سبنسر ما زال يشكّل معادلة فكريّة صعبة تثير الإعجاب بقدر ما تثير الغضب في النّفوس. ولما لا إنه سبنسر الذي شكّل قمة فكريّة في القرن التاسع عشر، واستطاع أن يعبّر عن عصره فلسفيّا، وعن زمنه سوسيولوجيّا. ولكلّ فيلسوف مآثر وكبوات، سبنسر عبّر بفكره عن عصره، وجسد طموحات زمنه...
" لقد أصبح من التقاليد الراسخة الآن أنّ أيّ نقاش حول سبنسر، إذا لم يبدأ بنقد دوركهايم الشّهير، يجب أن يبدأ بسؤال تالكوت بارسونز الخطابي: من يقرأ الآن سبنسر؟"
1- مقدمة
يُعرف الفيلسوف وعالم الاجتماع الإنكليزي هربرت سبنسر (1820-1903 Herbert spencer) بأنّه أحد أبرز المفكّرين الإنكليز وأهمّهم في القرن التّاسع عشر. وقد أحدث صعوده إلى القمّة الفكريّة الفلسفية في العصر الفيكتوريّ ضجّة كبيرة بين المفكّرين، وأثار صخبا شديدا بين النقّاد والباحثين على مدى القرنين التّاسع عشر والعشرين، وما تزال أفكاره وتصوّراته التطوّرية في المجتمع والتاريخ تثير جدلا واسعا بين المفكرين، وقد انقسم المفكّرون وأهل الثّقافة في شأنه بين محبٍّ غالٍ وكاره قالٍ، أي: بين فئة تطرّفت في رفض نظريّاته رفضا تامّا، وأخرى اتّخذته منارة تهتدي بها في تشكيل نظريّاتها وبناء تصوّراتها الأيديولوجيّة.
وقد بدا سبنسر الندّ البريطاني العنيد لأقطاب الفكر الألمانيّ في مستوى التّأثير الفلسفّي العميق والحضور السّوسيولوجي الطّاغي لكلّ من كارل ماركس وهيغل وفيبر، مثلما بدا منافسا لامعا لروّاد السّوسيولوجيا الفرنسيّة المشاهير أمثال أوغست كونت ودوركهايم الذين تألّقوا في القرن التاسع عشر، وأشعّوا بقوة في القرن العشرين بوصفهم الوجه المشرق للفكر والفلسفة وعلم الاجتماع منذ ذلك التاريخ، وحتى يومنا هذا. وباختصار يُنظر إلى سبنسر على أنّه المشرّع الأوّل لتعاليم المدرسة الإنجليزيّة في علم الاجتماع المناظر لتطوّر علم الاجتماع في فرنسا وألمانيا.
ويسجّل النقّاد اليوم أنّ سوسيولوجيا سبنسر التي بلغت ذروة قوّتها وقمّة عظمتها في القرن التاسع عشر، قد خبت أنوارها، وتراجعت سطوتها، وخفتت أهمّيتها، وانحسر حضورها إلى حدّ التّلاشي في النّصف الأول من القرن العشرين. وقد ورد هذا التّراجع في الأهميّة والحضور على لسان تالكوت بارسونز الذي قال متسائلا: من يقرأ سبنسر اليوم؟ وكان من جوابه: لا أحد! وهذا يرمز، من وجهة نظر بارسونز، إلى أنّ نظريات سبنسر قد فقدت أهمّيتها العلميّة. وقد يبدو لنا في قول بارسونز هذا نوع من التجنّي والتّحامل الأيديولوجيّ العنيف ضدّ أفكار سبنسر وتصوّراته، ولو أخذنا قوله مأخذ الجدّ لحقّ لنا أن نتساءل اليوم: من يقرأ أرسطو أو أفلاطون أو ابن خلدون أو حتى شكسبير وفولتير وروسو؟! فأفكارهم وتصوّراتهم اليوم لم تعد ذات قيمة معرفيّة بمقياس العصر. فأرسطو لم يكن يعرف قانون دوران الأرض حول الشّمس، ولم تعد مثاليّة أفلاطون صالحة في هذا الزّمان، ومع ذلك ما زلنا نُقبل عليها كقيمة أدبيّة تاريخية خلاّقة.
ولو عدنا إلى الخوارزمي وإلى ابن خلدون والبيروني والفارابي لوجدناهم أقلّ علما بمعطيات الثّورات العلميّة الحديثة، غير أنّ هذا كلّه لا يبيح لنا تجاهل عظمة ما قدّموه للتاريخ، وما أبدعوه في مجال العلم والمعرفة الإنسانيّة. ونحن على يقين بأنّ كثيرا من أفكار نيوتن وغاليلو غاليلي وكوبرنيكوس وأينشتاين قد أصبحت قديمة بالنّظر إلى الاكتشافات الحديثة في مجال العلوم والفنون، حتى أينشتاين الذي عرفناه بالأمس القريب، يجهل اليوم كثيرا من الاكتشافات النقيضة في مجال فيزياء الكمّ. وهذا التقدّم الذي تجاوزهم لا يقلّل من شأنهم، بل يزيد في تألّقهم وفي تقدير عظيم ما قدّموه للحضارة الإنسانيّة.
وفي المقابل ألا يمكن لنا أن نطرح سؤلا معاكسا للسّؤال السّابق، وهو: لماذا ندرس سبنسر أو ميكافيللي أو سان سيمون وابن خلدون؟ يبدو لنا أنّ كلّ مفكّر من هؤلاء قد شكّل قوّة معرفية متراكمة عبر الزّمن أسّست لما نحن فيه اليوم من تقدّم علميّ ومعرفيّ. وكلّ منهم يشكّل حلقة أساسيّة من حلقات العلم والمعرفة، وأيّ تجاهل لعطاء الأقدمين سيشكّل نقصا عميقا في طبيعة العلم وطبيعة العارف المتعلّم. وتأسيسا على ذلك نقول: لا يمكن إسقاط مساهمة أيّ مفكّر، لا سيّما حين يكون هذا الإسقاط "برصاص أيديولوجي"، ولا رفض أفكاره بدعوى أنّ هذا الفكر أو ذاك لم يعد مناسبا للعصر، ولا يلبّي مصالح المؤسّسات الرأسمالية والحركات الاجتماعيّة التي تسود عالم اليوم. وقد يأتي يوم يفقد فيه تالكوت بارسونز، كما هو حال سبنسر، تألّقه العلميّ وحضوره الفكريّ، ويصبح من الماضي، ويأتي من يقول لنا، ومن جديد، إنّ بارسونز قد مات فكريّا وفلسفيّا لأنّ أفكاره قد لا تناسب عصرا بعينه.
وأيّا ما كان الأمر، فالثّابت أنّ سبنسر يشكّل ظاهرة فكريّة في تاريخ الفلسفة وعلم الاجتماع، وأنّ قيمة أفكاره تتخطّى الأبعاد الأيديولوجيّة التي تضع مشروعيّتها وصلاحيتها اليوم موضع سؤال. وهذا يعني بالنّسبة إلينا أنّ سنسر قامة فكريّة ومضت في التّاريخ الفكريّ الفلسفيّ والسوسيولوجيّ، ولا يمكننا أن نتخطّاه، أو أن نغضّ الطّرْف عمّا قدّمه للفكر الإنسانيّ إذا أردنا أن ندرك المنابع الحقيقيّة لعلم الاجتماع، وأن نفهم تطلّعاته ومساراته، وذلك لأنّ العلم يقوم على مساند هؤلاء العمالقة الذين أسّسوه، ورسّخوه بكلّ ما لديهم من قوّة وجهد لتشييد علم الاجتماع وتحريره تدريجيّا من سطوة الفلسفة وهيمنة علم النّفس ونفوذ التّاريخ الاجتماعيّ. ولا مراء في أنّ سنسر يشكّل أحد أقطاب هذا العلم وأحد كبار مؤسّسيه، ولطالما لُقّب بالأب الثاني لعلم الاجتماع بعدما لُقّب أوغست كونت بالأب الأوّل. وتأسيسا على ما تقدّم، يمكننا القول إنّ دراسة سبنسر والاطّلاع على مضامين فلسفته واستكشاف خفايا نظريّاته السّوسيولوجية يشكّل ضرورة فكريّة للباحثين والدّارسين في مجال الفكر الإنسانيّ بعامة وفي مجال علم الاجتماع على نحو خاصّ.
2- نشأة سبنسر وبيئته:
شهدت مدينة ديربي (Derby) الصّغيرة الوادعة ولادة الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر في 27 أبريل عام 1820، لأبوين من الطّبقة المتوسّطة، وكان والده وليام جورج سبنسر (William George spencer) يعمل مربّيا ومعلّما في حقل التّربية والتّعليم، وكان سبنسر الابن الأكبر بين تسعة أطفال توفّي ثمانيتُهم قبل بلوغهم سنّ الرّشد، وقد قدّر له أن يكون الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من بينهم. ويرجّح بعض النّقاد أن بقاءه على قيد الحياة من بين تسعة أخوة كان في أصل نزوعه إلى الاعتقاد بفكرة "البقاء للأصلح" (Survival of the Fittest) في نظريّته التّطوريّة المشهورة. وتفيد المصادر التّاريخيّة أنّ سبنسر كان ضعيف البنية عليل الصحّة في طفولته.
شجّعه والداه على اعتناق الاتّجاه الميثودي Methodist، وهي حركة إصلاح دينيّة، كما شجّعاه على تبنّي مذهب الكويكرز (Quakers)[1]، وكان للمذهبين تأثيرُهما الكبير في تشكيل الروح النّقديّة لديه، وتغذية نزعاته الشّكوكيّة في مجال السّياسة والتّشريعات القانونيّة الذي تجلّى في رفضه تدخّل الدّولة في الشّئون العامّة.
وقد شجّعه عمّه على الانتساب إلى جمعية ديربي الفلسفية (Derby Philosophical Society,) التي ضمّت نخبة متميّزة من "فلاسفة الطبيعة" الهواة، وهي الجمعيّة التي أسّسها إيراسموس داروين عام 1783 (Erasmus Darwin) على غرار جمعية برمنغهام القمرية (Birmingham Lunar Society). وقد تأثّر سبنسر بالتوجّهات النقدية الرّاديكالية لهذه المؤسّسات الفكريّة، وأتاحت له أن يتواصل مع المفكّر البريطاني الشّهير جوزيف بريستلي (Joseph Priestley) الذي كان له عظيم الأثر في تكوينه الفلسفيّ، وفي بلورة كثير من آرائه وعقائده.
وفي عام 1851 انضمّ إلى جماعة جون تشابمان، التي كانت ترعى الفكر الحرّ والإصلاح، وتروّج خاصّة لفكرة التطوّر والارتقاء. وطلب تشابمان من سبنسر أن يبحث نظريّة توماس مالتوس، ويعرضها في العدد الأوّل من مجلةٍ أشرف على إصدارها، ورأى سبنسر في نظريّة مالتوس قانوناً عاماً يصلح للبشر كما للحيوانات، حيث تعمل الحروب والكوارث والأوبئة على تصحيح الزّيادة السّكانيّة[2].
وبفضل تحصيله الإبداعيّ في الهندسة والميكانيكا استطاع أن يعمل مهندسا في مجال السّكك الحديديّة ببرمنجهام بلندن. وحصل أخيرًا على وظيفة في لندن عام 1848 كمدقّق فرعي لمجلة الإيكونيميست Economist، ومن ثم عمل محرّرا اقتصاديّا في المجلّة نفسها، وقرّر في النّهاية أن يعمل في مجال الكتابة الحرّة، فأسهم بعدد كبير من المقالات التي نشرها في مجلة وستنستر (West Minister review). وقد شكّلت نشاطاته الفكريّة في هذه المجلة النّوازع الأولى لنموّ نظرياته وأفكاره الفلسفية.
ومن المفارقات الكبرى في شخصيّة سبنسر أنّه لم يتلقّ تعليميا أكاديميّا قط، ولم يقف يوما على عتبات الجامعات أو المدارس المعروفة في زمنه، وجلّ ما حصل عليه، هو تعليم ذاتيّ يعتمد على الاهتمام والملاحظة والاستبصار. والغريب في هذا الأمر أنّه لم يكن على وفاق مع القراءة، وقلّما نظر في كتب غيره، وكان يعتقد بأنّه يستطيع أن يصل إلى المعرفة بطريقة حدسيّة فطريّة عفويّة أو "شيطانيّة" دون الاستناد إلى المحاجّات الفلسفيّة والانطلاق من المرجعيّات الفكرية في عصره. وقد أكّد هو بنفسه أنّه لم يكن يقرأ إلاّ الكتب التي تؤيّد ما يذهب إليه، وتعزّز رؤيته في ميادين العلم والمعرفة. ويلاحظ النقّاد أنّ سبنسر لم يكن مُهتماً بقراءة الكتب الفلسفيّة والسّيكولوجيّة في شبابه "مُفضلاً الحصول على البيانات والمعلومات الضرورية من المحادثات مع الأصدقاء والكتابات الشّعبية ولم يكن هناك أيّ كتاب لتوماس هوبز (Thomas Hobbes) [3]، أو جون لوك (John Locke)[4]، أو ديفيد هيوم ((David Hume))[5] أو عمانويل كانط ((Imanual Kant))[6] في مكتبته[7]. ويرى كثير من الدّارسين أنّ هذا الجانب السّلبيّ في موقفه من المطالعة والقراءة كان كارثيّا، إذ قلّل كثيرا من مشروعيّته الفكريّة وأهمّيّته العلميّة، ولاسيّما في النّصف الثاني من القرن العشرين.
ومن الطرائف في سيرة هربرت سبنسر الذاتيّة، أنّ والده أرسله في سنّ الثّالثة عشرة إلى عمّه توماس سبنسر- راعي أبرشية هنتون جارترهاوس - ليتعلّم اللّغة اللاّتينية، ولكنّ هربرت هرب من منزل عمّه، وعاد إلى منزل والده في دربي مشياً على الإقدام لمدّة ثلاثة أيام[8]. ومع ذلك أعاده والده من جديد إلى أحضان عمّه ليبقى في رعايته مدّة ثلاث سنوات متواصلة. وقد تركت هذه السّنوات الثلاث التي قضاها هربرت في بيت عمّه تأثيرا كبيرا في تشكيله فكريّا وروحيّا وعلميّا، وقد تأثّر بأفكار عمّه توماس ونظريّاته، وكان عمّه، كما أشرنا، كاهنا، ومحاضرا، وكاتبا، وناشراً، وناشطا في المجال السياسيّ، وداعيا إلى إصلاح الكنيسة. وقد ساعده عمّه توماس في التعرّف إلى الوسط الفكريّ، وقدّمه إلى كثير من العلماء والمفكّرين والكتّاب في مدينته. وكان لعمّه هذا توماس أكبر الأثر في توجيهه ليصبح كاتباً ومفكرا من الدّرجة الأولى في بريطانيا كلّها[9].
استطاع سبنسر، رغم كلّ الصّعوبات التي واجهها في تعليمه، وفي مسار صعوده إلى دائرة الضّوء، أن يحظى بتقدير النقّاد الذين كانوا كثيرا ما يبدون الإعجاب بمسيرته الاستثنائيّة بوصفه فيلسوفا موهوباً بفطرته، متميّزا بنباهته، وقد تفرّد بقدرته على أن يتصدّر السّاحة الفكريّة في بريطانيا ردحا من الدهر مع أنّه لم يحظ بتعليم أكاديميّ أسوة بفلاسفة عصره المميّزين مثل تشارلز داروين (Charles Robert Darwin ) [10] أو توماس هنري هكسلي (Thomas Henry Huxley ) "[11] أو جون ستيورات مل (John Stuart Mill)[12] الذي يقال بأنّه تعلّم "اللغةَ الإغريقيةَ وهو في عُمْرِ الثالثةِ، وكتب التاريخَ الرومانيَّ وهو في السّادسة من عمره[13].
يصف رودلف متس وضعيّة التعلّم الذاتيّ عند سبنسر وصفا بديعا، ويحلّل آثارها بطريقة إيجابيّة فذّة، فيقول: "كان سبنسر رجلا علَّم نفسه بنفسه بأدقّ معاني هذه الكلمة، ولما لم يكن له أستاذ، فإنّه لم يكن في حاجة إلى أن يقدّس تعاليم أيّ أستاذ، ولمّا لم يكن هناك، من بين المفكّرين البارزين، من كان أقلّ منه احتفالا بأفكار الفلاسفة السّابقين عليه والمعاصرين، فبلغ به الاستغراق في أفكاره الخاصة حدّا جعله منعزلا، في ترفّع عن البيئة الفلسفيّة التي كان يعيش فيها، وممّا ساعد على هذا الانعزال ذلك التقطّع الذي كان يتسم به تعليمه، وعلى الأخص ضآلة معرفته باللغات الأجنبية، وهو نقص لم يحاول تلافيه قطّ"[14].
واللاّفت أنّ متس لا يتردّد في تقريظ هذه العزلة الثّقافيّة، إذ يتابع قوله: "ولقد ظل حتى النهاية [يقصد سبنسر] رجلا ثقف نفسه بنفسه، غير محمل بأثقال التاريخ السابق عليه، مفتقرا إلى الثقافة ذات الطابع الأعمق، ومنحصرا في نطاق مشاكله وأفكاره الخاصة. ولم يكن يعرف عن فلسفة اليونان والألمان أكثر مما استطاع أن يلتقطه من الأصدقاء ومن الكتب المدرسية الهزيلة الشائعة في ذلك الحين"[15]. ثم يُبدي متس تعجبّه من قدرة سبنسر على التألّق الفلسفيّ رغم هذا النّقص الكبير في تأهيله العلميّ، فيقول: "وإنه لغريب جدا أن ذلك الرجل الذي عدّه الكثيرون أهم مفكر فلسفي في القرن التاسع عشر، لم يكد يتأثر على الإطلاق بإيمانويل كانت أعظم مفكري العصر الحديث. وقد روَي عنه أن محاولته الوحيدة لاستجلاء غوامض نقد العقل الخالص، قد توقفت ولم يقرأ إلا الصفحات القلائل الأولى من الكتاب"[16].
ويختتم متس وصفه لهذه الوضعيّة بالقول: "ومن جهة أخرى فقد كان لديه [يقصد سبنسر] إحساس مرهف، يتلاءم مع عصره، ونظرا إلى أنه أدمج في مذهبهً أفكاراً كثيرة كانت هي الأفكار الرائدة في عصره، وإن لم تزل عندئذ مخيمة في الجو -إن جاز هذا التعبير- فقد أصبح المتحدث الرسمي باسم الفلسفة في عصره؛ ولهذا ً السبب فإن مذهب هذا الفيلسوف الذي كان أكثر تحررا من القيود التاريخية من كل من عداه، قد اندمج في السياق التاريخي للفلسفة على نحو أكمل من أي مذهب فلسفي آخر، وذلك بفضل ما قد يبدو لأول وهلة خدعة من التاريخ"[17].
وقد حظي سبنسر بعلاقة عاطفيّة وثقافيّة مميزة مع ماريان إيفانز [جورج إليوت]، ولكنّ هذه العلاقة لم تنته بالزّواج، وبقي عازبا لم يتزوّج طيلة حياته. وقد عُرف عن سبنسر بأنّه شخصية فرديّة انعزاليّة، وقد رفض كلّ أشكال المديح والتّكريم والعروض المغرية التي قدمت له وظيفيّا وعلميّا. وعُرف عنه تأييدُه المطلق للنّزعة اللّيبرالية، ورفضه لتدخّل الدّولة في الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
3- سبنسر: المؤثّرات والخلفيّات الفكريّة:
يقال دائما إنّ الفيلسوف لا يكون إلا نتاجاً للعصر الذي يعيش فيه، وإنّ الفلسفة هي أعمق أشكال التّعبير عن تطوّر العصر الذي توجد فيه. فالمفكّر والعالم والفيلسوف يتأثّران بمعطيات عصرهما، ويعبّران عنها على نحو من الأنحاء. ومن مقتضيات المنهج العلميّ الرّصين أن نلمّ بالبيئة السّياسيّة والثّقافيّة التي نشأ سبنسر في كنفها، وأن نستطلع التوجّهات الفلسفيّة والفكريّة العامّة للعصر الذي عاش فيه كي ندرك السّياق التاريخيّ الحاضن لنشأته العلميّة والفكريّة. فالعصر الذي يعيش فيه الكاتب يؤثّر بأجوائه الفكريّة في عقل الفيلسوف، ويرسم مسارات توجّهاته الفكريّة. ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ المنظومة الفكريّة لسبنسر كانت تعبيرا مطابقا إلى حدّ بعيد لروح العصر الفيكتوريّ بتقلّباته وتطوّراته المختلفة. قضى هربرت سبنسر معظم حياته (شبابه وشيخوخته) في خضم العصر الفيكتوري (The Victorian era:1837-1901) وأحداثه الجسام في بريطانيا، وهو العصر الذي بدأ بصعود الملكة فيكتوريا إلى العرش البريطانيّ في عام 1837 واستمرارها في الحكم لمدّة 63عاما، أي في عام 1901. وقد تطوّرت الإمبراطوريّة خلال تربّعها على العرش لتصبح أوّل قوّة صناعيّة عالميّة، حيث أنتجت جزءًا كبيرًا من المنسوجات والحديد والصّلب والفحم في العالم. كما تمّ إحراز تقدّم كبير في الفنون والعلوم. ودخلت بريطانيا أيضًا مجال الهندسة المتطوّرة. وتمثّل هذه المرحلة التّاريخية حقبة مميّزة في أوروبا التي انطلقت من عصر النّهضة والتّنوير إلى عصر الحداثة الذي عُرف بتقدّم منجزات الثّورة الصّناعيّة في بريطانيا، ومن ثَمّ في مختلف أنحاء أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة.
كان سبنسر في السّابعة عشرة من عمره عندما بدأ العهد الفيكتوريّ، وقد سمّيت هذه الحقبة بعصر الحداثة اللّيبراليّة، وامتازت بـــــ "تغلب العقل على الإيمان، والفلسفة على اللاّهوت، والعالم المتعلّم شيئاً فشيئاً على الكنيسة المسيحية التي كانت قد وقفت موقفاً رجعياً من أفكار الحداثة والتقدم واضطهدت واحتقرت من قبل العقلية الصاعدة بقوة لا تقاوم" [18]. وهذا يعني أنّ النشاط الفكريّ لسبنسر قد انطلق في منتصف القرن التّاسع عشر عندما كانت الرأسماليّة الغربية في أوج ازدهارها. وشهدت بريطانيا في هذه المرحلة أعلى درجات التفوّق الصناعيّ والتطوّر الاقتصاديّ. وكانت العاصمة البريطانيّة لندن الموطن الرمزيّ للازدهار الحضاريّ والتقدّم في مجال الحياة السّياسيّة اللّيبراليّة. فالثّورة الصّناعية التي ميّزت القرن التاسع عشر برمّته كانت تتويجا حضاريّا للاقتصاد والفكر والسّياسة، وقد شهدت بريطانيا للمرّة الأولى عبور أول سفينة بخارية الى المحيط الأطلنطي في عام 1819، وعلى الإثر شهدت البلاد افتتاح شبكات السّكك الحديديّة، وانتشر استخدام التّلغراف في القارّة الأوروبيّة طولا وعرضا في الأربعينات، وامتازت العقود الختاميةّ للقرن التّاسع عشر ببناء المدن الكبرى[19].
