يستند منهج النقد الادبي الاسلامي الى قاعدة شرعية وتاريخية تكتسب مقوماتها من القرآن الكريم والسّنة المطهّرة حيث يفيد الناقد الاسلامي المعاصر من هذين المصدرين في تحديد معالم منهجه النقدي. وقد تحققت هذه الافادة المنهجية من القرآن والحديث منذ بداية المنهج الإسلامي الحديث في الأدب والنقد...
توطئة:
يستند منهج النقد الادبي الاسلامي الى قاعدة شرعية وتاريخية تكتسب مقوماتها من القرآن الكريم والسّنة المطهّرة حيث يفيد الناقد الاسلامي المعاصر من هذين المصدرين في تحديد معالم منهجه النقدي. وقد تحققت هذه الافادة المنهجية من القرآن والحديث منذ بداية المنهج الإسلامي الحديث في الأدب والنقد، لدى سيد قطب في كتابه (في التاريخ فكرة ومنهاج) ثم لدى شقيقه محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي) ومن تابعه من النقاد الإسلاميين بوسائل مختلفة كما في محاولة الدكتور نجيب الكيلاني تأسيس فهمه للرمز في الادب على نظرات في الرمز القرآني وكشف بعض سماته.
وان كان بعض النقاد الاسلاميين المعاصرين، قد نبه الى خطر اتخاذ القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة نماذج للأدب الاسلامي، ورأى في ذلك محظوراً سقط فيه كثير من الادباء الاسلاميين فانتهى بهم الى تجاوزات خطيرة تضعهم مع المستشرقين وأذناب التغريب في خندق واحد من حيث النظر الى القرآن والحديث بوصفهما نصوصاً ادبية في حين ينبغي ان تكون الدراسة الادبية في حدود مراعاة الوضع الاصلي المقدس لكليهما بحيث لانحكم أياً منهما بالمقاييس الادبية ذات الوضع البشري وانما تحكم هذه المقاييس بهما بالقدر الممكن.
وبذا تكون آليات النظر الادبي في النص المقدس نابعة من منطقه الخاص وهي مجرد آليات للنظر وليست مقاييس، ومن ثم فإن دراسة النص المقدس تتوقف عند حدّ الشرح والتفسير والادراك والكشف عن المرامي البعيدة وإثبات الاعجاز دون اصدار الحكم والتقييم لما يتطلبه ذلك من افتراض التفاوت بين المستويات الجمالية في بنى النص وترددها بين القبح والجمال والرداءة والجودة وهو أمر واقع في النتاج البشري وغير واقع في النص المقدس.
ولهذا فمن الخلط المؤدي للتجاوز المريع ادراج القرآن الكريم ضمن التراث الانساني في معالجة دراسية تتناول عناصر توظيف التراث الانساني لدى شاعر معاصر، كما فعل الدكتور جابر قميحة في دراسته لشعر أمل دنقل حيث احتسب افادة الشاعر من النصوص القرآنية احتسبها ضمن التراث الإنساني دون أدنى تمييز بين النص المقدس وغيره من النصوص التراثية.
ويكمن الخطر ايضاً في الدخول الى الدراسة الادبية للقرآن الكريم والحديث الشريف من زاوية كونهما أنموذجاً للابداع في الادب الاسلامي، كما نهج الاستاذ محمد حسن بريغش في كتابه (الادب الاسلامي. سماته وأصوله)، والاستاذ محمد الرابع الحسني الندوي في كتاب ه(الادب الاسلامي وصلته بالحياة) والدكتور صابر عبد الدايم في كتابه (الادب الاسلامي بين النظرية والتطبيق) والدكتور مأمون فريز جرار في كتابه (خصائص القصة الاسلامية) وغيرهم من النقاد والباحثين الاسلاميين. ومن الحق أن "الدراسة الادبية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ضرورة قصوى ولكن على ان يتم ذلك في سياقهما الخاص من حيث مراعاة وضعهما المقدس من حيث المصدر والصياغة وان تكون الدراسة من خلال منهج ومصطلحات تتفق مع طبيعة هذا السياق وتراعي خصوصياته دون ان تخلط بينه وبين النتاج البشري" (1).
أصول التنظير للمنهج:
وانطلاقاً مما سبق فقد رأى بعض الباحثين الاسلاميين "ان التنظير للادب الاسلامي هو قضية فقهية متخصصة وليست قضية فكرية عامة ولذلك لا يحق لأصحاب الفكر العام ان يدلوا بدلوهم فيها الا اذا وصلوا الى مرحلة امتلاك الأدوات والمناهج العلمية التي تقودهم فيها الى برّ الأمان... والفقيه الادبي على وجه الخصوص لا يختلف في عمله عن بقية فقهاء الأمة إلا بتعمقه وتخصصه في القضية التي يفتي فيها (الأدب) فهو لا ينطلق من ذاته ولا حماسه"(2) وانما يقوم عمله – في هذا الرأي – على جمع النصوص من ثلاثة مصادر شرعية هي:
1- القرآن الكريم، ويتضمن الآيات العامة وآيات الشعر في العهدين المكي والمدني، وما يخص الادب والبيان البشري وأهمية الكلمة وخطرها.
2- السنة النبوية المتضمنة للقول والفعل والتقرير فيما يخص الشعر والأدب والبيان والكلمة وأثرها.
3- أدب الصحابة الكرام شعراً ونثراً، ويختص بما نال رضى النبيّ الأكرم وقبول المسلمين بالاضافة الى علوم القضية الادبية: تاريخ الادب العربي ثم علوم اللغة العربية.
بعد هذا يجب على الفقيه الأدبي أن يكرس جهده "لاستخراج ثوابت القضية الادبية (النظرية الاسلامية، المقاييس النقدية، نموذج الادب الاسلامي والتطبيقات العملية) ثم ينتقل بهذه الثوابت (النظرية الاسلامية) ليحاكم الادب العربي في عصوره المختلفة حتى يكتشف الفارق بين النظرية وامتدادها من خلال التطبيقات ليرى مدى استجابة المسلمين في ادبهم للفهم والنظرية الاسلامية في الادب وفنونه على اختلاف انواعها وبذلك يصل الى مرحلة تفسير الظواهر وتعليلها، وهو بهذا يرشد الاديب المسلم الى طريق النهضة الادبية ويحميه من مخاطر الانزلاق والضعف"(3). ومما تجدر ملاحظته ان هناك فرقاً اساسياً بين مفهوم (النظرية) عند المسلمين ومفهومها عند غيرهم.
فهي مجموعة حقائق ثابتة في الأصول الشرعية مبعثرة او متباعدة في كتب الفقهاء، ووظيفة النظرية لم شتاتها في مقولة علمية مترابطة لأن التنظير في الاسلام لا يكون ابداعاً لشيء غير موجود البتة ولا إقامة كيانات صناعية في الهواء، بل هو فهم علمي مترابط لكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام (4). وبما ان الاسلامية في الادب تهدف الى أسلمة النشاط القولي الابداعي للانسان المسلم، بمعنى حكمه بمعايير نقدية ذات أصول اسلامية فهي لهذا تعتمد التراث الاسلامي الأصيل قاعدة شرعية وتستمد منه ما يضيء ابعادها ويحكم حركتها ووجهتها ويدعم خطابها النقدي والابداعي بما يمنح هذا الخطاب نوعاً من الدفع والشمولية والقبول لدى المتلقين عامة لما ينطوي عليه من مرونة وتجاوب كبير مع الفطرة الانسانية في كل زمان ومكان.
