أصبح التوحيد محوراً مركزياً في الادب الاسلامي تدور حوله جميع الموضوعات التي يعالجها هذا الادب ولا غرابة في هذا الامر اذا علمنا ان التوحيد هو لبّ العقيدة الاسلامية وأصل اصولها وفروعها وهو الذي يهبها الحياة والديمومة والخلود، فوجود الله ووحدانيته هو أساس وجود الكون والانسان والحياة والمجتمع...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
يعدّ توحيد الباري سبحانه مبدأ ضرورياً وركناً اساسياً في بناء التصور الاسلامي الشامل للخالق عز وجل ومخلوقاته. ولما كان الادب الاسلامي ينطلق من هذا التصور في صياغة مضامينه، لذلك أصبح التوحيد محوراً مركزياً في الادب الاسلامي تدور حوله جميع الموضوعات التي يعالجها هذا الادب ولا غرابة في هذا الامر اذا علمنا ان التوحيد هو لبّ العقيدة الاسلامية وأصل اصولها وفروعها وهو الذي يهبها الحياة والديمومة والخلود، فوجود الله ووحدانيته هو أساس وجود الكون والانسان والحياة والمجتمع بل هو أساس الوجود بأكمله في جميع انحائه وجهاته ولهذا فان تصور الاديب الاسلامي للوجود لا بد أن يكون مبتنياً على التوحيد.
التوحيد والفطرة:
من الحق ان هذا الاصل العقائدي راسخ في فطرة الانسان وغيره من الموجودات "ومن يقول بأن معرفة الله أمر فطري يعترف بان في وجود الانسان رغبة من النوع السامي والرفيع وهي الرغبة في العبادة. فالانسان يرى نفسه مقيداً بالاقرار بحقيقة يحب التوصل اليها والاقتراب منها. فهو يحب ان يخرج من محبس النفس وقفص حب الذات والتوجه نحو الله ليسبحه ويقدسه وينزّهه ويصير اليه، فان هذا الشعور هو الذي جذبه لان جذور هذا الميل الى معرفة الله مغروزة في ذات الانسان وقلبه لا في دماغه ورأسه "(1)
وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الفطرة إشارات واضحة نجدها في آيات متعددة، منها قوله تعالى:(أقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها)(2) وفي تفسير هذه الآية ورد "عن زرارة قال: قلت لأبى جعفر عليه السلام: أصلحك الله. قول الله عزّوجل في كتابه: «فطرة الله التي فطر النّاس عليها»؟ قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنه ربّهم قلت: وخاطبوه؟ قال: فطَأطأ رأسه. ثم قال: لولا ذلك لم يعلموا مَن ربّهم ولا مَن رازقهم"(3) والميثاق المذكور في الرواية هو المشار اليه في قوله تعالى: (واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم الستُ بربكم قالوا بلى شهدنا) (4) وفي تفسير هذه الآية ورد عن أبي جعفر(ع) قوله:" أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرَ. فعرّفهم وأراهم صنعه. ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه. وقال: قال رسول الله (ص): كلّ مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأنّ الله عزّوجل خالقه، فذلك قوله: ولئن سألتهم من خلق السّموات والأرض ليقولنّ الله"(5).
والى هذه الفطرة التوحيدية أشار الأدباء الاسلاميون على مرّ العصور في كثير من أشعارهم وكتاباتهم كقول كعب بن مالك (6):
إن تقتلونا فدين الله فطرتنا-----والقتلُ في الحق عند الله تفضيلُ
وكقول حنيف بن عمير اليشكري (7):
ربما تكره النفوس من الأمـــــــــــر له فرجةٌ كحلّ العقالِ
إن تكن ميتتي على فطرة اللــــــــــــه حنيفاً فإنني لا أبالي
وفي عصرنا الحديث يقول الشاعر الاسلامي محمد إقبال (8):
فطرةُ الله التي أودعها-----كلّ نفسٍ خاب من ضيّعها
إنها سرُّ الحياة الخالده-----دونهــا كـلّ حـياة هـامــده
إنها التيّارُ مثل الكهرباء-----إن يعطّلْ لـمحةً كـان الفناء
ومن الواضح في هذه الأبيات أن الشاعر يقرن فطرة التوحيد بنفخة الروح وسرّ الحياة لدى كل حيّ ودونها تستحيل الأحياء الى العدم، وفي القرآن الكريم أيضاً تقرير واضح بأن قضية الاعتقاد الأولى في جميع الرسالات السماوية هي قضية العبودية لله وحده بلا شريك ولا منازع، وهذه الحقيقة التي يقررها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم "تختلف اختلافاً أصيلاً عن كل ما يخبط به الباحثون في تاريخ الأديان من ظنون، وعن كل ما يقرره من يسيرون على منهج علماء (الدين المقارن) أو يتأثرون بهذا المنهج، ومنهج بعض من يكتبون عن الاسلام شارحين أو مدافعين"(9) فالواقع أن حقيقة التوحيد تقررت في رسالات الأنبياء منذ عهود سحيقة لا علم لتاريخ الأديان بها، وتضمنت تلك الحقيقة الكبرى توحيد الألوهية واختصاصها بالله سبحانه كما تضمنت توحيد العبودية له وحده بلا شريك. "ولم يكن (التوحيد) – في الرسالات السماوية – قطّ (تطوراً) في العقيدة انتهى اليه التعدد والتثنية، أو انتهت اليه العقيدة في الأرواح ثم الآلهة الكثيرة، أو انتهت اليه شتى المدارج والخطوات التي يختلف علماء الأديان المقارنة في ترتيبها وفي تعليمها كذلك، ويذهبون في شأنها كل مذهب. وبخاصة بعدما سيطر مذهب النشوء والارتقاء في عالم الأحياء حوالي قرن من الزمان – بعد دارون – وما جرّه على الفكر الأوربي من لوثة في تعميمه على كل ما في الوجود وكل من في الوجود"(10)، والحق أن الله سبحانه قد أرسل الرسل – منذ فجر البشرية – بالتوحيد الخالص الكامل "ولقد كانت عقيدة التوحيد هبة خالصة من الله للبشر، عرّفها لهم عن طريق الرسل ولم تكن من صنع هؤلاء البشر، ولا هم تدرّجوا في كشفها حتى كشفوها، كما تدرّجوا في العلوم والصناعات حتى أتقنوها، فقد جاءتهم في الرسالات السماوية منذ فجر التاريخ كاملة حاسمة"(11) مما يدلّ على أن هذه العقيدة ثابتة في فطرة البشر وخلقتهم المجبولة على معرفة الله والإقرار له بالوحدانية دون شريك ولا منازع كما يشير الى هذا المعنى أبو العتاهية في قوله (12):
سبحان من لم تزل له حججٌ-----قـــامت علــــى خلقـــه بمعرفتهْ
قد علموا أنه الاله ولــــــــــ-----كنْ عجز الواصفون عن صفتهْ
وتتجلى عقيدة التوحيد بأجلى صورها في الاسلام إذ "إن التصور الاسلامي لله – سبحانه – يتسم بالوضوح والصحة واليسر بشكل لا نعهد له نظيراً في المعتقدات الأخرى، فهو تصور قد برء من وثنية الرومان واليونان والفرس، كما برء من انحرافات اليهودية والنصرانية وتعقيداتها وفلسفاتها"(13)، فاذا كانت تلك المذاهب والأديان قد انحرفت عن مسار التوحيد الالهي، فان الاسلام قد امتاز عليها بثبات هذا التوحيد وبقائه أصلاً مكيناً فيه إذ "ان الله عز وجلّ واحد أحد، فرد صمد، ومن خلال هذه الوحدانية يبدو الفرق الكبير بين التصور الاسلامي للخالق وبين التصورات الأخرى. فالمجوس مثلاً يعتقدون بثنائية الربّ، فهناك إله الظلمة وإله النور. والنصارى يجعلون الله ثلاثة. واليونان يدينون بعدد لا يُحصى من الآلهة"(14).
وفي القرآن الكريم إشارات عديدة أيضاً الى ان مبداً الاقرار بوجود الله تعالى ووحدانيته لا يقتصر على الانسان، بل هو ميل عام في جميع الموجودات، كما في قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله اسلم من في السماوات والأرض) (15) وقوله تعالى: (سبّح لله ما في السماوات والارض) (16) وقوله سبحانه: (يسبح لله ما في السماوات وما في الارض) (17) وقوله سبحانه: (ولله يسجد من في السماوات والارض) (18) وغيرها."فإن القرآن في هذه الآيات يريد بيان أن جميع المخلوقات تسبح في مكنون أنفسها لله تعالى وأنها في حركة دؤوبة – شاءت ام أبت – في الأوب والرجوع اليه... ولابن عباس في ذلك رواية في المقام مضمونها بأن عابد الوثن يعبد الله من حيث لايعلم ؛ ذلك أن طبعه هو الذي يجره ويسوقه نحو الله لكنه يخطيء في التطبيق "(19) وإن هذا التوجه الفطري من قبل المخلوقات نحو خالقها هو تعبير عما أودعه فيها من قوانين لاتملك أن تحيد عنها فهي مهتدية أبدا الى الله سائرة على هداه كما قال سبحانه."(ربنا الذي اعطى كل شىء خلقه ثم هدى) (20) والى هذا الميل العام نحو التوحيد في جميع الموجودات يشير قول أبي العتاهية (21):
فيا عجباً كيف يعصي الالهَ-----أم كيف يجحده الجاحدُ
وللــه فــي كـــلّ تحـــريكة-----وفـي كلّ تسكينة شاهدُ
وفــــي كــلّ شـــئٍ لــه آيةٌ-----تدلّ عــلى أنه الـواحدُ
ويتجلى هذا المعنى أيضاً في قول محمود حسن اسماعيل (22):
بكــل مـا تحـيا الحياةُ نعبدكْ
وكـلُ ما فوق الثرى يوحّدكْ
وليست هذه حقيقة روحية فحسب بل هي حقيقة علمية أيضا تتجلى في القوانين العلمية التي أثبت العلماء وجودها في مختلف انحاء الكون وهي قوانين الله التي لايملك أي كائن أن ينشىء لنفسه قانوناً يضادها. وذلك هو معنى العبادة والطاعة للخالق والعمل بمقتضى ارادته. فهذا الكون كله يتوجه الى الله بالطاعة والعبادة كما جاء في قوله تعالى: (ثم استوى الى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً او كرهاً قالتا أتينا طائعين) (23) بما اودع فيهما من ناموس تتحركان به وتأتيان به الى الله. وكل شيء يسبّح بحمده (وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) (24) لا تفقهون تسبيحهم اذا حكمتم بظاهر الاشياء، بما تدركه الحواس فعندئذٍ سيبدو لكم الكون صامتاً لايسبّح، جامداً لا يحسّ، ميتاً لا حياة فيه. ولكن الروح الواصلة تفقه تسبيح كل شيء وهي مزية الانسان العظمى والمنحة الكبرى التي رفعته من نطاق المادة والحس وأعطته القدرة على الاتصال بضمير الكون وبالله.