أمّا على المستويين الاقتصاديّ والاجتماعيّ، فقد كانت الطّبقات المتوسّطة البريطانية، رغم الصّراعات الطبقيّة الحادّة، فخورةً تماماً بالتقدّم المُحرَز، وتتطلّع بثقةٍ الى المستقبل. كان لهذا المزاج تأثيرُه أيضا على فلسفة سبنسر الاجتماعيّة "[20]. ومن المؤكّد أنّ سبنسر تأثر بالتوجّهات الفكريّة الكبرى لعصره وبالقيم اللّيبرالية الكلاسيكيّة لزمنه.
3-1- تأثير الأسرة:
في المستوى الشّخصي كان لوالد سبنسر – المربّي والمعلّم العلمانيّ المبدع في مجاليْ الهندسة والرياضيات- الأثر في تشكيل شخصيّة سبنسر الفكريّة والعلميّة. وتجدر الإشارة في هذا السّياق أنّ والد سبنسر كان منشقاً عن الكنيسة ورافضاً لآرائها. وكان يدير مدرسة ويمارس مهنته التّعليمية وفق أساليب التّعليم التقدّمي التي ابتدعها المربّي السويسري الكبير جوهان هينريك بستالوتزي، وقد عرف بنشاطه الفكريّ والنّقابيّ في الجمعية الفلسفيّة التي أسست في عام 1790 من قبل ايراسموس داروين وهو جدّ المفكر الإنكليزي الكبير تشارلس داروين (Charles Robert Darwin) [21]. وقد مارس الأب ويليام سبنسر دورا كبيرا في إيقاظ عقل ابنه هربرت على الوعي العلمّي مرسّخا في وعيه إيمانَه المطلق بمبدإ السّببية العلمية كمنهج علميّ في مجال إدراك الظّواهر الطّبيعية وتفسيرها بأسبابها الموضوعيّة، واستطاع أيضا أن ينمّي فيه شعورا متناميا برفض السّلطة والاستبداد والعنف، وغرس فيه نزعته النقديّة الصّارمة[22].
وقد كان لعمّه توماس سبنسر (Thomas Spencer: 1796-1833)[23] تأثير عظيم في شخصية سبنسر وفي تعليمه وفي إيقاظ عقله على حب المعرفة والسّعي في دروبها. وهو رجل دين معروف واسع الثقافة، وقد رسّخ في ذهن ابن أخيه آراءه فيما يتعلق بالتّجارة الحرّة ورفض السّلطة المركزيّة[24].
وجد سبنسر التّشجيع المستمرّ من أبيه وعمّه ليكرّس جهده للثّقافة والتّحصيل العلميّ في مجال الرّياضيات والعلوم، وقد شُغف بعلميْ الجيولوجيا والأحياء. وانشدّ أيّما انشداد إلى بالميكانيكا والهندسات، فنشأ نشأة علميّة دفعته إلى دراسة دورة الحياة المتعلّقة بالنّبات والحيوانات والحشرات. وقد رفض المنحة التي وفّرها له عمّه القسيس توماس سبنسر (Thomas Spencer) للدّراسة في جامعة كامبردج معتقدا إمكانيّة التّحصيل الفرديّ القائم على الاستبصار والحدس والملاحظة في الطّبيعة.
3-2- تأثير الوسط الثقافيّ والعلميّ:
تأثر سبنسر بالأجواء الثّقافيّة والتّيّارات العلميّة والاتّجاهات العلمانيّة التي كانت سائدة في عصره، وأثار إعجابه كثير من علماء الأحياء والهندسات والتاريخ الطّبيعيّ ووظائف الأعضاء، وفي مقدّمتهم عالم الأحياء جان أنطوان دو لامارك (1744-1829) [25]. وقد لقيت نظريّته الشّهيرة " وراثة الصّفات المكتسبة " التي أودعها كتابَه المشهور: "فلسفة علم الحيوان" تأثيرا كبيرا في عقل سبنسر وفي توجّهاته الفكريّة التي عمّمها على مختلف ميادين التّطوّر الإنسانيّ والفيزيائيّ واتّجاهاته. وقد آمن سبنسر برأي لامارك القائل بأنّ التغيّر في البيئة يؤدّي إلى تعديل في التّركيب الجينيّ والوراثيّ اللاّحق للكائنات الحيّة[26]. وسنرى أنّ سبنسر سيعتمد هذه النّظريّة في تفسيره لمظاهر التطوّر البيولوجيّ والاجتماعيّ لاحقا.
وإلى جانب لامارك يعدّ دارون من أكثر المفكّرين تأثيرا في عقل سبنسر. وقد هام بنظريّته إعجابا. ويرى معظم النقّاد أنّ سبنسر استخدم مفهوم "البقاء للأصلح" قبل دارون بعقد من الزّمن. وذلك في مقالة له بعنوان "التقدّم: قانونه وعلته " في عام.1857 وقد تضمّن هذا المقال عرضا مشوّقا لمفهوم التّطوّر عند سبنسر. ورسم فيه مخطّطا عاماً لنظام كونيّ يستند إلى قانون التطوّر بحيثيّاته القائمة على مفهوم الاصطفاء والبقاء للأفضل. ومن اللاّفت أنّ داروين Darwin نفسه قد أشار إلى هذا المقال واستشهد به في كتابه «أصل الأنواع» المنشور في عام 1858، معترفا بأنّ سبنسر كان سبّاقا إلى استخدام هذا المفهوم في نظريته التطورية[27]، ومع ذلك لم يخْفِ سبنسر أبدا إعجابه بنظريّة دارون في التطوّر والاصطفاء، واعتمد نظريّته كلّيا في تفسير تطوّر العالم بجوانبه الفيزيائيّة والحيويّة. وقد وجد فيه تأييداً لنظريّته التي كانت في طور التّكوين. ورأى فيه شيئا من المساندة التّجريبيّة التي كان يبحث عنها لنظريّته الانتقائيّة.
كان سبنسر معجباً بداروين، ولفرط إعجابه به، حنث من أجله بيمينه بعدم دخول أيّ كنيسة، حيث حضر القدّاس على روحه في كنيسة وستمنستر![28]. وعندما ظهر كتاب (أصل الأنواع) لداروين عام 1858، رحّب سبنسر به بحرارة. "وبدوره، قدّر داروين نظريّة سبنسر عن التطوّر تقديراً عالياً، واعترف بتأثيرها عليه، حتّى أنّه اعتبر سبنسر أهمّ فكرياً منه. ورغم اعتراف سبنسر بتأثّره بدارون، فإنّ تطوّره يكشف عن أنّه كان لاماركيّا أكثر منه داروينياً"[29].
ويرى كثير من المفكّرين أنّ سبنسر قد استلهم وضعيّة كونت ونظريّته السوسيولوجية، ولطالما تشابه الرّجلان في التّأكيد على القوانين الوضعيّة التي تحكم المجتمع، وفي رفضهما لكلّ التأويلات الميتافيزيائيّة والدينيّة التي وظّفت في تفسير الظّواهر الاجتماعيّة. ويُستدلّ على تأثّر سبنسر بكونت بمدى توظيفه لمفهوم علم الاجتماع (sociology) -الذي يعدّ أحد المفاهيم المبتكرة لأوغست كونت- دون تردّد ودون أيّ اعتراض أو مناقشة، ويكفي النّظر في توظيفه تسمية "علم الاجتماع" في عناوين كتبه السوسيولوجية، للوقوف على تأثّر سبنسر بوضعية كونت وأفكاره الاجتماعيّة، وقد تجلّى تأثّره هذا في كتابه "مبادئ علم الاجتماع" الذي تضمّن كثيرا من تصوّرات كونت وأفكاره السّوسيولوجيّة، وبدا واضحا اعتمادُه المنهجيّة الأساسيّة لكونت في هذا العمل.
لا شكّ أنّ سبنسر قد قدّر عاليا جهود كونت عندما تعرّف على أعماله ونظريّاته، واعترف بأهمية النّتائج التي حقّقها في دراسته للعلاقة بين علوم الحياة وعلوم المُجتمع. وقد عبّر عن إعجابه بكونت قائلا: "إن منهج كونت في إدراك الظواهر الاجتماعية" هو أفضل منهج من بين كل المناهج السّابقة، وأن من أهم إنجازاته الاعتراف باعتمادية السوسيولوجيا على علم الأحياء"[30]. ويلاحظ الباحثون المختصّون أنّ سبنسر كان أكثر تركيزا على النّزعة البيولوجيّة في تفسير الظّواهر الاجتماعية مقارنةً بكونت، وهو ما دعاه إلى القول إنّه قد شكّل نظريّته السّوسيولوجيّة بصورة مستقلّة عن كونت، مؤكّدا وجود بعض الاختلافات الأساسيّة في الطّريقة والمنهج[31].
لم يقتصر تأثّر سبنسر على الفلاسفة والمفكّرين، بل تعدّاه إلى التأثّر بكثير من نظريّات علماء الاقتصاد الإنكليز الذين بزغوا في القرن الثامن عشر، ولاسيّما أعمال مالتوس وآدم سميث التي أثّرت أيضا في دارون. ويبدو أنّ كلاّ من سبنسر ودارون استوحيا فكرة البقاء للأصلح من أعمال مالتوس ونظريّاته، ومع ذلك فإنّهما أضفيا على نظرية مالتوس السّكانيّة طابعا تقدّميا وإيجابيّا كان غائبا في نظرية مالتوس[32].
وتجدر الإشارة في هذا الصّدد إلى تأثّر سبنسر الواسع بالنظريّة النفعيّة (Utiltarianism Theory) لجيرمي بينتام (Jeremy Bentham)[33]، وهي النظريّة التي استلهمها سبنسر في أعماله وكتاباته، ولا سيّما الشّعار الليبراليّ الشّهير: (دعه يعمل، دعه يمرّ) (laissez-faire, laissez-passer). ويتجلّى تأثير النّظريّة النّفعيّة في فكر سبنسر في كتابه الأوّل "الستاتيك الاجتماعي" (Social Statics) الصّادر عام،1851 إذ تضمّن تأكيدا على مبدإ (الحرّية المتساوية)، والذي يمكن للإنسان بموجبه أن يُطالب بالحرّية الكاملة لمُمارسة حقّ التملّك وحرّية التصرّف بالملكيّة، وحرّية المنافسة وقانون البقاء للأصلح، ووجد في هذه القوانين كلّ ما هو ضروريّ لتحقيق التّقدّم والتطوّر في المجتمع. ومن المفارقات أنّ سبنسر لم يقف عند هذا الحدّ، وإنّما كان قد اعترض بقوّة على القوانين التي وُضعت لمساعدة الفقراء، ورفض أيّ تدخل من قبل الدّولة في الشّؤون العامّة. وعلى هذه الصّورة بدا موقفه الأيديولوجي مُعادياً للفقراء وللطّبقات العاملة، والمسوّغ عنده أنّ قوانين مساعدة الضّعفاء يتناقض مع نظريّة البقاء للأصلح. ويعزّز فكرة بقاء الضّعفاء الذين يعتبرهم عبئا ثقيلا على المجتمع والإنسانية[34].
ومن المهمّ جدّا في هذا السّياق الإشارة إلى التّأثير الفكري لـ جون تشابمان (John Chapman ) الذي دعا سبنسر إلى المشاركة في صالونه الثّقافيّ، ومكّنه من التّواصل الفكريّ والثقافيّ مع النّخبة العالية من المفكّرين والعلماء الحداثيّين في العاصمة، ولا سيّما جون ستيوارت ميل John Stuart Mill، وهارييت مارتينو Harriet Martineau، وجورج هنري لويس George Henry Lewes، وماري آن إيفانز (جورج إليوت) Mary Ann Evans (George Eliot)، الذين كان لهم تأثير في كبير في إنضاج التوجّهات الفكريّة عند سبنسر من خلال التّفاعل الثقافيّ الخصيب، إذ تعرّف سبنسر من خلالهم على أهمّ التوجّهات الفكريّة والسّياسية في عصره.
4- أعمال سبنسر وإنتاجه العلميّ:
خاض سبنسر في ميادين معرفيّة متعدّدة، وعُرف بإنتاجه الفكريّ الضّخم في مختلف مجالات العلوم الإنسانيّة وتميّزت أعماله بطابع موسوعيّ شمل علوم الحياة وعلم النّفس والفلسفة والأحياء والتطور وعلم الاجتماع. ويمكننا أن نستعرض أهمّ أعماله الفكريّة التي قدّمها خلال مسيرته العلمية، وهي في جملتها تقدّم تصوّرا واضحا عن اهتماماته الاجتماعيّة والفلسفيّة. وتمكّننا من التعرّف على الخريطة الفكريّة لإبداعاته العلميّة في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع.
ظهرت في عام 1850 باكورة أعمال سبنسر، إذ قام بنشر كتابه الأول بعنوان "التوازن الاجتماعي"[35] أو "الاستاتيكا الاجتماعية[36] " (Social Statics)[37] وفي عام 1955، نشر كتابه الثاني "أُسس علم النفس" (The Principles of Psychology)[38]. وقد ضمّنه أهمّ الأفكار السّيكولوجية التطوريّة التي نادى بها في تفسير السّلوك الإنسانيّ، وفي عام 1861 نشر كتابه التربويّ الثالث الموسوم بـ "التربية: الفكرية والأخلاقيّة والفيزيائيّة" (Education: Intellectual, Moral and Physical)، وفي عام 1862 نشر كتابه الفلسفيّ المشهور "المبادئ الأولى" (First Principles)[39] الذي ينطوي على تصوّراته الفلسفيّة حول الحقيقة والوجود والحياة والعدم، وهو الكتاب الذي تناول فيه الجوانب الميتافيزيائيّة العليا للوجود والقضايا الكونيّة العليا، وحاول من خلاله التّوفيق بين العلم والدّين - وفقا لأطروحة إيمانويل كانط حول " النوميني" (Neumenon) [40] أي الحقائق التي لا يمكن إدراكها (Unknowable). وهي الظواهر الميتافيزيائيّة الكونيّة العليا التي لا قِبَل للعقل الإنسانيّ بإدراكها أو معالجتها. وقد قرّر سبنسر في هذا الكتاب أنّ الحقائق الكونية العليا لا يمكن معرفتها، وجلّ ما يمكننا الإحاطة به هو المظاهر الخارجيّة، أي الأشياء كما تبدو لنا، لا كما هي في جوهرها. وهذا يعني أنّنا نشعر بوجود الحقائق المطلقة، ولكنّنا لا نستطيع أن ندرك جوهر وجودها.[41] واستطاع سبنسر، عبر هذا الكتاب، أن يبلور رؤية فلسفيّة للتطوّر جمع فيها بين النّماذج الدّاروينيّة واللاّماركية.
في عامي1864 و1872، أصدر سبنسر على التّوالي كتابيْه: "أُسس علم الأحياء " (The Principles of Biology) [42] و"دراسة علم الاجتماع" (The Study of Sociology)[43]، ونشر عام 1873 كتابه "علم الاجتماع الوصفيّ" (Descriptive Sociology) الذي نُشر في 17 مجلداً. وألحقه بكتابه "أُسس علم الاجتماع " (The Principles of Sociology)[44] الذي صدر في ثلاث مجلدات في عام 1877، وفي عام 1884 صدر كتابه " الرجل ضد الدّولة" (The Man Versus the State)[45] الذي تضمّن رؤية فلسفيّة متطرّفة في ليبراليّتها، وفي عام 1892 نشر كتابه "أُسس علم الأخلاق"(The Principles of Ethics)[46]، وألحقه بكتابه "عدم كفاية الاصطفاء الطبيعي" (The Inadequacy of ‘Natural Selection)[47] في عام 1893، وكان آخر كتبه "السيرة الذاتية"(An Autobiography) [48] الذي نُشر بعد وفاته بعام واحد، أي سنة 1904.
قرّر سبنسر أن يودع أعماله الأساسيّة في كتاب موسوعيّ وسمه بـ «الفلسفة التركيبية» (Synthetic Philosophy) [49]، كمحاولة لإقامة نظريّة فلسفيّة شاملة تشرح علوم عصره في ضوء قانون التطوّر، وهو عمل ضخم يبلغ حجمه عشرة مجلدات، وقد بدأ هذا المشروع في عام 1860، صدر الكتاب الأول منه تحت عنوان "المبادئ الأولى (First Principles) " في عام 1862 كبداية فلسفيّة تمهيديّة لمشروعه الفلسفيّ (الفلسفة التركيبية) "، وانتهى هذا المشروع بإصدار المجلد النهائيّ لكتابه "أسس علم الاجتماع" عام 1896. واشتمل هذا العمل الضّخم على عشرة مُجلدات تتكوّن من خمسة عناوين منفصلة، وجعل منه موسوعة شاملة، وقد جاء كتاب "المبادئ الأولى" في مجلّد واحد، و"مبادئ علم الحياة " في مجلّدين، و"مبادئ علم النفس" في مجلّدين، و"مبادئ علم الاجتماع" في ثلاثة مجلدات، و"مبادئ علم الأخلاق" في مجلّدين. وقد قضى في إنتاج هذا المشروع أكثر من ستّة ثلاثين عاما بذلها في صوغ رؤيته الفلسفيّة التي يؤكّد فيها أنّ الوظيفة الأساسيّة للفلسفة تكمن في العمل على توحيد نتائج العلوم في سياق فلسفيّ يجمع بين العلوم المختلفة، وينسّق بين نتائجها، وينطلق سبنسر في هذه الرّؤية من اقتناع يؤكّد ضرورة إيجاد الإطار الفلسفيّ الذي يمكنه إيجاد النّظام الفكريّ في هذا الشّتات العلميّ المتضارب بين الفنون والعلوم المختلفة، والعمل على توحيد مساراتها ضمن رؤية فلسفيّة كونيّة واحدة، مؤكّدا بذلك على المقولة القديمة التي ترى بأنّ الفلسفة هي أمّ العلوم وفن الفنون[50]. وبعد ستّة وثلاثين عاما، أي بعد جهد لا يكلّ ولا يملّ جاء هذا السّفر الفلسفيّ الضّخم ليعبّر عن الرّوح الفلسفيّة الشّاملة لسبنسر الذي يمثّل، كما يقول رودولف متس في وصفه، "جهداً لا يكاد يكون له مثيل في تاريخ الفلسفة في شموله، واتساق خطته، وضخامة العقبات التي كان يتعيّن عليه مواجهتها"[51].
وجدير بالملاحظة أنّ الكتب المخصّصة لعلم الاجتماع قد حظيت بحصّة الأسد في أعمال سبنسر، إذ أصدر أربعة من أعماله في علم الاجتماع، وهي: " التوازن الاجتماعي " المعروف بـ "الستاتيكا الاجتماعية"، و"دراسة علم الاجتماع"، و"علم الاجتماع الوصفي"، و"أسس علم الاجتماع" (ثلاث مجلدات). ويمكن القول أيضا إنّ كتبه التربويّة والأخلاقيّة تنتمي في جوهرها إلى علم الاجتماع. وهذا يعني أنّ سبنسر كان قد استحقّ بجدارة أن يحظى بتصنيفه الأب الثّاني لعلم الاجتماع.
5- التّطوّر الحيويّ/ قانون الوجود:
يشكلّ مفهوم التطوّر المدخل الاستراتيجيّ في أيّ محاولة لفهم نظريّات سبنسر في كلّ ميادين نشاطه العلميّ. ينسحب هذا على العلوم الإنسانية مثلما ينسحب على العلوم الطبيعيّة الإحيائيّة. وينطلق سبنسر من قانون التطوّر الحيويّ ليبني صرح فلسفته الشّمولية. فالحياة قائمة على التطوّر الحيويّ، وكلّ مظاهر الوجود تستند إلى هذا القانون. ذلك أنّ الكون في مختلف ظواهره وتجلياته عبارة عن تكتّلات فائقة من المادّة والحركة المتلازمتين أبدا ضمن سيرورة من الجدل المستمرّ بينهما، إذ لا توجد حركة إلاّ في مادّة، ولا توجد مادّة من دون حركة.
ومن صميم الجدل بين المادّة والحركة ينشأ الكون، وتولد الظواهر، وتنشأ الأشياء سواء أكان الأمر في المادة الجامدة أم الحيّة، أم في المادّة الفائقة التي تتمثّل في ظواهر العقل والمجتمع. فالكون مادّة تلازمها الحركة ويؤدّي التّفاعل بينهما إلى ولادة المادّة الحيّة التي تنشأ من هذا التّفاعل الكونيّ بين المادّة والحركة، ومن ثَمّ يحدث التّطوّر من المادّة الحيّة إلى التّكوينات العضويّة الحيّة. وفي ظلّ هذه الدّورة المستمرّة من التّفاعل، ينشأ المجتمع بوصفه صورة حيّة فائقة للحياة. وضمن جدل العلاقة بين الحركة والمادة تحدث تفاعلات الوجود والتطوّر والفناء. فقانون التطوّر قد يقود إلى النّشوء والارتقاء، وقد يؤدّي في النّهاية إلى الخمول والسّقوط والتّلاشي. فالتطوّر يأخذ صورة حركة من اللاّمتعين اللاّمحدود إلى المتعيّن المحدود، ومن الغبار المادّي إلى التّشكيلات الحيويّة العضويّة والاجتماعيّة، وقد يؤدّي التّناقض والخمول إلى الحال الأولى: حال التّلاشي والتذرّر والخمول، أي إلى حالة الموات والعدم المادّي. فالإنسان يحيا، وينمو، ويتلاشى، ويموت. وتلك هي حال الظّواهر المادّية والعضويّة والاجتماعية. إنها حركة من اللاّمتعين اللاّمحدود إلى المتعيّن المختلف. ومن المتعيّن المختلف إلى اللاّمتعيّن من جديد. إنّها حركة جدل بين الموت والحياة. ويعرف سبنسر التطوّر بقولهِ: "التطوّر هو نموّ تكامليّ في المادّة يصاحبه تشتّت ملازم للحركة الذي بموجبه تنتقل المادّة من حالة التّجانس غير المتماسك وغير المتعيّن نسبياً إلى حالة التّنافر المحدّد أو المتماسك نسبياً، وتخضع الحركة الباقية أثناءهُ لتحوّلٍ مماثل من حالة التّجانس غير المحدود إلى حالة التباين المحدود"[52].
ويصف رودولف متس قانون التّطوّر عند سبنسر وصفا دقيقا، إذ يقول بأنّ التطوّر عند سبنسر: "يكون تكاملا للمادّة مصحوبًا بتنوّع وانتشار للحركة من جهة، وامتصاصاً أو استهلاكا للحركة مصحوبًا بتحلّل للمادة من جهة أخرى. ولمّا كان المجموع الكلي للمادّة والحركة ثابتًا، فإنّ كلّ هذا التغيّر، وكلّ تغيّر على الإطلاق، لا يمكن أن يكون سوى تجميع وتقسيم، وإعادة تجميع وإعادة تقسيم، وهذا الأمر يحدث وفق قوانين آليّة بحتة. وعلى ذلك فإنّ الكون عند سبنسر، سواء بوصفه كلاّ، أو من حيث هو أجزاء، إنما هو آلةٌ هائلة يتحكّم قانون العلِّية في كلّ عمليّاتها، وتسري قوانين المادّة والقوّة والحركة على كلّ الظّواهر، أي إنّها تسري على الحياة الاجتماعيّة والعقليّة للإنسان، مثلما تسري على العالم غير العضويّ، ولم تكن مهمّة سبنسر في «فلسفته التركيبية» سوى إثباتٍ لهذه القانونيّة العامّة للتطور[53].