بالاضافة الى "التوغل التاريخي للتراث الاسلامي بما يعنيه ذلك من استجماع حصائل جمة من الخبرة والمعرفة القائمة على التجربة والممارسة الاسلامية بما يدعم التجربة المعاصرة ويعمقها وينميها بكشف صلتها العميقة بجذورها التاريخية الممتدة في عمق الزمن، فتكسب بذلك قاعدة شرعية وتاريخية تجعلها اكثر ثباتاً ورسوخاً ومقدرة على اثبات احقية الوجود مع مزيد من امكانات تعميق الخطاب وقوته ونفاذه"(5) ويختص التراث الادبي الاسلامي في عصره الاول بكونه سنداً شرعياً لمنهج النقد الإسلامي من حيث تعامل الرسول (ص) وصحابته الكرام مع الادب في عصرهم فقد وضعوا الاساس الراسخ للأدب الاسلامي، ولا يقتصر دور ذلك التراث على توفير الدعم الشرعي والتاريخي للمنهج الاسلامي في نقد الأدب، بل انه يغني الاديب الاسلامي المعاصر بمزيد من الخبرات والتجارب التي امتدت قروناً طويلة انصهرت فيها الاشكال والاجناس والظواهر الادبية وتشكلت خلالها المفاهيم النقدية التي تثري الناقد الاسلامي المعاصر وتضع امامه منهجاً حياً عملياً يجسد روعة الارتباط بين الادب والاسلام. "وان منهج الناقد الاسلامي في التعامل مع هذا التراث بالانتقاء والتحليل والاختيار والترجيح والتدليل وتقليب الرأي على وجوهه المختلفة وتمحيصه، لهو دليل واضح على تقدير الناقد المسلم لهذا التراث دون تقديسه، وتطويعه دون الاذعان له على كل حال، والتعامل معه بوعي شديد موجه بغاية الانتفاع وفق مبادئ اسلامية.
وليس من المعقول – في ضوء التقدير الزمني لحركة التوجيه الاسلامي في الادب والنقد – ان نطالب الناقد المسلم بأكثر مما وصل اليه في مجال التعامل مع هذا التراث، ولكن من المهم اثارة الانتباه الى امكانات هائلة للاستفادة من هذا التراث بارتياد مناطق – فيما يبدو – لم تزل مجهولة في وعي الناقد المسلم او على الاقل لم تطأها قدمه، من مثل الاستفادة من التراث البلاغي في التحليل الجمالي، وعلى وجه اخص في مصطلحاته البلاغية بشرط تنميتها وتطويعها للتغيرات الحديثة بما لا يخرج بها عن وضعها الاصلي، وحينئذ يمكن ان تسد فراغاً كبيراً في الفقر المصطلحي الذي تعانيه الاسلامية بدلاً من اللجوء للمصطلحات الوافدة، وبخاصة في دائرة المصطلح الفني"(6) والواقع ان التعامل مع التراث الاسلامي بشكل عام يمهد الطريق أمام الناقد الاسلامي لصياغة مصطلحه النقدي بالإضافة الى اثرائه الحركة الادبية المعاصرة وفتح افاقها، مع الوعي الشديد بطبيعة البيئات والعصور التاريخية التي اجتازها ذلك التراث، ولا يغيب عن وعي الناقد الاسلامي الارتباط الوثيق بين التراث الإسلامي وفهم اللغة العربية بأسرارها وتطورها وعلومها ولا يتأتى ذلك الفهم إلا بفهم كتاب الله سبحانه وتعالى، وحديث رسول الله (ص) وادب العصر الاسلامي الاول. فهذه المصادر تمثل المرجعية الاسلامية ببعديها الشرعي والتاريخي لمنهج الناقد المسلم من خلال تضمنها لموقف الاسلام من الادب، والمتمثل في موقفه من الشعر باعتباره النوع الادبي السائد في عصر التشريع.
الموقف الاسلامي. شبهات باطلة:
ان قضية موقف الاسلام من الشعر تمس المنهج النقدي الاسلامي في الصميم من بنائه اذ يعتمدها هذا المنهج سنداً له من الناحيتين الشرعية والتاريخية. وهذه القضية احاطها اللبس والتشويه وسوء الفهم خارج اطار المنهج الاسلامي. حيث وقف كثير من النقاد والباحثين موقفاً سلبياً يتمثل بادعائهم ان الاسلام كان سبباً في ضعف الشعر والشعراء في صدر الاسلام بل ادعى بعض المحدثين ان الاسلام حارب الشعر وتنكر له ولهذا أصبح الشعر في صدر الاسلام قليلاً ضعيفاً ركيكاً. وهم يستدلّون على دعواهم بالجزء الاول من آية الشعراء حيث يقول سبحانه وتعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ..) (7) ولا يعيرون اهتماماً للاستثناء الوارد بعد هذه الآيات حيث يقول سبحانه: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا..) (8) كما يستدلون ببعض أحاديث النبي (ص) المروية في ذم الشعر كقوله (ص): (لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً. خير له من أن يمتلئ شعراً) (9)، وممن يمثل هذا الموقف السلبي من المحدثين، عبد العزيز الكفراوي الذي رأى من ظاهر آية الشعراء أن الشعر بأنواعه كلها غير مرغوب فيه إلاّ اذا جرى في ركاب الدعوة الجديدة ويستدل على ذلك بأن الصحابة تقيّدوا بتلك الآية حرفياً مثل لبيد الذي أقسم ألاّ يقول شعراً في حين وقف باقي الشعراء مواهبهم على خدمة الدعوة بردّ هجمات قريش حتى اذا وضعت الحرب الادبية أوزارها لاذوا بالصمت (10). ولقد شُبه الشاعر في نظر الرسول (ص) بالسمّ لايستعمل في الدواء إلاّ لضرورة قصوى وبقدر محدود فاذا اضطر الرسول لرواية بيت من الشعر قدّم فيه وأخّر حتى يفقده وزنه وموسيقيته (11). وممن ذهب إلى هذا الرأي ايضاً الدكتور شكري فيصل الذي رأى أن آية الشعراء نظرت إلى الشعراء على أنهم أناس لامكان لهم في مجتمع يقوم على الموافقة بين الظاهر والباطن، والمطابقة بين القول والعمل. ولذلك اصبح الشعر في صدر الإسلام هو النهاية الضعيفة الذابلة والمنحرفة للشعر الجاهلي وهو يمثل عقابيل المعركة بين الحياة الاسلامية والحياة الجاهلية (12).
وممن اتخذ هذا الرأي ايضاً الدكتور مدحت الجيار الذي ذهب إلى ان موقف الإسلام من الشعر كان مشوباً بالحذر في بداية الإسلام وأن القرآن الكريم وهو يصوغ فكره ونظريته عن الشعر كان حديثه عن الشاعر وذلك انه يهتم أساساً بوسيلة الاعلام، وقد ردّ الإسلام وهو يصوغ النظرية، كل الشعراء واستثنى منهم الشعراء المؤمنين، وكما فعل أفلاطون فهو يعتبر الشاعر نقطة ضعف في الدولة (13). وممن جرى هذا المجرى من الباحثين المحدثين ايضاً الدكتور فهد العرابي الحارثي الذي رأى أن ظروف الدين الجديد ليست بحال هي نفسها ظروف ما قبل الإسلام التي كان الاديب الشاعر ينعم فيها بما ينعم به من حظوة وشرف فصار الشعر لم يعد هو المتسيد على الساحة ولم يعد محموداً على إطلاقه وذلك لما يوصف به الشعراء ولا سيما في ظل القيم الجديدة من السفه والكذب والبهتان والمبالغات (14).
وممن قال بضعف الشعر في صدر الإسلام وعدم تأثير الإسلام فيه، الاستاذ احمد حسن الزيات حيث يقول: " فليس من شك في أن الشعر ظل على عهد الرسول جاهلياً، وخضعت قريش وسائر العرب للدين الجديد بعد لأي فخرست الألسنة اللاذعة وفرّ الشعر الجاهلي ثانية إلى البادية، وانصرف المسلمون إلى حفظ القرآن ورواية الحديث وجهاد الشرك فخفت صوت الشعر لقلة الدواعي اليه" (15).