التوحيد والمشاعر الانسانية:
حين تتأصل هذه العقيدة في نفس الانسان فإنها تصل بينه وبين حقيقة الالوهية بشتى المشاعر من الحب والرهبة والخوف والطمع والامل والرجاء وتصل بين الانسان والكون والحياة بصلات من التعاطف والمودة والقربى، وتصل بينه وبين أخيه الانسان برباط من الحب الحيّ المتدفق الفياض،"وكل واحد من هذه المشاعر يصلح ميداناً لألوان لا نهاية لها من الفن والادب الانساني الخالد حين يصور الحياة من خلال عقيدة التوحيد وابراز حقيقتها العميقة في كيان الحياة بتصويرها من خلال النفوس الحية التي تعيش فيها وتتأثر بإيحائها في سلوكها وتصرفاتها ومواقفها"(25)، ولا ريب أن الايمان بعقيدة التوحيد لابدّ أن تصاحبه مشاعر خاصة تتوافق مع طبيعة ذلك الايمان ودرجته، بل إن الإسلام يجعل ازدواج الفكر والعاطفة ضرورة تتمثل في اجتماع العقيدة وما تستلزمه من ألوان الانفعال والاحساس حتى تدبّ الحياة في العقيدة وتصبح مصدر حركةٍ وقوة دفعٍ، وليست مجرّد فكرةٍ عقليةٍ لا يخفق لها القلب ولا يستجيب لها الحسّ ولا تتدفّق بالحياة.
"وهذه هي السياسة العامّة للدعوة الإسلامية. فهي دعوة فكرٍ وعاطفة، أو بالأحرى دعوة إلى عقيدةٍ بكلّ ما تتطلّبه من مفاهيم وعواطف، وليست دعوةً فكريةً خالصةً تستهدف تطوير العقيدة طبقاً لها وتقف عند هذا الحدّ كالمذاهب الفلسفية المجرّدة، كما أ نّها ليست في مستوى الدعوات العاطفية المنخفضة التي تستغلّ العاطفة فحسب وتعنى بتربيتها دون أن تقوم على اسسٍ فكريةٍ خاصّة، بل للدعوة الإسلامية طريقتها الخاصّة في مزج الفكرة بالعاطفة، وتفجير العواطف على أساسٍ فكري، وبذلك تبقى محتفظة بالطابع الفكري بالرغم من اهتمامها بالجانب العاطفي وتنميته في الشخصية الإسلامية، لأنّها تستوحي كلّ عاطفةٍ من مفهومٍ معيّنٍ من مفاهيمها عن الحياة، والكون والإنسان"(26). وإن الأدب الاسلامي ليحتفل بتصوير هذه العواطف السامية التي تفيض بها النفوس المؤمنة بعقيدة التوحيد، وأولها عاطفة الحب لله عزّ وجلّ كما نشعر بها لدى الشاعر عمر بهاء الدين الأميري في قوله (27):
أهواك وأغفـل عن مـثـل-----عـلـيـا لهـواك.. وأهـواكــا
لا نكصاً في الدرب،ونقصا-----في الحب، ونقضاً لرضاكا
لـكـن شـردات الـعيـن وقـد-----أعـشـاهــا إشراق سـنـاكــا
ويـقـيــنـي أنـك رحـمـــان-----بــالـرأفــة عــمّ الأفــلاكــا
ويرتقي هذا الحب الى حالة من السموّ وانعتاق الروح من أسر المادة حتى الانغماس في جذوة النور الالهي كما تعبر الشاعرة الإسلامية أمينة المريني عن هذا الحب التوحيدي فتقول (28):
تسامق القبحُ في روحـي وفي بـدنـي-----وجاس في النبض تيّاهاً وأرقـني
وعربدت طينتي في الوحل مابصرت-----قـيـداً بعـالـمها السـفـلـيّ يـخنـقني
فامـدد حبيبي كـفّ الـمـنّ نـاصـعــةً-----ما غيرهامن ظلام القبح يخرجني
ويستحيل هذا الحب الإلهي لدى الأديب الاسلامي الى رؤية كونية توحيدية لا تقنع بالظواهر المحسوسة بل ينفذ نورها الى أعماق الوجود فتدرك أن الوجود لا يمكن أن يكون محدوداً بالأمور المتغيرة والنسبية والمشروطة والمحتاجة والمحدودة، فتضطرّ للاعتراف بوجود الحقيقة اللامحدودة والمطلقة وغير المشروطة واللامحتاجة والتي يعتمد عليها الكون بأجمعه وهي حاضرة في كل الأزمنة والملابسات، ولولا هذه الحقيقة لبقي الكون ضمن حدود العدم بل لم يكن هناك وجود وإنما هو عدم محض (29)، ويمكن أن نلمح هذه الرؤية الكونية لدى أمينة المريني في خطابها التوحيدي إذ تقول (30):
هنا اراك فكل الكون مسراكا-----وفي النبات أزاهيراً وأشواكا
وأسمع القلب خفّاقاً بخـلـوتـه-----فلاأرى في حناياالصدرإلاّ كا
فإن تغبْ عـن عيون أنت مبصـرها فـقـد تجلّت بكفّ الناس كـفّاكـا
وتنطلق من هذه الرؤية التوحيدية الشاملة لأنحاء الوجود عواطف انسانية جمّة يحتفل بها الأديب الاسلامي مقتدياً بالقرآن الكريم الذي رسم الصور الرائعة لهذه العواطف في العديد من آياته المباركة كقوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) (31) فمشاعر الرحمة بين هؤلاء المؤمنين إنما تفيض عن ركوعهم وسجودهم لله وتوحيده بقدر ما تفيض عن هذا التوحيد مشاعر الشدّة والغلظة على الكفار القساة الجفاة، ولرسولنا الكريم (ص) حديث مشهور يجسّد مشاعر الحب والرحمة والتعاطف بين المؤمنين بعقيدة التوحيد، يقول فيه: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (32)، ويزخر الأدب الاسلامي على مرّ عصوره بتصوير هذه المشاعر المنبثقة عن عقيدة التوحيد إذ ان المفاهيم والأفكار الناتجة عنها منتجة لنوع من المشاعر الراقية، هي العواطف الاسلامية المنسجمة مع روح العقيدة وأصولها الفكرية، والحق أن الاسلام بطبيعته يهيئ الأرضية المناسبة للربط بين مفاهيمه التوحيدية وما يتفجر عنها من ينابيع المشاعر الانسانية والعواطف الجياشة " والسبب في هذا الربط بين المفاهيم والعواطف في الإسلام واضح كلّ الوضوح؛ لأنّ الإسلام لا يريد المفاهيم والأفكار بمعزلٍ عن العمل والتطبيق، وإنّما يريدها قوىً دافعةً لبناء حياةٍ كاملةٍ في إطارها وضمن حدودها، ومن الواضح أنّ الأفكار والمفاهيم لا تصبح كذلك إلّا حين تتّخذ أشكالًا عاطفية، وحين تخلق الإنفعالات التي تناسبها والعواطف التي تساندها تتّخذ هذه العواطف موقفاً إيجابياً في توجيه الحياة العملية والسلوك العامّ. فمفهوم المساواة- مثلًا- الذي هو من أهمّ المفاهيم التي بشَّر بها الإسلام لا يمكن أن يثمر في الحقل العملي الثمر المطلوب ما لم تنبثق من هذا المفهوم عاطفة كعاطفة الاخوّة العامّة التي عمل الإسلام لإيجادها في نفس المسلم وربطها بمفهومه الخاصّ عن المساواة ليصاغ المفهوم في شعورٍ عاطفيٍّ دفّاقٍ قادرٍ على الحركة والتوجيه طبقاً لمتطلّبات المفهوم"(33) وهذا الشعور بالمساواة من خلال الأخوّة السامية في الله يعبر عنه الأستاذ الشاعر خير الدين وائلي في قوله (34):
إن الإخـاء بـدين اللـــه مفــترض -----والـحب فــي الله نبراس ومُلْتَزَمُ
هذا (صُهيبٌ) إلى الرومانِ نسـبتُه-----وذا (بلالٌ) من الأحباشُ متَّســـِمُ
وذاكَ(سلمانُ) منْ فُرْسٍ وكم وقَفوا-----ثلاثةً فــي الـوغى والـموجُ مُلتَطِمُ
وكـم تَزاحـمتِ الأقــدامُ خاشــــعةً-----خـلفَ الإمـام فـذا كهْـلٌ وذا هَـرِمُ
الأصـلُ فـرَّقَـهـم والـدينُ جَـمَّعَـهـم-----أخُـوَّةُ الــدينِ أمــرٌ خَـطَّـهُ الـقَـلـَمُ
لا فـضـلَ للـبيضِ أو للحُمـرِ كـلُّهُـمُ-----أولادُ آدمَ والـتّـقــوى هــي الكَـرَمُ
فرغم اختلاف الأنساب من روم وحبش وفرس، فقد فرضت عقيدة التوحيد مفهوم المساواة بين هؤلاء الناس وجمعتهم على أخوّة في الله هي أقوى من أخوّة النسب في حرارتها وصدقها وعطائها وفيضها بالمشاعر الانسانية النبيلة. ولا يمكننا في هذا المقام أن نحصي جميع العواطف والمشاعر المنبثقة عن عقيدة التوحيد ؛ ولذلك نكتفي بما أوردناه من أمثلة.
وعي الأديب الاسلامي لحقيقة التوحيد:
إن التأمل والتدبر الذي ينبغي أن يعيشه الاديب الإسلامي أولاً هو ظهير الفطرة ونصيرها الذي يمنح العبادة بعدها الإنساني العميق المتميز فتصبح خضوعاً ناشئاً عن اعتقاد خاص "هو اعتقاد الخاضع أن المخضوع له خالقه وربه أي هو المالك لشؤون العابد كلها في دينه ودنياه وآخرته.