واستند مخطّط سبنسر للمعرفة في العقيدة التطوّريّة إلى الاعتقاد بأنّ قانون التطوّر هو المفهوم الرئيسيّ لفهم العالم ككلّ ومكان البشر فيه. وينطلق هذا القانون من افتراض يرى بأنّ الأشكال المختلفة للطّبيعة جميعها - سواء كانت الجبال أو المحيطات أو الأشجار أو العشب أو الأسماك أو الزواحف أو الطّيور أو البشر - هي أشكال وتحوّلات للمادّة الأساسيّة نفسها المشكّلة لهذا العالم. وهذا يشمل أجساد البشر بوصفها نوعا من التشكّل المادّي الذي يتكّون بشكل أساسيّ من الماء والدّم واللّحم والعظام، وهذه العناصر جوهريّة الوجود في الطّبيعة التي شكلتها ونمّتها وغذّتها. وعندما يموت الإنسان تعود عناصره المشكّلة له إلى الطّبيعة من جديدـ شأنه شأنَ جميع مظاهر الوجود من جبال وأشجار وأحجار وفضاء وسديم. وهي محكومة بأنماط قانونيّة محدّدة من التطوّر والتّحوّل والتّغيّر والتّكاثف والنّماء والزوال والانطفاء. فإذا نظرنا الى تطوّر نظامنا الشّمسيّ نرى أنّه كان ذات يوم "سديماً منتشراً وأصبحت مادته الآن أكثر تكاملاً فكل كوكب يمر خلال المراحل المتتابعة للدائرة السديمية، والكرة الغازية والكرة السائلة، وكرة صلبة من الخارج – وهي مراحل تصبح فيها المادة أكثر تجمعاً، وتظل الشمس تفقد الحرارة من حيث إنها حرارة مشبعة، وتصبح كتلة أكثر صلابة"[54].
ويُلاحظ في هذا السّياق أنّ سبنسر استخدم مفهوم التطوّر العضوّي لأوّل مرّة في مقالته الشّهيرة "فرضية التطوّر" (The Developmental Hypothesis)، التي نُشرت في The Leader في عام 1852، في سلسلة من المقالات والكتابات، ومن ثَمّ صقل تدريجياً مفهومه عن التطوّر العضويّ وغير العضويّ. وقام بتعميم المصطلح على مختلف مجالات الوجود في كتابه: "التقدم: قانونه وسببه" (Progress: Its Law and Cause )، الذي صدر في عام 1857، وفي هذا الكتاب قام سبنسر بتعميم فكرة التطوّر الارتقائيّ الاصطفائيّ ليشمل مختلف مظاهر الحياة الاجتماعيّة في ضوء القانون العام للتطوّر المتمثّل في عمليّة الانتقال من البسيط إلى المعقّد، ومن اللاّمتعين إلى المتعيّن، ومن اللاّمحدود إلى المحدود التكامليّ المعقّد. وذلك على النّحو الذي تظهر فيه فاعليّة هذا القانون الأساسيّ في تطوّر المجتمع البشريّ مثلما تظهر في التحوّل الجيولوجيّ للأرض وفي أصل الأنواع النباتيّة والحيوانيّة وتطوّرها.
وباختصار، فإنّ الطّبيعية، كما يراها سبنسر، هي توليف شامل بين المادّة والحركة. وهذا التّوليف المتجدّد يُظهر لنا بوضوح أنّ جميع أشكال الوجود تتجلّى بوصفها نتاجا طبيعيّا لتوزيع المادّة والحركة، وهذا يعني أنّ الوجود لا يكون إلاّ إيقاعا للحركة في عالم المادة، "فالمدّ والجزر، وتعاقب الفصول، وظهور الأجناس، والشّعوب وفناؤها، واهتزاز أوتار الكمان وضربات القلب ودورة الدّم ودورة الرياح، ودورة الكواكب والنّجوم، هذه كلها ماهي إلا بضعة أمثلة من نبضات الكون التي لانهاية لها"[55].
هذا هو القانون الأساسيّ الحيويّ للوجود عند سبنسر، وفي ضوئه أراد أن يفسّر كلّ مظاهر التطوّر والحركة في الوجودين: المادّي الجامد، والاجتماعيّ المعنويّ النابض بالحياة. وفي ضوء هذا القانون وضع سبنسر موسوعته الضّخمة تحت عنوان «الفلسفة التركيبية»، التي أراد فيها ومن خلالها أن يبني فلسفة كلّيّة شاملة يشرح فيها ظواهر عصره الاجتماعيّة والسّياسيّة والحيويّة.
ويتّضح أنّ سبنسر كان يريد لفلسفته أن تأخذ طابعا شموليّا يؤمن بكونيّة القانون الطّبيعيّ للتطوّر، ومفاده أنّ قوانين الطّبيعة تشمل الكون بتشكيلاته العضويّة والمادّية (غير العضويّ). وتمتدّ لتشمل التّكوينات العقليّة والذّهنيّة ومختلف المظاهر الاجتماعيّة والسّيكولوجيّة الوجوديّة على نحو شامل. وقد عمل في مسار هذا التوجّه على وضع مؤلّفاته جميعها ليثبت وجود قوانين طبيعيّة تشمل الكون بما فيه من علوم ومادّة وفكر ومجتمع. ويمكن القول باختصار إنّ سبنسر قد آمن بوحدة المعرفة العلميّة بناء على قانونيّة التطوّر والحركة، وأراد اختزال القوانين الطبيعيّة جميعها بقانون التطوّر.
ينطلق سبنسر في عملية بناء قانون التطوّر في الوجود من منصّة بعض الحقائق العلميّة الفيزيائيّة، وأهمّها قانون حفظ الطّاقة وبقائها، وقانونيّة عدم تلاشي المادّة وعدم فنائها، واستمراريّة الحركة، وثبات العلاقات بين القوى (حرمة القانون الطبيعيّ) وإمكانية التّحويل والمساواة بين القوى، واتّزان نظم الحركة في الوجود. وفي ضوء هذه القوانين الطّبيعية للوجود يلاحظ سبنسر أنّ الطّبيعة تتميّز بطابع التّوازن والانتظام، "بدءا من خفقان الحرارة الى اهتزاز أوتار الكمان، ومن تموجات الضوء والحرارة والصوت الى حركة المد والجزر في البحار، ومن تعاقب الجنس الى دوران الكواكب والمذنبات والنجوم، ومن تعاقب الليل والنهار الى تعاقب الفصول، وربما الى اتزان التغييرات المناخية، ومن تذبذب الذرة، الى نشأة وسقوط الشّعوب والأمم ومولد وفناء النجوم"[56].
وبناء على هذا التصوّر صاغ سبنسر قانونيّة النموّ والنّشوء والارتقاء الذي ينتهي بدوره إلى التّلاشي والسّقوط والانهيار والاختفاء والانحلال، وبيّن بوضوح لا لَبس فيه: "أن التاريخ الكلي لجميع الأشياء هو ظهورها من بدء مجهول غير مدرك، واختفاؤها في مجهول غير مدرك. وهكذا يقدّم لنا سبنسر قانونه المشهور عن التطوّر الذي شرحه في عشرة مجلّدات استغرقت أربعين عاماً" ً[57].
يقول سبنسر: " إنّ التطور تجمّعٌ لأجزاء المادة يلازمه تشتيت أو تبديد للحركة، تنتقل المادة خلاله من حالة التجانس المنقطع غير المحدود الى حالة التباين المتلاصق المحدود."[58]. وهذا يعني "أن تجمع المادة يتّضح في تكوين الكواكب من السّديم، وتشكيل البحار والمحيطات والجبال على الأرض، وتطوّر القلب في الجنين واتحاد العظام بعد الولادة، وتحويل الإحساسات والذكريات الى معرفة وفكر، ومن معرفة وفكر الى علم وفلسفة"[59]. ومن ثَمّ يوضح هذا القانون تطوّر الظّواهر الاجتماعية، فالعائلات والأسر تحوّلت بالتّراكم والتزايد والتّفاعل الى قبائل وعشائر، ومنها إلى مدن ودول واتّحادات إقليمية وأحلاف.
وتطرّق سبنسر إلى صلاحيّة هذا القانون في الجيولوجيا التي تعطينا تصوّرا تطوريا عن كيفيّة تكامل الأرض، وقد كشف قوانين هذا العلم "أنه في زمن ما بردت كتلة متوهجة بالتدريج، وأصبح ثلاثة أخماس سطحها الذي يغطيه بخار متكثف ماء، وأصبحت قشرة الأرض صلبة وسميكة وأصبحت الآن صلبة حتى إن سطحها لا يتأثر بالزلازل إلا بصورة ضئيلة"[60]. وهذا الأمر ينسحب على قانونية التّطور في علم الحياة والبيولوجيا، وقد بيّن لنا علم الأجنّة عمليّة التطوّر التي حدثت في جسم الإنسان "فالقلب مثلاً كان في البداية وعاء كبيرا ينبض بالدم، ثم انقسم انقساماً داخلياً وأصبح أربع حجرات، وتجمّعت الخلايا الصفراوية، التي كانت توجد في وقت ما في جدار الأمعاء، ثم افترقت عن الأمعاء وتجمدت في عضو ويستمر التكامل بعد الميلاد، فتصلب الهيكل العظمي وأصبحت أجزاء الجمجمة أكثر اتحاداً وصلابة، ولا تصبح أجزاء العمود الفقري مرتبطة تماماً بالمراكز الفقارية إلا في سن الثلاثين سنة. ويحدث اتحاد لحركات البنية الجسدية وتتخذ وضعها"[61].
وإذا كان سبنسر يسرد لنا هذه التجلّيات المادّيّة القائمة على مبدأ التّجمع والتّوازن والحركة من التّجانس إلى الاختلاف، فإنّه يريد أن يضرب لنا الأمثلة على مظاهر تجمّع الأجزاء المنفصلة والأشياء المفكّكة في كتل وتكوينات وجماعاتٍ. وقد بيّن لنا أن حركة التّجمّع غالبا ما يلازمها التقلّص والتّحديد في حركة الأجزاء، وذلك تماما بالطّريقة التي يحدّ فيها تطور الدولة والأنظمة الحكوميّة من حريّة الأفراد. ويضيف سبنسر بأن "تجمع الأجزاء هذا يقدم للأجزاء اعتمادا متبادلا، ونسيجا من العلاقات الوقائية التي تشكل التصاقا ينمي التضامن والاتحاد المشترك من أجل البقاء. كما أن عملية التجمع هذه تحدث تحديداً أكبر في شكل الأجزاء وعملها. فالسديم لا شكل له، ومع ذلك فقد تكون منه نظام الكواكب الاهليلجي البيضاوي وخطوط سلاسل الجبال الحادة الى آخر ما هنالك"[62].
وبيّن سبنسر لنا طبيعة الانسجام والتّنافر، وتحوّل الواحد منهما إلى الآخر بالحركة. بقوله: "فقد كان السديم الأول مركبا من مادة متجانسة يشبه بعضها بعضا، ولكنها سرعان ما تنوعت الى غازات وسوائل وأجسام صلبة، فأصبحت الأرض خضراء تكسوها الأعشاب، أو بيضاء كما في قمم الجبال أو زرقاء في تجمع البحار، انظر الى الجبلة الأولى (البروتوبلازما) المتجانسة نسبيا وما سينشأ عنها من مختلف أعضاء الغذاء والتناسل والإفراز والإدراك. واللغة الواحدة البسيطة التي تملأ قارات بأسرها باللهجات الكثيرة المتزايدة"[63]. وانظر أيضا إلى العلم الواحد الذي تتفرّع عنه علوم كثيرة. وانظر أيضا كيف تنمو الأساطير الشعبيّة لشعب من الشّعوب وتزدهر الى ألوف الأنواع من الفنّ الأدبيّ[64].
تلك بعض الأمثلة المجسّدة لدورة التّطوّر، الخاضعة لقانون عام واحد، خلاصته أنّ "كل شيء يمر من الانتشار إلى الى التجمع والوحدة، ومن بساطة التجانس الى تعقيد التباين، وكلّ شيء يعود من التّجمّع الى الانتشار، ومن التّعقيد الى البساطة، فهو يسير في تيّار الانحلال[65]. وهذا يعني أنّ الأشياء المتجانسة أو المتشابهة لا يمكنها أن تبقى متجانسة، لأنّها خاضعة إلى قوى خارجيّة، إذ سرعان ما تتعرّض الأجزاء الخارجيّة في المتجانس الى الهجوم، كما تتعرّض المدن الساحليّة الى الهجوم في أيّام الحرب[66]. وهذه هي الحياة في نظر سبنسر: "تجمّع وتفرّق، تآلف وتنافر، تأتلف الأجزاء وتتجمّع في وحدة لاتزال تطرد في النموّ، حتى يدركها تنافر الأجزاء ثم يشتدّ هذا التنافر، ويشتدّ حتّى تتلاشى وتنحلّ"[67].
فنظامنا الشّمسيّ هو الآن في توازن متحرّك، " إذ أنّ الكواكب تتحرّك بانتظام في مجراها، وتنكمش الشمس وتبعث كمية منتظمة من الحرارة، وستستمرّ هذه الحالة عصوراً طويلة " ([68]). ولكنّ هذا التّوازن لن يستمرّ إلى الأبد، لأنّ كل حركة تعاني من المقاومة التي تدفع بها إلى التلاشي والانحلال عاجلا أو آجلا. فحرارة الشمس تقلّ تدريجيّا ويتلاشى ضوؤها كلّما تقادم عليها الزّمان وما يجر ي في الأفلاك العليا قد يحدث في طبيعتنا البشريّة إذ تبطئ الدّماء في عروقنا ويصيبها البرود، ويتحوّل التّوازن بسرعة الى انحلال، وهو خاتمة التطوّر التّعس. فتنحلّ المجتمعات وتتفرّق الشّعوب، وتتلاشي المدن، وتتحوّل الى بقاع مظلمة لحياة الفلاحة والزّراعة، وتعجز الحكومات عن جمع هذه الأجزاء المبعثرة من الشّعب، وينسى النّاس النّظام الاجتماعيّ، كما أنّ الوحدة في الفرد أيضا ستتحوّل الى تمزّق وتفسّخ، وينتهي ذلك التّناسق وهو الحياة إلى تفشي الفساد وهو الموت، وستتحوّل الأرض الى مسرح للفوضى والدّمار والفساد وتنتهي الى السّديم والغبار الذي أتت منه. وبذلك تصبح دورة التطوّر والانحلال دورة تامّة، ولكن ستبدأ هذه الدورة من جديد مرّة ثانية، وثالثة إلى ما لا نهاية له من هذه الدّورات التي تبدأ بالتّطوّر وتنتهي بالانحلال[69]. وعلى هذه الصّورة يكون لكلّ مولد جديد فاتحة إلى الفناء والموت[70]. وتلك هي الحياة كما يقول الفيلسوف الإغريقي هيرقليطيس "نار تستعر وتتلاشى أبدا من جديد. وعلى هذه الصورة القائمة على التّواتر بين دورتيْ الموت والحياة يقدّم لنا سبنسر كتاب (المبادئ الأولى) في هيئة مأساة مروّعة، تروى لنا قصّة العالم في صعود وهبوط، وتطوّر وانحلال الكواكب والحياة والإنسان[71].
ولا غرابة إذن كما يقول ول ديورانت: "أن يثور الرجال والنساء الذين يعيشون على الإيمان والأمل على هذا الكتاب الذي أوجز لهم باختصار قصة الوجود. إننا نعرف بأن مصيرنا الموت، وأن الموت مكتوب على الجميع، ولكننا نترك التفكير في الموت لشأنه، ونفضل أن نفكر في الحياة "[72]. وفي هذا التصوّر "نجد أن سبنسر يقترب من تشاؤمية شوبنهاور المعتقد بعبثية الحياة وعدمية الجهود الإنسانية، فقد ارتأى في أواخر أيامه بأن الحياة تافهة حقيرة، لا تستحقّ الحياة فيها، فأصابه بذلك ما أصاب الفلاسفة من مرض النظر البعيد، حيث مرت جميع مسرات الحياة وألوانها وأشكالها الممتعة من تحت أنفه من غير أن يراها أو أن يستمتع بجمالها وأن يرشف من سحرها[73].
6- سوسيولوجيا سبنسر
ترتبط ولادة السّوسيولوجيا في بريطانيا، عند معظم العاملين في الحقل السّوسيولوجي، باسم المفكّر هربرت سبنسر الذي يمثّل وجه بريطانيا المضيء في مجال التّأسيس المبكّر لعلم الاجتماع، وغالبا ما ينظر إليه بوصفه نبيّ علم الاجتماع في العصر الفيكتوريّ البريطانيّ. لم يول سبنسر اهتماما كبيرا لمفهوم علم الاجتماع، ولم يقدّم له تعريفا على غرار علماء الاجتماع في زمنه، بل اقتصر تركيزه على تمكين هذا العلم، وتأكيد استقلاليّته بوصفه علما، وانطلق في هذا الاتّجاه ليثبت أنّ المجتمع يخضع لقوانين السّببية كما هو الحال في الطبيعة، وأنّ علم الاجتماع يستطيع، بمناهجه العلميّة، أن يقوم بدراسة السّببية الاجتماعيّة واستكشاف العلاقات الموضوعيّة القائمة بين الظّواهر الاجتماعيّة بدقّة وإحكام علميّ.
أودع سبنسر أفكاره السّوسيولوجية في أربعة كتب أساسيّة في علم الاجتماع مباشرة هي: التّوازن الاجتماعيّ، وأسس علم الاجتماع، وعلم الاجتماع الوصفيّ، ودراسة علم الاجتماع. وبدأ باكورة أعماله بكتابه المشهور: "التوازن الاجتماعي"[74] في عام 1850، أو ما بـ " الاستاتيكيا الاجتماعية[75] " (Social Statics)[76]، ويتضمّن هذا الكتاب - الذي دفع بسبنسر إلى ساحة الضّوء والشّهرة - منظومته الفكرية في مجال السّياسة والمجتمع، وبيّن فيه أنّ التقدّم والتطوّر -سواء في مجال الكائنات العضويّة أو المجتمع – يحدث بفعل عوامل القوّة والحركة وأضح أنّ تطوّر الكائنات يتمّ من التّجانس إلى اللاّتجانس، ومن المادّة الجامدة إلى المادّة العضوية الحيّة، ومنها إلى التكّوينات الفائقة، كما ضمّنه نسقا من الأفكار الثوريّة والإصلاحيّة التي تدعو إلى الحرّيات اللّيبرالية. واشتمل الكتاب على نظريّته اللّيبراليّة، وخلاصتها أنّ "لكل إنسان الحرية في عمل كل ما يريد، بشرط ألا يعتدي على مثل هذه الحرية عند الآخرين" كما أقرّ مختلف الحرّيات اللّيبراليّة ولا سيّما حرّيات الرّأي والتّملّك والاحتجاج والتّصويت والانتخاب. ومضى في هذا الأمر إلى حدود متطرّفة مؤكّدا حقّ المواطن في الامتناع عن دفع الضّرائب، إذا تخلّى عن مزايا حماية الدّولة له. وطالب في هذا الكتاب بتقليص وظيفة الدّولة واقتصارها على مهمّة وحيدة تتمثّل في حماية أمن المواطنين في الدّاخل والدفاع عن الوطن في الخارج، وطالب بإلغاء التّعليم الرسميّ وقوانين الفقراء والرّقابة الصّحيّة، لأنّ هذه كلّها تقتضي التّدخّل في حرّيّة الأفراد.
ولقي هذا الكتاب نجاحاً كبيراً، خصوصاً في الأوساط الرّاديكاليّة اللّيبراليّة ولاسيّما عند روّاد مدرسة مانشستر ذات التوجّهات اللّيبراليّة. وفي عام 1872 نشر كتابه: "دراسة علم الاجتماع"، ثم تبعه بكتابه: "علم الاجتماع الوصفي" عام 1873. وأخيرا كتابه الضخم "أُسس علم الاجتماع " الذي صدر في ثلاث مجلدات في عام 1877.
يمكن القول إنّ سبنسر واجه صعوبة كبيرة في التّمييز بين علم الاجتماع وعلم التّاريخ، وحاول الفصل بينهما ليؤكّد استقلاليّة علم الاجتماع ووحدته وأصالته العلميّة. وقد تناول في دراساته الاجتماعيّة الظّواهر الاجتماعيّة في أحوال نموّها ووظائفها وأنظمتها، ودرس في كتابه "مبادئ علم الاجتماع" قضايا العلاقات الجنسيّة في المجتمعات البدائيّة، وأشكال تطوّر الأسرة، وأنظمة العلاقة بين الجنسين، كما تناول الطّقوس الدّينيّة والعادات الاجتماعيّة والمؤسّسات السّياسيّة وأشكال الملكيّة وأنواع المُجتمعات والأنماط السّياسيّة السّائدة والمِهَن العامّة وعلاقات الإنتاج والتّوزيع والتّبادل. وقد اعتمد المنهجَ الوصفيّ الاثنوجرافيَّ في تحليل كمّيات ضخمة من البيانات الاجتماعيّة التي جمعها واستخلصها من معطيات الحياة الاجتماعيّة القائمة في عصره وفي أزمنة مختلفة، وتميّزت دراساته بطابع شموليّ، إذ شملت الانثروبولوجيا والأثنوجرافيا والنظريّة العامّة للتطوّر التاريخيّ[77].
ويمثّل مؤلَّفُه الضّخم “أسس علم الاجتماع” الذي نشر عام 1877 في ثلاث مجلدات، أبرزَ أعماله السّوسيولوجية، وفيه ركّز على أهمّية الطّابع المنهجيّ في تحليل مختلف الظّواهر والقضايا السوسيولوجيّة في عصره. واستطاع سبنسر في كتابه هذا أن يحدّد بدقّة متناهية الموضوعات أو الميادين الخاصّة التي كان يرى أنّه يتحتّم على علم الاجتماع أن يهتمّ بها. ويتضمّن هذا الكتاب قولا لسبنسر مفاده أنه: "يتعين على علم الاجتماع أن يصف كيفية ظهور الأجيال المتتابعة من الوحدات المدروسة، ونموها وإعدادها للتعاون. ولذلك يأتي موضوع تطور الأسرة في المقام الأول… ثم يتعين على علم الاجتماع بعد ذلك أن يصف ويفسر نشأة وتطور التنظيم السياسي، الذي ينظم شئون المجتمع التي تنسق بين أفعال الأفراد الذين يعيشون في المجتمع... والتي تفرض عليهم ضوابط معينة في بعض معاملاتهم مع بعضهم البعض... كما يتعين عليه بالمثل أن يصف تطور الأبنية الكنسية ووظائفها… ونسق الضوابط الذي ينظم الأفعال الصغيرة.. كما يجب أن يدرس المراحل التي مر بها القطاع الصناعي في المجتمع... وكذلك نمو الأبنية التنظيميّة التي استطاع ذلك القطاع الصناعيّ أن يطوّرها في داخله"[78].