وممن سلك هذا المسلك الدكتور زكي مبارك حيث يقول: "ونعود فنذكر أن الحملة التي وجهت إلى الشعر على اثر ما كان من لدد شعراء اليهود وتوثب شعراء المشركين أثرت تأثيراً عميقاً في حياة المسلمين من الوجهة الأدبية فرأيناهم يسرفون في بغض الشعر والنيل من الشعراء ثم جرى على السِنة الجماهير أن الشعر لا يليق بالفقهاء والمحدثين. وهذا كله من اثر الحملة التي وجهت إلى الشعر والشعراء" (16). وزعم جرجي زيدان أن الشعر في عصر الراشدين توقف لاشتغال المسلمين عنه بالفتوح (17). وقال يحيى الجبوري بضعف الشعر في صدر الإسلام ولكنه لم ينسب ذلك الضعف إلى الإسلام وموقفه من الشعر والشعراء، بل نسبه إلى ظروف الحياة الاجتماعية وما كانت تشهده من ثورة وانتقال حيث قال: "ومن الواضح البدهي أن الشعر في هذا العصر – عصر النبوة – اذا قسته بشعر الفحول الجاهليين أو قسته بشعر الفحول الامويين، تجده دونهما قوة ومتانة فقد ضعف كماً وكيفاً.
ولكن ليس معنى هذا ان هذه الفترة كانت من الضعف والهزال كما يصفها الواصفون فتكون عند زعمهم فجوة منقطعة ملأها الصمت والخمول بل ان الشعر كان فيها زاهياً قوياً كثير الفنون واسع الاغراض، دفعه الإسلام في دعوته ووجهه في أغراضه وأدخله في أتون المعركة الاسلامية بين مكة والمدينة وشارك في شؤون الحياة الاسلامية كافة فصورها ووصفها ومثلها على قدر ما اتيح له وبالشكل الذي يطيقه وان لم يبلغ الكمال المنشود والنضوج الذي بلغه في عهد تالٍ هو عهد بني امية. فالفترة كانت فترة ثورة وانتقال، والشعر – والفنون الاخرى – تخمله الثورات عادة وتدهشه فلا يستطيع تمثيلها إلاّ بعد فترة تقصر او تطول وتلك سنّة الحياة" (18).
ويرى الجبوري ان الشعر العربي لم يتأثر بالإسلام إلاّ بقدر محدود لتمسك الشعراء بالمثالية الجاهلية في النظم. ويرى أن شعر حسان وكعب وابن رواحة لم يرفع إلى مستوى الحدث الإسلامي ولم يوفق كل التوفيق في ابراز تعاليم الدين (19). وقد استدل معظم اولئك الباحثين فيما ذهبوا اليه من ضعف الشعر في صدر الإسلام بنصوص قديمة تنسب إلى الأصمعي وابن سلام وابن خلدون. فالأصمعي يروى عنه قوله: "طريق الشعر اذا ادخلته في باب الخير لان. ألا ترى ان حسان بن ثابت كان علا في الجاهلية و الاسلام فلما دخل شعره في باب الخير من مراثي النبي (ص) وحمزة وجعفر رضوان الله عليهما وغيرهم، لان شعره، وطريق الشعر هو طريق شعر الفحول مثل امرئ القيس وزهير والنابغة من صفات الديار والرحل، والهجاء والتشبيب بالنساء وصفة الحمر والخيل والحروب والافتخار، فاذا أدخلته في باب الخير لان"(20).
وابن سلام يقول عن الشعر: " فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن ولا كتاب مكتوب، وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك وذهب عليهم منه كثير"(21). واما ابن خلدون فيقارن بين ازدهار الشعر في الجاهلية وفتوره في صدر الإسلام فيقول: " ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من امر الدين والنبوة والوحي وما ادهشهم من أسلوب القرآن ونظمه فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً، ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي (ص) وأثاب عليه فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه" (22).
ومن هذه الآراء القديمة وما سار في ركابها من آراء المحدثين تكونت نظرية ضعف الشعر في صدر الإسلام وتبلورت النظرة الخاطئة لموقف الإسلام من الشعر فقد جانب القائلون بهذه النظرية الفهم الموضوعي والاستدلال العلمي فيما ذهبوا اليه وسيطرت على آرائهم عدوى المقولات المجانية والانطباعية وحكّموا أذواقهم الشخصية في تفسير الآيات القرآنية و الاحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بالشعر ولذلك انبرى العديد من النقاد والباحثين الاسلاميين للرد على تلك الآراء المتطرفة واثبات بطلانها كما فعل الدكتور صالح آدم بيلو في كتابه (من قضايا الأدب الإسلامي) وتحت عنوان: شبهات داحضة واعتراضات مدفوعة، وعالج هذه القضية ايضاً الدكتور عبد الرحيم محمود زلط في كتابه (التأثير النفسي للإسلام في الشعر)، والدكتور سامي مكي العاني في كتابه (الإسلام والشعر)، والدكتور يوسف العظم في كتابه (الشعر والشعراء في القرآن والسنة)، والدكتور سعد أبو الرضا في كتابه (الأدب الإسلامي. قضية وبناء)، والدكتور عودة الله منيع القيسي في كتابه (تجارب في النقد الأدبي التطبيقي)، والدكتور عبد الباسط بدر في الفصل الأخير من كتابه (مقدمة لنظرية الأدب الإسلامي).
ومع ذلك فإن قضية ضعف الشعر في صدر الإسلام وعدم تأثير الاسلام فيه، ألقت بظلالها على دراسات بعض النقاد الاسلاميين، كما نلمس ذلك لدى الاستاذ محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي)، والدكتور عماد الدين خليل في كتابه (خطوات جديدة في النقد الإسلامي) والاستاذ حكمت صالح في كتابه (نحو آفاق شعر اسلامي معاصر) وربما تأثرت هذه الدراسات بالاضطراب السائد لدى المحدثين حول موقف الإسلام من الشعر دون الوقوف المتأني عند النصوص الشعرية الكثيرة المنتسبة لصدر الإسلام وما تزخر به من أثر الإسلام الظاهر في الفاظها ومعانيها وصورها وعواطفها بالاضافة إلى إحكام بنائها الفني، ونجد لهذه النصوص شواهد كثيرة في ميدان المدائح النبوية والعلوية وشعر الجهاد والدعوة والغزل العفيف وتصوير الطبيعة وغيرها، نجد ذلك لدى شعراء كبار يعدّون من الفحول كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة و كعب بن زهير والنابغة الجعدي وعمرو بن أحمر الباهلي وزيد الخيل الطائي وحميد بن ثور الهلالي وغيرهم كثيرون حُققت دواوينهم وطبعت، ومن يطلع على هذه الدواوين ويتمعن فيها سيجد أن دعوى قلة الشعر وضعفه في صدر الإسلام، هي دعوى باطلة ولاتقوم على اساس علمي أو موضوعي أو فني، فقد" مضى كثيرون ينظمون في هذا العصر لامع الاحداث بل مع انفسهم وقبائلهم مستضيئين إلى حد كبير بالإسلام وهديه الكريم.
فالشعر لم يتوقف ولم يتخلف في هذا العصر، وهذا طبيعي لأن من عاشوا فيه كانوا يعيشون من قبله في الجاهلية وكانوا قد انحلّت عقدة لسانهم وعبّروا بالشعر عن عواطفهم ومشاعرهم فلما أتمّ الله عليهم نعمة الإسلام ظلوا يصطنعونه وينظمونه واقرأ في كتب الأدب والتاريخ مثل الأغاني والطبري وسيرة ابن هشام وكتب الصحابة مثل الاصابة والاستيعاب فستجد الشعر يسيل على كل لسان واقرأ في المفضّليّات و الأصمعيات فستجد المفضل الضبّي والأصمعي يحتفظان في كتابيهما بغير مطولة للمخضرمين وقد عقد ابن قتيبة في الشعر والشعراء تراجم لكثيرين منهم وسلك ابن سلام في كتابه (طبقات فحول الشعراء) طائفة من مجوّديهم البارعين.
ومن يرجع إلى كل هذه المصادر يستقر في نفسه أن الشعر ظل مزدهراً في صدر الإسلام وليس بصحيح أنه توقف أو ضعف"(23) والواقع أن نظرية ضعف الشعر في صدر الإسلام تقوم – في مفهوم القائلين بها – على فكرتين أساسيتين هما: "موقف الإسلام، والركود النسبي الذي عرفه الشعر في هذه الفترة بالقياس إلى ازدهاره في المرحلة السابقة... والفكرة الاخيرة التي تعتبر احدى دعائم هذه النظرية تنهض على مبدأ واحد هو مبدأ المقارنة بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي. فالشعر الجاهلي في عرف أصحاب هذه النظرية يمثل النموذج الاعلى الذي بلغته الفاعلية الشعرية في تلك المرحلة، ومعنى ضعف الشعر في المرحلة التالية هو انه لم يستطع ان يصل المستوى الذي بلغه من قبل. والحال ان مبدأ المقارنة غير وارد من وجهة ما، اذ من غير المستساغ بتاتاً مقارنة العطاء الشعري في مرحلتين تاريخيتين تختلفان اختلافاً جوهرياً من حيث الطبيعة والخصائص وحتى من حيث المفهوم الشعري لأن الشعر اتخذ بالفعل مفهوماً جديداً في ظل الاسلام وخضع لتوجيه جديد أثر في مساره وتطوره، وكانت له انعكاساته على مستقبله" (24) وان كثيراً من الظواهر التي صنفها النقاد في باب الضعف هي في الواقع نوع من الانعطاف الأسلوبي المتأثر بالمفاهيم الجديدة التي جاء بها الاسلام، فهذه الظواهر ادخل في باب التجديد منها في باب الضعف(25) لقد" اصبح للشعر مفهوم جديد في ظل الاسلام، لم يعد تعبيراً عن قيم وتقاليد جاهلية متخلفة في اكثرها وانما اصبح تعبيراً عن اهداف رسالة سماوية لم تنزل لهداية العرب وحدهم بل نزلت لهداية الناس كافة، لا فرق فيها بين ابيض واسود ولا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى.
فلقد نقل الاسلام الشعر نقلة نوعية كبيرة او أراد له – التزاماً بمبادئه ومعاييره – ان ينتقل هذه النقلة، لقد أصبح الشعر المطلوب في ظل الاسلام، ما كان تعبيراً عن الحق والخير وانكاراً للباطل والشر وما عداه من الوان الشعر فمرفوض منكور"(26) وما رآه الرواة في شعر حسان الاسلامي من اللين والضعف هو مجرد وهم وقعوا فيه لأنهم حاكموا هذا الشعر على ما الفوه من اساليب وفنيات النموذج الشعري الجاهلي ولم يتتبعوا اسباب ميلاد هذه الظاهرة الادبية التي سيطرت على الشعر الاسلامي بكامله ومنه شعر حسّان الاسلامي "حيث اتجه الشعر الاسلامي الى سهولة الخطاب وعفوية الاداء ووضوح المعاني ودقتها مع الجمع بين الصدق الشعوري والفني دون التنازل عن اساسيات الفن الشعري.
وكان الشعر الجاهلي يجمع بين الجزالة وقوة المعاني ويقع في الوان من المبالغة والغموض وتزوير المشاعر، فظن الرواة ان ما حدث في الشعر الاسلامي انه نوع من انواع اللين والضعف لأنهم حكموا من خلال ما الفوا ولم يتحرّوا رشداً في تفسير هذه الظاهرة، لقد نسي الرواة والنقاد ان الاسلام أتى على الجاهلية فدثرها اثناء الانقلاب العقيدي الذي فعله فسيطر على كل الاشياء ووجهها كما يريد ضمن منهاجه وهديه فتمت له نقلة العرب من الجاهلية الى الإسلام في جميع مناحي الحياة العقيدية والفكرية والشعورية والسلوكية والتعبيرية واللغوية "(27). وكان للقرآن الكريم أثره الواضح في ميدان اللغة بما أحدثه من الانقلاب في أساليب البيان والتعبير في الشعر والنثر العربي وفي نقل دلالات اللغة العربية وآدابها الى مرحلة جديدة وفهم جديد واداء مبتكر مما كان له الأثر الكبير في ميلاد مذهب جديد في الفن الشعري هو مذهب الشمولية الاسلامية الذي يمثله حسان بن ثابت في عصر صدر الاسلام" نعم مالان شعر حسان ولاضعف ولكنها ولادة المذهب الأدبي الاسلامي"(28) الذي يؤسس له القرآن الكريم والسنّة المطهرة في موقفهما من الشعر والشعراء بعد أن انحرفت رسالة الشعر قبل الاسلام عن الوضع الكريم الذي يليق بالانسانية المهذبة والخلق القويم الذي يستقيم به أمر المجتمع"اذ كان يهتك الحرمات ويثير العصبية ويحرض الناس على الاقتتال والتناحر، فكان ذلك من معاول الهدم وأسباب الدمار في البيئة الجاهلية، ثم جاء الاسلام بدعوة الاخاء والمساواة والعفة في القول فحرّم على المسلم الفواحش ماظهر منها وما بطن ودعا الى الكف عن القول والفعل الذي يؤذي المجتمع.
لقد أصبح عند المسلم منهج ودستور ينظم له جميع امور حياته، وتلك التعاليم مأخوذة من القرآن الكريم وسنة الرسول العظيم"(29) ولانجد فيهما ما رآه بعض الناس من موقف الخصومة والمعاداة للشعر والشعراء بعد أن فهموا آيات القرآن وأحاديث الرسول فهماً مغلوطاً ووجهوهما توجيهاً مخالفاً للحقيقة.
الأصل القرآني:
في القرآن الكريم نجد أن لفظة الشعر والشعراء قد وردت في ستة مواضع، يحكي القرآن في خمسة منها عما حاول كفار قريش ان يلصقوه برسول الله (ص) من اتهامات باطلة وصفات طائشة، والآيات الخمس هي: (بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ)(30)، (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (31)، (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) (32)، (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (33)، (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ) (34). "إن هذه الآيات الخمس إنما جاءت لتصور موقف المشركين ازاء القرآن وتأثيره في النفوس، ثم للرد على تفسيراتهم ولتأكيد أن القرآن وحي من الله تنزل به الروح الأمين على قلب محمد(ص) فجميعها اذن مسوقة لتنزيه الرسول (ص) عن أن يكون من الشعراء ولإبطال زعم المشركين أن القرآن من قبيل الشعر كما أوضح جميع المفسرين"(35).ويرى بعض الباحثين "أن مفهوم الشعر في ضوء ما تقدم من الآيات كان مرتبطاً بالمغيبات والقوى السحرية الخارقة. ومن هنا جاء خلط الكافرين بين الشعر والكهانة والسحر، لأنه بعيد جداً وغير معقول أن يفهم المشركون أن القرآن (شعر) بمعنى الكلمة وإنما كان مقصدهم – فيما يظهر – مرتبطاً بالنسبة لهم بأمر غيبي "(36) ومع ذلك فإن القرآن لم يتحدث في هذه الآيات الخمس عن الشعر من حيث هو فن من القول يجوز للمسلم أن يتعاطاه أو يحرم ذلك عليه وانما أورد لفظة الشعر والشاعر للتعريف بنفسه وللتفريق بينه وبين الشعر فحسب.
