهاء القدامى بعدم جواز الجمع بين الإمارة والتجارة. إن الأسباب العميقة لهذه الأزمة، مرتبطة بدرجة أساسية بنموذج تنموي قائم منذ مرحلة ما بعد الاستعمار. كما أن حالة الاقتصاديات العربية لا يمكن فصلها على النموذج السياسي المتبع، فالحالة الاقتصادية هي نتيجة لسيادة نموذج تسلطي، يسمح بالتداخل بين النخب الحاكمة وبين عالم المال والأعمال في إطار من -الاقتصاد الشكلي-، ويعتمد على شركاء اقتصاديين تقليديين يراعون مصالحهم بالدرجة الأولى) لا مصالح أوطانهم.(1)

أما من جهة أخرى فيكمن التحدي الخطير الآخر، والذي لا زالت العديد من دولنا وحكوماتنا تفتقد كثيرا إليه، باعتباره كما يروج ويدعي العديد من القيادات السياسية بأنه مجرد ترف فكري، واقصد الحاجة الى مراكز الدراسات الإستراتيجية المتخصصة في مختلف جوانب العلوم الإنسانية، ما يعيد طرح حلول معظم الأزمات التي تعصف بتلك الدول الى مطابخ القرار الرسمي التقليدي، والذي يغلب عليه الموظفين الحكوميين غير المتخصصين او مؤهلين في كثير من الأوقات، او من الذين يحتمل ان يكون اغلبهم من أصحاب النفوذ والمصالح الاقتصادية التي ستتضرر كذلك من التغيير او من القرارات السياسية التي يمكن ان تعيق مصالحهم او تقضي عليها بشكل كامل.

بينما نجد من ناحية أخرى العديد من المستشارين والمحللين والمراقبين الاقتصاديين الذين تعتمد على وجهة نظرهم مراكز القرار السياسي او الأنظمة السياسية الحاكمة في بلدانهم غير قادرين على المصارحة بحتمية العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، او مكاشفة أصحاب القرار السياسي بأنهم في كثير من الأوقات جزء من المشكلة وتفاقمها، او بأهمية الإصلاحات السياسية كبداية لحل مختلف الأزمات التي تعصف بتلك الأنظمة والحكومات.

وباختصار، ان الأزمة الاقتصادية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط، لا يمكن ان تحل اقتصاديا فقط، ولا يمكن ان تخرج الحلول المطروحة بأي نتائج او فائدة استراتيجية على المدى المتوسط والطويل ما لم يتم مراعاة العلاقة بين الاقتصاد والسياسة في تلك الحلول والمعالجات المطروحة، فإدارة الأزمة الاقتصادية الراهنة لابد ان تكون إدارة سياسية قبل ان تكون إدارة اقتصادية، ولابد ان تدفعها إرادة سياسية عليا قادرة على ضبط إيقاع التغيير والإصلاح الاقتصادي وإدارته بشكل سياسي ومتوازن، سواء من خلال تغيير بعض الكوادر والعقول السياسية او الإدارية القائمة في الدولة بناء على نظرية ان القيادة السليمة تنتج قرارات سليمة، او من خلال قرارات سياسية متحررة من قيود العاطفة وضغوط القبلية السياسية والمصالح الفئوية التي طالما كانت ابرز معوقات تطور ونمو الاقتصاد.

كون التغيير المحفز للنمو الاقتصادي (يتطلب سياسات واضحة وثابتة ومدروسة حتى يستطيع أن يستمد منها الاقتصاد مقومات نموه سواء من الداخل أو من الخارج، وبلا شك أن الاقتصاد يعتبر مرآة عاكسة للسياسة أو لشكل النظام. فكل تطور اقتصادي يشهده أي بلد لا بد وأن ينعكس لاحقاً على شكل نظامه السياسي. إذاً التطور الاقتصادي يتطلب نظاماً ديمقراطياً قابلاً للتغيير والتطور. وعليه فان النمو الاقتصادي يحتاج إلى مرونة سياسية. والخلاصة : يجب أن يظل منحى كل من السياسة والاقتصاد شاملاً وذات روابط قوية وأن يكون كل منهما في خدمة الآخر فتنجح السياسة ويتطور الاقتصاد، ومن المؤكد أنه لا اقتصاد قوي في ظل سياسة ضعيفة ولا سياسة قوية دون اقتصاد قوي). (2)

اذا وكما سبق واشرنا ان المطلوب اليوم من الأنظمة السياسية والحكومات القائمة التي تدير الأزمة الاقتصادية وتحاول معالجة تبعات وارتدادات الأزمة المالية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط على موازناتها، وقبل تفاقم ارتداداتها وانعكاساتها بدرجة لن تتمكن بعدها من احتواءها، وستدخل جراء ذلك في صدام وأزمات اجتماعية مع مواطنيها على المدى المتوسط، التنبه والتنبه الى أهمية الخروج من قوقعة الحلول الاقتصادية البحتة وسياسة الأبواب المغلقة، والاتجاه الى موائمة تلك الحلول مع قرارات سياسية تقوم بدراسة أسباب الفشل او ضعف المعالجات المطروحة لاحتواء الأزمة، خصوصا جوانب صناعة قرارات التغيير وتحفيز النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات العابرة للحدود الوطنية.

من جانب آخر وهو الأهم، وجود منهجية وإستراتيجية سياسية واقتصادية مدروسة ومحددة المعالم الزمنية، وان تدار بقدر المستطاع بعيدا عن أصحاب المصالح الفئوية والتي تتضارب مصالحهم تلك مع المصلحة الوطنية، او من شخوص مقيدون بأفكار تقليدية متهالكة لا تصلح للعصر الرقمي، مع أهمية ربط تلك الإستراتيجية الوطنية بمختلق الجوانب ذات الصلة بإدارة الأزمة الاقتصادية، كالإعلام والقانون وعلم النفس والاجتماع على سبيل المثال لا الحصر، حيث لا يمكن القبول بمعالجات اقتصادية تؤدي مع الزمن الى أزمات اجتماعية او سياسية اكبر.

ونعود للتأكيد. انه لن ينجح أي بلد في الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة بتجاهل الحلول والاصلاحات السياسية، سواء بتغيير بعض الكوادر في الجهاز السياسي او الاداري للدولة، او من خلال سن قوانين اصلاحية في الجانب السياسي او القوانين الاقتصادية، او حتى في تغيير هياكل البناء السياسي للنظام بشكل كامل، لان (الاقتصاد مرآة عاكسة للنظام السياسي....والعلاقة وثيقة بين النمو الاقتصادي والنظام السياسي، فلا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، فالتطور الاقتصادي قد يشهد نمواً ما في بلد يتبنى النظام الشمولي لكنه سرعان ما يصطدم هذا النمو بمعوقات سياسية تحد من تطوره. عليه لا يمكن للاقتصاد أن يتطور دون أن يترافق ذلك مع تطور في النظام السياسي).(3)

* باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية

................................................
مراجع :-
(1) بين الاقتصاد والسياسة، عبد العلي حامي الدين، موقع القدس العربي، www.alquds.co.uk - 12 / 4 / 2013م.
(2) جدلية العلاقة بين السياسة والاقتصاد، تحقيق :- حسينة العلي، بتاريخ 19 / 9 / 2016م موقع حزب الاتحاد الديموقراطي، pydrojava.com
(3) صاحب الربيعي، العلاقة بين السياسة والاقتصاد في النظم الشمولية والليبرالية موقع الحوار المتمدن، www.ahewar.org - العدد: 1022 - 2004 / 11 / 19.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق