عودة التاريخ -العالم بعد الحادي عشر من " سبتمبر2001 " وتجديد الغرب- عنوان كتاب صدرت طبعته العربية الأولى بتعاون بين مؤسسة العبيكان وهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، للسياسي الألماني المخضرم، ووزير الخارجية الألمانية السابق في عهد المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر في الفترة من 1998م - 2005م، والأستاذ حاليا في جامعة برنستون الاميركية يوشكا فيشر0
هذا الكتاب الذي تناول فيه مؤلفه السياسي الكبير يوشكا فيشر العديد من الأحداث والتطورات التاريخية الجيوسياسية الدولية الهائلة التي سبقت وتلت البداية الحقيقية للقرن الحادي والعشرين، - ونقصد بذلك -أحداث العام 2001م بالولايات المتحدة الاميركية من وجهة نظر صاحب الكتاب، وبالطبع فإن هذا الكتاب يحمل بين طياته الكثير من الفكر والتحليل والنقد والاستشراف المستقبلي الذي يستحق التقدير والتمعن والاحترام، بالرغم مما حواه في كثير من فصوله السبعة من مغالطات تاريخية وجب الوقوف عندها لمزيد من التمحيص والنقد والتحليل الدقيق- من وجهة نظرنا الشخصية بالطبع.
وتجاوزا لمئات الأوراق التي تستحق الوقوف عندها، فإننا سنقف تحديدا عند الفصل السادس منه، والذي عنونه المؤلف بـ" التحول الكبير، والشرقان الادني والأوسط "، وتحديدا عند النقطة التي تناول فيها الأستاذ يوشكا فيشر لب حزام الأزمات في الشرق الأوسط، - أي - الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين،(الصفحات 247- 259) من هذا الفصل تحديدا، بالرغم من انه وللأمانة قد طرح هذه القضية في أكثر من مكان في الكتاب.
-وللأسف الشديد-، فإن حال الأستاذ الكبير في رؤيته لهذا الصراع من منظور شامل، لم يتجاوز الرؤية السياسية والتاريخية الضيقة، وهو ما يقلص مساحة الصراع إقليميا، وينقص من قيمته الجيوسياسية الدولية، ويختصر سنوات طويلة من الكفاح والنضال السياسي والعسكري والثقافي الإقليمي مع إسرائيل في مساحة صغيرة لا تتجاوز المساحة الجغرافية الفلسطينية السليبة أصلا من قبل إسرائيل منذ الانتداب البريطاني، كما انه يؤكد افتقار الباحث المخضرم إلى الحيادية في تناوله العديد من القضايا المطروحة في كتابه، وخصوصا تلك التي تدور حول الصراع العربي مع إسرائيل، وهو حال الكثير منا حين يتناول بالنقد والتحليل بعض الأحداث، وخصوصا تلك التي لا تتماشى وما يؤمن به من أفكار وتوجهات، أو يخالف رؤيته الثقافية والفكرية في كثير من الأحيان، وهو ما يجعل الباحث منا يفتقر إلى أبسط أسس التحليل السياسي والنقد التاريخي للأحداث، ونقصد الحيادية0
وقد تأثر فكر السياسي المخضرم هنا -من وجهة نظري- عاطفيا بالعديد من النظريات والأساطير والميثولوجيا الصهيونية التي روج لها من قبل الصهيونية العالمية خلال فترات تاريخية متفاوتة، هذا بالإضافة الى قوة اللوبي الصهيوني في ألمانيا متمثلا في "رابطة الحاخامات الألمان"، والتي كان لها الكثير من الأدوار في التأثير ثقافيا وفكريا وسياسيا على العديد من السياسيين والمثقفين الأوروبيين ومن ضمنهم الألمان، نحو توجيههم نفسيا لتقبل مجمل الدعاوي والقضايا الإسرائيلية التاريخية والسياسية على أسس من الظلم والضعف.
كما أننا لا يجب ان ننسى ما أحيط بالتاريخ الألماني من دعاوي من قبل الصهيونية، وهو ما جعل معظم السياسيين الألمان في العصر الحديث يخضعون لتأثير تلك الفترة ولو بالتعاطف والميول النفسي، ويتجهون لتحمل بعض تبعاتها التاريخية والسياسية، وان كان ذلك بطريقة قلب الحقائق وتزييف التاريخ ونشر المغالطات والأباطيل.
وربما أكون واحدا من تلك الأقلام التي كانت ولازالت فاقدة لهذه القاعدة في البحث العلمي في بعض الأوقات، وخصوصا عند تناول مثل هذه الأطروحات والأفكار التاريخية تحديدا، والتي تخضعني في بعض الأحيان إلى الانجذاب للعاطفة الوطنية والقومية التي لا أتصور ان أجد باحثا دوليا يستطيع التملص منها ولو حاول بطريقة أو بأخرى، وهي تحديدا ما شد انتباهي لسبر أغوار تلك الفقرات في كتاب السياسي الألماني الكبير يوشكا فيشر، لذا فانني حاولت اللجوء الى أسلوب التوثيق التاريخي والسياسي بقدر الإمكان تجنبا لهذا الخلل الذي قد يحسب على أي باحث سياسي.
ففي بداية الأمر يقول ص 248 متحدثا عن الأحداث التي تلت قرار التقسيم وتأسيس دولة إسرائيل في 14/5/1948م بأنه وفي ذلك اليوم الذي انتهى فيه الانتداب البريطاني، وتحديدا بتاريخ 15/5/ 1948م (بدأت الجيوش العربية هجومها على إسرائيل لإزالة هذه الدولة القومية اليهودية الوليدة من الخارطة)، والحقيقة أن إسرائيل هي من انهمكت في إعداد خطط الحرب في اليوم الذي تلا قرار إقرار خطة الأمم المتحدة للتقسيم في 29/11/1947م، حيث صدرت أوامر لكافة اليهود الذين بلغت أعمارهم من 17 - 25 سنة بتسجيل أسمائهم للخدمة العسكرية.
ففي 5 نوفمبر - أمر الزعيم اليهودي ديفيد بن جوريون بالعمل العسكري الفوري لتوسيع المستوطنات اليهودية في ثلاث مناطق خصصت للدولة العربية في خطة الأمم المتحدة، كما أننا لا ننسى تاريخيا وفي هذا العام تحديدا، وهو العام الذي يسبق العام 1948م الذي تحدث عنه يوشكا فيشر كانت بداية العمل العسكري اليهودي ضد العرب في فلسطين، وذلك من خلال تفعيل خطة " جيمل " العسكرية، وتأسيس جيش الهاجانا اليهودي السري.
وفي في 19/12/1947م، أمر بن جوريون القوات اليهودية أن تضرب بروح أشد عدوانية، إذ قال: ينبغي في كل هجوم أن توجه ضربة حاسمة تؤدي الى تهديم المنازل وطرد السكان " وفي هذا السياق يقول عضو الكونجرس الاميركي السابق بول فندلي بأنه: عندما دخلت الجيوش العربية فلسطين في 15/5/1948م، كان اليهود قد قطعوا شوطا كبيرا في تنفيذ خططهم الحربية.
كما لم تخلو نظرة فيشر في هذا الجانب من نظرة التعصب الديني" الصليبي "، وتأثره بنظرية " صدام الحضارات " والتي اتضحت في بعض العبارات كقوله (كان هذا الصراع آنذاك جزءا من المرحلة الأخيرة من مراحل الاستعمار الأوربي - وقوله: استمر هذا الصراع وتحول منذ خمسينيات القرن العشرين الى جزء من المواجهة بين الشرق والغرب).
وبينما وصف في الصفحة 249 التصرفات الإسرائيلية تجاه العرب والفلسطينيين بالنضال الوجودي القومي والفردي، وليس فقط بالنضال السياسي، وهو ما دفعهم لتبني خيار القوة العسكرية والحربية، زج بتصرفات الطرف الآخر الإقليمي والفلسطيني في دائرة الإرهاب، والتهديد العسكري المستمر لوجود دولة إسرائيل، والجوار المعادي، وان كان ذلك بطريقة غير مباشرة ولكنها مفهومة، وذلك من خلال قوله: (وبدأ في سنوات ما يسمى بتوزيع أرباح السلام، بعد انتهاء الحرب الباردة أنه اقترب من اللحظة التاريخية للحل السلمي، ليصبح الآن جزءا من الحرب ضد الإرهاب).
وبالرغم من انه وفي الصفحات 251 - 252 وصف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي المستمر في المناطق المحتلة بالعقبة أمام عملية السلام، إلا انه -وللأسف الشديد- حمل الطرف العربي والفلسطيني المسؤولية الأكبر عن تعثر عملية السلام تلك، مدعيا نزاهة الطرف الإسرائيلي في مساعيه السلمية، مشيرا الى ان الجانب الإسرائيلي كان على استعداد دائم لمناقشة السلام مع جيرانه العرب بشكل عام والفلسطينيين تحديدا، وحول مجمل المسائل المتعلقة بذلك.
والحقيقة بأنه وعند أي تدقيق في سجل إسرائيل التاريخي يظهر جليا خطأ ما أكده السياسي الألماني الكبير يوشكا فيشر، فإسرائيل كانت ولا زالت وستظل دائما تفضل الأرض على السلام، وترفض تقديم أي تنازلات في هذا الجانب، وليس أدل على ذلك مما سجله بن جوريون نفسه في يومياته عن نظرته للسلام بقوله: إن الهدنة تكفينا، فإذا سعينا وراء السلام سيطالبنا العرب بثمن يشمل الحدود أو اللاجئين أو كليهما.
هذا بخلاف العديد من التصرفات الإسرائيلية السياسية والعسكرية منذ العام 1947م وحتى يومنا هذا، ولا ننسى الاعترافات الرسمية الإسرائيلية بهذا الخصوص، والتي تفضل الأرض والمماطلة كاستراتيجية بديلة للسلام حتى الساعة، هذا بخلاف الاعترافات الرسمية الأميركية التي تقر برفض إسرائيل لمبدأ الأرض مقابل السلام منذ تأسيسها، وعلى مستوى القيادات العليا، وذلك في فترة كل من الرؤساء ترومان وإيزنهاور ونيكسون وفورد وكارتر على سبيل المثال لا الحصر.
وليرجع إلى التاريخ كل من يشاء، وليسأل نفسه من يشاء حول الطرف الذي رفض كل خطط السلام التي طرحت منذ ذلك الحين، بداية من مهمة مبعوث الأمم المتحدة الدبلوماسي السويدي جونار يارينج، ومرورا مشروع روجرز في العام 1969م، وخطة كارتر للسلام في العام 1977م، وخطة الأمير فهد للسلام في العام 1981م، وليس انتهاء بخطة ريجن في 82، وفاس العربية في 82 وخطة منظمة التحرير الفلسطينية في 1988م، وخطة بوش في العام 1989م، وغيرها الكثير بالرغم من ان بعض تلك الخطط كانت تخدم المصالح الإسرائيلية أكثر من المصالح العربية.
كما انه من الغريب أن ينظر يوشكا فيشر إلى نضال شعب بأكمله ضد محتل غاصب لأرضه على انه إرهاب مسلح وعنف راديكالي، في وقت يتفهم فيه العديد من القادة العسكريين والسياسيين والكتاب والمثقفين الإسرائيليين ذلك التصرف فلا يسمونه بتلك التسمية، وعلى رأسهم ديفيد بن جوريون نفسه، ففي الكلمة التي ألقاها في العام 1938م أمام لجنة ماباي السياسية قال معلقا على ما يسمى اليوم " بالإرهاب " العربي بقوله: (0000 لسنا في مواجهة إرهاب، ولكننا أمام حرب، إنها حرب وطنية أعلنها علينا العرب، والإرهاب إحدى وسائل الحرب، إنها مقاومة ناشطة من جانب الفلسطينيين لما يعتبرونه اغتصابا لوطنهم من قبل اليهود، ولهذا يقاتلون) نقلا عن كتاب السلام الغامض - دراسة للمشكلة الصهيونية العربية، لجون 0هـ 0 دايفيس، ص 141 - 142.
وفي الصفحة 248 يقول معلقا على نتائج فشل الجيوش العربية في هجومها على إسرائيل، والذي هدف كما يشير لإزالة هذه الدولة القومية اليهودية الوليدة عن الخارطة ان تلك المحاولة الفاشلة أدت إلى (هجرة جماعية للشعب العربي الفلسطيني)، ويعني بذلك الهجرة الطوعية، أو الهروب الطوعي الناتج عن انتهاء الحرب.
والحقيقة أن ذلك من المغالطات التاريخية التي ألصقت كرها وزورا بتاريخ شعب عظيم كالشعب الفلسطيني، ولمن أراد أن يتعرف على حقيقة ذلك فليعود لبعض الدراسات الإسرائيلية المتعمقة والمنصفة لتلك الفترة الزمنية المغيبة، وننصح هنا على سبيل المثال لا الحصر بالكتب التالية: كتاب حرب 1948 العربية الإسرائيلية لادجار أوبالانس الصادر في لندن بالعام 1956م، وكتاب الضحايا الإبرار - الصورة الحقيقية في الصراع الإسرائيلي العربي لبني موريس، وكتاب السلام الغامض سالف الذكر.
وفي هذا السياق يقول أ.ف.ستون، وهو صحفي يهودي أميركي، حاز سنة 1948م على وسام تقدير من أيرجون، وهي منظمة صهيونية سرية متطرفة: إن الحجة القائلة بأن اللاجئين هربوا طوعا أو لأن قادتهم حثوهم على ذلك حتى ما بعد انتهاء القتال، ليست قائمة على خرافة فحسب، ولكنها واهية أيضا، كما يمكن الرجوع في هذا السياق الى شهادة جون 0هـ0 دافيس، الاميركي الذي كان مفوضا عاما للأنوروا لخمس سنوات، إلى السبب الذي من أجله هرب هذا العدد من الفلسطينيين العرب من بيوتهم 0 انظر كتاب السلام الغامض ص 121.
هذا بخلاف تسليمه بيهودية الدولة الإسرائيلية، بالرغم مما يترتب على ذلك من إجهاض لحقوق الفلسطينيين في إسرائيل، وان دولة إسرائيل هي وطن قومي لليهود، وإقراره بضرورة التفوق العسكري والاقتصادي الإسرائيلي، وضرورة ضمان وجودها ولو بوسائل القوة العسكرية، وذلك كضمان لنفسها ضد جوارها المعادي - بحسب وجهة نظره.
اضف تعليق