وما ورد في هذه الآيات من تنزيه الله تعالى لرسوله الكريم عن الشعر، فلا صلة له بمسألة ذمّ الشعر ولا بتحقير الشعراء، بل له أسبابه الخارجة عن أطار الذم، ومنها أن الرسول (ص) لو كان شاعراً لقصّر به ذلك عن الكمال البشري الواجب للرسل وعن القيام بواجب الرسالة. ومنها دفع وصمة الاتصال بالشياطين مما كان يعتقده العرب في الشعراء في ذلك العصر، بالاضافة إلى أن القرآن والشعر من طبيعتين مختلفتين فلكل منهما منهجه ومصدره وطبيعته وغايته، ولهذا كان إبعاد الرسول (ص) عن الشعر والشاعرية وليس في ذلك انتقاص أو تقليل من قيمة الشعر، كما أن أميّته (ص) لم تكن انتقاصاً للكتابة والقراءة وانما لحكمة اخرى هي دفع شبهة اطلاعه (ص) على ما كتب الاولون (37). "ومن خلال مراجعة كتب التفسير لهذه الآيات الكريمة يظهر للباحث طبيعة الخطاب القرآني الكريم الموجه للعرب لكشف المغالطات وايضاح الحقائق من خلال مصادرها وغاياتها.
فالنبي (ص) ليس شاعراً لأنه يتلقى القرآن الكريم من مصدر علوي خارج عن مشاعره وارادته وفي هذا تفريق وتوضيح لطبيعة الشاعر الذي يصدر عن مشاعره لأن الشعر تعبير عن الرغبات والمشاعر والاهواء والنوايا والمواقف وهو قيمة لاحساس الشاعر بالحياة من حوله، أما النبي (ص) فعلاقته بالقرآن هي علاقة المبلّغ الامين الذي يتلقى رسالة ربه ويبلّغها للناس (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (38) ولذلك فالشعر لايليق بمقامه ووظيفته لأن للشعر منهجاَ غير منهج النبوة، يختلف الاثنان في المصدر والغاية"(39) ومن خلالهما يخاطب الله سبحانه العرب ليتعلموا الفارق بين الشعر والقرآن الكريم موضحاً لهم: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) (40)غايته هداية البشر الــى العقيدة الكاملة الشــاملة التي تفسر الحياة وتدعو الانســان لعبادة الله علــى منهج واضــح بيّن وشريعة تقنن له شؤون حياته وتوصله الى سعادة الدارين، ومصدره ليس من محمد ولا من مشاعره وإنما هو كلام الله سبحانه وتعالى الى خلقه وعلى هذا فلم يكن "هدف الآيات الكريمة هو تعطيل مسيرة هذا الفن واستئصاله من الحياة لأن الشعر فطرة ربانية ولأن الله علّم البيان وهدف البيان هو التعبير شعراً ونثراً.
وفي سكوت القرآن الكريم عن الشعر وقواعده وأوزانه ما يقرّ العرب على فنهم، ولانلمس من الآيات الكريمة ما يفيد التهوين من أمر الشعر أو تحقيره" (41) بل يمكن القول بأن هذه الآيات تضمنت "ايضاح طبيعة الفن الشعري للعرب بعد أن غمض عليهم فنسبوه الى العبقرية والامور الخارقة، من خلال عملية رفض المقارنة بين القرآن والشعر في المصدر والغاية.
فالشعر كلام ينطق عن الهوى، والقرآن وحي يوحى، وفي كشف وتفسير الملكة والموهبة الشعرية واصولها مايصحح كثيراً من المقاييس القائمة لهذا الفن في اذهانهم، مادام أن الشعر قد حصر بين الآيتين الكريمتين: (وما ينطق عن الهوى)، (علّمه البيان) لأنه بيان يعبر عن الهوى والمشاعر البشرية"(42) ومن الملاحظ أن هذه الآيات الخمسة جميعها مكيّة، ومن المعلوم أن المحور الرئيس الذي دارت حوله آيات القرآن الكريم في المرحلة المكيّة هو محور بناء العقيدة الاسلامية ودحر العقائد الجاهلية المنحرفة.
أما ما يخص بناء المجتمع المسلم من تشريعات وسياسة وجهاد وعلم وثقافة وفن فكله تأخر للمرحلة المدنية التي نزلت فيها آيات الشعراء في قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) (43) وفي هذه الآيات يتناول القرآن الشعر من حيث هو فن يمكن أن يستخدم في مواطن الخير أو الشر ومن الواضح أن "القرآن لم يحارب الشعر لذاته في هذه الأحكام وانما حارب المنهج الذي سار عليه الشعر والشعراء، منهج الاهواء والانفعالات التي لاضابط لها ومنهج الاحلام المهوّمة التي تشغل اصحابها عن تحقيقها، لذلك جاء وصف الشعراء في القسم الأول من هذه الاحكام بأنهم يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن سنن الحق الحائرون فيما يأتون ويذرون ولايستمرون على وتيرة واحدة في الافعال والاقوال"(44) فالقرآن هنا يحطّ من شأن الشعراء الذين يدعون الى الغواية بزخرفة الأقوال الباطلة التي لا تنطلق من ايمان عميق بمضامينها بل تهدف الى نشر الغواية والضلال ومحاربة الحق وقطع سبل الهداية، وهذا الحطّ الأخلاقي من شأن الشعراء انما تناول المشركين من شعراء قريش عند نزوله في القرآن الكريم ومع ذلك فان دلالته تتجاوز حدود الزمان والمكان لتكون حكماً على كل الشعراء الذين تنطبق عليهم هذه الصفات قديماً وحديثاً.
"وبقدر ما حطّ من شأن الشعراء المنحرفين، أعلى من شأن الشعراء المؤمنين الذين يتخذون من الشعر – تبعاً لطرقه في الاداء – وسيلة الى الاصلاح والى رفع الظلم عن أنفسهم وعن عباد الله فلا يحفزهم لقول الشعر إلاّ الحق ولايهدفون من ورائه إلاّ الى إقرار الحق عن طريق اشاعة الخير والجمال في النفوس دون وعظ أو تقرير. وهذا الموقف الفني الاخلاقي معاً الذي وقفه القرآن الكريم من الشعر هو ما يطلق عليه في مصطلح العصر الحاضر (الالتزام). واذا كان ثمة فئات تريد من وراء الالتزام خدمة قضايا باطلة واتجاهات منحرفة، فان المسلم – شاعراً وأديباً وناقداً – يريد منه خدمة قضايا الحق وتمكين سبل الاصلاح في الأرض"(45) فنلاحظ في هذا الموقف القرآني أن "الهجوم لم يكن على جنس الشعر لأنه لو كان على جنس الشعر لأفاد معنى تحريم الشعر، ولكنه كان على جنس الشعراء ؛ لأن الشعر في أصله فن كلامي محايد لايوصف بالخير و لا يوصف بالشر ولكن الذي ينقله الى فن يخدم الخير أو الشر هو جنس الشعراء حيث يقوم الشعراء بإخراج الشعر عن مقاصده ويوظفونه في خدمة مقاصد الشر أو يوجهونه الى خدمة مقاصد الخير.
فالشعر كالكلام حسنه حسن الكلام وقبيحه قبيح الكلام. والدليل على ذلك أنه استثنى الشعراء المؤمنين من الحكم العام للآيات" (46) بل تضمن هذا الاستثناء تأييداً للشعراء في هجائهم للمشركين، كما يقول ابن عبد ربه: "فأرخص الله للشعراء بهذه الآية في هجائهم لمن تعرض لهم"(47). وعلى هذا فإن "القرآن الكريم لم يحرّم نظم الشعر كما يزعم البعض و لم يهاجم الشعراء بصفة عامة وانما يقصد اولئك المشركين الذين يهاجمون رسول الله وينهشون اعراض الناس ويتبعون مزاجهم وهواهم فيحرّكون عواطف السامعين ومشاعرهم بما يملكون من أساليب الاثارة والتشويق بأكاذيبهم ويعطّلون الاحتكام الى العقل بضلالاتهم فينساق وراءهم أهل الضلال من عامة الناس وخاصتهم. أما الشعراء المؤمنون الملتزمون بأوامر الله ونواهيه فقد استثناهم رب العالمين ولاضير عليهم شريطة أن يظل شعرهم في دائرة المباح من القول وفي حدود الحلال من الكلام"(48). ومن مجمل ما ذكره القرآن الكريم عن الشعر والشعراء نرى أنه "قد نزه الرسول عن أن يكون شاعراً، كما تنزه القرآن أن يكون شعراً، والشعراء قد حددهم القرآن الكريم فمنهم الموصوفون بالطيش والغواية ويتبعهم الطائشون الغاوون ما داموا يهيمون في كل وادٍ، ومنهم الصالحون الذين ذكروا الله كثيراً وهم الذين ساروا في طريق الهدى والايمان وقد كتب لهم النصر بعد الظلم. فالقران الكريم وضع الخط العريض للنظرة الدينية للشعر والشعراء ففرق بين شعراء المشركين وشعراء المؤمنين"(49).
وما ورد من ذمّ لم يكن للشعر على اطلاقه وليس للشعراء جميعاً " وانما هو لنوعية معينة من الشعر ذلك الشعر المتفلت من كل قيد والشارد الحاطم لكل بناء، المقوّض لكل أساس من أسس المجتمع الرشيد... واذا كان من حق – بل من واجب – كل مجتمع أن يكون شديد الحرص على مقوماته الاساسية وان يحيطها بسياج متين ليحصن نفسه ويحميها من السقوط والانهيار، كان من حق الإسلام – بل من واجبه – ان يحمي مجتمعه العقائدي الأخلاقي بمثل هذا السياج"(50) وهذا هو موقف القرآن الكريم من الشعر الذي يمس القيم الاساسية للمجتمع ويكون عاملاً للهدم الاجتماعي والانهيار الاخلاقي، أما "الشعراء الذين يلتزمون بالحد الأدنى من قيم المجتمع الإسلامي وأطُره ولا يتعدون حدوده الواسعة الرحيبة فلا تثريب عليهم ولالوم ولا ذم ولا انتقاص من قيمتهم ومنزلتهم ولا حد من حرياتهم الفنية "(51).
إن هذا الموقف القرآني المتوازن من قضية الشعر والشعراء يعدّ أول مرجعية اسلامية لمنهج النقد الادبي الإسلامي باعتبار ان الشعر ابرز افراد النوع الادبي فما ينطبق عليه من رأي الإسلام يمكن ان ينطبق على الادب عامة، ولذلك فقد عالج بعض النقاد الإسلاميين هذه القضية تحت عنوان: موقف الإسلام من الادب.
الأصل النبوي:
إن الموقف الاسلامي من الأدب يتضمن – بكل تأكيد – ما ورد عن الرسول الاعظم (ص) وأهل بيته المعصومين (ع) من سنّة تتعلق بالشعر والشعراء. وقد جاءت الاخبار الناقلة لموقف الرسول من الشعر " في صور شتى منها اخبار يذم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر وينتقص منه وينهى عن روايته وهذه الاخبار قليلة معدودة. واخبار أخرى فيها إعجاب الرسول ببعض الشعر واستماعه وطلب روايته وانشاده وتروى للرسول اقوال نقدية في بعض الشعر فيها توجيه وتقويم وهذه الاخبار كثيرة"(52). أما ذمّه (ص) للشعر فيروى عنه قوله: (لأنْ يمتليء جوف الرجل قيحاً خيرٌ له من أنْ يمتليءَ شعراً) (53) وهذا الحديث متفق عليه بين طوائف المسلمين ومروي في مصادرهم بوجوه متفقة في المعنى مختلفة في اللفظ بعض الاختلاف وقد اجتهد كثير من اهل العلم في معالجة هذا الحديث وتأويله بما يتفق مع الاحاديث الكثيرة الواردة عن النبي (ص) في مدح الشعر والثناء على قائليه.
ومن تلك التأويلات ما ذكره البخاري بقوله: "إن هذا الحديث ينصبّ على من غلب عليه الشعر وامتلأ صدره منه واشتغل به عن العلم وأعرض بسببه عن الذِكْر"(54)، وما ذكره الشريف الرضي في مجازاته بقوله: "المراد النهي عن ان يكون حفظ الشعر اغلب على قلب الانسان فيشغله عن حفظ القران وعلوم الدين"(55)، وما ذكر الحرّ العاملي بقوله: "هذا انما يدل على كراهية الافراط في انشاد الشعر والاكثار منه بقرينة ذكر الامتلاء وغير ذلك "(56). وقد تأثر بهذه التأويلات كثير من النقاد المحدثين حتى قال احدهم: "وهكذا تكون النظرة الاسلامية إلى الشعر أنه وسيلة لاغاية وهو– عندما يكون في دائرة الحق والخير – نشاط حيوي مقبول وطاقة مفيدة نافعة وضرب من الجهاد لحرب الباطل ونشر الفضيلة ولكنه لا ينبغي أن يغلب على المرء فيكون شغله الشاغل "(57) ومن الواضح ان هذا الرأي ينطوي على تناقض لا ينبغي لناقد اسلامي ان يقع في مثله ؛ فكيف لا ينبغي لشعر الحق والخير والجهاد والفضيلة ان يكون شغل الانسان الشاغل؟! وهل الشعر إلاّ كلام كسائر الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ! فكيف يسوغ لنا أن نمنع الاكثار من كلام يدعو إلى الحق والخير والفضيلة وكلها تستند إلى الايمان بالله ورسوله وكتابه ودينه ! وهل يصحّ ان نحدّ من شعر يذكر الله كثيراً؟!
أليس في هذه الدعوى ما يناقض كتاب الله وسنة رسوله؟! اذ القرآن الكريم يحث الناس على الأكثار من ذكر الله حيث يقول سبحانه وتعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ) (58)، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) (59)، بل انه ليخصّ الشعراء بالاكثار من ذكر الله في شعرهم حيث يقول: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) (60) فكيف لا ينبغي ان يمتلئ صدر الانسان من هذا الشعر الذاكر لله؟! وكيف يكره الاكثار من حفظه وانشاده والاشتغال الدائم به؟! ألم يكن شاعر الرسول حسان بن ثابت مختصّاً بهذا الشعر دائم الاشتغال به، ولم ينكر عليه الرسول ذلك بل كان يؤيده ويشجعه؟! لقد عزب عن هذا الناقد وأمثاله مقصد القرآن، كما عزب عنه مقصد الحديث النبوي الشريف واغترّ بما سقط فيه القدماء – عند تأويله – من التعميم الخاطئ لجميع الشعر.
وواقع الحال أن القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يعمّمان الذمّ والكراهية لجميع الشعر ومطلقه بل يخصّصان الذم والكراهية بشعر الباطل والشرّ والرذيلة، أما شعر الحق والخير والفضيلة فلا جناح عليه أن يكون كثيراً وفيراً مشتغَلاً به بين الناس حفظاً ونظماً وإنشاداً. وهذا ما تشهد به أحاديث الرسول الكريم ومواقفه العديدة المؤيدة والمشجعة لهذا النوع من الشعر فضلاً عما ورد في بعض روايات حديث الذم – الذي نحن بصدده – من تخصيص للشعر المذموم بما هجي به النبي (ص) كما روي ذلك عن عائشة التي رأت ان تمام الحديث هو: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً أو دماً خير من أن يمتلئ شعراً هجيت به) (61) فيكون هذا الحديث خاصاً بالشعر الذي هجي به رسول الله (ص) ولا يحتاج إلى التأويلات السابقة، لأنه واضح الدلالة على أن الشعر المذموم هو ذلك الشعر المتمحض للشر، ومنه ما روي عن النبي (ص) في ذكر أمرئ القيس انه قال: (ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، خامل يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار) (62).
كما روي عنه قوله: (من تمثل ببيت شعر من الخنا لم يقبل منه صلاة في ذلك اليوم ومن تمثل بالليل لم يُقبل منه صلاة تلك الليلة)(63)"وثمة اشعار بعينها يذكر المؤرخون ان رسول الله قد نهى عن روايتها وهذه الاشعار لا تتجاوز نصين شعريين فقط هما قصيدة أمية بن ابي الصلت التي يرثي فيها من أصيب من قريش يوم بدر... اما النص الآخر فهو قصيدة الأعشى في هجاء علقمة ومدح عامر بن الطفيل "(64). والواقع ان لهذه الروايات تعليلاً ينسجم وما جاء به القرآن من حكم على صنف خاص من الشعراء هم اولئك "الذين اتخذوا الشعر لهواً ووسيلة للعبث والمجون ونهش الأعراض وإثارة الضغائن والأحقاد والمديح الكاذب والفخر المتعالي بالأحساب والأنساب لا بالعمل الطيب، وذلك شعر الصمتُ خيرٌ منه لأنه دعوة إلى المنكر"(65). أما الشعر الداعي إلى الحق والخير والفضيلة فقد لقي من لدن النبي (ص)احتفاءاً وتشجيعاً، وقد اشتهر عنه قوله: (إن من الشعر لحكمة) (66) وروى عنه ابن عباس أنه (ص) قال: "أفضل شعرائكم القائل مَن ومَن، يعني زهيراً وذلك في قصيدته التي أولها: أمن أم أوفى.." (67) ومن المعلوم ان قصيدة زهير حافلة بالحكم التي اعجب بها رسول الله (ص).
ولعلنا نجد تعليلاً لتفضيل النبي (ص) زهير بن ابي سلمى على غيره من الشعراء فيما رواه ابن عباس قال: "خرجت مع عمر في اول غزاة غزاها فقال لي ليلة: يا ابن عباس أنشدني لشاعر الشعراء قلت: مَن هو؟ قال: ابن ابي سلمى. قلت: ولِمَ صار كذلك؟ قال: لأنه لا يتبع حوشيّ الكلام ولا يعاظل في منطقه ولا يقول إلاّ ما يعرف ولا يمدح الرجل إلا بما فيه"(68). ومما يتعاضد مع احاديث النبي (ص)المشجعة على الشعر والمحببة له، ما روي عن الأئمة المعصومين من اهل بيته عليهم السلام، فقد ورد "عن الرضا(ع) ان المأمون قال له: هل رويت شيئاً من الشعر؟ فقال: قد رويت منه الكثير، قال: أنشدْني. الحديث وفيه أنه أنشده شعراً كثيراً"(69) وعن الامام الصادق (ع) انه قال: "كان أمير المؤمنين (ع) يعجبه ان يُروى شعر ابي طالب وان يدوّن.
وقال: تعلّموه وعلّموا اولادكم فانه كان على دين الله وفيه علم كثير"(70). وعنه(ع) انه قال: (من قال فينا بيت شعر بنى الله له بيتاً في الجنة) (71)، وقال كذلك: (ما قال فينا قائل بيت شعر حتى يؤيد بروح القدس) (72)، وعن الامام الرضا(ع) قال: (ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا به الا بنى الله له مدينة في الجنة اوسع من الدنيا سبع مرات يزوره فيها كل ملك مقرب وكل نبي مرسل) (73)، ومن البيّن ان أئمة اهل البيت عليهم السلام لا يرغبون بالمدح لذات المدح – فهم في غنى عن ذلك – بل لأن فيه إحياءً لمبدأ الإسلام وايضاحاً لخط الرسالة التي تحملوا اعباءها بعد النبي (ص) وتأييداً لحق الاٍمامة الذي كاد يضيع بأفواه سلاطين بني امية وبني العباس. وهم في ذلك انما ينهجون نهج النبي(ص) في تأييده وتشجيعه للشعراء المادحين له كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم، اذ كان في مدحه اعلاء لكلمة الحق وصوت الإسلام بوجه المشركين والكافرين المعاندين وقد استمع (ص) لقصيدة كعب بن زهير (بانت سعاد)التي اعتذر فيها للنبي (ص) ومدحه، فأجازه النبي عليها بردته الشريفة وسميت القصيدة بعد ذلك بالبردة، وقد حددت احاديث الرسول (ص) النظرة الاسلامية لفن المديح والتصور السديد لهذا الغرض الرئيسي المهم من اغراض الشعر العربي.
فلا يُمدح الا الحق والخير والقيم الفاضلة النبيلة ومن يمثلها او تتجسّد فيه، ولا يجوز مدح الفسقة او غير الأكفاء من الرجال، ففي ذلك ترسيخ لقيم الشرّ وتتويج لأهل الدنايا والسقوط، واذا ما سلك الشاعر هذا الفن من القول فلا يسرف ولايمِن ولا يغلّ فيخرج إلى المراء والنفاق "(74) اما مواقفه (ص) الدالة على احتفائه بالشعر فهي كثيرة ومنها موقفه في الرد على وفد بني تميم اذ ارسل لحسان ابن ثابت ليرد على شاعرهم الزبرقان بن بدر(75). وكذلك استجابته لعمرو بن سالم الخزاعي عندما جاءه يخبره شعراً ان قريشاً نقضت العهد مع خزاعة فقال له الرسول (ص): نُصرت يا عمرو بن سالم، ثم نهض يتجهز لفتح مكة وكان قبل ذلك يطيل من صبره على قريش لعلها ترجع عن غيّها فيما نقضت من ميثاق (76)، وأثبتت الاحاديث الكثيرة الوفيرة التي رواها البخاري ومسلم أن الرسول الاعظم (ص) قد دعا الشعراء للذود عن دين الله والدفاع عن رسول الله وانه نصب لحسان بن ثابت منبراً في مسجده ليُنشد الشعر من فوقه وأنه كان في طليعة المستمعين اليه المشيدين به.
وأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستروح بالشعر في اوقات المحنة ويتقوّى به على مواصلة الجهد في ساعات الشدة ويردّده بنفسه وأنه كان يأنس بالشعر ويسأل الرواة عنه ويستزيد منه "(77) فلم يكن النبي (ص) يتحرّج من الشعر ويتألم بالقدر الذي يظنه كثير من الناس "ولم يكن بمستطيع أن يفعل ذلك، فالشعر سلاح ماضٍ من الأسلحة العربية لايستغني عنه صاحب دعوة، وهو كتاب الجاهلية وديوان اخبارها. والجاهلية قريبة العهد جداً والجاهلية لاتزال قوية جياشة ولايزال كثير من رجالاتها أحياء. هذا إلى أن النبيّ عربيّ فصيح يتذوق الكلام الجيد... ويؤثر منه ما لاءم دعوته وأرضى مكارم الاخلاق، فليس بدعاً أن يتحدث الناس في الشعر بحضرة الرسول وأن يكثر اجتماع الشعراء بالرسول، وليس بدعاً من الرسول العربي أن يعجب بالشعر العربي كما يعجب به أصحاب الذوق السليم. أعجب بشعر النابغة الجعدي وقال له: لا يفضض اللهُ فاك... واستمع إلى الخنساء واستزادها مما تقول وتأثر تأثراً رقيقاً لشعر قتيلة بنت النضر" (78) وهو الذي طلب من شعراء المسلمين أن يهجوا المشركين وشعراءهم، فهو يتعامل معهم بما يتلاءم مع واقع الحال، "فقد كان للشعر آنذاك أثره الكبير في نفوس الناس من الناحية الاعلامية وقد استغله المشركون أيما استغلال في حروبهم مع الإسلام والمسلمين، فهجوا الرسول (ص) وهجوا أصحابه وتعرضوا لأعراض المسلمين وعقائدهم، لذلك كان لابد من استنفار شعراء المسلمين للذود عن الدين الجديد وعن اتباعه وذلك بالسلاح الناجح الذي يستعمله المشركون وهو الشعر.