توضيح ذلك إذا أحسّ الانسان بمملوكيته الكاملة في جميع شؤونه المعيشية والأخروية التي هو صائر اليها، أحسّ بمملوكيته هذه لوجود آخر هو خالقه ورازقه جميع نعمه، يفعل جميع ذلك بقدرته المطلقة واستقلاله التام واحاطته الشاملة بالوجود وما فيه، وكل ما سواه مفتقر اليه محتاج في وجوده وبقائه إلى فيض جوده – إذا اعتقد الانسان بذلك أيما اعتقاد فإنه سيلجأ إلى تجسيد احساسه بألفاظ واعمال خاصة تحمل جميع مظاهر الخضوع والخشوع والانقياد والتسليم، محاولاً بذلك ان يوفي ربه ما يراه له من حق ومنّة عليه في جميع شؤون وجوده – فهذا هو الذي يسمى عبادة "(35) وهذا الارتباط الطردي بين عمق المعرفة بالله سبحانه وشدة التسليم والانقياد اليه يتجلى واضحاً في خطبة الامام علي بن أبي طالب (ع) التي يقول فيها:" اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ اَلصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلاَ مَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ كَائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْ ءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى اَلْحَرَكَاتِ وَ اَلْآلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ اِبْتَدَأَهُ اِبْتِدَاءً بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا وَ لاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ اَلْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لاَءَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ اِنْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا "(36). ولا مجال هنا لبسط الكلام في شرح هذا النص التوحيدي الفريد، فقد تكفّلت بهذا الأمر شروحُ نهج البلاغة وهي كثيرة موفورة.
وخلاصة ما نفيده من هذا النص هنا أنه المدخل الأعمق في وعي الأديب الاسلامي لحقيقة التوحيد، ومن خلال هذا المدخل يصبح كل ما يبدعه الأديب الإسلامي من أعمال أدبية ضرباً من تسبيح الباريء سبحانه وتقديسه والاقرار بربوبيته ووحدانيته والخشوع لعظمته المحيطة بأنحاء الوجود، فغاية ما ينتجه الاديب الإسلامي هو هذا التوحيد الخالص لله عز وجل بما يقتضيه هذا التوحيد من مقتضيات في الحياة الانسانية ومنها "إفراد الله – سبحانه – بخصائص الألوهية في تصريف حياة البشر،، كإفراده – سبحانه – بخصائص الألوهية في اعتقادهم وتصورهم وفي ضمائرهم وشعائرهم على السواء.
وكما أن المسلم يعتقد أن لا إله إلا الله وأن لا معبود إلا الله وأن لا خالق إلا الله وأن لا رازق إلا الله وأن لا نافع أو ضار إلا الله وأن لا متصرف في شأنه – وفي شأن الكون كله – إلا الله، فيتوجه لله وحده بالشعائر التعبدية، ويتوجه لله وحده بالطلب والرجاء، ويتوجه لله وحده بالخشية والتقوى، كذلك يعتقد المسلم أن لا حاكم إلا الله وأن لا مشرع إلا الله وأن لا منظم لحياة البشر وعلاقاتهم وارتباطاتهم بالكون وبالأحياء وببني الانسان من جنسه إلا الله، فيتلقى من الله وحده التوجيه والتشريع ومنهج الحياة ونظام المعيشة وقواعد الارتباطات وميزان القيم والاعتبارات سواء"(37) وبهذا فإن حقيقة التوحيد لا تقتصر على الشعائر التعبدية بالتوجه الى الله والطلب والرجاء والخشية والتقوى مما هو في ضمير المسلم، بل إن هذه الحقيقة الكبرى تشمل كذلك حياة المجتمع بما تقوم عليه من منهج في التشريع والتوجيه ونظام المعيشة وقواعد الارتباطات وميزان القيم والاعتبارات.
وإن ما ينتج عن هذا التوحيد من وحدة وانسجام في البناء النفسي للفرد وفي البناء الاجتماعي كذلك، يصبح هدفاً لإبداع الأديب الإسلامي كنوع من العبادة التي لها في الإسلام "دور الناظم والضابط لحركة الانسان المسلم فرداً وجماعة. ويأتي ارتباط العبادة بالله تعالى، النية الخالصة والقربة اليه مع استغنائه تعالى عنها وتأكيد احتياج الانسان اليها، وعمومية التكليف بها في الجملة يأتي ذلك ليحدد الإطار الوظيفي للعبادة ويحصنها من ان تتحول الى طقس مفرغ واعتيادي، ينعى رسول الله (ص) على اناس كون (صلاتهم عادة وصومهم جلادة). إن تأسيس وتركيز حالة الوحدة والتوازن الداخلي في بناء الفرد والمجتمع هو من اهم الغايات العملية التي تحكم حركة العبادة الاسلامية تشريعاً وممارسة ويأتي الاطار الزماني والمكاني (مواقيت الصلاة، الجامع، مكة المكرمة وبقية مناسك الحج، شهر رمضان، الاعتكاف)، يأتي كل ذلك رافداً للبعد الوظيفي والغاية العملية في العبادة: الوحدة والتوحد. دون ان يكون هناك انتقاص من اهمية الجانب العبادي نفسه"(38) فالمعنى الحقيقي للعبادة هو ظهور أثرها في الجانب العملي من حياة الانسان والمجتمع:(ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)(39)، (واستعينوا بالصبر والصلاة) (40) فلا بد من حضور العبادة في الواقع الخارجي محققة حالة الوحدة والتوحّد خارج مكانها وزمانها وظرف حركتها بما يمنحها الحضور الدائم في واقع حياة المسلمين التي يهتم الاديب الاسلامي بالكشف عن عمقها الايماني الجميل من خلال كشفه عن المعنى العميق للعبادة بمعرفة اصولها وعللها الراسخة في الوجود، وقناعة العقل – بعد قناعة القلب – بضرورة التوجه الى الله بالخضوع والطاعة بعد التعمق في معرفة صفاته واسمائه الحسنى بما يجعل له الحضور الدائم في قلب المؤمن والشعور المرهف بالخوف من هذا الخالق العظيم والرجاء لرحمته وعفوه.
يقول النبي الكريم (ص):(أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) (41) وهنا يتجلى اثر الوعي والرؤية في تحقيق حال التوحد والاشراق في روح الاديب المؤمن العابد، فهذه الحال "لا تعتري العابد بل تقوم به، تتداخل وتتمازج بكيانه وتكوينه مبتدئة من الرؤية فلا تكون الرؤية حاصلها بل ان الرؤية تزداد وضوحاً وعمقاً من الحال المتأتية عن الرؤية اساساً.
يقول الامام زين العابدين (ع): (وأما حقوق الصلاة فأن تعلم انها وفادة على الله وانك فيها قائم بين يدي الله). تأتي الرؤية – المعرفة شرطاً مسبقاً للعبادة، وتبدأ العبادة من موقع الرؤية، واذا كانت الرؤية – المعرفة حالة ظرفية في العبادة فإنها تتوقف، تنعدم، تضمحل او تضمر، تعتم في احسن الحالات بعد العبادة وخارجها، إسلامياً مطلوب لهذه الرؤية ان لا تنقطع خارج الصلاة ظرفاً وفعلاً "(42) بل هي ممتدة في حياة الاديب المؤمن وسلوكه، متجلية في جميع تصوراته عن العالم المحيط به بما يزخر به من شواهد وأدلة لا تحصى على وجود الله وقدرته ووحدانيته وأول ذلك ما يسوده من نظام كوني ثابت هو دليل وحدة الرب المدبر فلو كان تدبير الكون وتنظيم اموره ورعاية موجوداته راجعاً الى اكثر من إلهٍ فحينئذٍ كل إله سيفعل ما يريده ويراه مناسباً في تدبير هذا الكون الواحد فيلزم فساد النظام لتنازع الآلهة المدبرة له وتمانعها – لا محالة – في إدارته، وهو خلاف المشاهد بالحسّ من انتظام الكون بما فيه على أحسن وأتمّ نظم.
والى هذا الدليل أشار الذكر الحكيم بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا) (43) "وقد كشف العلم الحديث عن كثير من الحقائق في ترابط الانسان بدناً وروحاً بمحيطه، وترابط الارض والماء والهواء والافلاك في علاقات متبادلة تحفظ توازن الوجود وبقاءه واستمرار مقومات الحياة لجميع الموجودات فلو كان ثمة إله آخر يدير قسماً من الكون لشاهدنا نظامه وأحسسنا بوجود نوعين من الانظمة يدار بهما الكون، لكل منهما خصائصه ومميزاته التي ينفرد بها، وذلك كله منتفٍ فيدل على انه لا مدبر سوى إله واحد"(44). والى هذا الدليل يشير قوله تعالى: (وما كان معه من إلهٍ اذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق) (45) وهناك العديد من الآيات التي تكشف نظرة القرآن الى الوجود بأن "الكون قائم على مباديء السببية العلائقية النظامية (القانون الطبيعي حسب العلوم الطبيعية) والهدفية الحكيمة في مقابل الصدفة والاعتباطية والغموض العبثي.
ومن الواضح أن هذا يمثل نظرة واقعية وموقفاً واقعياً من الوجود وحوادثه، وفي الأمر اتفاق بين نظرة العلوم الطبيعية والتجريبية الباحثة في المادة وبين هذه النظرة كما نرى، غير أن السببية في القرآن الكريم لها مرحلتان: مرحلة الحدوث من خلال العلاقة النظامية المرتبطة سبباً، بمعنى كون الحدوث في حلقات كل منها مقدمة وشرط لما بعدها فتكون بهذا المعنى سبباً، وحدوث ما بعدها متوقف عليها وهذا الوجه من السببية هو مايتناوله الانسان بالبحث في العلوم المختلفة التي تسعى الى تقرير العلائق النظامية في الوجود، والمرحلة الثانية هي السببية الاولى أي السبب الحقيقي الكامن وراء الحدوث بهذا النحو، أي الارادة الواعية الحكيمة التي وضعت هذا النظام وعلائقه وحالة الارتباط الجبرية فيه ومنحى الحدوث الآلي من خلاله وذلك هو السبب المسبب لأنه يعبر عن إرادة واختيار في مقابل الارتباط المذكور في المرحلة الاولى الملتزم للعناصر الاولى المسوقة فيه دون اختيار"(46). وهذا التوحيد لله عز وجلّ هو المبدأ الأول للاسلام ولكل ما هو اسلامي على مستوى العلم أو الأدب " وفحوى هذا العنصر أن لا إله إلا الله، واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد، وأنه مطلق الجمال والكمال بكل المقاييس، ليس كمثله شيء، كل موجود سواه مغاير له، ومخلوق له، وهو الخلاق ليس له شريك، بأمره توجد الموجودات وإرادته هي التي تحدد غاية وجود الكائنات، وهي القانون الذي يحكم الكون والمخلوقات ويقنن السلوك والأخلاق. وأن التوجه لله والرغبة لله تعني التوجه إلى الخير والعدل والحق، وهي أسمى الغايات وأسمى مراتب الوجود، ويعد الأدب الواعي لهذه الحقيقة أرقى أشكال الأدب-لأنه يعد أحد أشكال إقامة الوجه لله عز وجل بالقول الجميل، والخير النافع المنسجم مع هدى الله"(47). إن إشراقة الروح في لحظات نقائها وارتفاعها عن كدورة الطين هي الكاشف الأقوى عن حقيقة التوحيد المنبسطة على كل ذرة من ذرات الكون والمهيمنة على ناموس الوجود بأكمله. يعبر محمود حسن اسماعيل عن ومضة سريعة من ومضات الروح تلك في قوله (48):
كــلـمـا أشـــــــرق بالايـمــان صــدري
وهــفـت أشـــــــواقـه الـكـبرى بثغــري
ثملت روحي من الحب ولاذت عند بابك
ورنا قـلبي فشــاهدتُ السنا خلف حجابك
وهــفت عيني فأبصرتك فــي كــل زمانِ
وانتشـــت روحي فشاهدتك في كل مكانِ
قــوتي منك ومنها تنهل الحمدَ شـــفاهي
وتغنّي الــروحُ تســبيحاً وشكراً يا إلـهـي
وهذا الايمان بالله هو غذاء الروح وهو حقيقة بديهية في كيان الانسان حين تستقيم فطرته فتدرك انه لا بد لهذا الوجود من موجد هو الله الواحد الاحد الذي لا خالق غيره ولا شريك."وإن التفكير على المستوى الأدبي الواعي بوحدانية الله، يعني الوعي بربوبية الله الحق وألوهيته الحق في عالم غايته الحق والجمال والخير والإعمار والحيوية والجدية، والأدب الذي يعي هذه الحقيقة يدرك من العلاقات بينه وبين الكائنات مالا يحده حد. ومادام الله عز وجل هو الخالق، وهو الديان فلن يكون الأدب إسلاميا حقا حتى يسير على هدى الحق الذي حددته إرادة الله قاصدا به وجه الله وحده. إن الأدب الإسلامي في إطار وعيه بالتوحيد وانطلاقه منه يستبعد أي اعتقاد بالحلول، والتجسد، أو الانبعاث أو الاستطراق أو الاتصال الجوهري بين ما هو قدسي وما ليس بقدسي، أو بين الخالق والمخلوق، وهو يستبعد تماما أن الذات الإلهية يمكن أن تمثل، لأن مثل هذا يتضمن دخولها في إطار الزمان والمكان مما يخل بحقيقة التنزيه"(49).
أثر التوحيد في الابداع الفني:
إن هذه الرؤية الواعية لنظام الكون ووحدته وارتباطه بخالقه ومدبره الواحد الأحد، هي أهم ما يعتني به الادب الاسلامي ويحاول تصويره بمختلف الاشكال والاساليب الفنية، فهذا الادب يعنى أيما عناية بتصوير مظاهر الكون وجوانب تناسقه العجيب. فهو يتتبعها ويحصيها قدر الامكان وفي حدود الطاقات البشرية ثم يعكسها بلباقة ودقة وحكمة مراعياً في هذه العملية شروط الفن الاصيل وموازينه الكبرى.
فالادب الاسلامي – وهو يصور مظاهر الكون ومجالاته الكثيرة – يهدف الى إشعار الانسان بوجود الله تعالى وإحاطته بكل شيء، هذا هو الاسلوب العام في عملية تصوير الكون والحياة، وهو – بداهة – يختلف جوهرياً عن أساليب التصوير الجاهلية لأن هذه الاخيرة تحدث بتراً خطيراً وانفصالاً نكداً بين الخالق سبحانه وتعالى وكونه الذي خلقه وأبدعه ونسق جوانبه وأطرافه وبث في بعض مخلوقاته سرّ الحياة فصارت حية تتحرك بإذنه وتدبّ بقدرته.
إن الآداب الجاهلية كلها ترفض كلية- وبدون استثناء - أي علاقة بين الخالق والمخلوق زاعمة أنها من مخلّفات الرجعية ورواسب الماضي. وهذا هو علة الانحراف الفكرية في الدول الجاهلية وسبب الانهيار النفسي والعصبي الذي تعاني منه الاجيال الحاضرة (50)، و"قد تكون ظاهرة الصدام بين الفطرة البشرية والنظم الأرضية الحاضرة لها ما يفسرها في أوربا التي تتبنى نظريات ذات أبعاد أرضية وفلسفات بعيدة عن المصدر الالهي، وقد صاغ أدباؤهم نتاجهم حسب هذه التصورات الشاردة فكانوا بعيدين جدا عن تصورنا الرباني وتفسيره للوجود، وكان من المتوقع أن ينزلقوا الى أخطاء كثيرة في التصور شأن من يستمدّون النظام الأرضي من مثل مقولاتهم بقهر الطبيعة وصراع القدر وحيوانية الانسان وحتمية التاريخ وما الى ذلك، وهم في هذا إنما يتحدثون من خلال ما ترسب في ضمائرهم من نظرات إغريقية ظلت تصرّف أفكارهم ومشاعرهم بوعي أو بغير وعي، فأملت عليهم فلسفتهم في الحياة ونظرتهم الى الكون، وهذا ما عكس ظواهر الحيرة والصراع والقلق التي تسود حياتهم وتنعكس على آدابهم وفنونهم"(51).
ومن هنا تأتي ضرورة مبدأ التوحيد في تصحيح مسيرة الادب العالمي الذي دفعه تصور الانفصام النكد بين الخالق والمخلوق الى إشاعة ظواهر مرضية اتلفت مقومات الشخصية وزعزعت فطرتها السلمية كنزعة الصراع بين الانسان والطبيعة ونشر الخوف والاضطراب والقلق وتشجيع الظلم والاستبداد وحيوانية الانسان وهذه الظواهر هي شواهد الانحراف وعدم التوازن في شخصيات الادباء الجاهليين وتلوّث فطرتهم وسطحية تصوراتهم للعالم وعدم قدرتهم على الانسجام مع النظام الكوني واكتشاف ما فيه من جمال وتساوق وروعة، فلم يستطع أدبهم رؤية الواقع الحقيقي والنفاذ الى أعماقه ومعرفة ان الوجود بكل جهاته سبيل الى معرفة الحق تعالى والاهتداء الى ربوبيته ووحدانيته وحكمة خلقه وابداعه. لقد " أفرز النسق الحضاري الغربي رؤية مادية، شكلانية، لذوية، ولم تفلح بعد جهود الكنيسة في عودة العقل الأوربي إلى الدين، ولذلك كان الأدب الغربي بعامة، أدبا دنيويا بكل معاني (الدنيوية)، في حين إن الأدب الإسلامي أدب تتوازن فيه الدنيا والآخرة تحت مظلة التوحيد والحرية والجمال.
وفي ضوء هذا تحددت وظائفه، وفي مقدمتها، وظيفة تحرير العقل الإسلامي المعاصر من أسر التاريخ الإسلامي، وتحويل القيم الجمالية الإسلامية إلى واقع حي، وتحويل الحب إلى حقيقة وجودية، والتسامح إلى إنجاز حضاري، والخير إلى أرض تعطي للجميع، والإحسان إلى سلوك إبداعي خلآق، والارتقاء بالإنسان إلى أخلاقيات التوحيد وجمالياته شكلا ومضموئا، فهو مكابدة جمالية للحياة بعناصرها المتعددة، الروحية والمادية والنفسية والعقلية"(52) وهذا الادب المنطلق من التصور الاسلامي للحياة والوجود "يحرص على التراسل والتواصل بين مكونات الحياة، ما فيه حياة ظاهرة كالانسان والحيوان والطير، وما يبدو أنه خالٍ منها كالجمادات، وهنا تتجلى عظمة الخالق فيما ابدع وروعة المخلوقات المبدعة فيما بينها من تناسق وتآزر وانتظام تستمر به الحياة في سيرانها شاهدة على عظمة هذا الخالق المنعم جل وعلا، كما تحقق هذه الكائنات ذواتها على اختلاف أشكالها وألوانها وأنواعها ودون انفصال بينها وذلك بإخلاصها العبادة لله وتكيفها مع المهام التي من أجلها خلقت" (53).
فالأدب الاسلامي يصور هذا الارتباط الأكيد بين وحدة الوجود وتوحيد الخالق سبحانه وتعالى " فهذا الوجود الذي نشهد دورته في كل يوم وليلة، يخضع من أصغر ذراته الى أعظم مجراته لقوانين في غاية الدقة تضبط حركاته وتحولاته وترعى الروابط بين اجزائه. وكذلك الكائنات التي تحيا فيه، تعيش النظام الدقيق في خلاياها واعضائها وتفاعلها مع محيطها بما يضمن بقاءها وتكاملها "(54) وحين ينفتح الاديب الاسلامي -بعقله وقلبه- على هذا الوجود المحكم، فلا بدّ أن يتوحّد معه ويأتلف في نظامه وينسجم مع حركته وغايته المنتهية الى عبادة الله وتوحيده، وكذلك يبرز الأدب الاسلامي أثر هذه العقيدة في كيان الحياة بتصويرها من خلال النفوس التي تفرغ من العقيدة فتنحرف وتضل وتتيه في بيداء الحيرة والاضطراب وتخطيء في الاستجابة لدواعي الفطرة فتتوجه بالعبادة والتقديس لغير الله كما نجد ذلك لدى اكثر الادباء الجاهلين الذين"يسمون بالطبيعة (وهي المخلوقة) إلى درجة التقديس وهم لا يتحرجون حين يستخدمون عبارات والفاظاً توحي بذلك بوضوح تام.
وكيف تعجب وهم ينطلقون من منطلقات الطين والمادة والغرائز؟ بل أي شيء أقدس عندهم من الشهوات والمناظر الطبيعية التي تصادف هوىً في نفوسهم؟ هذا ومن له حضور بديهة يتذكر أن هؤلاء الادباء يشغفون أيما شغف بجمال المرأة الجسدي باعتباره في نظرهم من أحسن ما ابدعته الطبيعة، لذا فهم يذهبون في تصويره كل مذهب"(55) أما الأديب الاسلامي فإنه يصور الطبيعة باعتبارها مخلوقة لله سبحانه محاولاً إيقاظ مشاعر الايمان بقدرة الله تعالى المتجلية آثارها في هذه الطبيعة بما يكون دافعاً لقوة هذا الايمان وزيادة عطائه في حياة الانسان والمجتمع. إذ يتخذ الأديب الاسلامي من التأمل في جمال الطبيعة وسحرها سبيلاً الى اجلال مبدعها وتقديسه وحبه، كما يتجلى ذلك من قصيدة للسيد محمد حسين فضل الله يقول فيها (56):
يابلادي وهـل ارى فيك إلاّ-----منظراً يترك العـقول حـيارى
مثّلت فـيـك روعة المبدع الاعـلـى رؤى الفن روضةً معـطارا
يحـلـم الحـبُ فـوقـها ويطـوف الـحُسـن فيها فيـسـكـر الأزهـارا
والروابـي والزهـر بين ذراعـيها تناجـــي الصـباح والاطــيارا
إن المتأمل في هذه الابيات الوصفية يتضح له أن السيد فضل الله" ممن احتفوا بالطبيعة وأولعوا بمشاهدها بعد أن أطلق لحواسه العنان لتحلّق في تلك الآفاق الرحيبة شأن غيره من الشعراء الوجدانيين الذين تأثربهم، إلاّ أن أوصافه تختلف عن لوحاتهم في انه يتخطى الوصف المجرد متيحاً لنفسه التأمل في صنع الله ولا يفوته أن يذكرنا إما مباشرة أو تلميحاً بأن وراء جمال الطبيعة الأخّاذ مايشهد بوحدانية الخالق وإتقان صنعه، حاثاً المتلقي على التأمل العميق فيما البس الله الطبيعة من حلل جمالية تستحوذ على المشاعر" (57). ولايقع في حسّه ومشاعره ما يتوهمه ادباء الجاهلية، من الصراع مع الطبيعة، بل تصبح الطبيعة مصدر وحي للاديب الاسلامي " تجيء انعكاساتها في اعماله الفنية.
وما يقوم بين الفن والطبيعة من جدلية انما هو لدفع الفنان كي يكون إيجابياً فعالاً يمارس الادب للكشف عن الحقائق الجمالية التي تتمنع الطبيعة في الكشف عنها، ولن يكون الابداع في الادب إلاّ بشحذ الفنان لحسه وفكره وحدسه بعد صقل وسائله. ولامجال هنا لأن يقال ان الفن يجمّل الطبيعة أو يكمل الطبيعة، وانما الفن بوسائله يركز على جانب أو أكثر من جوانب الطبيعة ويجليه لعين المتلقي بحيث تتركز الرؤية البصرية او الفكرية عليه فلا يظهر غير هذا الجانب أو هذه الجوانب ونحن حينئذ لانكون عدلنا في الطبيعة أو غيرنا فيها لأنها كما أبدعها الخالق تعالى، وإنما فقط لفت الفن النظر بوسائله إلى هذه الناحية أو لتلك من جوانب الطبيعة التي لايحصيها عقل"(58) إذ يتخذ الأديب الاسلامي من التأمل في جمال الطبيعة وسحرها سبيلاً الى اجلال مبدعها وتقديسه وحبه، وللأديب المسلم في هذا المجال خصوصية وتفرد بين الآداب العالمية إذ انه "يستلهم الصورة القرآنية عن هذه الطبيعة، بل " يبدو العالم كله بكائناته كلها متواصلاً متفاعلاً مستجيباً لصانعه سائراً بمشيئته.
وفي هذا غنى للتجربة الفنية والأدبية يستنطق بها الأديب والفنان ماحوله، لا على أنه كائنات تختلف عنه في الإحساس، بل هي كائنات شبيهة له - من بعض الوجوه - تحس بما يحس وتحرك بما جبلت عليه وجبل هو عليه أيضاً.. وبهذا يستطيع أن يسقط همه عليها ويشركها في أحاسيسه ومشاعره "(59) ونجد هذا اللون من تصوير الطبيعة لدى الشاعر محمود حسن اسماعيل حيث يقول في قصيدته (الله والطبيعة) (60):
رب سبحانك دوماً ياإلهي-----نغمة تسري بقلبي وشفاهـي
كلما غرّد طير في خميلـة-----وصفت للحب دنياه الجميلة
وتهادى العطر في الربوة من درب لدرب
عاشقاً يبحث في البستان عن قلـب وحـب
ورأيت الـحب ينسـاب دعاء من شـفـاهي
وغناء من صفاء الروح يجري.. ياإلهي
يقف الشاعر هنا في رحاب الطبيعة ويطّلع على ما اودع فيها من عجائب الخلق وبديع الصنع ويستنتج من آثار الحكمة والقصد والتوافق فيها ما يدل على وجود الخالق العظيم. وهذا الدليل "هو الذي دعا اليه القرآن الكريم في مقام التعرف على الله والاقرار بوحدانيته.
وكان سبيل القرآن الكريم فيها الدعوة الى النظر في ملكوت السماوات والارض نظر تدبر وتفكر يُسلم الناظر الى الاذعان لقدرة الله والاخبات لجلاله وعظمته حيث يرى من عظمة الوجود وروعته واتساقه واحكام نظامه، ما يشهد بجلال الخالق وعظمته وقدرته"(61).
وهذا التأمل العميق يقود الشاعر كذلك الى الاصغاء لروح الطبيعة وهمسها الخفيّ تسبيحاً لخالقها وتنزيهاً لجلاله، كما يصوّرذلك محمود حسن اسماعيل في قصيدته (الله والطريق) فيقول (62):
كل حصاة في الطـريق او مأت تنتظـر-----وكـل ذرّات الأثـيـر أقـبلت تـكـبّــر
والريح من كل اتجاه أيقـظـت ربـابــهـا-----وأسبلت على جبين افـقها أهـدابـهـا
واسترسلت تعزف للسكون من صلاتها-----وتستعيد شجوها همساً علـى لهاتهـا
وتســـمع الجبال مـن تسـبيـحهـا أنغـامـا-----لم تدركيف انحدرت من قلبها الهاما
فهنا يرى الشاعر في الطبيعة كتاباً مفتوحاً يقرأ في حروفه وكلماته الآيات الدالة على وجود الله وعظمته وهو ينطلق في رؤيته من نظرة القرآن الكريم للكون بأسره في عمق ارتباطه بالخالق عبادة وتسبيحاً واذعاناً لقدرته كما يشير الى ذلك العديد من الآيات كقوله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (63). وقوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ)(64) وقوله تعالى: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(65) وغيرها. وتبدو الطبيعة في نظر شاعر اسلامي آخر هو حكمت صالح، وكأنها في مسجد كبير تؤدي عبادتها وتردد تراتيلها الإلهية، كما يقول في قصيدة (المغزى الإلهي) (66):
ههنا رفةغصن ٍ
ماج باللّون...
مع الريح الذي يحمل ذكر الله
ومضاً ابديا...
وكما يقول في قصيدة (هتاف الفرح) (67):
مسافرٌ سرورنا في سجدة الغصون
أو في ركوع الياسمين
أو في تسابيح الأراك
وبين وديان التراتيل الإلهية
وكقوله أيضاً من قصيدة(تجليات) (68):
وأنا اسمع تسبيح السواقي
وهكذا يتأمل هذا الشاعر الاسلامي في الطبيعة من حوله تأملاً روحياً يتحسس ذكرها وتسبيحها لخالقها جل وعلا، في حركاتها وهمساتها وألوانها وأشكالها.
ولايغيب عن حسّ الفنان والاديب الإسلامي أن يتناول هذا الجانب من خلال النظام المتكامل والوحدة الشاملة لجميع اجزاء الكون وجوانبه بعيداً عن التصادم والفوضى، لما رسخ في عقل الأديب المسلم وشعوره من أن"الكون كله يأبى الخروج عن تناسقه الدقيق الذي هو صورة من صور العدل و النظام. فالفوضى إحدى علامات الظلم والعصيان والتمرد المريض، ومن ثم يجب على الاديب المسلم أن يصور في نتاجه مظاهر الوحدة بين نظام الكون وما ينبغي أن تكون عليه حياة الانسان، أي ان هذا الاخير ينبغي أن ينظم حياته وواقعه تنظيماً شاملاً كيلا يخالف سنن الخلق وقوانين النظام العام"(69)الحاكم للموجودات الذي هو عين وجودها وخلقها إذ "إننا لانقول من هو خالق هذه الموجودات؟ ثم نقول: من هو واضع النظام الحاكم على هذه الموجودات؟ وكأن الموجودات أولاً خُلقت ومن ثم وضع لها نظام. إن الامر ليس كذلك فإنه ليس هناك إلاّ جعْل واحد على ما يصطلح في الفلسفة. فإن إيجاد تلك المخلوقات هو عين وضع النظام لها ووضع النظام لها هو عين خلقها "(70) ويجتهد الأديب الإسلامي في الوصول بتصوراته إلى عمق هذا النظام ووحدته الكونية المؤسسة على مبدأ التوحيد المتجلي بأكمل خصائصه ومقوماته في الدين الاسلامي الحنيف.
من التوحيد الى الأدب الوحدوي:
إن مبدأ التوحيد في الاسلام يمثل عقيدة الهية تامة لا يغلب فيها جانب على جانب ولا تسمح بعارض من عوارض الشرك والمشابهة ولا تجعل لله مثيلاً في الحسّ ولا في الضمير بل له المثل الأعلى وليس كمثله شئ "ويرفض الاسلام الأصنام على كل وضع من أوضاع التمثيل أو الرمز أو التقريب. ولله المثل الأعلى من صفات الكمال جمعاء، وله الأسماء الحسنى. فلا تغلب فيه صفات القوة والقدرة على صفات الرحمة والمحبة، ولا تغلب فيه صفات الرحمة والمحبة على صفات القوة والقدرة. فهو قادر على كل شئ وهو عزيز ذو انتقام، وهو كذلك رحمان رحيم وغفور رحيم قد وسعت رحمته كل شئ"(71) وأن جميع الأشياء محتاجة ومفتقرة اليه في وجودها وبقائها لأنه خالقها وموجدها ومخرجها من العدم الى الوجود و"بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثر في كل آن،وليس مثل خالق الأشياء معها كالبناء يقيم الجدار بصنعه، ثم يستغني الجدار عن بانيه، ويستمر وجوده وإن فني صانعه، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه، ثم يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره.
بل مثل خالق الأشياء معها- ولله المثل الاعلى - كتأثير القوة الكهربائية في الضوء. فإن الضوء لا يوجد إلا حين تمده القوة بتيارها، ولا يزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوة في كل حين، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوة في حين، انعدم الضوء في ذلك الحين كأن لم يكن. وهكذا تستمد الأشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الأول في كل وقت من أوقات حدوثها وبقائها، وهي مفتقرة إلى مدده في كل حين، ومتصلة برحمته الواسعة التي وسعت كل شئ"(72) وهذه الحقيقة المشتركة بين جميع الموجودات هي اساس وحدتها ونظامها الشامل الذي يقود إلى معرفة خالقها وتوحيده، وهو أساس فلسفي مكين يستند اليه تصور الأديب الإسلامي للكون والانسان والحياة والطبيعة والمجتمع في ارتباطها جميعاً ووحدتها وحركتها التطورية الدائبة نحو التكامل والوصول إلى غايتها القصوى في عبادة الله وتوحيده الخالص. وإن هذا الاساس التوحيدي لينعكس على نظر الاديب الإسلامي الى وحدة الحياة التي يشير اليها قوله تعالى: (وهو الذي انشأكم من نفس واحدة) (73) ومن ثم وحدة الانسانية المتمثلة بارتباط البشر على حدّ سواء بخالقهم دون فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح كما ينبه الى هذا الأصل قوله تعالى: (ياأيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (74) ومن ذلك الأساس التوحيدي أيضاً يكون النظر الى وحدة المعرفة بين الوحي والعقل،"وينتقل هذا النظر من العلاقة بين الله وعباده إلى العلاقة بين العباد انفسهم في انظمتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على انهم سواء في الحقوق والواجبات إلا ما تقتضيه العناوين الجانبية من خصوصيات في الوظائف على نحو لم نجد له مثيلاً في توجهات الانظمة البشرية، كما نلاحظ من روح العنصرية والاعتداد بالجنس واللون والدم وروح الغرور والاستكبار الذي يطغى على حياة الأقوياء والأغنياء اليوم.
وهذه الوحدة تذوب معها القيم القومية والاقليمية واللونية والمراتب الاجتماعية والاقتصادية إلاّ في حدودها الانسانية والشرعية.وبهذا يكون للتوحيد ثقافة توحيدية تتمثل في الرؤية للخالق والكون والعلاقات بين الناس في تجانس رائع بين الخالق وخلقه، وبين الخلق انفسهم وبين الدنيا والآخرة"(75). وهذا التصور الاسلامي لمعنى التوحيد ينشئ في العقل والقلب آثاراً متفردة لا ينشئها تصور آخر كما أنه ينشئ في الحياة الانسانية مثل هذه الآثار كذلك. "إنه ينشئ في القلب والعقل حالة من الانضباط لا تتأرجح معها الصور ولا تهتز معها القيم ولا يتميع فيها التصور ولا السلوك فالذي يتصور الألوهية على هذا النحو، ويدرك حدود العبودية كذلك، يتحدد اتجاهه، كما يتحدد سلوكه، ويعرف على وجه الضبط والدقة: من هو؟ وما غاية وجوده؟ وما حدود سلطاته؟ كما يدرك حقيقة كل شيء في هذا الكون، وحقيقة القوة الفاعلة فيه. ومن ثم يتصور الأشياء ويتعامل معها في حدود مضبوطة، لا تميع فيها ولا تأرجح. وانضباط التصور ينشئ انضباطاً في طبيعة العقل وموازينه، وانضباطاً في طبيعة القلب وقيمه. والتعامل مع سنن الله بعد ذلك والتلقي عنها يزيد هذا الانضباط ويحكمه ويقويه.
ندرك هذا حين نوازن بين المسلم الذي يتعامل مع ربه الواحد الخالق الرازق القادر القاهر المدبر المتصرف، وبين غيره من أصحاب التصورات.. سواء من يتعامل مع إلهين متضادين: إله للخير وإله للشر! ومن يتعامل مع إله موجود ولكنه حالٌّ في العدم! ومن يتعامل مع إله لا يعنيه من أمره ولا من أمر هذا الكون شيء! ومن يتعامل مع إله (المادة) الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يثبت على حال! إلى آخر الركام الذي لا يستقر العقل أو القلب منه على قرار"(76) ومن هذا المنطلق تأتي وظيفة الأدب الاسلامي العقائدية في مقدمة وظائفه " ذلك أنه أدب ينبثق من أعماق العقيدة في رؤية الكون والإنسان والمجتمع، الأمر الذي يجعله أحد قوى تصحيح مسارات الإنسانية حين تنحرف عن الفطرة وهدى الله.
وتتمثل هذه الوظيفة في تقوية عنصر الإتباع لمعطيات العقيدة، والإبداع في ضوئها عبر مختلف عناصر الأدب —من خلال وعي العلاقة بين الإتباع والإبداع. التي تؤكد على عدم مخالفة الأطر الكلية للشريعة ومقاصدها، وأن يكون الإبداع متسقا مع مصلحة الأمة، فلا إفساد ولا فساد ولا ضرر ولا ضرار، محققا العدل متفقا مع القسط ميسرا للحق، دافعا إلى أداء الواجب"(77) وإن التصور الاسلامي لمعنى التوحيد ينشئ الاستقامة في القلب والعقل "فالإنسان الذي يدرك من حقيقة ربه ومن صفاته ومن علاقته به ذلك القدر (المضبوط) لا شك يستقيم في التعامل معه بقلبه وعقله ولا يضطرب ولا يطيش! والمسلم يعرف من تصوره لربه، وعلاقته به، ما يحب ربه وما يكره منه، ويستيقن أن لا سبيل له إلى رضاه إلا الإيمان به، ومعرفته بصفاته، والاستقامة على منهجه وطريقه. فهو لا يمت إليه –سبحانه- ببنوة ولا قرابة، ولا يتقرب إليه بتعويذة ولا شفاعة، ولا يعبده إلا بامتثال أمره ونهيه. واتباع شرعه وحكمه.
ومن شأن هذه المعرفة أن تنشئ الاستقامة في قلبه وعقله. الاستقامة باستقامة التصور. والاستقامة باستقامة السلوك. ذلك إلى الوضوح والبساطة واليسر في التصور وفي السلوك" (78) وهذا الأمر مدرَك لمن يوازن بين التصور الإسلامي القائم على التوحيد وبين التصورات الأخرى القائمة على الشرك أو الالحاد وكلها تتسم بالغموض والتعقيد والتخليط ولا توحي لأصحابها بضبط ولا استقامة في التصور أو السلوك لأنهم لا يعلمون من حقيقة إلههم شيئاً مستيقناً على الاطلاق وما أبعدها عمّا يستشعره القلب والعقل أمام عقيدة التوحيد من الاستقامة والبساطة والوضوح. ومن هذا الأثر لمعنى التوحيد في عقل الأديب المسلم وقلبه تأتي وظيفة الأدب الاسلامي الجمالية إذ انه" أدب جمال منطلقا ومنتهى، إنه قراءة جمالية للكون والإنسان تتجدد في ظلها قيم الحق والخير حسب منطلقات العقيدة. إن القراءة الجمالية عبر الأدب الإسلامي للكون والإنسان لا تقتصر عند حدود الشكل فيسقط الأدب في مستنقع الشكلانية أو مبدأ الأدب للادب أو الفن للفن بلا اعتبار للقيم وللإنسان وإنما تقرأ في الجمال مضامين قيم الحق والخير والمسؤولية والواجب والالتزام بالعدل والحقيقة، فيسمو الأدب الإسلامي بما يقدمه من جمال قيمي أو قيم جمالية تؤدي إلى وضوح الطريق وحسن الاختيار وجمال الفعل وسموالبناء الروحي والمادي"(79) وإن التصور الاسلامي لمفهوم التوحيد "يكفل تجمع الشخصية والطاقة في كيان المسلم الفرد والجماعة، وينفي التمزق والانفصام والتبدد، التي تسببها العقائد والتصورات الأخرى..
فالكينونة الإنسانية – التي هي وحدة في أصل خلقتها- تواجه ألوهية واحدة تتعامل معها في كل نشاط لها. تتعامل مع هذه الألوهية اعتقاداً وشعوراً. وتتعامل معها عبادة واتجاهاً. وتتعامل معها تشريعاً ونظاماً.. وتتعامل معها في الدنيا والآخرة أيضاً.. إنها لا تتوزع في الاعتقاد بآلهة مختلفة. أو بعناصر مختلفة في الألوهية الواحدة! أو بقوى مختلفة بعضها داخل في حوزة الإله وبعضها خارج عليه مضاد له! أو بعوامل مختلفة فيها ما يقهر الإله ذاته، وليس لها هي قانون يعرف فيتفاهم معه! أو بقوى (الطبيعة) التي ليس لها كيان محدد ولا ناموس مفهوم! وهي لا تتوزع في التوجه بالاعتقاد والشعور والعبادة إلى جهة. والتلقي في نظام الحياة الواقعية من جهة أخرى. إنما هي تتلقى من مصدر واحد في هذا وذلك، وتتبع ناموساً واحداً يحكم الضمير والشعور، كما يحكم الحركة والعمل.. وهو ناموس لا يحكم الكينونة الإنسانية وحدها، إنما يحكم الكون كله كذلك.. فالكينونة الإنسانية حينما تتعامل مع هذا الكون تتعامل معه في ظل هذا الناموس الواحد، بلا توزع ولا تمزق كذلك في هذا المجال.
وهذا التجمع ينشئ طاقة هائلة، لا يقف في وجهها شيء. وهذا بعض أسرار الخوارق التي أنشأتها العقيدة الإسلامية في الحياة والتاريخ البشري. فمن هذا التصور انبثقت تلك الطاقة الموحدة. التي صنعت هذه الخوارق.. الطاقة المتجمعة في ذاتها، المتجمعة كذلك مع الطاقات الكونية المتصالحة معها، لأنها تتجمع وإياها في الناموس الواحد، المتجه إلى الألوهية الواحدة"(80) ومن هذا الأثر التوحيدي يقوم الأدب الاسلامي بوظيفته الاجتماعية الشاملة لدوائر: الانسان والأسرة والوطن والأمة والعالم و"إن اًرقى درجات التوازن الاجتماعي تلك التي تنسجم في هذه الدوائر في حد أدنى من العلاقات الإنسانية النبيلة والقيم النبيلة التي تخدم الإنسان والعائلة والأمة بعيدا عن أشكال التعصب العنصري. ولما كان الأدب الإسلامي ينطلق من عقيدة تقوم على احترام الإنسان وتمجيده مادام ملتزما بالعدل والحق والحرية والجمال والمسئولية والتضامن، فإنه يعد أكثر الآداب الإنسانية قدرة على الإسهام في البناء الاجتماعي الوطني والقومي والإنساني مادامت منطلقاته كونية تحترم الوطن، ووطنية تحترم العالم"(81). وإن التصور الاسلامي لمبدأ التوحيد يُنشئ في ضمير المسلم وفي حياته قضية تحرير الانسان بل ميلاد الانسان إذ "إن توحد الألوهية وتفردها بخصائص الألوهية، واشتراك ما عدا الله ومن عداه في العبودية وتجردهم من خصائص الألوهية.. إن هذا معناه ومقتضاه: ألا يتلقى الناس الشرائع في أمور حياتهم إلا من الله. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر إلا لله توحيداً للسلطان الذي هو أخص خصائص الألوهية. والذي لا ينازع الله فيه مؤمن، ولا يجترئ عليه إلا كافر.." (82)
والنصوص القرآنية تؤكد هذا المعنى وتحدده وتجرده. بما لا يدع مجالاً لشك فيه أو جدال: (إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إيّاه. ذلك الدين القيم).(83) (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله؟).(84)(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)(85).(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً).(86) "ولا يفرق التصور الإسلامي بين التوجه لله بالشعائر، والتلقي منه في الشرائع، لا يفرق بينهما بوصفهما من مقتضيات توحيد الله، وإفراده –سبحانه- بالألوهية. كما أنه لا يفرق بينهما في أن الحيدة عن أي منهما تخرج الذي يحيد من الإيمان والإسلام قطعاً... والتصور الإسلامي بهذا القطع الحاسم في هذه المسألة يعلن (تحرير الإنسان) بل يعلن.. ميلاد الإنسان..
إنه بهذا الإعلان يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. (والإنسان) بمعناه الكامل لا يوجد في الأرض، إلا يوم تتحرر رقبته، وتتحرر حياته، من سلطان العباد –في أية صورة من الصور- كما يتحرر ضميره واعتقاده من هذا السلطان سواء.
والإسلام –وحده- برد أمر التشريع والحاكمية لله وحده- هو الذي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. إن الناس في جميع الأنظمة التي يتولى التشريع والحاكمية فيها البشر-في صورة من الصور- يقعون في عبودية العباد.. وفي الإسلام –وحده- يتحررون من هذه العبودية للعباد بعبوديتهم لله وحده. وهذا هو تحرير الإنسان في حقيقته الكبيرة.. وهذا –من ثم- هو ميلاد الإنسان.. فقبل ذلك لا يكون للإنسان وجوده الإنساني الكامل، بمعناه الكبير، الوحيد"(87) ومن هذا المنطلق التوحيدي تظهر وظيفة الأدب الاسلامي الأخلاقية إذ " إن الالتزام يمثل عمق هذه الوظيفة للادب الإسلامي، فالأديب المسلم أديب ملتزم بالضرورة، ملتزم بالحق، ملتزم بالعدل، ملتزم بالحب، ملتزم بالمساواة، ملتزم بالتوحيد، ملتزم بالإخلاص... وفي كل هذا يحكمه (وحدة القول والعمل) ولذلك فإن الوظيفة الأخلاقية للأدب الإسلامي تعد من الخطورة بمكان بحيث تساهم في تنمية حس الالتزام والمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والحضارية عند الإنسان المسلم، ذلك أن حامل القيم - بالمنظور الإسلامي-سوف يسأل لماذا وفيما كتب؟ وإلى أية غاية يهدف؟
إن الأديب المسلم ملتزم بمنهج شامل في الحياة، يعبر عنه في القول والعمل ويتمثل في وحدته مع نفسه، وفي اندماجه مع أفراد مجتمعه وأي خلل في هذا الالتزام يعني الانهيار الذي لا يتسق مع الإسلام عقيدة وشريعة وحقيقة"(88) ولو عقدنا مقارنة سريعة بين الالتزام الأدبي في المنظور الاسلامي وبين غيره من ضروب الالتزام في الآداب الأخرى لاتضح لنا ما يتميز به الالتزام الاسلامي من رحابة وغنى وتنوّع وعفوية وانفتاح فاذا "كان الالتزام الشيوعي هو تبني الدفاع عن العمال والفلاحين وقضايا الصراع الطبقي وما شاكل ذلك من المفاهيم الضيقة التي لا تخفى على باحث والتي غدت رواسم متكررة مملة في أدب هؤلاء القوم، واذا كان مفهوم الالتزام الوجودي ضيقاً هو الآخر مقصوراً على الدفاع عن حرية الانسان وتحريره –كما يدّعي الوجوديون– من كل إرث وتحميله مسؤولية العيش في حياة عبثية لا تُعرف بدايتها ولا نهايتها ولا الغاية منها، إذا كان الأمر كذلك في ضيق آفاق الالتزام عند هؤلاء وأولئك وغيرهم، فإن الالتزام في الأدب الاسلامي واسع رحيب.
إنه التزام العقيدة الاسلامية بكل ما تنطوي عليه من عالمية وشمول وصدور عن تصوراتها للكون والانسان والحياة، فهو ليس طبقياً ولا فئوياً ولا محبوساً على قضايا معينة وجمهور خاص وزمان بعينه. إنه التزام بقضايا انسانية عامة لها صفة الديمومة والخلود، التزام الخير والحق في أشكالهما المجرّدة المطلقة والدفاع عنهما حيثما وُجدا وعند من وجدا. والصراع فيه ليس بين طبقات اقتصادية بل بين العدل والظلم، بين الحق والباطل. والخير والحق يتمثلان فيما أراده خالق العباد للعباد وفيما شرعه بارئ الكون للكون وفيما سنّه فاطر الحياة للحياة، والباطل ما نكب عن ذلك فاحتكم الى الطاغوت "(89) وتجتمع وظائف الأدب: العقائدية والجمالية والاجتماعية والأخلاقية، لدى الأديب الاسلامي المتّجه بأدبه نحو الحق والخير والجمال والفضيلة في تأليف فنّي مبدع يخاطب انسانية الانسان وجوهره الالهي في كل زمان وفي كل مكان هاتفاً به للتوحّد مع ناموس الوجود الواحد الصادر عن الاله الواحد، متجاوزاً جميع فوارق الجنس واللون والعنصر والطبقة والاقليم وغيرها من الفروق المصطنعة، بل يهتف به للتوحّد مع الكون بأسره في نظامه الشامل وسيره الحثيث نحو خالقه الواحد الأحد، لنستمع الى محمد إقبال وهو يدعونا الى هذا النظم الفريد وجمع القلوب على الحق والخير والحب، يقول (90):
فانظروا ما النظمُ في أعدادنا
وانظروا ما الجمعُ في آحادنا
انظموا هذي القلوب النافره
واجمعوا هذي الوجوه الثائره
املؤوا الأنفسَ خيراً وهدى
واجمعوا بالحب هذا البددا
اغسلوا بالحب هذا الدرنا
أطفئوا بالودّ هذا الضغَنا
ما يُنال الحبُ يوماً بالهوى
إنما الأهواءُ أسباب النوى
يجمع الحقّ نفوساً شارده
إن للحقّ طريقاً واحده
ليس إلا الحقّ في جمع القلوب
ما سوى الحقّ اليه نستجيب
ومن الحق الى الخير طريق
ليس إلا الحقّ للخير رفيق
ومن الخير الى الحب المسير
ومن الحبّ الى الجمع المصير
منبع الحق هو الحق المبين
بارئٌ بالحق كل العالمين
منبع الخير هو البرّ الرحيم
برّه في خلقه فيضٌ عميم
منبع الحب هوالله العلي
هو مولى للبرايا وولي
ومن توحيد القلوب والصفوف على الحق والخير والحب في الله، الى الحكم بالعدل بين العباد وإنفاذ شريعة الله في خلقه، ويأتي النداء هنا للمسلمين خاصة ممن تحمّلوا أعباء دين الاسلام ونهضوا بالأمانة الكبرى ليكونوا شهداء على الناس بعد أن رضوا بأن يكون الله ورسوله عليهم شهيدين، فلا بدّ لهم من أن يحكموا بما أنزل الله من شرع محكم وينشروا القسط والعدل في أرجاء الدنيا، يقول محمد إقبال (91):
أيها المسلمُ يا من خُلقا
ليكونَ الحقّ فيه خلُقا
انهضنْ يا صاح بالعبء الثقيل
أنت في الأرض عن الله وكيل
قد قضى الخلاّق بالأمر اليك
قسّم الأرزاق يوماً بيديك
سطّرنْ بالحق في هذي البلاد
واحكمنْ بالعدل ما بين العباد
أنقذ الانسان من هذا الشقاء
وأزل من أرضنا هذا العناء
املأ الأرض بحبّ وصفاء
وسلام وودادٍ واخاء
واحكمن بالحق في أرجائها
وانعمنْ بالأمن في أفيائها
واملأ الآفاق حقاً وسنا
واملأنْ بالخير آفاق الدنا
ولا يقتصر الأدب الاسلامي على الشعر في خطابه التوحيدي، بل له مجال واسع في فنون الأدب النثري من خطابة ورسالة ومقالة وقصة ورواية ومسرحية وغيرها، ولدينا انتاج غزير لأعلام الأدب الاسلامي وكتّابه في هذه الفنون مثل خُطب النبيّ (ص) والامام عليّ (ع) وكثير من الخطباء المفوّهين على امتداد العصور في تاريخنا الاسلامي الحافل، ومثل مقالات العقاد والرافعي وعلي الطنطاوي وغيرهم في عصرنا الحديث، ومثل قصص وروايات نجيب الكيلاني وعبد الحميد جودة السحار وبنت الهدى وأمينة قطب وغيرهم، ومثل مسرحيات علي أحمد باكثير وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم، ولا يسعنا في هذا البحث المحدود أن نستشهد بالنصوص السائرة في ركاب الأدب الوحدوي من كل هذه الفنون ولكل هؤلاء الأعلام، ولذلك سنقتصر على أمثلة لبعضهم فيها دلالة على سواها.
