ارتفع سقف الاهتمام والحديث في وقتنا الراهن حول قضايا الأمن والاستقرار الوطني والقومي للدول بوجه عام، وجانب الأمن السياسي على وجه التحديد. نظرا لارتفاع سقف التحديات الأمنية الداخلية كقضايا تعزيز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة ومتطلبات التنمية في ظل الأزمات الاقتصادية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني والمشاركة السياسية للرأي العام في صناعة القرار الوطني. وتلك العابرة للحدود الوطنية، كالإرهاب والتطرف والتجسس والحروب والعولمة على سبيل المثال لا الحصر، ما انعكس بدوره على أساليب وتصرفات الأجهزة الأمنية التابعة للعديد من الدول حول العالم في جانب مسؤوليتها سواء كان ذلك في الجانب الوقائي "الردع" او الجانب العلاجي "المنع".
وما بين مطرقة البعد الإنساني لتحقيق شق الأمن السياسي والتي تفرضها متطلبات حقوق الإنسان وضرورات الديموقراطية وضمان الحقوق السياسية والتحرر من القهر السياسي في الدولة المدنية الحديثة من جهة، وسندان تطبيقات النظرة الكلاسيكية لجانب تحقيق الأمن السياسي والاستقرار الوطني، والتي تحتم التمسك بها وتطبيقها بحذافيرها بعيدا عن العاطفة في كثير من الأحيان من جهة أخرى في التعامل مع انعكاسات تلك الأحداث، خصوصا ان تلك المتغيرات السياسية والجيوسياسية العابرة للحدود الوطنية باتت تفرض وجودها ومكانتها بقوة على الداخل الوطني للعديد من دول العالم، وهو ما أدى بدوره الى التأثير الحتمي في إيقاع التوجهات والتصرفات والسلوكيات السياسية والأمنية، الأمر الذي ترتب عليه حالة من تفاقم ارتفاع سقف المخاوف من تعسف تلك الأجهزة، واستغلال تلك الظروف الدولية كالإرهاب والتطرف للإيقاع بالمعارضين للسلطة السياسية والأنظمة الحاكمة، ولقمع الأصوات والآراء التي تحاول الإصلاح والتحديث السياسي.
لذا وجدنا من الضرورة كسر بعض الأقفال للتطرق الى مسالة غاية في الأهمية والحساسية، وذلك من خلال طرح بعض التساؤلات التي يجب ان تتحول إجاباتها الى فكر وثقافة وطنية ووعي امني من قبل طرفي البناء الوطني في أي دولة حديثة، أي، النظام السياسي بكل مكوناته ومؤسساته ومسؤولية بجميع فئاتهم ومستوياتهم السياسية والإدارية، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية لأنها المعني بتحقيق وتنفيذ وتطبيق هذا الشق من الأمن الوطني، والمواطنين لأنهم امتداد لأمن واستقرار وطنهم، وهم جهاز الأمن الحقيقي، والذي يعد اختراقه سقوط لأبرز خطوط الدفاع والمناعة الأمنية الوطنية، خصوصا ان ما يحدث اليوم على الساحة السياسية والأمنية الدولية اكبر بكثير من مجرد أحداث تاريخية عارضة وعابرة، او مسارات سلوكية طبيعية لحضارة إنسانية معاصرة، بل هي أفعال ممنهجة وأجندات دولية تعمل عليها كبرى وكالات الاستخبارات العالمية، وعصابات إجرامية انتهازية وانتفاعية من وراء الفوضى والحروب وتقسيم الدول وبث الفتن والصراعات الداخلية.
ومن أهم وابرز تلك الأسئلة التي يمكن طرحها:-
هل فعلا ان الأجهزة الأمنية المعنية بالأمن بمختلف توجهات وعلى رأسها الأمن السياسي تعمل لمصلحة الأنظمة السياسية فقط بعيدا عن مصلحة الوطن والمواطنين وذلك من خلال أساليبها التي يراها بعض المواطنين أنها تعسفية وبعيدة عن الحياد والمهنية؟ وهل حقا ان تلك الأجهزة أصبحت اليوم لا تبالي بالديمقراطية وحقوق الإنسان، او أنها تعمل بعيدا عن كل مستويات الأخلاق وروح الأمن من خلال وسائل القمع والتنكيل والتعسف وتجاهل القوانين؟ وهل نجحت الأجهزة الأمنية من صناعة تلك المقاربة المهنية بين متطلبات وضغوطات الأمن السياسي نتيجة تلك التحولات والانعكاسات العابرة للحدود الوطنية، وحق المواطن في التعبير عن الرأي والمشاركة السياسية في صناعة حاضره ومستقبله الوطني؟
وأخيرا. ما هو المطلوب من الجهاز المعني بالأمن السياسي في زمن العولمة والتغيير؟
بداية نعود لنؤكد بان الأمن السياسي هو رسالة وطنية شاملة تتقاسم تنفيذ أدوارها أطراف البناء الوطني قبل ان يكون وظيفة أمنية تعمل على تطبيقها الأجهزة الأمنية ذات الصلة والاختصاص، لذا فان تطبيقه لا يمكن بحال من الأحوال ان يتحقق بشكل ايجابي من خلال تلك الأجهزة وحدها دون تشارك وتعاون مع المواطنين والمقيمين، وهو كبقية أشكال وتوجهات الأمن الوطني، سواء السياسي او الاقتصادي او الثقافي وإلخ، ينقسم الى وجهتين او جانبين، جانب وقائي "الردع" يتحقق من خلال العمل على بث ثقافة الأمن السياسي بين أفراد المجتمع، وتوعيتهم بالأدوار والمسؤوليات الأمنية التي تقع على عاتقهم تجاه أمنهم الوطني ككل، وجانب الأمن السياسي على وجه الخصوص، يضاف الى ذلك أهمية توعيتهم بالمخاطر التي تحيط بهم وبوطنهم نتيجة العوامل والمتغيرات الحتمية للتقادم الحضاري والتنموي في الداخل الوطني او نتيجة تلك المتغيرات والتحولات الدولية العابرة للحدود الوطنية كالإرهاب والتطرف ومحاولات اختراق الأمن والاستقرار الوطني على سبيل المثال لا الحصر.
وبالطبع فان هذا الجانب لا يقتصر على المواطنين فقط، بل يمتد ليشمل الأجهزة الأمنية المعنية بالشق الوقائي من الأمن السياسي، من خلال أهمية الثقافة الأمنية السياسية، وفهم حقيقة رسالة الأمن السياسي وأهدافها وغاياتها الوطنية، وكيفية إدارة العملية الأمنية، وأهمية المنهجية وتطبيق أساليب الحوار الوطني كالمناصحة والمصالحة قبل استخدام أساليب القوة والعنف، وبكل تأكيد القدرة على تحليل البيانات والمعلومات والظواهر التي تبرز في المجتمع في ظل تلك الإرهاصات والمتغيرات، أما بالنسبة للجانب الآخر، واقصد الشق العلاجي، فهو جانب مهني وحرفي، يبدأ بتطبيق أساليب المعالجة الإنسانية والقانونية في إدارة العملية العلاجية للأفعال والأعمال المحظورة، لان العلاج هو إصلاح وتهذيب ينطلق من معايير أخلاقية وإنسانية ووطنية، لا يقصد من وراءها سوى مصلحة الوطن والمواطن في نهاية المطاف.
كما انه ومن ناحية أخرى لابد من صناعة ذلك التفاعل والتكامل والتنسيق بين مكونات البناء الوطني، خصوصا مؤسسات الدولة المدنية وتحديدا الخدمية منها، والمواطنين الذين يتعاملون معها، من خلال مراقبة دقيقة لشكل وأسلوب التصرفات النابعة عن إدارة المسؤولين في الدولة للعملية الإدارية ومدى تأثير قراراتهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم على الداخل الوطني، ومن ثم احتواء ما يمكن ان يكون متطرفا منها او سلوك شخصي قد ينعكس سلبا على ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، فالأمن السياسي هو امتداد للأمن الإنساني من جهة، كما انه ومن جهة أخرى بعد مباشر من أبعاد الأمن الجنائي، وبالتالي فان جهاز الأمن السياسي في أي دولة، لا تقف حدود صلاحياته عند القضايا الكبرى التي يمكن ان تؤثر في الاستقرار والأمن الوطني الداخلي، كالإرهاب والتطرف، بل هو يشمل كل كبيرة وصغيرة يمكن ان تؤثر في وعي وثقافة وسلوك المجتمع وثقته في نظامه السياسي، ونظرته الوطنية الى حكومته.
عليه فان ابرز الالويات الوطنية في جانب الأمن السياسي والتي بات من الضرورة العمل عليها خلال المراحل الزمنية القادمة في جانب الأمن السياسي الأولويات التالية، والتي هي على سبيل المثال لا الحصر:-
أولا:- صناعة مقاربة أمنية منهجية بين النظرية الكلاسيكية للأمن السياسي في التعامل مع المخاطر والتهديدات الخارجية التي تضغط بشكل قد ينظر إليه بعض المواطنين بأنه تصرفات تعسفية وسلوكيات غير قانونية من قبل الأجهزة الأمنية المعنية بالأمن السياسي. وجانب أهمية التعامل الإنساني والأخلاقي مع السلوكيات والتصرفات المتطرفة لبعض الأفراد في المجتمع حتى في ظل تلك الظروف والتحولات الدولية العابرة للحدود الوطنية، فأجهزة الأمن في نهاية المطاف هي أجهزة وطنية، وافرادها هم أبناء أوفياء لتراب وطنهم، حماة لأخوتهم في الوطن من كل ما يمكن ان يتعرض لأمنهم واستقرارهم الوطني، وان قسوتهم او تشددهم تجاه بعض الأفعال ما هي إلا نتيجة مخاوفهم الوطنية على استقرار وامن الوطن والمواطن لأنهم اقرب الى تقدير الانعكاسات الخطيرة للمحيط الأمني الدولي من بقية أفراد المجتمع.
ثانيا:- الحذر من انحراف السلوكيات الأمنية الى تصرفات تعكس جانب التعسف الأمني وتجاهل الأخلاق والقوانين بعيدا عن روح المسؤولية الوطنية تجاه بعض التصرفات والسلوكيات والأفكار التي تنبع من حقوق الأفراد الطبيعية، كحق التعبير عن الرأي ومحاولات الإصلاح والنقد الايجابي والحق في المشاركة السياسية، فذلك وان نجح في احتواء تلك السلوكيات والتصرفات المشروعة او غير المشروعة على المدى القصير من خلال القمع والكبت، فانه سيؤدي مع الوقت الى فقدان المواطنين الى ثقتهم في نظامهم السياسي ومؤسسات الدولة، وسيترك أثره في الخفاء ليظهر بعد ذلك على شكل ظواهر اجتماعية وسياسية غير محببة او أزمات ومشاققات ثقافية واسعة بين أفراد المجتمع مع الأسف.
ثالثا:- لابد للمجتمع من تقدير بعض السلوكيات الأمنية التي يمكن ان ينظر إليها على أنها قاسية ومتطرفة في التعامل مع بعض الأفراد والأفكار في بعض الأوقات، وهذا بكل تأكيد لا يدفعنا بحال من الأحوال الى تبرير تلك التصرفات، بقدر ما يدفع لتفهمها وتقبلها على مضض نظرا لما نشاهده جراء المخاطر الأمنية التي باتت تنهش استقرار الأوطان وتقلق راحة الإنسان وأمنه، والمشهد الدولي كاف لتفصيل هذا الجانب المأساوي.
رابعا:- لابد ان (نستعد لدفع ثمن التغيير الديمقراطي في كل موقع بما في ذلك منظومة الأمن، وأن نستفيد من تجارب الدول التي سبقتنا في إحداث هذا التغيير واضعين في اعتبارنا الاختلافات الجوهرية في طبيعة التهديدات التي تتعرض لها بلادنا ’ثم يجب علينا أن نتكيف مع متغيرات العصر فيما يتعلق بالثورة التكنولوجية والمعرفية وما تقدمه من انجازات) هي بلا شك تزيد من أعباء الأجهزة الأمنية في جانب حفظ الأمن والاستقرار الوطني.
خامسا:- أهمية العمل على رفع مستوى الوعي السياسي بالمخاطر التي تهدد استقرار الأمن الوطني بكل الوسائل المتاحة وعبر مختلف وسائل الإعلام الوطني، بالرغم من ان هذا الجانب قد بات واضح المعالم والمشاهد، ويكفي ان ننظر الى شاشات التلفاز وكيف ان الكثير من الدول في مختلف أرجاء العالم باتت تقبع في أحضان الإرهاب والتنظيمات الارهابية وينهش بناءها الوطني التعصب والتطرف، حتى دبت في أوصالها الفتن والقلاقل، وتفتت بناءها الوطني، وتقطعت بأبنائها سبل العيش والاستقرار.
اضف تعليق