وسعيا إلى تحقيق قدر من الوضوح لموضوعات علم الاجتماع، يمكننا أن نقول إنّ سبنسر قد أخضع الموضوعات التي طرحها إلى ضرب من التّرتيب يبدأ: بــــــ الأسرة، ثم السّياسة، فالدّين، فالضّبط الاجتماعي، ومن ثمَّ الصّناعة فالعمل. وتبيّن الدّراسات النّقديّة أنّ المجالات التي عرضها سبنسر في كتابه “أسس علم الاجتماع” ما زالت تحظى بطابع الاستقرار حتّى يومنا هذا. وقد أكّد سبنسر على أنّ موضوع علم الاجتماع يشمل مختلف علاقات التّفاعل بين مختلف الظّواهر الاجتماعية من جهة، ومختلف عناصر المجتمع وتكويناته المؤسّساتيّة من جهة أخرى. وأوجب على هذا العلم أن يتناول علاقة الـتّأثير القائمة بين الكلّ والأجزاء، وفيما بين الأجزاء وبين التّكوينات الكلّيّة الشّمولية القائمة في المجتمع، ليشمل ذلك مختلف أنماط السّلوك والتّفاعلات الاجتماعيّة، كالدّين والسّياسية والشّعائر الدّينيّة والتّربية ومؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة والأنماط الاقتصاديّة والحركة التجاريّة في المجتمع.
واستطاع سبنسر في كتابه المذكور أن يخطّ نهجًا بنيويّا وظيفيًا تطوّريّا يؤكّد فيه أنّ تطوّر المجتمعات البشريّة هو عبارة عن نتاج طبيعيّ للحركة الاجتماعيّة التي يعتمدها المجتمع للمحافظة على وجوده. وتتجلّى هذه الصّيغة البنيويّة الوظيفيّة في ثلاثة جوانب متكاملة، يتمثّل الأوّل في الاحتياجات الوظيفيّة للإنتاج والتّكاثر السّكانيّ، ويأخذ الثاني صورة التّنظيم السياسيّ والاجتماعيّ للمحافظة على النّظام وترسيخ السّلطة في المجتمع، ويتمثّل الجانب الثّالث في عملية إقامة البناء التحتيّ والتّأسيس للنّظام الاقتصاديّ القائم على التّبادل وحركة الموارد والدّورة التّجارية الاقتصاديّة وتبادل المعلومات.
انطلق سبنسر في تشييده لعلم الاجتماع من مسلّمتين أساسيّتين: أولاهما النّظر إلى المجتمع في مختلف تجلّياته بوصفه كيانا حيويّا، وأنّ المجتمع هو كائن حيّ يخضع لقوانين الحياة التي نراها في الطبيعة، وثانيهما أنّ المجتمع يمور بالحركة ويأخذ مسارات تطوريّة مستمرّة. وهذا يعني أنّ المجتمع كيان حيويّ قائم على مبدأ الحركة والتطوّر المستمرّ.
ينعقد إجماع كثير من النقّاد على وجود نوع من التّشابه الكبير بين أوجست كونت وهربرت سبنسر فيما يتعلّق بالأسس التي يجب على علم الاجتماع اعتمادها كي يكون علما حقيقيّا، وكلاهما ينطلق من أسس فلسفيّة واضحة ومشتركة في مجال التّأسيس لعلم الاجتماع، ويعتقد "بوجود قوانين عامة وضرورية تحكم كلا من العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي معاً. وأن معرفة هذه القوانين تمكننا من التنبؤ بأنماط السلوك الإنساني والفعاليات الاجتماعية الحقيقية والمؤثرة"[79].
شرع سبنسر منذ البداية، استنادا إلى ما تقدّم، في التّعريف بالمجتمع على أنّه كائن حيّ حيويّ حقيقيّ وأنّه ليس مجرّد نتاج حسابيّ لمجموع أفراده ومؤسّساته، وهو لا يعني أبدا مجموعةً من الأفراد بل هو أكثر من ذلك بكثير، إنه نتاج فعل تخاصب حيويّ ووظيفيّ بين أفراده فيما بينهم، وبين الأفراد في علاقتهم بالطّبيعة والحياة والوجود. وهذا يعني أنّ المجتمع كيان حيويّ نشط بامتياز يمور بالحياة التفاعليّة بين أفراده وشروط وجودهم. وكثيرا ما يُؤخذ على سبنسر تشبيهُه للمجتمع بالكائن العضويّ. وبعبارة أخرى يمكن القول في هذا السّياق: إنّ المجتمع أكبر من مجموع الكائنات البشرية المكوّنة له، وذلك على المبدأ نفسه الذي لا يكون فيه الكائن الحيّ تشكيلا حسابيّا لمجموع الأجزاء المكوّنة له. فالمجتمع، كما أسلفنا، يعتمد على ديناميات "الترابط البنائي والتساند الوظيفي والاعتماد المتبادل بين الأجزاء المكونة له وهي تجعل منه كائناً متفردا حيا مفارقا لقيمته الحسابية. فتجميع العناصر البيولوجية لكائن حي لا تجعله حياً. وهذا هو حال المجتمع الذي لا يمكن أن يكون جمعا أو تجميعا أو تركيبا جامدا من مجموع مؤسساته، فمجموع الأفراد يشكل تجمعا ولا يمكنه أن يؤدي إلى تشكيل جماعة أو مجتمع ينبض بالحياة. "إن ما يميز الإنسان والمجتمع ويجعل من كل منهما أكثر من مجرد تجمع لعناصر أو أجزاء مختلفة ومتمايزة هو هذه الطريقة التي تتجمع وتتركب بها، وتؤدي وظائفها، أو تعمل معاً كنظام ونسق كلي وشامل"[80].
والجدير بالملاحظة أنّ سبنسر كان قد أكّد مرارا وتكرارا بأنّه مقارنته للمجتمع بالكائن المتعضّي لا تعدو أن تكون محاولة منهجيّة لفهم المجتمع واكتناه ظواهره معرفيّا، وقد أعلن في كثير من ملاحظاته أنّ المجتمع أكثر تعقيداً وديناميكيةً من الظّواهر العضويّة، وقد تناول هذه القضيّة في أحد فصول كتابه: (مبادئ علم الاجتماع) بعنوان (المُجتمع هو عضوية) (Society is an Organism)، وبيّن فيه أنّ المقارنة ليست نوعا من المطابقة بين المجتمع والكائن العضويّ مؤكّدا على وجود اختلافات جوهريّة بين الكيانين[81]. فالمجتمع كما يراه سبنسر لا يعدو أن يكون تجلّيا من تجلّيات النّظام الطبيعيّ للكون، وهو يشكّل موضوعا لعلم الاجتماع الذي يقوم على دراسة المجتمع في مختلف تمظهراته، ويبحث في عمق الظّواهر الاجتماعية بحثا عن القوانين الوضعيّة التي تحكمها، ويسعى إلى استكشاف المجتمع في نشأته وتكويناته وعناصر وجوده ومراحل نموّه وقسمات تطوّره، وليس غريبا أن يرى في المجتمع صيغة من التّكوينات العضويّة الفائقة، أو هو تشكيل فارق أحدثه التّطوّر فوق العضويّ ليجعل من المجتمع صورة حيّة لأرقى أشكال التطوّر فوق العضويّ.
يعتبر سبنسر أنّ موضوع علم الاجتماع هو المجتمع بما يقوم عليه من مكوّنات وعناصر وجود وظواهر مختلفة كامنة فيه، ويشمل ذلك كلّ أشكال الوجود الاجتماعيّ ومظاهره ودينامياته بما فيها الأسرة وأنساق القرابة والأنظمة السياسيّة والإداريّة والظّواهر القانونيّة والتّربية والمؤسّسات التّعليميّة والإعلاميّة ووسائل الضّبط الاجتماعيّ والعادات والتّقاليد وأنظمة القيم والأخلاق وأنماط الإنتاج والعمل والتّوزيع والثّروة والطّبقات الاجتماعيّة والفنّ وغير ذلك من مظاهر الوجود الاجتماعيّ. ومن النّاحية المنهجيّة يرى سبنسر بأن جميع هذه العناصر تتلاحم وتتكامل وتتضافر في بنية اجتماعيّة حيّة، ويجب على علم الاجتماع أن يتناولها في سياق تفاعلها وتكاملها وترابطها بوصفها عناصر حيويّة، فالظّواهر الاجتماعيّة تتناسق في كيان اجتماعيّ واحد، وتتكامل حيويّا في نبضة اجتماعيّة حيويّة واحدة، وذلك في سياق التّفاعل الاجتماعيّ والتّساند الوظيفيّ والتّكامل البنيويّ والتّرابط الحيويّ في قلب المجتمع الواحد النّابض بالحياة والمتفاعل تكامليّا بين عضويّاته وعناصره المختلفة.
6-1- المماثلة البيولوجية – المجتمع كيان عضويّ:
انطلق سبنسر في تناوله للمجتمع من اعتباره كيانا عضويّا بيولوجيّا. وقد بالغ في تشبيهه بالكائن العضويّ، إذ يرى بأنّ المجتمع يتجانس إلى حدّ كبير مع الكائنات البيولوجيّة الحيّة: له أعضاء للتّغذية، ودورة دمويّة، وفيه تعاون بين الأعضاء، كما له تناسل وإفراز تماماً مثل الكيانات المتعضّية. وعلى هذه النّحو يتجلّى المجتمع في منظور سبنسر على صورة نسق اجتماعيّ، أو كيان حيويّ على غرار الكائن العضويّ، ومن هنا ضرورة التّركيز على طبيعة العلاقات القائمة بين عناصر المجتمع من حيث هي نسق يتشابه مع الأنساق العامّة للوجود مثل: نسق الكواكب والنّسق الشمسيّ ونسق الذرّة ونسق الأفكار، وتحيل كلمة النّسق على كلّ شيء يمكن أدراكه على أنّه كلٌّ يتكوّن من أجزاء شبه مستقلّة، معتمدة على بعضها بعضا في الوقت نفسه. وبناء على هذه المماثلة يقرّر سبنسر أنّ المجتمع لا يعدو أن يكون جزءا من الطّبيعية، وهكذا فإنّ علم الاجتماع يشكّل محاولة علميّة لدراسة المجتمع واستكشاف مختلف تكويناته واستقصاء مختلف مراحل نموّه وتطوّره، والبحث في مختلف الظّواهر الاجتماعيّة في أنساق علاقاتها مع مختلف العوامل الطبيعيّة والنفسيّة والحيويّة. ويرى سبنسر في هذا السّياق أنّ التطوّر الاجتماعيّ هو عمليّة تطوّريّة عضويّة تجري في أرقى أشكال التطوّر العضويّ الفائق المتمثّل في المجتمع الإنسانيّ الذي يشكّل أرقى صورة وأنبل تشكّل للتّطوّر ما فوق العضويّ[82].
عُني سبنسر بتوضيح معالم هذه المماثلة الحيويّة بين المجتمع والكائن العضويّ الحيّ على وجه الخصوص في كتابه: "أسس علم الاجتماع" (The Principles Of Sociology:1876). وفيه طالعنا بسؤال منهجيّ رئيس حول ماهيّة المجتمع: ما المجتمع؟ وكان جوابه بأنّ المجتمع كائن عضويّ حي يتجانس مع الكائنات الحيّة ويشابهها. ثمّ انتقل بعد ذلك إلى بيان أوجه الشّبه بين الكائن العضويّ البيولوجيّ وبين الكيان الاجتماعيّ مشدّدا على أنّ هذا التّشابه يأخذ الصّورة التّالية[83]:
1- ظاهرة النّموّ: يشترك الاثنان: الكائن البيولوجيّ والمجتمع في ظاهرة النموّ، فكلاهما ينمو ويستمرّ في النموّ دون توقّف خلال الشّطر الأكبر من وجودهما. ومثال ذلك الرضيع الذي ينمو حتى يصبح رجلا، والمجتمع الصّغير يصبح منطقة متروبوليتاريّة، والدّولة الصّغيرة تصبح إمبراطوريّة.
2- ظاهرة التّعقيد: يترافق نمو الكائنين: الاجتماعيّ والعضويّ بظهور الاختلاف في التّكوين والوظائف. وبصوة أعمّ "يطور كل منهما خلال عملية النمو في الحجم أبنية أشد تعقيداً وتمايزاً واختلافاً. أي أنهما يشهدان نوعاً من التباين في المكونات والعناصر البنائيّة الدّاخلية، ويصبح التّنظيم البنائيّ الدّاخليّ لكل منهما معقدا"[84]. ففي الوقت الذي تنمو فيه كلّ من المجتمعات والكائنات العضويّة وتتطوّر في الحجم، تنمو في درجة تعقّدها البنائيّ والكيانيّ. وعلى هذا الأساس تصير الكائنات البدائية البسيطة كائنات عليا معقّدة، والجنين يتحوّل إلى طفل، والطّفل إلى مراهق، ومن ثَمَّ إلى راشد، فكهل، فشيخ، وهذا هو حال المجتمعات التي تتطوّر من مجتمعات بدائيّة إلى عبوديّة إلى إقطاعيّة إلى رأسماليّة صناعيّة.
3- التّكامل الوظيفيّ: في سياق النموّ تبدأ التّكوينات والعناصر الجديدة بالتّكامل الوظيفيّ والتّفاعل البنائيّ. إذ يتكوّن كلّ منهما من وحدات وعناصر متنوّعة تتجلّى على صورة خلايا وأعضاء في الكائن العضويّ. بينما تتجلّى في صورة أفرادٍ ومؤسّساتٍ ووحداتٍ اجتماعيّة وظيفيّة في الكائن العضويّ الاجتماعي. ويؤدّي التطوّر في نهاية الأمر، سواء في المجتمعات أو الكائنات العضويّة، إلى تباينات في البناء والوظيفة، حيث يتمّ التّكامل الوظيفيّ بين مختلف العناصر النّاشئة التي تتّحد ضمن بنيويّة غائيّة وظيفيّة واحدة.
4- الاستمراريّة: إذا ما أصيب عضو من أعضاء البنية بالعطل والضّرر، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى موت العضويّة أو انهيارها الكامل في التّكوينين الاجتماعيّ والعضويّ، فإذ بُتر أحدُ أعضاء الجسد مثلا، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى موت الكائن، بل يستطيع الاستمرار في الحياة دون بعض الأعضاء. وكذلك الحال في المجتمع فإنّ الحوادث الدّامية والثّورات والانهيارات الاقتصاديّة والحروب لا تؤدّي إلى موت المجتمع، بل إلى تعطيل حركة نموّه وديناميّاته. وعلى هذا النّحو يؤكّد سبنسر أنّ كلاّ من الكائنات الحيّة والمجتمعات الإنسانية لا يزول إذا تعرّض أحد الأجزاء فيهما إلى الانكسار أو التّلف، فالكائن العضويّ والمجتمع كلاهما يستمرّ في الوجود، ويبقى على قيد الحياة بعد فقدانهما لبعض الأجزاء، أو إصابتهما ببعض الأمراض والتّلف. ويلاحظ أنّ الحيوان عندما يفقد بعض أطرافه أو أعضائه يستمرّ في الحياة ولا يموت، وكذلك هو الحال في المجتمع إذ تتعرّض بعض عناصره للتّدمير دون أن يؤدّي ذلك إلى انكساره وانهياره[85].
5- تعدّد العناصر المكوّنة: لكلٍّ من الكائن العضويّ والمجتمع جهاز خاصّ يقوم بمهمّة بقائه وحفظه يتمثّل في جهاز التّغذية ودورة الدّم في الفرد، والجهاز التّجاريّ في المجتمع، كما أنّ لكلٍّ منهما جهاز منظّم يتمثّل في الجهاز العصبيّ عند الفرد، ونظام الحكومة في المجتمع[86]. وفي سياق هذه التّفاعليّة بين العضويّات والعناصر المتباينة يؤدّي كلّ عضو وظيفة محدّدة لمركب الكائن العضويّ، كما أنّ التّنظيمات المختلفة تؤدّي وظائف مختلفة في المجتمع الذي ينقسم إلى مثل هذه التّنظيمات.
6- التّغيير التكيفيّ التّكامليّ: يسبّب في التغيّر في جزء واحد من المجتمع تغييرا في الأجزاء الأخرى منه، وهكذا فكلّ جزء يساهم في استقرار المجتمع ككلّ وبقائه. فإذا تعطّل جزء من المجتمع، وجب على الأجزاء الأخرى التكيّف مع الأزمة، والمساهمة بشكل أكبر في الحفاظ على المجتمع. ويلاحظ في هذا السّياق "أن أبنية الكائن العضويّ والمجتمع تصبح أكثر تمايزا وأشد تعقيداً، إلا أنهما يتجهان خلال تطورهما إلى إيجاد نوع من الملائمة والمواءمة والتكيّف بالنسبة للوظائف المتخصصة للأجزاء والعناصر المكونة لكل منهما. أي أن التفاضل، أو التمايز، أو التباين التقدمي في البناء يواكبه في نفس الوقت تمايز أو تباين تقدمي في الوظائف"[87].
7- ديناميّة التّغيّر: يقوم التّغيّر والتّغاير والتطوّر في المجتمع، كما في الكائنات الحيّة، على عمليات التكيّف والمواءمة، وعلى ديناميات الاحتواء والتّجاوز، ويتمّ هذا التكيّف داخليّا وخارجيّا، أي في داخل التّكوين البنيويّ لكلّ منهما، أو في عمليّة التكيّف الخارجيّ، أي تكيّف البنية مع الظّروف البيئيّة المحيطة بكلّ منهما. ونتيجة لذلك فإنّ التّباين الحادث في الحجم والبنية والوظائف يؤدّي إلى طفرات تغيّر وتطوّر في كلّية المجتمع أو الكائن الحيّ. وفي المجتمع تحديدا، كما في الكيانات الحيّة، يأتي التّغيير نتاجا طبيعيّا لعمليات التكيّف والتّوافق والتّلاؤم مع الظّروف والمتغيّرات الخارجيّة[88].
وإذا كان سبنسر قد أبان أوجه التّماثل بين الكائنين، فإنّه في الوقت نفسه أشار إلى بعض أوجه الاختلاف بينهما، وهي كثيرة. وأعلن عن وجود فروق مهمّة بين المجتمعات والكائنات العضويّة الحيّة يتمثّل أهمّها في الآتي:
1- يكون التّماثل (Symmetrical) بين مكوّنات الكائن العضويّ قويّة جدّا، بينما يكون ضعيفا ومحدودا في التّكوينات الاجتماعيّة العضويّة. وبعبارة أخرى: "تشكل أجزاء الكائن العضوي كلا ملموسا، بينما تتبعثر أجزاء المجتمع في حرية"[89].
2- تشكّل أعضاء الكائن الحيّ كلاّ ملموسا متفاعلا حيويّا لحظيّا، وعلى خلاف ذلك، فإنّ المجتمع يأخذ صورة تكامل أجزاء حرّة نسبيا، ومشتّتة بدرجات متفاوتة. فعلى سبيل المثال يتميّز جسم الإنسان بأنّه كلٌّ متّصل الأجزاء بينما تتميّز الجماعة بأنّها تكوينات منفصلة متعدّدة ومتكاملة.
3- يتركّز الشّعور عند الفرد في الجهاز العصبيّ، أي في جزء صغير من الجسم، بينما يوجد في الجماعة موزعاً على وحداتها[90]. وهذا يعني أن الوعي يتركّز في جزء صغير من كلّ كائن حيّ مثل الدّماغ، بينما هو ينتشر في الأعضاء والأفراد في المجتمع، أي في المؤسّسات الاجتماعيّة التي يكون لكلّ منها إدارة خاصّة تقوم بالإشراف على قطاعها الخاصّ.
أما الفرق الثالث فيتمثّل في أنّ أعضاء الكائن الحيّ إنّما توجد لتحقيق الفائدة للكلّ، بينما يوجد المجتمع لمجرّد تحقيق الفائدة لأعضائه الفرديّين. وبعبارة أخرى تتفاعل أجزاء الكائن العضويّ وظيفيّا لتقوم بخدمة الكيان الكلّيّ للكائن للحيّ، بينما يوجد المجتمع كلّه من أجل الفرد: مثل الدّولة المعنيّة بتوفير الأمن للأفراد، والقضاء المعنيّ بتوفير العدالة، والتّعليم المعنيّ بتطوير فكر الفرد وثقافته.
ومن هذا المنطلق يرى سبنسر ضرورة أن تُؤخذ هذه الفروق بعين الاعتبار عندما نقارن بين الكائن العضويّ والمجتمع ككائن عضويّ، ويرى أيضا أنّ المماثلة البيولوجيّة ماهي إلاّ أداة منهجيّة لفهم المجتمع ضمن منظوماته الدينامية والتطوريّة[91].
ولمزيد توضيح قانونيّة التّماثل بين الفرد والمجتمع يمكن القول إنّ المجتمع يجانس الكائن العضويّ ويماثله في أكثر سماته الضروريّة "فهو ينمو، وكلّما ازداد نمواً اشتد تعقداً، وكلما تعقد ازدادت أجزاؤه استقلالا، وحياة المجتمع طويلة جداً بالنسبة الى حياة أجزائه التي يتألف منها"[92]. والمجتمع في سياق تماثله مع الكائن البيولوجيّ تعتريه زيادة في التجمّع أو نقصان غالبا ما يقترن بزيادة التباين ونموّ الاختلاف. وهكذا، ينطلق المجتمع في نموّه من خليّة الأسرة الى القبيلة فالدّولة، وعلى هذا النّحو أيضا ينمو الاقتصاد من الوحدات الصّغرى إلى الوحدات الكبرى، ومن الصّناعة المحلّيّة الصّغيرة الى الاحتكارات الكبرى، وعلى هذا المنوال نفسه تكون حركة النّماء في السّكان بدءا من الأسرة إلى الحيّ، فالقرية، فالمدينة، ومنها إلى الحواضر الكبرى كالعواصم. وهذا كلّه يتمّ عبر عمليات التّجمّع وديناميات التكتّل الذي يترافق مع تقسيمات في العمل، وتعدّدات في المهن، وتنوّعات في الصّناعات، ونموّ في التّجارة في ظلّ التّبادل الاقتصاديّ الذي ينشأ بين المدن والأرياف. ومن ثَمّ بين الدّول والأمم[93].
6-2- من التّماثل إلى التطوّر:
تقوم نظريّة سبنسر في علم الاجتماع أساسا على قوانين التّطور أو المماثلة البيولوجية كما أسلفنا[94]، فالمجتمع، مثله مثل الفرد، "هو ناتج عن نمو عضوي، وإن يكن سبنسر يسمى هذا النمو ٍ «فوق العضوي» لأنه من مرتبة أعلى. ويتوقف تقدم الحياة الاجتماعية، مثلما يتوقف تقدم الحياة العضوية، على تزايد قدرة المجتمع على التكيف مع الظروف الطبيعية والبيئة الاجتماعية، ويتم هذا التكيف إيجابيّا عن طريق التّقاليد والوراثة، وسلبيّاً عن طريق زوال المجتمعات التي لم تتكيف كما ينبغي"[95].