فمن خطبة لرسول الله (ص) في حجة الوداع نسمعه يقول: (92) "ايها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى الا هل بلغت اللهم اشهد" ومن الواضح أن النبي الأكرم (ص) يدعو الى وحدة المسلمين بل وحدة الناس جميعاً تحت راية التوحيد التي تبعدهم عن الاختلاف والفرقة اذا ما تشربت أرواحهم حقيقة التوحيد وأدركت عقولهم مراميه البعيدة، ولذلك يحذّر المصطفى (ص) أمته بل الناس جميعاً من البعد عن هذا المبدأ الضامن لوحدة الصفّ والكلمة فيقول (ص) (93):" فلا ترجعُنّ بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" فالكفر بمبدأ التوحيد عاقبته الشقاق والتناحر الذي يصل الى التقاتل وسفك الدماء.
واذا تجاوزنا عصور هذا الأدب التوحيدي الى عصرنا الحديث وفنونه الأدبية الحديثة كفنّ القصة مثلاً فسنجد كتّاباً رفعوا لواء التوحيد في أدبهم القصصي كبنت الهدى الكاتبة الاسلامية المعروفة "وقد تميزت بشخصية المرأة الرسالية، التي قلما نصادفها في مجتمعنا، لذا وجدنا الفكر الإسلامي بكل مبادئه وروحانيته متجلياً في قصصها. إن الهاجس الأساسي الذي يسيطر على بنت الهدى هو بناء مجتمع إسلامي، والعودة بالإنسان المسلم إلى نقاء الإسلام وفطرته التي باتت بعيدة عن متناول الكثيرين من أبنائه، لذلك تحاول أن توقظ ما كان غافياً في أعماقه من قيم روحية ومبادئ إسلامية تنهض بدنياه وتسعده في أخرته.
وهي تتوجه إلى الإنسان المسلم سواء كان امرأة أم رجلا، وإن بدا لنا أنها تخص في خطابها القصصي المرأة المسلمة أكثر من الرجل، نظرا لمعاناة المرأة من بؤس التقاليد والأفكار الجامدة أو المستوردة، فهي تريد النهوض بواقع المرأة المتردي، وهذا يعني النهوض بالأسرة وبالتالي النهوض بالمجتمع بأسره" (94) ولا يتحقق هذا النهوض الفردي أو الاجتماعي إلا بتعزيز الايمان بالله الواحد الأحد ودوام ذكره عن طريق الالتزام بأوامره ونواهيه وليس بمجرد اللسان، تقول بنت الهدى:" فكل يد معونة تسديها المرأة ولو لأقربائها الأقربين إذا كانت خالصة لله تكون ذكرا لله سبحانه، وكل لفتة طيبة تبديها تجاه الآخرين دون أية غاية دنيوية تكون ذكرا لله تعالى، وكل سحابة ضيق تتحملها بصبر، وكل فكرة صالحة تفكر فيها لأجل الخير، دون أي شيء آخر، وأي نعمة تحدثت بها لا مباهية ولا متعالية.. كل هذه تكون ذكرا لله تعالى" (95) وهكذا يقترن الايمان بالله بالعمل الصالح ويكون دافعا لمحبة الناس وخدمتهم بما يحقق سعادة المجتمع وازدهاره. وتقول بنت الهدى أيضاً على لسان (نقاء) بطلة روايتها (الفضيلة تنتصر) كاشفة عن أسباب انحراف عدوّتها (سعاد): "ولكني أرثي لحال هذه المسكينة وأرى أن أحد أسباب انحرافها يعود الى المجتمع المنحرف، والى انعدام القيم الاسلامية فيه، ولو أنها كانت في مجتمع فاضل وأنشئت فيه نشأة إسلامية صحيحة وهُذّبت تهذيباً روحياً حقيقياً، لما وصلتْ الى هذا الدرك، فالمجتمع الفاسد يقدم كثيراً من الضحايا وأكثر ضحاياه من النساء لأنهنّ أعجل تأثراً وأسهل انقياداً، وفعلاً فقد انقادت هذه المسكينة الى ألوان الاغراء التي يضج بها مجتمعنا المتناقض"(96) فرأي الكاتبة الشهيدة هنا أن خلوّ المجتمع من القيم الاسلامية الضابطة للضمير والسلوك الانساني يؤدي الى الفساد وشيوع الانحراف والجناية على أفراد المجتمع قاطبة، وهذا يشير الى أن الانحراف عن مبدأ التوحيد مسؤولية اجتماعية وليست فردية فقط. فالواجب على المجتمع بأكمله أن يتعاضد ويتوحّد في التزام مبدأ التوحيد وتطبيقاته في مجالات الحياة كافة من عبادية وتشريعية وحاكمية بما يكفل سعادة المجتمع وابتعاده عن الفساد والإنحلال. ولدينا شواهد أخرى كثيرة على هذا المسار التوحيدي في فنون الأدب الاسلامي المعاصر، لا مجال لذكرها هنا ولذلك نكتفي بما ذكرناه من أمثلة.
وهكذا يهتم الأدب الإسلامي بربط الانسان بخالقه بعد تطهير نفسه من كل ادران التصورات الجاهلية وأوساخ المعتقدات الوضعية الفاسدة التي نجد آثارها في معظم مذاهب الأدب الغربي كالرومانسية التي تُسند الألوهية الى الانسان من خلال نظرتها الحلولية، في حين ترى الوجودية في الحياة لعنة الوجود أو تراها خالية من الغاية تُملأ بانتهاب اللذات تحدياً للحياة وإنكاراً للألوهية وكل ما لا تصل اليه الحواس الى درجة التردي في درك الحيوانية، بينما ينظر الأدب الاسلامي الى الانسان بوصفه مستخلفاً من لدن الله في الأرض يزاول مهمته ويؤدي دوره في الدنيا هداية وعمراناً ليحظى برضوان الله وثوابه في الآخرة،"ولا نبالغ اذا قلنا إن الايمان بالله اجلّ موضوعات هذا الأدب ومحاوره. فالانسان المؤمن المتوكل على الله تعالى، لايخشى أي قوة ارضية ولايقبل أي تبعية جاهلية فهو عزيز مكرم يعبد الله وحده ويتبع احكامه واوامره ويجتنب نواهيه. اما الانسان الكافر بالله او الشاك في ايمانه فلا يلقى خيراً ولايصادف سعادة، ومهما بذل من جهد في الاصلاح الخارجي – والنفس محطمة فارغة من الاعتقاد الصحيح – فإنه لايقوى على التخلص من براثن الفساد وأسباب الشر والضياع.
فمحور الايمان بالله تعالى جليل يجب ان يجتهد كل الأدباء المسلمين في إبرازه وتوضيح معالمه وجوانبه المختلفة وبيان عمق اثره في النفس البشرية حبن تدخل رحاب الايمان والتقوى "(97) ولايعدّ هذا المعتقد قيداً لهؤلاء الادباء أو الزاماً لهم بموضوع محدد " بل إنه بشموله واستيعابه لدقائق الحياة يهيء أرضية صالحة لنمو الادب ويُنشيء علاقات سليمة بحيث يرفد كل واحد منهما الآخر من دون ان يذيبه أو يسخره " (98) ويتحقق ذلك حين يسترشد الأدباء بنظرية الأدب الإسلامي عند تقنينها بشكلها الكامل.
خاتمة
ظهر من هذا البحث أن مبدأ التوحيد الاسلامي هو القاعدة الكبرى والأساس المتين الذي يُبنى عليه تصور الأديب الاسلامي للكون والانسان والحياة والمجتمع، وبالتالي فإن جميع الموضوعات التي يعالجها هذا الأديب خاضعة لمبدأ التوحيد باعتباره أصلاً لأصول العقيدة الاسلامية وفروعها.
وظهر كذلك أن هذا المبدأ راسخ في فطرة الانسان وغيره من الكائنات وهو الدافع الأقوى لأسمى المشاعر الانسانية التي يحفل الأديب الاسلامي بتصويرها والتعبير عنها بمختلف الأشكال والأساليب الفنية من شعر وقصة ورواية ومسرحية ومقالة وخطبة وغيرها، ولا يقتصر الأديب الاسلامي في هذه الفنون على الدافع الفطري لعقيدة التوحيد، بل لا بدّ له من التعمق في معرفة أسرار هذه العقيدة وآثارها الوجودية المنبسطة على الكائنات جميعاً. ليعرج الأديب من معرفته العميقة الى رؤية كونية توحيدية ينطلق منها نتاج أدبي وحدوي تذوب فيه القيم القومية والاقليمية واللونية والمراتب الاجتماعية والاقتصادية، وينتقل النظر الى الجانب الانساني بأرحب ساحاته وأبعد آفاقه، في أدب يدعو الى وحدة الانسانية المتمثلة بارتباط البشر على حدّ سواء بخالقهم دون فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، بعيداً عمّا نلاحظه من روح العنصرية والاعتداد بالجنس واللون والدم وروح الغرور والاستكبار الذي يطغى على حياة الأقوياء والأغنياء اليوم. ورداً على الآداب الجاهلية الرافضة لأية علاقة بين الخالق والمخلوق مما إشاع ظواهر مرضية اتلفت مقومات الشخصية وزعزعت فطرتها السلمية كنزعة الصراع بين الانسان والطبيعة ونشر الخوف والاضطراب والقلق وتشجيع الظلم والاستبداد وحيوانية الانسان.
وأخيراً أظهر البحث ضرورة اهتمام الأدب الاسلامي بعقيدة التوحيد الهادفة الى ربط الانسان بخالقه بعد تطهير نفسه من كل ادران التصورات الجاهلية وأوساخ المعتقدات الوضعية الفاسدة التي نجد آثارها في معظم مذاهب الأدب الغربي. ولا يستطيع الأدب الاسلامي تحقيق هذه الأهداف السامية إلا بالتزام مبدأ التوحيد المتّجه بهذا الأدب نحو الحق والخير والجمال والفضيلة.
اضف تعليق