وإذا كان المجتمع مماثلا للكائن البيولوجيّ في بنيته ووظائفه وتكامله، فإنّه يترتّب على ذلك، كما ألمحنا آنفا، أن يماثله في أحوال تطوّره ونموّه، ولادةً ونشأةً وزوالاً ومماتًا. لقد أعلن سبنسر مرارا، وأوضح تكرارا أنّ التّطوّر في المجتمع يماثل التطوّر في العالم الحيويّ البيولوجيّ، وأنّ مسار هذا التطوّر ينطلق من البسيط إلى المعقّد، ومن التّجانس إلى التّباين المتعدّد، ومن الشّكل الموحّد إلى التنوّع، ومن من الأبنية البسيطة إلى الأبنية المعقدة والمركّبة، ومن الحالة التي تؤدّي فيها الأجزاء المتشابهة وظائف متماثلة إلى الحالة التي تؤدي فيها الأجزاء غير المتشابهة وظائف متكاملة غير متشابهة. "وهو القانون العام للتقدم في النظم غير العضوية، والعضوية، وفوق العضوية، أو الاجتماعية. ويشكل هذا القانون الأساس الحقيقي لمذهب سبنسر وإطاره المفاهيمي في مجال المجتمع الإنساني"[96].
وهنا نجد أنّ سنسر يؤكّد على استمرارية التطوّر بدءا من التطوّر في عالم المادّة الجامدة غير الحيّة (غير العضويّة)، ومنه إلى التطوّر في العالم العضويّ أو الحيّ، وصولا إلى التطوّر الحيويّ الاجتماعيّ الذي يتمثّل في الكائنات العضويّة التي تعيش في مجتمعات، وأخيرا وصولا إلى التطوّر الفائق ما فوق العضويّ، أي: التطوّر في الثّقافة والوعي الإنسانيّ، وهو تطوّر الإنسان ثقافيّا بطريقة تسمح له بالعيش في المجتمع[97]. ومؤدّى ذلك كلّه أنّ التطوّر بشقّيه الحيويّ العضويّ، والحيويّ الاجتماعيّ الثقافيّ الفائق (فوق العضويّ) يشكلان حلقة أساسيّة في عمليّة التطوّر العام التي يخضع لها الكون بأسره[98].
وتمثّل هذه الجوانب الأربعة للتّطوّر الحيويّ من المادّة الجامدة إلى العضويّة الفائقة القانونيّة العامّة لتطوّر الوجود بأبعاده الفيزيائيّة والعضوية والاجتماعية[99]. ويبدو أنّ سبنسر كان مأخوذا بنظريّة التطوّر، وشغوفا بمعانيها إلى الحدّ الذي كان يصرّح فيه: بأنه رجل تطوّري مؤمن بالتطوّر ومساراته بوصفه قانونا كونيّا للوجود، وقد تجلّت رؤيته هذه القانونيّة الكونيّة للتطوّر في بحثه المشهور: "التقدم قانونه وعلته (1857). ويبدو لنا أنّ سبنسر قد تبنّى نظريةّ كارل أرنست فون بيير (Karl Ernst von Baer: 1792-1876) القائلة بقانون التّطوّر الذي يأخذ مساره من وضعيّة التّجانس الى اللاّتجانس، ومن وضعيّة الفوضى والتّلاشي إلى وضعيّة الانتظام والتّنظيم [100]. وقد برز مفهوم التطوّر مجددا في صيغته المطوّرة في الجزء الثاني من كتابه المبادئ الأولى (1962)، وفيه بيّن سبنسر ثلاثة مسارات أساسيّة لذلك التّطور:
المسار الأول: يتمثّل في قانونيّة ثبات القوّة الذي يقول بوجود القوّة واستمرارها، وأنّ علّتها ومصدرها أمران ما زالا يتحدّيان العقل البشريّ، وقد يكون مصدرها قوّة ميتافيزيائية فائقة.
المسار الثّاني: قانون استمرار الحركة النّاجمة عن القوّة، فالمادّة صنو الحركة، والحركة لا توجد من غير مادّة. ويأخذ هذا القانون صيغة انتقال الطّاقة من شكل إلى آخر، ولكنّها ثابتة دائما.
المسار الثّالث: ويتمثّل في قانون عدم فناء المادّة وحفظ الطّاقة واستمرارهما؛ وهذا يعني أنّ المادّة والطّاقة تستمرّان في الوجود، وتأخذان صيغ التحوّل من شكل لآخر، وأنّ كلّ مظهر من مظاهر التّلاشي في الطّاقة والمادّة يكون نوعا من تحوّل الطّاقة والمادة إلى شكل جديد، وصياغة جديدة أشبه بتحوّل الماء إلى بخار أو جليد.
وفي هذا السّياق يركّز سبنسر على علاقة ثبات العلاقة بين القوّة والتوازن، لأنّ القوّة لا تتلاشى، وإنّما تتحوّل، وأنّ كلّ شيء، في سياق ذلك، يسير في خطّ واحد واتّجاه واحد متجاوزا قطبيْ المقاومة والجاذبيّة، أي القوّة الطّاردة والقوّة الجاذبة. ويخلص سبنسر، في نهاية تحليله، إلى أنّ التّطوّر يأخذ صورة تكامل المادة المصحوب بتبدّد الحركة وتلاشيها، وفي هذه الصّيرورة تنتقل المادّة من التّجانس غير المحدّد الى اللاّتجانس المحدّد والمتماسك[101].
ويمكننا إجمال مسارات التطوّر في اثنين أساسيّين متلازمين، هما:
- مسار التّباين والاختلاف: ويقصد به الانتقال من المتجانس الى اللاّتجانس، ومن المتشابه إلى المختلف، ومن اللاّمتعيّن إلى المتعيّن، ومن المادّيّ إلى العضويّ، ومن العضويّ إلى الفائق الاجتماعيّ.
- مسار التّكامل والتّفاعل والتّرابط: وهو مسار يواكب مفهوم التّباين ويلازمه في الحضور والغياب. وهذا يعني أنّ التفرّد أو التخصّص لا يؤدّى الى الاستقلال والانعزال والاكتفاء الذاتيّ، وإنّما الى التّضامن والتّماسك واعتماد الأجزاء بعضها على البعض الآخر، وذلك طبقا لمبدأ توزيع العمل البيولوجي بالنسبة للمركب الحيوي وطبقا لمبدأ التضامن والتكامل الاجتماعي بالنسبة لشئون الحياة"[102].
وقد حذّر سبنسر من الانزلاق إلى الاعتقاد في أحاديّة التّطوّر، والاتّجاه نحو الأشكال العليا للحياة. وقد بيّن في كتابه (المبادئ الأولى) خطأ الاعتقاد بأنّ التطوّر الحيويّ ينزع نحو الصّور العليا للوجود[103]. وأوضح بأنّ التطوّر لا يكون تقدّميا دائما، وأنّ حركته تعتمد على متغيرّات وظروف متنوّعة. وإذا لم تتوافر الظّروف المثاليّة للتطوّر التقدميّ، فإنّ التغيّر يأخذ توجّها عكسيّا انتكاسياً نحو التّلاشي والانحلال والتّدهور[104].
6-3- التطوّر الاجتماعيّ - من المجتمع العسكريّ إلى المجتمع الصناعيّ:
قسّم سبنسر المجتمعات الإنسانيّة إلى أربعة أنواع حسب درجة تطوّرها ورقيّها الحضاريّ والاجتماعيّ، وهي: المجتمع البسيط، والمجتمع المركّب، والمجتمع المركّب تركيباً مضاعفاً، والمجتمع المركّب تركيباً ثلاثيّا[105]. ويمكن تمييز كلّ منها على أساس مدى تعقيدها وتكاملها وتخصّبها. فالاكتظاظ السّكانيّ الذي يأخذ بالنموّ بناء على فكرة التّزايد الكمّيّ والتّعقيد النّوعيّ يؤدّي إلى صراعات عنيفة وحروب دمويّة بين الفئات الاجتماعيّة، وينتهي إلى تحقيق ما يسمّى بدورة الاندماج التي تؤدّي بدورها إلى صهر المجموعات المتنافرة في صيغة مجتمعات عضوية كبرى متكاملة[106].
وعلى أساس هذا المخطّط التّطوريّ من البسيط إلى فائق التّعقيد تتطوّر العائلة: من عائلة بسيطة إلى عائلات، ومن عائلات إلى قبائل، ومن قبائل إلى دول، ومن دول صغيرة إلى إمبراطوريّات كبرى، وهذا يعني أنّها تنتقل من البسيط إلى درجة عالية من التّعدد والتّعقيد. ومن الواضح أنّ هذا التّعقيد يترافق بوضعيّات التّكامل العضويّ بين مكونات الاجتماع الإنسانيّ على أساس بنيويّ وهيكليّ. ويأخذ هذا التطوّر صيغة رباعيّة تتمثّل فيه هذه التّضاعيف التي تبدأ بالبسيط، وتنتهي بالتّركيب الثّلاثيّ على النّحو الآتي:
1- المجتمعات "البدائية" (البسيطة) التي تتميّز بالتّعاون السّياسيّ العرضيّ، وتمثّل هذه المجتمعات أبسط أشكال المجتمعات.
2- المجــتمعات "الحربية" (المركبة) التي تقوم على مبدأ المقاتلة والصّراع والتّسلّط السياسيّ.
3- المجتمعات "الصناعية" (المركّبة تضاعفيّا) التي تعتمد على المرونة والحرّيات العامّة والتّجارة والقيم اللّيبرالية،
4- المجتمعات "ذاتية التنظيم" (المركّبة تركيبا ثلاثيّا)، وهي أشبه بالمجتمعات اليوتوبيّة الخياليّة التي يعمّها العدل والعدالة، وتتلاشى فيها سلطة الحكومة، وتشكّل هذه المرحلة اليوتوبيّة أرقى أشكال المجتمعات البشرية[107].
يعود تناول سبنسر لقانون التطوّر وتحديد معالمه إلى كتابه: "المبادئ الأولى " الذي تضمّن وصفه للتطوّر من البدائيّة إلى الرأسماليّة، إذ يقول: "إننا نعلم أن المجتمعات البدائية كانت في صورتها الأولى عائلات تنتقل من مكان لآخر، ثم اجتمعت واتّحدت لتأخذ صور تشكيلات قبائليّة، ومن ثم القبائل الضّعيفة للقبائل الأقوى فتكونت المجتمعات الأكبر والأكثر حضارة وديمومة، ومن ثم أخذت هذه المجتمعات المستقرة بتشكيل تحالفات، وقد تطورت هذه التحالفات حتى أصبحت عالم اتحادات فيدرالية وعالمية"[108]. وفي هذا المسار التطوّري من البدائية إلى الرأسمالية يميّز سبنسر في نظريّته حول تطوّر المجتمع بين نمطين أساسيّين للمجتمعات الإنسانيّة: هما المجتمع العسكريّ والمجتمع الصناعيّ. ويرى بأنّ المجتمعات الإنسانية تتطوّر من المجتمعات العسكريّة إلى المجتمعات الصناعيّة. وهما الصيغتان المميّزتان حاليّا للمجتمعات الإنسانيّة. وهو ما سنتولّى تفصيله في ما يلي.
6-3-1- المجتمع العسكريّ:
يتميّز المجتمع العسكريّ بسمات وخصائص من أهمّها أنّ هذه المجتمعات تقوم على العنف والقوّة والاستبداد والتسلّط. ويكون فيها التّعاون إجباريا، والحكومة مركزيّة. وغالبا ما تكون حكومة ملكيّة أو عسكريّة، ويكون التّقسيم الطبقيّ صارما ومتصلّبا، وتهيمين فيه الدّولة على مختلف مرافق الحياة الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ومبدأ التّعاون فيها يقوم على الإرغام والتّنظيم العسكري. وهي تشجّع تسلّط الدّين، وتعبد إله الحرب، وتنمّي الفوارق بين الطّبقات، وتشجّع القوانين الطبقية، "وتعظم مكانة الرجل، وتمنحه سلطة مطلقة على المرأة. ولأنّ نسبة الموت في هذه المجتمعات الحربية عالية بسبب ما تشنه من حروب، فإنّها تميل الى إباحة تعدد الزوجات، وتخفض مقام النساء لقد كانت معظم الدول دولا حربية، لأن الحرب تعزز سلطـــــة الحكومة المركزية وتجعل جميع المصالح تابعة لمصلحة الدولة. والتاريخ حافل بأعمال السلب والنهب والغدر والخيانة والقتل والانتحار القومي"[109]. وتجدر الإشارة إلى أنّ سبنسر ينظر إلى المجتمع العسكريّ بوصفه مقدّمة تاريخيّة ضرورية لنشأة المجتمع الصّناعيّ، ومع أنّه كان مناهضا لفكرة الحرب، وقد وصفها بطريقة بغيضة جدّا، إلاّ أنّه كان قد نظر إلى وظيفة الحرب على نحو إيجابيّ، لأنّها أدّت دورا تاريخيّا تطوريّا مهمّا في عمليّة توحيد المجتمعات، وتشكيل الإمبراطوريّات وبناء الحضارات، إذ لولا الغزو العسكريّ لما كانت الحضارة الرومانيّة أو الفرعونيّة أو الصّينيّة. وهذا يعني أنّ الحرب كانت ضروريّة فيما مضى من زمان الإمبراطوريّات والحضارات الكبرى.
فالحرب تؤدّي وظيفيّا إلى دمج العشائر في أمم بطريقة يصبح فيها رؤساء القبائل ملوكًا، كما تؤدّي في النّهاية إلى نوع من الاستقرار الاجتماعيّ وإعادة التّجميع، وضهر الوحدات المتنافرة في تكتّلات عضوية كبرى لتفسح مجالا أكبر لتقسيم العمل، ونموّ التّجارة وازدهار الصّناعة[110]. وقد أدّت الحرب إلى تشكيل جماعات كبرى من البشر. وهذا التّشكيل الاجتماعيّ الإمبراطوريّ الضّخم كان ضروريّا لتقدّم المجتمعات الإنسانيّة، ومهّد بالضّرورة لقيام المجتمع الصناعيّ. ولكن مع ظهور المجتمع الصناعيّ، لم تعد الحرب وظيفيّة ولا ضروريّة، بل أصبحت على العكس من ذلك عائقا في وجه الحضارة والتطوّر والتّقدم[111].
6-3-2- المجتمع الصناعيّ:
تقوم المجتمعات الصناعيّة، على خلاف المجتمع العسكريّ القائم على الجمود الحضاريّ والتصلّب، على مبدأ الحرّيّات اللّيبراليّة. وتكون حكوماتها ديمقراطيّة كما يكون التّعاون بين أفراده طوعيّا، وتعتمد هذه المجتمعات على التّجارة والصّناعة. ويكون النّظام الطّبقيّ فيها مرنا مفتوحا. وتأخذ الحكومات صيغة ديمقراطيّة لامركزيّة. ويكون فيها الحكم قائما على الانتخابات العامّة. ويعلّق سبنسر كثيرا من الآمال والأحلام "اليوتيوبيّة" على المجتمع الصناعيّ، إذ يعتقد بأنّ المجتمع الصناعيّ سيؤدّي في المستقبل إلى إطفاء نار الحروب، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة، وإحلال الديمقراطيّة والسّلام. وهو من هذا المنطلق يرى أنّه عندما تتوقّف الحرب ينهض التّطوّر الاقتصاديّ، وتنشأ ألوف المشاريع الاقتصاديّة، وتتوزّع السّلطة على جزء كبير من أفراد المجتمع. "وبما أن الإنتاج الصناعيّ لا يترعرع ويزدهر إلا في ظل الحرية فإن المجتمع الصناعي سيعمل على تحطيم السلطات التقليدية الكهنوتية والطائفية القبلية التي تزدهر في ظلها الدول الحربية. ولا يعود للجندي أو العسكري هذه القيمة البالغة والشهرة العالية، والصيت العظيم. وتصبح الوطنية حبّ الإنسان لوطنه لا كراهية البلاد الأخرى. ويعود السلام في البلاد ضرورة رئيسية من أجل الرخاء والازدهار"[112].
أولى سبنسر أهمية كبيرة للمجتمع الصّناعيّ، وشرح لنا بتفاصيل دقيقة صورة هذا المجتمع الواعد، ومختلف ديناميات تطوره، إذ يرى بأنّ رأس المال الصناعي والتجاريّ سيصبح وفقا لقانونية التطوّر دوليّا وعالميّا يترافق مع عملية استثمار المال في مختلف أنحاء العالم، وهو ما سيؤدّي بالضّرورة الى استتباب الأمن والسّلام العالميّ أيضا. "وعندما تقل الحروب الخارجية، تخف القسوة في الداخل، ويحل نظام الزوجة الواحدة محل نظام تعدد الزوجات بسبب قلة الحروب التي تستهلك الرجال. ويرتفع وضع المرأة، ويصبح تحرير النساء قاب قوسين أو أدني. وتفسح الخرافات الدينية الطريق أمام المذاهب الحرة التي تركز جهودها في إصلاح الحياة الإنسانية، والسمو بالأخلاق على ظهر هذه الأرض"[113]. ويؤكّد سبنسر أهمّيّة العلم وإنجازاته في المجتمع الصناعيّ إذ "تحل الأبحاث الدقيقة عن الأسباب الطبيعية محل المعجزات والقوى الخارقة. ويبدأ التاريخ في دراسة الناس وهم في العمل بدلا من دراسة حياة الملوك وهم في الحرب. ويتحول التاريخ عن تسجيل حياة الشخصيات إلى تسجيل أحدث الآراء والأفكار وأعظم الاختراعات، وتقل سلطة الحكومة وتزيد سلطة الجماعات المنتجة في داخل الدولة، ويتغير الوضع من مساواة في التبعية للحكومة الى حرية المبادرة، ومن فرض التعاون قسرا الى حرية التعاون طوعا. يعتقد المجتمع الحربي بأن وجود الأفراد من أجل منفعة الدولة. أما المجتمع الصناعي فيعتقد بوجود الدولة من أجل منفعة الأفراد"[114]. وهو في هذا السّياق يرى بأنّ بلاده بريطانيا تشكّل نموذجا مثاليّا للبلد الذي يقترب من المجتمع الصناعيّ، "على الرغم من أنه استنكر بشدة نمو الروح العسكرية الحربية الاستعمارية فيها، واعتبر كلا من فرنسا وألمانيا مثالا للدولة العسكرية الحربية ويعتقد سبنسر بأن الاشتراكية نتيجة طبيعية للنظم الإقطاعية"[115].
وهكذا يبدو سبنسر مؤيّدا للنّظام الرأسماليّ الصّناعيّ تأييدا مطلقا، ففي المجتمع الصناعيّ المتطوّر سيكون كلّ كائن اجتماعيّ سيّد نفسه لا يخضع إلاّ للقوانين الدّيمقراطيّة التي تقتضيها المصلحة العامّة للمجتمع. ومع أنّ سبنسر يدعو إلى تحقيق هذا المجتمع الصناعيّ، فإنّه يبدي بعض الشّكوك حول قدرة النّاس على تحقيق هذا النّظام الدّيمقراطيّ الصناعيّ بأمانة، والحرص على جعله فعّالا. وقد طالب سبنسر بإدارة الدّيمقراطيّة للمصانع التي كانت تدار بطريقة استبداديّة مطلقة، ويرى أنّها إدارة ضارّة بالمجتمع والدّيمقراطيّة. وأكّد في أكثر من سياق على تراجع فكرة الحرب في المجتمعات الصناعيّة الحديثة. وهو مع ذلك يدرك أيضًا بأنّ التّطلّع إلى الحروب ما زال أمرا ممكنا ويشكّل خطرا على هذه المجتمعات[116].
وباختصار يرى سبنسر بأنّ الفرد في المجتمع العسكريّ يحيا من أجل الدّولة، ويعيش لخدمتها، ويتفانى، ويضحي من أجل قادتها. وعلى خلاف ذلك فإنّ الدولة في المجتمع الصناعيّ تحيا من أجل الفرد، ويضيف في هذا الصّدد: "سيتحول الاعتقاد في المجتمع الصناعي من أن الحياة للعمل إلى الاعتقاد بأن العمل من أجل الحياة في المجتمع التعاوني الذي ينبثق عنه"[117]. ويغلب على الظّنّ أنّ رؤية سبنسر المبالغ فيها للمجتمع الصناعيّ لم تكن إلاّ نوعا من الأوهام اليوتوبيّة التي جعلته يؤمن بمسيرة التقدّم والتطوّر نحو الأفضل في المجتمع الإنسانيّ. ولو شاهد سبنسر ما يدور اليوم في العالم الرأسمالي لوقف مذهولا يصبّ لعناته على هذه الرأسماليّة الحمقاء التي دمّرت كلّ ما هو جميل في هذا الوجود.
6-3-3- المرأة في المجتمعين العسكريّ والصناعيّ:
انصبّ اهتمام سبنسر على تحليل وضع الأسرة. وقارن بين وضعها في المجتمع الصناعيّ والمجتمع العسكريّ. وخَلَصَ إلى أنّ الرّجل في المجتمعات العسكريّة يكون عصب الأسرة وسيّدها، وأنّه يتّسم بالغلظة والشدّة. وطاعتُه وتنفيذُ أوامره واجب على الزّوجة والأطفال معا، فالرّجل في هذه المجتمعات يأمر ويسيطر، "والحياة في الأسرة شبيهة بالحياة في القلعة أو الثكنة العسكرية لا إرادة ولا حرية لأفرادها. وتنعدم فيها روح التآلف والانسجام وتنعكس كل هذه الاعتبارات على التربية والتعليم والقيم الأخلاقية"[118]. وعلى خلاف هذه الصّورة تكون العلاقات الأسريّة في المجتمعات الصّناعيّة ديمقراطيّة، تحظى فيها المرأة بحقوقها، ويكون لها دورها الإنسانيّ المماثل للرّجل اقتصاديّا واجتماعيّا وإنسانيّا. وهذا يعني أنّ الأسرة في المجتمعات الصناعيّة أفضل حالاً من الأسرة في المجتمعات العسكريّة، إذ "تحتل المرأة فيها مركزاً معادلاً لمركز الرجل. ويتمتع أفرادها بالتعاون والتماسك والمشاركة في مطالب الحياة، كما تمتاز الأسرة الصناعية بقسط كبير من التكافل الاجتماعي ومن رعاية الدولة، وتخضع نظم الأسرة للروح الديمقراطية، وتتعدد فيها الاتجاهات التربوية والتعليمية ويقل إشراف الدولة عليها، ويضيق نطاق تدخلها في شؤونها"[119].
وعلى النّقيض ممّا تقدّم من مواقفَ ورؤًى، كان سبنسر "من أنصار سيادة الرجل على الأسرة، ومن أنصار عدم نزول المرأة إلى ميدان الحياة العامة، إذ يكتفي بتثقيفها لتكون زوجة وربة منزل. فقد كان يسخر من دعوة النساء لنيل الحقوق السياسية. لأن هذه الحقوق في نظره وهم باطل!! وذلك لقناعته بأن المرأة في تركيبتها عاطفية المشاعر لا تنظر للأمور بوعي واتزان وموضوعية"[120].
6-3-4- الداروينيّة الاجتماعيّة- البقاء للأصلح:
تشكل الدّاروينية الاجتماعيّة عند سبنسر عصب نظريّته الاجتماعيّة التطوّريّة في تفسيره الدّيناميّ للحركة الاجتماعيّة والتطوّر الاجتماعيّ. ويعني مفهوم الدّاروينيّة الاجتماعيّة تطبيق نظريّة دارون في التطوّر الأحيائيّ على المجتمع. وقد بينّا أنّ سبنسر قد ماثل بين المجتمع والكيانات العضويّة الحيّة، فالمجتمع كيان حيويّ اجتماعيّ تجري عليه قوانين الحياة البيولوجيّة. وقد أشرنا، في ما تقدّم من بحثنا، أنّ سبنسر كان أسبق من تشارلز دارون في استخدام مفهوم البقاء للأصلح باعتراف دارون نفسه؛ ومن المعروف أنّ سبنسر هو الذي قابل الشّعار المعروف: «الصّراع من أجل البقاء»، بشعار آخر لا يقّل عنه شهرة، وهو «البقاء للأصلح». وهكذا أعاد سبنسر قانون دارون المتعلّق بالحياة الحيوانيّة إلى مجال الحياة البشريّة[121]. وقد أقبل سبنسر بإعجاب كبير على نظريّة دارون في تطوّر الأنواع، وشغف بها، وتبنّاها في نظريّته الاجتماعيّة. وقد هيمن مفهوم الدّاروينيّة الاجتماعيّة على نظريّة سبنسر في تفسيره لعملية التطوّر والارتقاء في عالم الأحياء والحيوان. وإن ذكر في دراسته "التّقدّم: قانونه وسببه" (1857) أنّ هدف نظريّته كان مختلفًا تمامًا عن نظريّة داروين: فبينما كان دارون يطبّق نظريّته في مجال الحياة العضويّة أراد سبنسر أن يطبّق هذه النظريّة في مختلف مظاهر الوجود الفيزيائيّ والحيويّ والاجتماعيّ، وفي النّظام الشمسي، وفي مجمل الأنواع العضويّة، وفي التطوّر النفسيّ، وتطوّر المجتمع والثّقافة التي كان يرى أنّ تطوّرها جميعا يقوم على قانون الانتقال من التّجانس غير المتماسك إلى عدم التّجانس المعقّد والمترابط ضمن أوالية البقاء للأفضل والأصلح.
ترتكز الدّاروينية الاجتماعيّة، عند سبنسر، على مفهومين متلازمين. يتمثّل الأوّل في مفهوم الاصطفاء أو البقاء للأصلح. ويتمثّل الثّاني في مفهوم وراثة الصّفات المكتسبة المقتبس من نظرية لامارك ((Lamarck)) الحيويّة القائلة بوراثة الصّفات المكتسبة. وعلى أساس هذه هذين المفهومين ينطلق سبنسر في تفسير التطوّر الاجتماعيّ ضمن منطوق البقاء للأصلح والأقوى. ويعتمد عليها في تطوير أفكاره السياسيّة عن المجتمع والحياة الإنسانيّة.
وتتمثّل نظريّته التطوّرية في أنّ المجتمع يتطوّر كما هو الحال في عالم الكائنات الحيويّة، إذ يفضي التغيّر والصّراع إلى بقاء الأصلح والأقوى، وهذا القانون يؤدّي إلى تطوّر المجتمع تطوّرا عفويّا طبيعيّا نحو الأفضل، إذ يتحرّر من عوامل ضعفه وقصوره وفقا لهذا القانون، ويستمرّ في دورة البقاء والتّطوّر والارتقاء. وعلى هذا النّحو فإنّ قانون البقاء للأصلح يشكّل عمليّة تطهير بيولوجيّ اجتماعيّ، فالطبيعة تميل ميلا تلقائيّا إلى التّخلّص من الضّعفاء والقاصرين والكسالى والشّواذ، لتفسح المجال للأفضل والأقوى والأقدر. وهذا يعني أنّ القضاء على الأفراد غير الملائمين من المجتمع وفق عمليّة الانتقاء الطّبيعيّ سيفيد العرق بيولوجيًا، وهو ما يعزّز قوّة المجتمع على النّهوض والتّطوّر والارتقاء. وتأسيسا على هذه الرّؤية الاصطفائيّة رفض سبنسر تدخّل الدولة لحماية الفقراء والضّعفاء والقاصرين، لأنّ وجودهم يؤدّي إلى إعاقة التّطوّر الحضاريّ.
استطاع سبنسر أن يوظّف مفهوم الاصطفاء الطبيعيّ في توليد مفهومه القائل بمبدأ بعدم التدخّل بصفته ناتجًا منطقيًا للإيديولوجية الداروينيّة الاجتماعيّة، ومن هذا المنطلق دافع سبنسر عن الفرديّة وسياسة عدم التدخّل والشّعار الليبراليّ: دعه يعمل دعه يمرّ، وانسجاما مع ذلك كلّه عارض أيّ شكل من أشكال تدخّل الدّولة في النّشاط الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وطالب باقتصار دورها على حماية الأمن وعدم التدخّل في أيّ مجال آخر سواء أكان الأمر في التعليم أم في السّياسة أم في الاقتصاد كي تفسح المجال لعمل القانون الطبيعيّ في الاصطفاء الذي يؤدّي في نهاية الأمر إلى التّطوّر الطبيعيّ الأفضل للمجتمع، إذ يستطيع المجتمع حينها بفضل هذا القانون أن يتحرّر من ضعفه، وينطلق على منصّات تقدّمه وتطوّره الطبيعيّ. وقد أكّد سبنسر على أنّ الطّبيعة التّطوّريّة أكثر ذكاءً من الإنسان، وهي تعمل في خدمة تطوّره ونمائه وارتقائه[122]ـ وهو بذلك يأخذ بالنّظريّة التي تقول بأنّ المجتمع ينمو بشكل أفضل وبشكل تدريجيّ إذا ما ترك على سجيّته وطبيعته التطوريّة، ولذا يجب تركُه دون أيّ شكل من أشكال التّدخّل الخارجيّ، لأنّ مثل هذا التدخّل يؤدّي حتماً إلى نتائج سلبيّة في المجتمع، ويضرّ بحركة تطوّره الارتقائيّة، وعلى هذا الأساس كان يماثل الأفراد والمؤسسات الاجتماعية بالنباتات والحيوانات التي تخضع لقانونية البقاء للأصلح والارتقاء الأمثل عن طريق الاصطفاء[123].
وقد أعلن سبنسر عن أفكاره الاصطفائيّة "الوحشيّة" هذه في كتابه: "التوازن الاجتماعي" الصّادر في عام 1850 (Social Statics) الذي يرى فيه بأنّ الرأسمالية الإمبريالية خدمت الحضارة بقدرتها على إزالة الأعراق الأدنى من الأرض بوصفها قوى مضادّة للحضارة والتطوّر الإنسانيّ. وطبّق سبنسر مقولاته القاسية على المجتمع البشريّ: الأعراق، والدولة، وعمّم مقولته بالقول: "إذا كانوا كاملين بما يكفي للعيش، فإنهم يعيشون، ومن الجيد أن يعيشوا. إذا لم يكونوا كذلك بما فيه الكفاية، كاملين للعيش سيموتون، والأفضل أن يموتوا.
ومن المؤسف أنّ سبنسر قد بالغ في هذا الأمر، وتطرّف فيه بخشونة يراها كثيرون مضادّة للقيم الأخلاقيّة، وتبدو وحشيّته القاسية في قوله مثلا: "لا توجد لعنة على الأجيال القادمة أعظم من تلك الخاصة بتوريثهم عددًا متزايدًا من الأغبياء والعاطلين والمجرمين.... إنّ مجهود الطبيعة كله هو التخلص من هؤلاء، وتطهير العالم منهم، وإفساح المجال للأفضل".[124]
وقد ذهب في بداية أعماله إلى اعتقاد متطرّف مفاده أنّ للحرب دورا كبيرا في تطوّر المجتمعات الإنسانيّة. ووجد أنّ الانتصار في الحرب كان من نصيب الأصلح، وهذا يعني أنّ المجتمعات الأكثر تنظيماً هي التي كانت تنتصر، وبانتصارها يتحقّق مبدأ البقاء للأصلح، ويزداد المجتمع رقيّا وتنظيما. وضمن هذا التوجّه الحربيّ الاصطفائيّ يرى سبنسر أنّ المجتمعات الأكثر تعقيدًا، والأفضل تنظيماً سوف تنتصر في حروبها ضدّ المجتمعات الأقلّ تعقيدًا والأقلّ تنظيماً. وهكذا، تفرض الحرب هيمنة قانون البقاء للأقوى والأصلح. ولكن يبدو أنّ سبنسر ناقض نفسه لاحقا، ولم يثبت على فكرة الحرب هذه، ولا سيّما في المجتمعات الحديثة، إذ وجد في النّهاية أنّ الحرب في المجتمعات الحديثة تعني التّدمير، وتنذر بتدمير الحضارة في نهاية الأمر، واعتقد أنّ المجتمع الصناعيّ سيكون المجتمع الذي يرفض الحرب، ويميل إلى السّلام الدّائم.
مفاهيم سوسيولوجيّة:
ألّف سبنسر الكتب في علم الاجتماع، وحبّر آلاف الصفحات، وكتب مئات المقالات، تاركا خلفه تراثا ثريّا في مجال علم الاجتماع، وفي هذا التّراث الهائل من الدّراسات والأبحاث لم يترك ظاهرة سوسيولوجيّة تفلت من بين يديه، أو فكرة تطير خارج المظلّة الواسعة لفكره وإنتاجه العميق الشّامل. فالمجتمع كما يراه كينونة واحدة مترابطة الأطراف، ولا يمكن لأيّ ذرة منه أن تخرج خارج السّياق الاجتماعيّ وظيفيّا وبنيويّا. ولذا كانت دراساته جميعُها في صلب المجتمع والاجتماع. ويمكننا في هذا السّياق أن نشير، ولو بشيء من الإيجاز، إلى بعض المفاهيم التي عالجها وما أكثرها وأعمّها وأشملها.
7- الأيديولوجيا الوحشيّة واللّيبرالية الجديدة في فكر سبنسر:
يصعب حدّ الاستحالة على أيّ مفكّر سوسيولوجي أن يضع نفسه خارج دائرة الإيديولوجيا السّياسية والاجتماعيّة حتّى لو حاول ذلك، أو أنكره، لأنّه سرعان ما يتمّ تأويل مواقفه في ضوء التوجّهات الأيديولوجية القائمة بين الرأسمالية والاشتراكيّة. وهو ما يعني الاستحالة الموضوعيّة لعدم التموقع ضمن التّيّار البرجوازيّ أو الماركسيّ... وهذا ما ينطبق على سبنسر نفسه كما سنرى.
يعدّ سبنسر أحد أبرز مؤسّسي الاتّجاه البنيويّ الوظيفيّ في علم الاجتماع، ويرى كثير من النقّاد أنّه أوّل من بدأ باستخدام المفاهيم البنيويّة الوظيفيّة مثل: "(النّظام) و(الوظيفة) و(البنية) و(المؤسّسة) في علم الاجتماع. كانت نقطة تفوّقه على كونت أنّه اعتمد، بشكلٍ أكثر اتّساقاً، على الدّراسات التّجريبيّة. وكان من أوائل من حاولوا تحديد مفاهيم التّطوّر والتقدّم والتّغلّب على أوجه القصور في المفهوم الخطّيّ للتّطوّر، وإنشاء جسر يمتدّ بين السّوسيولوجيا والأثنولوجيا"[125].
وفي هذا السّياق يُجمع الكتّاب والنقّاد على تصنيف نظريّة سبنسر تصنيفا برجوازيّا رأسماليّا محضا لا لَبس فيه. فهو يرفع شعاراتِ الحرّية اللّيبرالية بوضوح، ويُعَدّ من أكثر المفكّرين حماسة وانتصارا للشّعار الرأسماليّ الليبراليّ الشّهير "دعه يعمل دعه يمر". وقد كرّس دعوته إلى تعزيز هذا الشّعار وتأصيله في كتابه: "رجل ضد الدولة". وطالب صراحةً بعدم تدخّل الدّولة في مختلف شؤون الحياة الاقتصاديّة والتعليميّة والسّياسيّة، بل نادى بأن يقتصر دورها على حماية أمن الأقوياء في منازلة الفقراء والمسحوقين.
كان يُنظر إلى سبنسر في البدايات على أنّه سياسيّ ليبراليّ معتدل، ولكنّه اتّجه لاحقا إلى التّشدّد في نظريّته الاصطفائيّة التي وصفت بالدّاروينيّة الاجتماعيّة، وشعارها مبدأ "عدم التدخّل" الذي يرى فيه أنّ الدّولة يجب عليها ألاّ تتدخّل في الشّؤون الاجتماعيّة، وأن تبقى في حدود وظيفتها الأمنيّة لحماية ذوي المخالب والأنياب ضدّ ذوي الأظلاف والأخفاف، أي تحقيق أمن الأقوياء في افتراسهم للضّعفاء تعبيرا عن قانون الانتخاب الطّبيعيّ بقاءً للأصلح ووفاءً للأقوى[126]. كان سبنسر مضادّا لكارل ماركس تماما، إذ لم ير شيئًا في الثّورة الصناعيّة إلاّ التقدّم والعدل والرّخاء، ولم ير إلاّ الخير والجمال والعطاء في رجال الصّناعة والرأسماليين، فجعلهم ملائكة الله في الأرض، ورسلَ السّماء في عالم الإنسان يعوّل عليهم في بناء أرض الأحلام والسّلام للإنسانية جمعاء.
لم يَكِلَّ سبنسر أو يملّ من مهاجمة تدخل الحكومة، "فعارض إشراف الحكومة على التعليم وتمويله، وعارض حماية الدّولة للمواطنين، من الاحتيالات والتّدليسات الماليّة. وقد ذهب مرة الى وجوب أن تكون إدارة الحرب إدارة خاصّة لا حكوميّة. لقد حمل كتابه إلى النّاشر بنفسه، لفقدان ثقته بموظّفي البريد الحكوميّين. وكان رجلا فرديّا شديدا، يصبر على الحياة وحيدا، وكلّ قانون جديد هو في نظره هجوم على حرّيّته الشخصيّة. إنّه لم يدرك ما قاله «بنيامين كيد، وهو أنه باعتبار أنّ الانتخاب الطبيعي يعمل أكثر فأكثر في الجماعات والطبقات والمنافسات الدولية، وأقل فأقل في الأفراد، فإن التّوسيع في مساعدة الأقوياء للضّعفاء أمر ضروريّ لابد منه. والسؤال المشروع الذي تجاهله سبنسر واضحة هو: " لماذا تحمي الحكومة المواطنين من القوى الطبيعية العنيفة، وترفض حمايتهم من القوى الاقتصادية العنيفة"[127].
يعدّ سبنسر في حقيقة الأمر من أكثر رجال الفكر تطرّفا برجوازيّا بدعوته الاصطفائيّة إلى شعار "البقاء للأصلح والأقوى"، ومن سيكون الأقوى والأصلح في المجتمعات الرأسماليّة؟ أليسوا هم الرأسماليّون والتجّار والمقاولون؟ ومن هم الأضعف؟ أليسوا هم العمّال والفقراء والمسحوقون؟ من الواضح أنّه كان في نظريّته الاصطفائيّة ينادي بالقضاء على الضّعفاء والكسالى والمسحوقين، ونظر إليهم بوصفهم عبئا على المجتمع، وعقبة في وجه التقدّم والحضارة. وقد عرف عنه أنّه وقف ضدّ كلّ أشكال الثّورات الاجتماعيّة باعتبارها حركاتٍ مناهضةً للتقدّم الطبيعيّ الذي تؤكّده نظريّته الاصطفائية التطوّرية. وقد أدان " أي محاولات لإعادة تنظيم المجتمع ثورياً، حيث رأى في التدمير الثوري انتهاكاً غير طبيعي للقانون الذي يقول بأن أي تطور "يتبع الخطوط الأقل مُقاومةً"[128].
ولا يخفى على أحد من الدّارسين أنّ فكرة سبنسر التّطوريّة وتأكيده قانون "البقاء للأصلح "قد شكّلا منصّة لتبرير عدم المساواة الطبقيّة والعرقيّة والجنسانيّة في المجتمعات الغربيّة، وقد اسْتُخْدِمت أفكارُه هذه ضدّ أيّ محاولة للقضاء على أسباب التّفاوت الاجتماعيّ والإمعان في قهر الطّبقات الفقيرة المهيضة واستلاب حقوقها وأمانيها. ومن الواضح أيضا أنّ كبار الصناعيّين الأثرياء قد أشادوا بنظريّته، وبجّلوها لأنّها تشكّل تسويغا أيديولوجيّا لسطوتهم وسيطرتهم وسلبهم حقوق العمّال والطّبقات العاملة في مجتمعاتهم.
كانت الداروينيّة الاجتماعيّة التي نادى بها سبنسر بمثابة التبّرير الأيديولوجيّ الصّارخ لتفوّق العرق الأبيض وهيمنة الشّعوب الأوروبية، والانتقاص من الشّعوب التي لم تصنع تاريخا رأسماليّا صناعيّا. وتمّ توظيف هذه الدّاروينيّة السّبنسريّة لقمع الأمريكيّين من أصل أفريقيّ، واضطهادهم، وتبرير الجرائم العنصرية التي ارتكبت بحق السّكّان الأمريكيّين الأصليّين وأدت إلى استئصال شعوب وأمم بأكملها. وممّا لا شكّ فيه أنّ كثيرا من أفكار سبنسر العنصريّة قد تجذّرت بقوّة في التّفكير السّياسيّ والاجتماعيّ للطّبقات البرجوازيّة على مدى قرن من الزّمان.
ومن المهمّ التّأكيد أنّ سبنسر لم يقف عند تطرّفه في مجال النّظريّة الاصطفائيّة التي وُظِّفت ضدّ المضطهدين في التّاريخ الغربيّ، وإنّما ذهب إلى أبعد من ذلك عندما أعلن بأنّ الأنظمة الاشتراكيّة ستشكل وبالا على وبال على المجتمعات الإنسانيّة. لقد أقرّ بأنّ النّظم الإقطاعيّة والعسكريّة تنتهي الى نظم اشتراكيّة. يقول موضّحا: "النظام الاشتراكي كالنظام العسكري يقوم على النظام المركزي، وتوسيع سلطة الحكومة، والقضاء على المبادرة الفردية وتبعية الفرد وإخضاعه. والنظام القائم وراء كل منظمة هو أنها تميل الى الصلابة والشدة عندما تكتمل قوتها والاشتراكية ستؤدي الى جماعة بشرية من النحل والنمل، وستؤدي الى نظام من الاستعباد أشد قنوطا ويأساً من الوضع الحالي"[129].
كان سبنسر "يشعر بالغثيان والمرض لمجرد التفكير في عالم يحكمه العمّال، ولم تفتنه أو تستهوي قلبه دعاية زعماء النقابات والاتحادات التجارية في جريدة "لندن تايمز"[130]. وأشار إلى "عدم جدوى إضراب العمال، لأنه عندما يفوز العمال عن طريق الأضراب برفع أجورهم، سترتفع أسعار الحاجيات نتيجة لرفع الأجور، وسيعود الموقف إلى ما كان عليه من قبل هذا بالإضافة إلى "أن المظالم التي تنزل بأصحاب الأعمال موازية للمظالم التي تنزل بالعمال"[131].
كان سبنسر، إجمالا، من أخطر روّاد الأيديولوجيا الرّأسماليّة وأكثرهم فتكا وتدميرا. ولم يستطع بعد قضاء عمره المديد أن يرى آلام المعذّبين والمقهورين في الأرض، فدعا إلى سحقهم وتدمير أحلامهم تحت معاول الاصطفاء دون أن يرفّ له جفن.
شنّ سبنسر هجماتٍ شرسةً ضدّ حركات الإصلاح في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى الإثر وجدت آراؤه العنصريّة الاصطفائيّة وانتصاره المطلق للحرّيات الليبراليّة قبولا واسعا في صفوف الرأسماليّين والأحزاب اليمينيّة المتطرّفة في أوروبا وأمريكا، لا سيّما في بداية القرن الحادي والعشرين. وقد أعجب الرأسماليّ الكبير موراي روثبارد (Murray Rothbard) بأفكار سبنسر، وذهب إلى وصف كتابه "الاستاتيكا الاجتماعية" بأنّه "أعظم عمل منفرد كتب في مجال الفلسفة السياسية التحررية على الإطلاق. وفي هذا الكتاب – كما نعلم - أعلن سبنسر حقّ الفرد في تجاهل الدولة، ورفض نفوذها وانتقد بشدّة النّزعات الوطنيّة والقوميّة.
كان سبنسر يدافع بحماسة عن الحرّيات العامّة وعن مبدأ "دعه يمر دعه يعمل" في السياسة والتّجارة والتّعليم، "وينفر من كل استخدام للقوة في الدولة، ومن كل طغيان ونزعة عسكرية، ومن كل سيطرة في الأذهان وقمع للرأي الحر، ومن التعصب الكنسي، وكل ما يماثل ذلك. ولقد كان في ذلك كله يعكس بدقة المثل العليا للقرن التاسع عشر، بنزعته التحررية والفردية، وتقدمه المذهل، وحريته الوهمية، وإيمانه الذي لا يقدر بالعلم، وعدم اكتراثه بالدين؛ وهي كلها صفات تحمل بوضوح طابع عصر التنوير الذي يرجع أصلها إليه"[132].
ومن المهمّ التّذكير أنّ أفكار سبنسر الليبرالية شكّلت المنطلق الأساسيّ لما يسمّى بالليبرالية الجديدة التي ترفض سطوة الدّولة في الميدان الاقتصاديّ والاجتماعيّ. وهو الاتّجاه الذي تبنّته مارغريت تاتشر (رئيسة وزراء بريطانيا سابقا). وقد أعلنت تبنّيها سياسيّا لنظريّة سبنسر اللّيبرالية المتطرّفة التي أسّست للنّظام اللّيبراليّ الجديد. وهو نظام، كما بات معروفا، يشكّل اليوم أكثر الأنظمة خطورة على المجتمعات الإنسانيّة.
لقد مثّلت فلسفة سبنسر اللّيبراليّة مصدر إلهام للمفكّرين الرأسمالييّن الذين يعتقدون أنّ الأفراد هم أسياد مصيرهم، ويجب عليهم رفض تدخّل الدولة في شؤون المجتمع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وقد وجد القضاة المحافظون في المحكمة العليا للولايات المتحدة في نظريّة سبنسر مصدر إلهام لهم للإقدام على إلغاء قانون نيويورك الذي يحدّ من عدد ساعات عمل الخبّاز خلال الأسبوع، بذريعة أنّ هذا القانون يقيّد حرّية التّعاقد اللّيبراليّ ويناقضه. وغالبا ما يُنظر اليوم إلى أفكار سبنسر ونظريّاته بوصفها نموذجا يستوحيه كبار المفكّرين اللّيبراليين الجدد المعاصرين.
8- تأثير سبنسر- من الصّعود إلى الانحسار:
لا يستطيع أحد من المفكّرين أن ينكر الثّقل الكبير الذي شكّله سبنسر في الفلسفة وعلم الاجتماع، ولا يمكن لأيّ من النقّاد عبر التّاريخ الحديث أن يُصِمّ أذنيه عن الضّجيج الهائل الذي أحدثه في المجال السّوسيولوجيّ في نهاية القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين. وقد قُدِّر لسبنسر دورٌ مهمٌّ وخطير في الحياة الفكريّة خلال العصر الفيكتوريّ. وكانت شهرته في ذلك الوقت تملأ الآفاق مساوية لتشارلز داروين كواحد من أبرز المؤيّدين لنظريّة التطوّر في منتصف القرن التاسع عشر. وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، أصبح سبنسر فيلسوفًا وعالمًا معترفًا به عالميًا. وقد نُشرت كتبُه على نطاق واسع، وحظيت أفكارُه بقدر كبير من الاحترام والاهتمام. وتجدر الإشارة إلى أنّ كتابه "المبادئ الأولى" قد حظي بشهرة عالمية منقطعة النّظير. جعلت سبنسر واحدا من أكثر الفلاسفة أهمّيّة وخطورة في القرن التاسع عشر. وسرعان ما تُرجم كتابه هذا الى معظم اللّغات العالمية. ولم يقتصر تأثيرُه على الحركة الفكريّة في أوروبا فحسب، بل تعدّاها الى الحركة الواقعية في الأدب والفنّ[133].
وليس من الصّدفة في شيء أنّ معظم النقّاد والمفكّرين في مجال السّوسيولوجيا يصفونه بالأب الثّاني لعلم الاجتماع بعد كونت، أو بالأب الثّالث لمن يرى أنّ ابن خلدون هو المؤسّس الأول. وهذا ما عبّر عنه ول ديورانت في كتابه: "قصّة الفلسفة "، قائلا: "لم يقدّم أحد لعلم الاجتماع ما قدّمه «سبنسر» وحتى کونت مؤسّس هذا العلم لا يباريه في هذا الأمر "[134]. وقد أشار ديورانت إلى كتابه «دراسة علم الاجتماع" بأنّه الأصل الذي انطلق منه علم الاجتماع كعلم متكامل الأركان وارف الأغصان. ففي هذا الكتاب يؤكّد سبنسر على أنّ الظواهر الاجتماعية هي نظام معقّد متشابك تتفاعل فيها العلل والمعلولات. وهو الكتاب السوسيولوجي الأوّل الذي تتّضح فيه معالم السّببيّة بين الظواهر الاجتماعية في مختلف تجلّياتها وتعيّناتها، وقد أوضح في كتابه هذا أنّ من يدرس المجتمع يجب عليه ألاّ يقنع بمجرّد ترتيب الظّواهر الاجتماعيّة في سياقها التاريخيّ فحسب، بل أن يدرس هذه الظّواهر في سياق نظام سببيّ ضاربٍ بجذوره في أعماقها، وهو النّظام العلّي والسببيّ الذي يجعل من هذه الحقائق والظّواهر موضوعا لعلم الاجتماع بوصفه علما يقوم على القانونيّات الكونيّة التي تحكم المجتمع والتّاريخ[135].
ونظرا لنجاحه الكبير في التّأسيس لعلم الاجتماع على أسس منهجيّة راسخة حقّق في سبعينيات وثمانينيات القرن التّاسع عشر حضورا فكريّا لا مثيل له ميّزته كثرة أنصاره وقرّائه ومتابعيه. ويعترف المؤرّخون أنّ سبنسر كان الفيلسوف الاجتماعيّ الأكثر قراءة في القرن التّاسع عشر، وربّما كان الفيلسوف الأوّل – ولعلّه الوحيد- في التّاريخ الذي يبيع أكثر من مليون نسخة من أعماله خلال حياته، إذ تمّ بيع أكثر من مليون نسخة من كتبه في أنحاء العالم بين عامي 1860 و1903. وأشار ويليام جيمس إلى أنّ أعمال سبنسر قد أدّت إلى "إطلاق العنان لخيال وتفكير عدد لا يحصى من الأطباء والمهندسين والمحامين، والعديد من الفيزيائيين والكيميائيين والعامّة عبر العالم ". وأشاد الكاتب البولنديّ البارز في تلك الفترة بوليسلاو بروس بسبنسر واصفًا إياه بـ «أرسطو القرن التّاسع عشر». وفي هذا السّياق يقول ريتشارد هوفستاتر: "في العقود الثلاثة التي تلت الحرب الأهليّة، كان من المستحيل على المفكّر أن يكون نشطًا في أيّ مجال من مجالات العمل الفكريّ دون إتقان سبنسر واستحضاره[136]. وقد كان من بين مؤيّديه رجل الصّناعة المهمّ أندرو كارنيجي، الذي كتب رسالة إلى سبنسر أثناء مرضه عام 1903 يقول فيها: "يركض العالم فاقدًا للوعي بأعظم عقله (...) لكنه سيستيقظ يومًا وسيكون مكان سبنسر هو الأعظم"[137]. كما لاقت أفكاره اهتماما حماسيّا من قبل المفكّر الأمريكي ويليام جراهام سمنر (William Graham Sumner)، وهو من أهمّ علماء الاجتماع الأمريكيّين، والرّئيس الثّاني لجمعية علم الاجتماع الأمريكية بعد (ليستر وارد) أوّل رئيس لها. وقد وجد لوثر برنارد في استطلاع له في عام 1972 أنّ 258 من علماء الاجتماع الأمريكيّين من اعتبر سبنسر أحد أكثر علماء الاجتماع الأوروبيّ نفوذاً وتأثيرا في ذلك العام قد بلغت نظريّات سبنسر من الأهميّة أنْ أصبحت تُدرّس حتىّ اليوم في أرقى الجامعات، ويمكن الإشارة إلى أن جامعة أكسفورد قامت باعتماد كتابيْه: "مبادئ علم الأحياء" و" المبادئ الأولى" في مناهجها في عام 1869. كما تمّ تدريس كتابه "مبادئ علم النفس" في جامعة هارفارد، وهو الكتاب الذي اعتمده الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس مقرّرا دراسيّا. ودرّس كتابه "أسس علم الاجتماع " في جامعة يال Yale، وشكّل هذا الكتاب منطلقا لاعتماد علم الاجتماع تخصّصًا علميا معترفاً به في المدارس والجامعات في الولايات المتّحدة.
زار سبنسر الولايات المتّحدة سنة 1882، واستقبل بالحفاوة والتّكريم بوصفه الفيلسوف المدافع عن اللّيبراليّة الرّأسماليّة. وقد أعجب كثيرًا بما لاحظه من تطوّر صناعيّ أكّد له إيمانه بالثّورة الصناعيّة وقواها المتنامية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وفي هذا الزّيارة نال إعجاب وتقدير عدد كبير من المفكّرين الأمريكيّين ولا سيّما الصّناعيّين الذين رحّبوا به، وصادقوه وعلى رأسهم رجل الصّناعة الكبير أندرو كارنيجي (Andrew Carnegie). الذي أصبح صديقا دائما مقرّبا من سبنسر حتّى وفاته.
وجد الداروينيّون الجدد وأنصار نظريّة تحسين النّسل في أفكار سبنسر ونظريّاته سندا فكريّا قويّا، فاستلهموه، وروّجوا لنظريّاته وأفكاره، ولا سيّما تلك التي جاءت في بحثه الموسوم "النظرية الجينية للاصطفاء الطبيعيّ (The Genetical Theory of Natural Selection)، إذ قام عالم الأحياء الإنجليزي رونالد أ. فيشر باستلهام أفكار سبنسر ونظريّته في مجال علم تحسين النّسل. وينسحب هذا الأمر أيضا على الداروينيّين الاجتماعيّين الجدد "الذين غالبًا ما يستشهدون باسم سبنسر (وفي كثير من الأحيان باسم داروين) لإضفاء الشرعية على دعوتهم إلى أن المنافسة الطبيعية بين الأفراد يجب أن يُسمح لها أن تلعب دورها داخل المجتمعات تمامًا كما يحدث في العالم الطبيعي"[138].
وككلّ فكر منخرطٍ في شروطه التّاريخيّة والحضاريّة المتحوّلة والمتغيّرة أبدا، أعقب الصّعودَ الكبيرَ لشهرة سبنسر وحضورَه الفائقَ في منتصف القرن التاسع عشر أفولٌ كبيرٌ في وميضه الفكريّ، وتراجعٌ ملموس في تأثيره بعد وقت قصير من وفاته. وقد عبّر تالكوت بارسونز في عن الانحسار الكبير في عام 1937 بقوله المشهور: "لقد مات سبنسر"! من يقرأ سبنسر الآن؟ ووفقاً لتشارلز كولي تضاءل تأثير سبنسر في الفكر الاجتماعيّ الأمريكيّ مع بداية القرن العشرين، إذ بدأت سهام النّقد تضرب في بنية نظريّاته وأفكاره التطوريّة رفضا لكلّ الأشكال الأيديولوجيّة التي نادى بها وعمل على ترسيخها.
تراجعت شهرتُه بسرعة بالدّرجة نفسها التي صعدت بها، فقد طال عمره، حتّى شَهِد ذروة شهرته، كما شهد لاحقا هبوطَ مجده، وسقوط أفكاره، ورفضها تماما، إذ أقبل رجال القانون على إصدار التّشريعات التي تنصّ على ضرورة تدخّل الدّولة والحكومة لحماية مصالح الضّعفاء من بطش الأقوياء وسطوتهم، وشهد تحوّل الحكومة الى حكومة أبويّة تحنو على أبنائها من أفراد الشّعب وترعاهم دستوريّا[139].
وقد أصبح سبنسر مكروها ومنبوذا من معظم أفراد الشّعب بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعيّة[140]، ومن ثَمَّ تجاهل العلماء أفكاره العنصريّة، وترصّدوا هفواته، وتناولوا أخطاءه بالنّقد والتّجريح، واتّحد رجال الدّين على رفض نظريّاته، وتحوّل العمّال الذين أحبّوا فيه استنكاره للحرب عنه في غضب بعد أن أعلن عن آرائه السّلبية في الاشتراكيّة، ونقضه للاتّحادات العمالية[141].
كان سبنسر صريحا في طرح أفكاره، فأثار سخط الجميع ضدّ آرائه وتصوّراته ونظريّاته في مختلف مستويات المعرفة الفلسفيّة والسوسيولوجيّة. وبعد أن أظهر تعاطفه مع العمّال، واعتبرهم ضحايا أصحاب العمل، سرعان ما ارتدّ إلى القول بأنّهم لن يكونوا أفضل من أصحاب العمل إذا ما انتقلت السّلطة الى أيديهم[142].
9- نقد نظريّة سبنسر:
لم تستطع الآلهة أن تُفلت من قبضة النّقد العقليّ، كما لم تستطع الكتب المقدّسة أن تنجوَ من سهامه. ومهما يكن الفكر حرّا طليقا، فإنّ سهام النّقد لا بدّ أن تصوّب نحوه يوما ما، والفكر الحرّ، كما يقول نيتشه، يُحدث ضجيجا في المكان الذي يوجد فيه. فعلى الرغم من التّبجيل والتّعظيم والحضور الفائق لفلسفة سبنسر ونظريّته السوسيولوجيّة، وعلى الرغم من كثرة الانتصارات التي سجّلها بقرائه وأنصاره ومؤيّديه وحضوره جاءت سهام النّقد الجارحة لتفكّكه وتعرّيه وتفضح هشاشته. إذ لا بدّ لكلّ فعل أن يثير ردّة فعل تعادله في القوّة وتعاكسه في الاتّجاه. وهكذا، أثارت مواقف سبنسر ورؤاه، الفلسفيّة منها، والسوسيولوجيّة موجاتٍ هادرةً من النّقد والهجوم والرّفض لنظريّاته وأفكاره.
ومن يتأمّل في تلك الموجات النقدية، سيجد بأنّها كانت من طبيعة أيديولوجيّة مشبعة بالغضب ضدّ نظريّات سبنسر العرقيّة والدّاروينيّة التي استُخدمت في قهر الطّبقات المسحوقة والأجناس المغلوبة على أمرها.
تأخذنا أعمال سبنسر في معظمها إلى وصفه بأنّه علم اجتماع عنصريّ عرقي بامتياز. إذ حبّر آلاف الصفحات التي تبرّر الظّلم والقهر في المجتمع. وكانت نظريّته وبالا على الرّجال، والنّساء، والطّبقات الاجتماعية الضّعيفة، وعلى الأخلاق، والإنسانية، والحرية، والكرامة الإنسانية، وقد شكّلت نظريّاته اللّيبرالية الاصطفائيّة قوّة فكريّة وُظّفت ضدّ الضّعفاء والقاصرين والمظلومين في المجتمع، وزادت في معاناتهم تحت ذريعة قانونه الاصطفائيّ الرّهيب. وقد فضّل، كما أشرنا في كثير من مقاطع هذه الدّراسة، موت الفقراء والضّعفاء في المجتمع، ولم يبد أدنى تعاطف تجاه أحوالهم وأوضاعهم الصّعبة. وعبّر عن وحشيته ضدّ الفقراء بقوله "لا توجد لعنة على الأجيال القادمة أعظم من تلك الخاصة بتوريثهم عددًا متزايدًا من الأغبياء والعاطلين والمجرمين.... إن مجهود الطبيعة كله هو التخلص من هؤلاء، وتطهير العالم منهم، وإفساح المجال للأفضل.... إذا لم يكونوا كاملين بما يكفي للعيش، يموتون، والأفضل أن يموتوا"[143]. ومن اللاّفت أنّ سبنسر لم يقف، ولعلّه لم يرد أن يقف، على الأسباب والعوامل الاجتماعيّة الاستلابيّة التي هوت بهؤلاء المسحوقين إلى الدّرك الأسفل من الضّعف والفاقة والعوز والحرمان.
من المؤّكد أنّ نظريّات سبنسر العرقيّة الاصطفائيّة قد زادت في عذاب المقهورين والمسحوقين والمعذّبين في الأرض، ووجدت صداها التبريريّ في عقول رجال الصّناعة والأغنياء والأقوياء الذين وجدوا في أفكاره العنصريّة ملاذا آمنا وتشريعا "أخلاقيا" يبرّر لهم زيادة معاناة الفقراء والمسحوقين. وقد شملت عنصريّته الأخلاق التي أرادها أن تكون أخلاق الغابات، أخلاق المخالب والأنياب والدّماء التي تقود إلى بقاء الوحش الأقوى لتعزّز من سطوته وقوته ووحشيّته.
ومن الواضح أن سبنسر غلّب الجانب الوحشيّ على الجانب الإنسانيّ في نظريّاته، ولا سيّما في نظريّته الداروينيّة الاصطفائيّة، ومن يتأمّلْ تاريخ الإنسانية، يجدْ أنّ قوى الشرّ هي التي تنتصر وتسود في عالم المجتمع والإنسان. فالأشرار والقتلة والسّفاحون والمجرمون هم الذين يفوزون وينتصرون في نهاية الأمر. والأقوياء في المجتمع غالبا ما يحملون في ذواتهم طاقة شرّيرة تمكّنهم من النّصر والسّيادة والهيمنة. والتّاريخ يعلّمنا أنّ كثيرا من الحضارات الإنسانيّة العظيمة قد تمّت إزالتها بقوة الاصطفاء الاجتماعيّ الداروينيّ الشّرير. فها هو هولاكو يسحق حضارة العرب والمسلمين، ويرمي بها في نهر دجلة، وها هم الأمريكيّون الغزاة يدمّرون حضاراتٍ بأكملها وُصفت بالقوّة والعظمة والتّسامح مثل حضارات المايا[144] والأنكا[145] والإزتيك[146] في أمريكا التي قضت عليها وحشيّة الإنسان الأبيض، إنسان دارون وسبنسر، وهي حضارات رائعة قُدّر تاريخها بثلاثة آلاف سنة، واستطاع الإنسان الأبيض بغدره ووحشيّته إبادة هذه الحضارات الجميلةَ. ولم يكن تاريخ الوجود الإسبانيّ في البيرو، وبقيّة مناطق حضارة الأنكا، سلميّاً، فإلى جانب جلبه الأوبئة والأمراض، كان دمويا في معاملة هذه الشعوب، ناكثا بالعهود، مجبرا البشر على العمل كعبيد في البحث عن الذّهب والفضّة لمصلحة التّاج الملكيّ الإسبانيّ، ولم يتوقّف حتى استطاع إبادة مختلف الحضارات السّامية على وجه الأرض وفقا لمبدأ سبنسر: البقاء للأقوى والأصلح. والأصلح هو السّيّد الأبيض الذي أغرق التراب بدماء البشر، وأسقط حضارات الإنسانيّة الممتدّة عبر التاريخ وما زال يفتك ويدمّر.
ومن الانتقادات العنيفة يشار إلى الهجوم الذي شنّع عالم الاجتماع لاستر فرانك وارد (Lester Frank Ward) - الذي ترأّس جمعية علم الاجتماع الأمريكية لأوّل مرة - ضد سبنسر ونظريّاته العرقية اللّيبرالية التي يرفض فيها تدخّل الدّولة في مجال حماية الضّعفاء. وكان يعتقد أنّ تحيّزات سبنسر الأيديولوجيّة قد شوّهت فكره، ونالت من القيمة العلميّة لنظريّاته.
وفي مطلع القرن العشرين، واجهت نظريّات سبنسر معارضة شديدة من قبل روّاد الجيل الأول من علماء الاجتماع الألمان المناهضين للتيّارات الوضعيّة في علم الاجتماع، وقد وجد هذا الرّفض صدى لدى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي رفض التّوجّهات الوضعيّة في نظريّة سبنسر واتّجاهاته الأيديولوجيّة. وقد شكّلت أفكاره حول عدم التّدخّل، والبقاء للأصلح، وقانون الانتخاب الطبيعيّ نقدا شديدا من قبل علماء الاجتماع في أوروبّا وأمريكا، وفي مختلف أنحاء العالم. ونُظِر إلى هذه المقولات على أنّها مقولات عدوانيّة ضدّ الإنسان والإنسانيّة. أمّا الفيلسوف البريطاني جورج إدوارد مور (George Edward Moore) فاتّهمه، في كتابه (أصول الأخلاق) (Principia Ethica)، بـ "المغالطة الطبيعيّة" التي تتمثّل في استيحائه للأخلاق واستنباطه للقيم من قانون الانتخاب الطّبيعيّ (البقاء للأقوى)، وعارضه بتأسيس الأخلاق على الفطرة والفضيلة الإنسانيّة.
وقد وجد بعض المفكرين عددا كبيرا من الملاحظات النّقدية العنيفة ضد نظرية سبنسر التّطوريّة، وبينوا أن نظريته تعاني من تناقضات صارخة يظهرها الواقع الحيّ لتطوّر المجتمعات الإنسانيّة، إذ بيّنت بعض الدّراسات الأنثروبولوجية أنّ هناك بعض القبائل البدائيّة لم تتأثّر أبدا بأيّ عملية تطوريّة كالتي يتحدّث عنها سبنسر. ورفض النقّاد أن يكون هناك نمط واحد للتّطوّر الاجتماعيّ في مختلف المجتمعات الإنسانيّة، كما أراده سبنسر، لأنّه يخضع في مساراته لمتغيّرات وعوامل مختلفة متأصّلة في المجتمعات الإنسانيّة. وقد رُفضت نظريّتُه التي تتعلّق بالصّراع من أجل البقاء، وبيّنت بعض الأبحاث أنّ المجتمعات الإنسانيّة تحكمها عوامل مختلفة في مسار حياتها ووجودها، فهناك مظاهر كثيرة تتعلّق بالتّعاطف والغيريّة والتّضحية والحبّ، وهي عناصر وجوديّة مختلفة عن غائيّة الصّراع للبقاء أو البقاء للأقوى والأصلح.
ومن الانتقادات التي وُجِّهت إلى فلسفة سبنسر التّطوريّة يشار إلى نقد فكرته القائلة بالحركة الطبيعيّة من المتجانس اللامتعيّن إلى المختلف المتعيّن، "إذ يرى أن الكل المكوّن من أجزاء متشابهة أكثر تغيّراً من الكل ذي الأجزاء المتنافرة؛ وهذا الأمر قد وجد نقيضه في كثير من الدراسات السوسيولوجية والحيوية التي ترى أن التنافر يؤدّي إلى عدم الاستقرار والتنافر والصراع بدرجة أكبر من حالة الاستقرار والتلاشي، كما وجه النقد إلى فرضيته التي تقول بأن الأسبق زمنياً يكون أقلّ تعقيداً وهذا يناقض ما هي عليه البرتوبلازما (المادة الزلالية الحيوية الأولية التي تنتج منها الخلايا) من تعقيد في التركيب"[147].
إن تعريف سبنسر للتّطوّر بأنّه عملية انتقال من البسيط الى المركّب تعريف ساذج بكلّ المقاييس، لأنّ هذا التّعريف يصف التطوّر في الطّبيعة، ولا يفسّره. والمهمّ هو التّفسير لا الوصف. وفي هذا يقول برجسون: إنّ قانون سبنسر "يحلل الطبيعة ولكنه لا يفسرها، وإن أضعف نقطة في التعريف هي قوله بعدم استقرار المادة المتجانسة، وانتقالها الى حالة التنافر. فهل يعتقد سبنسر بأن الكل المتشابه الأجزاء أقل استقراراً وأكثر تغيراً وتحولاً من الكل المتنافر الأجزاء؟[148]. "أليس المفروض أن يكون المتنافر الأكثر تعقيداً بحكم تنافره أقل استقراراً وأكثر تحولاً وتغيراً من المتجانس البسيط. إن علم أجناس الأمم وأصولها ومميزاتها وتفرقها والعلوم السياسية تعترف وتسلم بأن التنافر والاختلاف في الأجناس يؤدي الى عدم الاستقرار"[149]. لقد بيّنت الدّراسات أنّ ظاهرة فن المعمار القوطي أكثر تعقيداً مـــــن المعمار اليوناني، ويبدو أنّ سبنسر قد تسرّع في افتراضه بأن الأسبق في الزمن يكون أبسط في التركيب والبناء، وذلك لأنّ افتراضه هذا قلّل من أهمّية تعقيد البرتوبلازما والمادة الزلالية الحيوية التي تتكون منها خلية الأجسام الحيوية[150]. لقد بدأ سبنسر، كما يبدأ رجل العلم، بالملاحظة، ثم تقدّم، كما يتقدّم رجل العلم، في تكوين الفروض، ولكنّه لم يسلك بعد ذلك طريقة رجل العلم، فهو لم يلجأ إلى التّجربة أو الملاحظة العادلة، بل لجأ الى اختيار المعلومات المفضّلة التي تؤيّد وجهة نظره، وكان لا يحتمل الأمثلة السّلبية المعارضة لرأيه على نقيض (دارون» الذي وقع على معلومات تعارض نظريّته، فأسرع الى تسجيلها خوفاً من نسيانها، لعلمه بأنّ الإنسان ينسى ما يتعارض مع أفكاره، أما المعلومات المؤيّدة لنظريته وأفكاره فتبقى في ذاكرته مدة أطول[151].
وفي هذا الصّدد، يرى بعض المفكّرين أن أكبر العيوب والنقائص في نظريّة سبنسر البيولوجية تكمن في اعتماده على لامارك في نظريته: "وراثة الصفات المكتسبة"، وفشله أيضا في وضع تصوّر واضح عن الحياة، وقد اعترف لاحقا أنّ الحياة لا يمكن فهمها وإدراكها بالوسائل الفسيولوجيّة الفيزيائيّة، وهو باعترافه هذا يقضي على فكرته حول التّطوّر، وعلى تعريفه للحياة، وعلى تماسك الفلسفة التركيبيّة، فهو يقول إنّ الحياة عبارة عن تكيّف مستمرّ للكائن الحيّ مع ظروف البيئة الخارجيّة، وإنّ هذه الملاءمة تتمّ بطريقة طوعيّة. وكان الأفضل أن يقول إنّ الحياة تكمن في قوّة العقل، أو بعبارة أوضح إنّ هذه الملاءمة تتمّ بما لدى الكائن الحيّ من عقل. لأنّ مقدّمة سبنسر، وهي الملاءمة الطوعيّة بين الكائن الحيّ وبيئته، تعني أنّ الملاءمة التّامّة هي الموت، لأنّ الحياة تعني شيئا من مقاومة الخضوع للطّبيعة[152].
ويؤخذ على سبنسر في سياق المآخذ الكثيرة التناقض الذي استحوذ على فكرته القائلة: إنّ التطوّر والتقدّم أمران متلازمان، فقد يكون هناك تطوّر سلبيّ دون تقدّم، أو تقدّم دون تطوّر. وقوله هذا يتناقض مع معطيات العلوم المعاصرة إذ يمكن للفيروسات القاتلة اليوم أن تؤدّي إلى إبادة الجنس البشريّ، ويمكن لمجموعة من الضّباع أن تقضي على مجموعات من الأسود.
ومن الأغاليط الكبرى افتراضُه أنّ الدولة الصّناعية أكثر مسالمة من الدّولة الإقطاعيّة الحربيّة السّابقة التي سادت في العصور الوسطى، ولكنّ افتراضه هذا ينقصه الوضوح ويعوزه الدّليل. "فقد جاءت أكثر الحروب دمارا وتخريبا في أثينا بعد مدّة طويلة من زوال النّظام الإقطاعيّ واستسلامه للنّظام البورجوازيّ التّجاريّ. وقد شهدت أوروبا حروبا طاحنة أخطرها حربان عالميّتان أدّتا إلى خسائر تفوق خسائر جميع الحروب في تاريخ الإنسانيّة، وما تزال المجتمعات الإنسانيّة اليوم على شفير هاوية، فالحروب النّووية الصّناعية تهدّد الجنس البشري في كلّ مطلع شمس. إنّ أعظم دولة عسكريّة من بين الدّول الحديثة هي أمريكا، وتليها الصّين، وهما أعظم دولتين صناعيّتين في العالم. ومن المرجّح أنّ سبنسر دوّن نظريته في زمن آمن نسبيّا خلال العهد الفيكتوريّ في بريطانيا. ولم يشهد المجازر الأمريكيّة في سوريا والعراق وفيتنام، وفي مختلف أنحاء العالم"[153]. ولو "طال به العمر أكثر وعاش ليرى كيف اختفت نظرية حرية التجارة هذه باختفاء سيادتها التجارية والصناعية، وكيف اختفت روح إنجلترا المسالمة وحبها للسلام عندما هدد هجوم ألمانيا على البلجيك عزلتها وسلامتها. هذا كما أن سبنسر بالغ كثيرا في فضائل النظام الصناعي، فقد تعامى وأغلق بصره عن الاستغلال الوحشي الذي رافق الصناعة في إنجلترا. ولا غرابة أن أثارت الصناعة اشمئزاز «نيتشه، فاندفع إلى تعظيم العسكرية، وتمجيد فضائل الحياة العسكرية الحربية"[154].
ويتهكّم عالم الاجتماع الأمريكي بيتريم سوروكين (Pitirim Aleksandrovich Sorokin)[155] من نظريتيْ دوركهايم وسبنسر، ويوجّه نقدا شديدا لمبدأ المماثلة البيولوجيّة السّاذج للمجتمع عند كلّ من دوركهايم وسبنسر بقوله: "تعد أعمال كل من سبنسر وإميل دوركايم تطبيقا ساذجا للماثلة بين الكائن العضوي والمجتمع" [156] (...) "وقد ذهبوا الى أنه كلما كان المجتمع في حالة من التمايز والتكامل عالية، كلما زادت مركزيته وقلت حرية أعضائه وزاد تقسيم العمل فيه وكان المجتمع أكثر تقدما وكمالا والعكس صحيح، فالتقدم والتطور الاجتماعي يتمثل في ازدياد التمايز والتكامل الاجتماعي وازداد تقسيم العمل الاجتماعي والانتقال من حالة التجانس غير المحدد وغير المتسق إلى اللاّمتجانس المحدد والمتسق"[157]. وهذا يعني أنّ نظريتيْ سبنسر ودوركهايم لا تعدوان أن تكونا تطبيقا شكليّا جامدا لآليّات التطوّر البيولوجيّ في المجتمع.
وقد أخذ عليه كثير من النّقّاد إيمانَه المفرط بحدسيّاته الشّخصية ورفضه الاطّلاع على نظريّات المفكّرين الآخرين، والإعراض عن الفكر الإنسانيّ بما ينطوي عليه من خصوبة فكريّة، وهو الأمر الذي يفسّر تعصّبه الفكريّ الشّديد، وتراجع مستوى نظريّاته وانغلاقها، وقد مارس ما يسمى بـ "النظافة الدّماغية" التي تغنيه عن الحاجة إلى قراءة أعمال الآخرين، وفي هذا الأمر يقول سبنسر متفاخرا: "طوال حياتي كنت مفكرًا ولست قارئًا، وكنت قادرًا على أن أقول مع هوبز: " لو كنت قد قرأت قدر ما قرأته مثل الرجال الآخرين كنت سأعرف القليل ".[158] ومما لا شكّ فيه أنّ تجاهل الفكر الإنسانيّ يعد خطيئة علميّة كبيرة لا تليق بأيّ مفكر مهما بلغ من العلوّ والشهرة. وكان سبنسر عندما يقرأ عملاً آخر، "فغالبًا ما كان ذلك فقط للعثور على تأكيد لأفكاره التي تم إنشاؤها بشكل مستقل متجاهلا الأفكار التي لا تتفق مع نظرياته. وقد لاحظ معاصره تشارلز داروين هذا الأمر، وكان يتمنى لو أن سبنسر درب نفسه على قراءة الآخرين والاطلاع على أعمالهم لتمكن من أن يكون أكثر نجاحا وتفوقا وروعة[159]. ولا شكّ في أنّ منهج سبنسر العصاميّ الحدسيّ قد أفقده كثيرا من التألّق والقدرة على إدراك العالم بصورة أفضل، ولو سعى إلى الاطّلاع على أراء غيره لاستطاع أن يسلم من كثير من الأفكار العنصريّة المشينة والتّأكيدات التي لا أساس لها من الصحّة حول تطوّر العالم. وتشكّل هذه العصاميّة التي انطلق منها سبنسر في تدوين أفكاره بصورة مستقلّة، منطلقا لعلماء الاجتماع في القرن العشرين لرفض أعماله واستبدال نظريّته بالمعرفة الدّقيقة والبحث التّجريبيّ.
ولم يسلم سبنسر من نقد رجال الدّين الذين وصموه بالإلحاد والزّندقة، نظرا لقوله باللاّأدريّة، ورفضه اللاّهوت بوصفه "معصية الأتقياء"، فاكتسب سمعة سيّئة من نبذه للدّين التّقليديّ، ويبدو لنا أنّ فلسفة سبنسر كانت "نظيفة" أو متحرّرة بالأحرى من أي مسلّمات ميتافيزيقيّة، وقد حذّر العقل البشريّ من التّفكير في القضايا الميتافزيقيّة. ولكنْ، على الرّغم من ذلك، نجد هذه المسلّمات قد ظهرت عنده في التّعميم النهائيّ القائل إنّ الكون كلّه يخضع في تطوّره لقوّة مطلقة نحسّ بها، ولكن لا يمكن أن ندركها ولا نعرف عنها أيّ شيء[160]. مع أنّ سبنسر، على عكس توماس هنري هكسلي، لم يكن متشدّدا في هذا الأمر، إذ لم يذهب، كما فعل هكسلي، إلى القول بـ "خطيئة الإيمان التي لا تغتفر ''، وعلى خلاف هكسلي لم يكن سبنسر مهتمًا بتقويض الدّين باسم العلم، بل عمل في نهاية العمر على التّوفيق بينهما ضمن نسق من اللاّأدريّة التي عرف بها.
وقد مثّلت هذه اللاّأدريّة منصّة أخرى لنقد سبنسر، لأنّ هذه الفكرة التي جاء بها في كتابه: "المبادئ الأولى" تقرّ بوجود "حقيقة أولى" مغلقة لا سبيل الى إدراكها. وقد أخذت هذه الفكرة على أنّها فكرة مضادّة للعلم وقدرة العقل الإنساني على الاستكشاف وفهم العالم. وفي هذا الأمر يقول ولّ ديورانت: "وإن كنا نسلم معه بأن المعرفة الإنسانية عاجزة عن أن تسبر أغوار محيط الوجود العظيم الذي لسنا سوى موجة سريعة عابرة على سطحه، إلا أننا ينبغي أن لا نبتّ في الموضوع نهائياً، لأننا نخطئ منطقياً إذا ذهبنا الى أن شيئاً ما قد أغلق دون المعرفة إغلاقا تاماً، واستحال العلم به استحالة تامة، لأن القول بعدم إمكان معرفة الشيء اعتراف ضمني بأننا قد عرفنا عنه شيئاً" (...) " والواقع أن سبنسر نفسه في مجلداته العشرة أظهر معرفة كبيرة لتلك الحقيقة المغلقة أو المجهولة. وكما قال «هجل» إن تقييد العقل بالعقل كمن يحاول السباحة من غير أن يدخل الماء"[161].
لقد غالى سبنسر حقيقة في أهمّيّة التطوّر وتعميم مساراته في مختلف مجالات الوجود، ومع أنّ هذا المفهوم قد برهن على أنّه ذو دلالة وأهمّية في عالم البيولوجيا والطّبيعة، فإنه لا يمكن أن يُعتمد في فهم كلّ الظّواهر فهماً جيّداً. "فالتطوّر له مكانة قليلة في المنطق، والرياضيات والفيزياء والكيمياء، وله مكانة أقلّ ممّا افترض سبنسر حتّى في البيولوجيا، وعلم النفس وعلم الاجتماع، والأخلاق ومع ذلك، فإنّ ثمة تقدّما كبيرا[162] حدث في الميادين الثّلاثة الأخيرة منذ عصر سبنسر لم يكن ليتحقق، على الأقل بسرعة، بدون عمله الرائد"[163].
10 - أيامه الأخيرة:
لكلّ بداية منتهًى، ولكلّ أمر نهاية. وتلك هي سنّة التطوّر التي رفع سبنسر لواءها، وقد ولّت أيّام الشّباب وبدأت رحلة الانتقال من المتعيّن المحدود إلى اللاّمتعيّن غير المحدود، وهي رحلة التّلاشي في عالم الأشياء، وأصبح سبنسر شيخا كبيرا في الثّالثة والثمانين من عمره، وقد زادت وحدته في كهولته. وعندما تقدّمت به السنّ زاد رقّة في معارضته، واعتدالا في آرائه. لقد اعتاد أن يُظهر سخريته من ملك الإنجليز، ويعتبره ملكا للزّخرفة، لكنّه أعلن بعد ذلك أنّ حرمان الشّعب من مليكه بمثابة حرمان للطّفل من لعبته[164].
كان المعجبون يرسلون إلى سبنسر، في شبابه وكهولته، هدايا ثمينة من وقت لآخر، ولكنّه كان يردّها على أصحابها دائما. وعندما زار القيصر إسكندر الثاني مدينة لندن، أبدى الى اللورد دربي رغبته في مقابلة أفذاذ العلماء البارزين في إنجلترا. فوجّه اللورد دربي دعوة الى سبنسر وهكسلي وتندال وغيرهم، فسارع الجميع في الحضور إلاّ سبنسر فقد أبى، وكان لا يجتمع إلاّ بالقليل من معارفه[165]، وكتب مرّة بأنّه وضع أعظم أفكاره في كتابه، بعد أن صفّاها وغربلها من بقيّة الأفكار التّافهة التي تمتزج بها في حديثه اليومي[166]. وعندما كان أصدقاؤه يلحّون على زيارته ورؤيته، كان يجلس صامتا هادئا مستمعا الى أحاديثهم.
وحين طعن في السنّ، اعتدل في موقفه من الدّين، وبدأ يتحقّق بأنّ العقائد الدّينيّة والحركات السّياسيّة تقوم على حاجات وبواعث حصينة من هجوم العقل عليها. وراح يعوّد نفسه على رؤية العالم يتدحرج في طريقه بغير التفات الى أكوام الكتب التي قذفها في اتّجاهه[167]، وعندما التفت الى أيام كفاحه لام نفسه على سخافة سعيه إلى الشهرة الأدبيّة، وتفويت سعادة الحياة على نفسه. وفي أواخر حياته سيطر عليه الإحساس بضياع جهوده وعبث إنتاجه[168]. وقبل موته بقليل تمّ ترشيحه لنيل جائزة نوبل في الأدب عام 1902، لكنّه لم يحصل عليها.
تميّزت السّنوات الأخيرة لسبنسر بانهيار تفاؤله الأوليّ، وحلول التّشاؤم محلّه فيما يتعلّق بمستقبل البشريّة. ومع ذلك، فقد كرّس الكثير من جهوده في تعزيز حججه، ومنع إساءة تفسير نظريّته الضّخمة عن عدم تدخّل الدولة في شؤون الأفراد والمجتمع. وقد أمضى سبنسر سنواته الأخيرة في متابعة عمله وتجنّب التّكريم والمناصب التي كانت تُمنح له من عدد كبير من الكلّيات والجامعات. وظلّ يعاني من مشاكل عقليّة، وجسديّة في النصف الأخير من حياته، بالإضافة إلى إصابته بالأرق المُزمن (Chronic Insomnia) إلى أن تُوفّي في برايتون في 8 ديسمبر 1903، عن 83 عاماً، ودفن بين جورج إليوت وكارل ماركس في مقبرة هايغيت في لندن. وانتهت مسيرة رجل من هؤلاء الذين تركوا أثرا كبيرا في تراث البشريّة الفكريّ والفلسفيّ.
11- خاتمة:
ما زال الخوضُ في فلسفة سبنسر والغوص في متاهات نظريّاته السوسيولوجية أمرا يتّسمُ بالمشقّة، ولكنّه يفيض بالتّشويق والمتعة، ومن يخضْ في عمق هذا العطاء المتفجّر يمتلكْه شعور كبير بالتحدّي الفلسفيّ الذي يفرضه التّفكير العميق في مطالب تفكير فلسفي وسوسيولوجيّ يتّسم بالعمق والشّمول: فلسفة شامخة تتحدّى هؤلاء الذين يرومون تسلّق قممها. وها هو سبنسر ما زال يشكّل معادلة فكريّة صعبة تثير الإعجاب بقدر ما تثير الغضب في النّفوس. ولما لا إنه سبنسر الذي شكّل قمة فكريّة في القرن التاسع عشر، واستطاع أن يعبّر عن عصره فلسفيّا، وعن زمنه سوسيولوجيّا. ولكلّ فيلسوف مآثر وكبوات، وكما يقول الشاعر الألماني غوتة "إن الإنسان يشترك في رذائله مع أهل زمانه، أما فضائله فإنه ينفرد بها دون سائر الناس»! وقياسا على هذه الحكمة " الغوتية " نقول: بأنّ سبنسر عبّر بفكره عن عصره، وجسد طموحات زمنه، فاشترك مع أهل عصره في الفضائل والعيوب. وليس من المناسب أن نحمّله رذائل العصر الذي عاش فيه وحده. والسّؤال الذي نطرحه هو: كيف استطاع سبنسر أن يعبّر فلسفيا عن روح العصر الفيكتوريّ الطامح إلى السّلام والمجد، وأن يكون أحد أبرز فلاسفة القرن التّاسع عشر حضورا وتأييدا وانتصارا وشموخا فكريا! ونحن أبناء هذا الزّمن لا يمكننا أن نتجاهل القيمة الفكريّة والعلميّة التي حقّقها سبنسر في زمنه، مهما تكن الانتقادات التي وُجّهت له، أو تلك التي يمكن أن نوجّهها له نحن.
ومع ذلك ألا يجب علينا أن نأخذ في كثير من الأحيان الانتقادات التي وٌجّهت إلى سبنسر على أنّها تأكيد بليغ على أهمّيته، وهو خارج عصره وزمنه، ونحن ما زلنا نشهد هذا الجدل الوطيسيّ بين أنصاره المؤيّدين له من جهة، وبين وخصومه والمعاندين له من جهة أخرى؟
وليس دفاعا عن سنسر ولا حبا فيه، إذ نقول: إنّ ما يبررّ له شطحاته الأيديولوجيّة هو اعتقاده المطلق بأنّ قانون التطوّر نفسه سيأتي بالسّلام والحضارة والمجتمعات الفائقة التي تخلو من كلّ مظاهر الحرب والخراب والاستغلال والقهر. لقد رفض الحرب الأمريكيّة الإسبانيّة. ورفض أيضا الموجات الاستعماريّة الإمبرياليّة، وأبدى تعطفا في النّهاية مع أوجاع المظلومين والمقهورين. ولم يكن سبنسر برجوازيّا أو إمبرياليّا أو من رجال الصّناعة، بل كان من الطّبقة الوسطى. ولم يتعدّ نشاطه المهنيّ وظيفةَ كاتب صحفيّ ومهندس يتحرّك على عجلات القطارات. وهذا يعني أنّ الدفاع عن الرأسماليّة لم يكن طبقيّا، بل كان "نزوة" فكريّة فرضها الإيمان بالتطوّر الكونيّ والإنسانيّ نحو الأفضل. وكأنّه أراد أن يقول إنّ الكون بدأ مظلما متلاشيا، وهو يسعى إلى أن يكون مضيئا مشوّقا متكاملا.
وأمام خطورة النّقد الذي تعرّض له سبنسر، فإنّ ديورانت قد حاول كسر حدّة تلك النّقود، وأراد إنصافه بقوله: " لقد قدم سبنسر للفلسفة اتصالا جديدا مع الأشياء، وأضاف عليها واقعية جعلت الفلسفة الألمانية تبدو بجانبها ضعيفة شاحبة ومجردة[169]. لقد أجمل سبنسر عصره كما لم يجمله رجل آخر منذ (دانتي). وقام بتنسيق حديقة واسعة من المعرفة الغزيرة ببراعة فائقة، يقف أمامها كلّ نقد صامتا، خجلا من ضآلة إنتاجه أمام هذا الإنتاج الشامخ. إنّنا نقف الآن على ذروة وصلنا إليها بفضل كفاحه، وفزنا بها بفضل أعماله، فإنْ كنا نبدو جالسين أعلى منه، فذلك لأنّه رفعنا على أكتافه. وسيأتي يوم يزيد فيه إنصافنا له، بعد نسيان لذعات معارضته وطعنات أفكاره"[170].
الواضح أنّ تأثير سبنسر في علم الاجتماع كان كبيرا وعميقا، كما هو الأمر في فلسفته التطوّرية، واستحقّ في نظر الكثيرين أن يلقّب بالأب الثاني أو الثّالث لعلم الاجتماع. ومهما يكن من أمر، فإنّ سبنسر يُعدّ صاحب تيّار فكريّ ثقافيّ يتمثّل في البنيويّة الوظيفيّة وفي الدّاروينية الاجتماعيّة. وقد ألهم كثيرا من المفكّرين والباحثين في مختلف أنحاء العالم في مجالات الفلسفة وعلم الاجتماع ونظريّة التطوّر وعلم التّربية والأخلاق. وقد ترك تراثا فكريّا لا يمكن للتّاريخ الفكريّ أن يغفله أو يتناساه؛ لأنّه يشكل حلقة مهمّة لا يمكن تجاهلها في سيرورة تطوّر الفكر الإنسانيّ في أوروبا وفي العالم الحديث.
يرى المستشرق الإنكليزي وليم رايت (William Wright)، ضمن نسق رؤية إنصافية، معتدلة "أن سبنسر وقع في أخطاء، مثل كل الرواد، كان على الباحثين الذين جاءوا بعده أن يقوموا بتصحيحها. ومع ذلك، فليست هذه تهمة تستحق الإدانة. إذ يمكن أن نقول نفس الشيء عن أفلاطون وأرسطو، - والواقع أننا يمكن أن نقوله عن كل فيلسوف، وتقريباً عن كل عالم في التاريخ. صحيح أن سبنسر لم يعد اليوم مرجعا حديثا في أي. موضوع. لكن تبقى على الأقل أعماله الفلسفية الرئيسية: «المبادئ الأولى»، و«مبادئ الأخلاق» من أمهات الكتب، ربما ليست هامة مثل أعمال الفلاسفة العظام في القرنين السابع عشر والثامن عشر، لكنها، يقينا، تقع في منزلة عالية بين الأعمال التي قدمت في السنوات المائة الأخيرة"[171]. ويمكننا إضافة إلى ذلك الإشارة إلى كتاب «التربية» الذي صدر في عام 1861. وهو أكثر كتب سبنسر رواجاً وأهمّية وحضورا في عالمنا المعاصر، وما يزال هذا الكتاب يسجّل على أنّه من أهم المراجع الفكريّة والفلسفيّة في مجال التّربية والتّعليم، وقد تُرجم إلى لغات عديدة، ومنها اللّغة العربيّة في بداية هذا القرن، في القاهرة. وفي هذا الكتاب يشدّد سبنسر على أهمية تدريس العلوم الوضعيّة، وتوكيد أهمّيتها في التربية العقليّة. وإلى استخدام وسائل التّشويق في تعليم الأطفال، وقد رفض فيه استخدام العنف المعزّز بالأوامر والعقوبات البدنيّة، وعلى خلاف ذلك طالب بأن تكون التّربية تربية طبيعيّة حرّة توظّف في تحقيق نموّ الأطفال وتكامل شخصيّاتهم.
ويجوز لنا أن نقول مع وليم رايت: "إن سبنسر يستحق الثناء لأنه كرس حياته للقيام بأفضل مركب كان ممكنا آنذاك، وهو مركب لم يكن له عون ذو قيمة بالنسبة للفكر اللاحق، ومع ذلك لم يكن لدى أي فيلسوف من فلاسفة القرن العشرين الشجاعة والإصرار على محاولة تقديم مركب مماثل لهذا العمل يكون مرغوباً فيه على هذا النحو"[172].
وأخيرا فقد حاولنا في هذه الدراسة أن نتناول سبنسر كظاهرة فكريّة مهمّة في تاريخ الفكر والفلسفة، وقد شكّلت أعماله وأفكاره في هذه المقالة موضوعا سوسيولوجيّا، بحثنا فيه هذه الكيفيّة التي استطاع بها عالم اجتماع أن يرسم نظريّته في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع، وقمنا بدراسة المتغيرّات والظّروف التي شكّلت عناصر صعوده، وتلك التي شكّلت عناصر سقوطه وانحداره.
اضف تعليق