ولم يكتفِ الرسول بذلك فقد لجأ إلى رمي الرعب في صفوف شعراء المشركين فقد أهدر دم كل شاعر يتعرض للرسول أو للاسلام أو المسلمين بالهجاء، وقد نفّذ وعيده وأمر بقتل عدد ممن ظفر بهم، وعفا عن آخرين ممن أستأمن ودخل في الإسلام"(79) وذلك يدل على اهتمامه الشديد بالشعر وأثره في النفوس، اذ "التحريض بالشعر اسلوب عدائي عمل المشركون على توظيفه في احباط الدعوة الاسلامية في خطاها الاولية، وكان المسلمون يخشونه آنذاك ولذلك حفز الرسول (ص) الشعراء من أصحابه لدحض افتراءات المشركين وإعابتهم بالهجاء.
وكان شعراء الدعوة قد أخذوا بأسلوب البلاغ والدعوة إلى الدين الجديد من خلال تخصص كل منهم بجانب فيما دار من مناقضات بينهم وبين قريش ومن دار في مدارها "(80) وكان الرسول (ص) يشجعهم على هجاء قريش بقوله: (هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نضح النبل) (81) وكان يحث حسان بن ثابت على هجاء المشركين بقوله: (أهجهم فوالله لهجاؤك عليهم أشدّ من وقع السهام في غلس الظلام، أهجهم ومعك جبريل روح القدس) (82) وبهذا الموقف وغيره"وضع النبي عليه السلام الأصول النظرية العامة لفن الهجاء فبين أنه جائز بل مطلوب هجاء المنكر وأهل الباطل. فإن ذلك يعبر عن موقف فكري لصاحب الكلمة. ولكن لايجوز هجاء الصالحين وأهل الخير والذين لم يقترفوا ما يستوجب الذم. فهذا اعتداء وقذف للأبرياء بغير حق، وإذ يكون الهجاء فينبغي أن يحذر الشاعر التفحّش في القول والاقذاع في الكلام والتعميم في الحكم"(83) وقد "وصلت الينا اكثر من حادثة تبين سنة رسول الله (ص) حين كان يرى خروج الشعراء على القيم والمفاهيم الاسلامية الجديدة أو أيّ عودة منهم إلى ما كانوا عليه من قيم ومفاهيم الجاهلية حيث كان ينكر عليهم ذلك ويوجههم نحو الصحيح من القول والحسن من الكلام بمقياس اسلامي جديد. فعندما يسمع كعب بن مالك يقول:
مُدافعنا عن جِذمنا كل فخمةٍ-----مدربةٍ فيها القوانسُ تلمعُ
ينكر عليه اتجاهه نحو العصبية القبلية التي هي من آثار الجاهلية ويطلب اليه أن يبدل كلمة (جذمنا) بكلمة (ديننا) ويفعل ذلك كعب وينشرح صدره فرحاً بهذه الملاحظة القيمة"(84).
وبهذا "يكون الفخر – بحسب المنظور الإسلامي – بالقيم الخيّرة الفاضلة التي يشرّف الفرد والمجتمع حقاً أن تتجسد فيه. وهو يرفض فخر الاستعلاء الفردي الذي يرمز إلى الكِبر والتنفّج كما يرفض الفخر القبلي الجاهلي متمثلاً في الأحساب والأنساب والآباء والأجداد وغير ذلك من القيم العفنة المرفوضة"(85) وهذه المواقف النبوية جميعاً تدل على احتفاء النبيّ (ص) بالشعر وتكشف عن تأويل أحاديثه المنفرّة من الشعر، وتخصصها بالشعر المخالف لأصول العقيدة ومبادئ الإسلام وأخلاقه، فلايكون الشعر مذموماً على الإطلاق بحسب تلك الاحاديث.
وإن كان بعض الباحثين المحدثين مثل الدكتور داود سلوم قد رأى نوعاً من المنافاة بين تلك الاحاديث والمواقف النبوية حيث قال: "رويت بعض الأحاديث التي ينفّر فيها الرسول من الشعر لكونه أداة من أداة الشرّ واللهو والعبث ولكن مواقف الرسول من الشعر والشعراء هي الحكم الأخير في تقويم موقفه الفعليّ من الفن الشعري. وإن حكمنا يعتمد على المواقف وليس على الأقوال المنسوبة للرسول (ص)" (86). ولقد انتقد الدكتور وليد قصاب هذا الرأي وأوضح أنه ينطوي على مجموعة من المغالطات منها إيحاؤه أن هناك تناقضاً بين أقوال النبي (ص) ومواقفه وهو خلاف الواقع ومنها التعميم غير الصحيح لصفة الشرّ في الشعر، ومنها فقدان الاساس الشرعي لرفض الأحاديث النبوية (87) والواقع أن ليس هناك تعارض بين أقوال النبي (ص) وأفعاله المتعلقة بالشعر، بل إن أفعالــه وأقــوالــه الــمادحــة للشــــعر تقيـّد وتخصـّص أقــوالــه الــذامّــة لــــه وهــذا هــو الموقف المطابق لموقف القرآن والمفصّل لمجمله في هذا الميدان، "فإذا كنا لا نجد في القرآن الكريم تفصيلاً لذكر الشعر والشعراء، واذا كان ذكر الشعر والشعراء جاء في معرض التهوين والذم مستثنياً الصالحين منهم، فإنا نجد في حديث رسول الله تفصيلاً وايضاحاً وتطبيقاً عملياً لما يرضاه الدين أو ينهى عنه.
فالقرآن يغضّ من شأن الشعراء الهائمين في كل وادٍ، وكذلك فعل الرسول فتعهّد شعراء المؤمنين بالرعاية والتشجيع والتوجيه وجند مواهبهم في سبيل خدمة الدعوة ونشرها وتثبيت مفاهيمها وقد وضع الدين معياراً جديداً لجيد الشعر او رديئه ذلك النهج الخلقي الذي دعا إليه الإسلام فما اتفق وخلق الإسلام وواءم روح الدين ولاءمه كان من الشعر في الصدارة وما خالفه وخرج عليه كان شراً مستكرهاً هو كالقيح الذي يفسد القلب"(88).
ولو تقصّينا جميع أحاديث الرسول الصحيحة ومواقفه الأكيدة في موضوع الشعر والشعراء لأمكننا استخلاص مفهوم الشعر كما كان يتصوره النبي (ص) والمقوّمات التي يرتكز عليها هذا المفهوم كما يظهر ذلك من قوله(ص): (إنما الشعر كلام مؤلف فما وافق الحق منه فهو حسن وما لم يوافق الحق فلا خير فيه) (89) فجمال الشعر المقبول أو قبحه المرفوض انما يتوقف على مقدار ما فيه من قيم الحق والفضيلة وما يدعو اليه من الخير.
وهذا معيار واضح المطابقة لمباديء القرآن الكريم وقيم الاسلام الكبرى التي تفرض على الشاعر أن يكون ملتزماً بأصول العقيدة مناصراً لدعوة الاسلام ضد أعدائها من الكفار والمشركين "والمقياس الذي يسند هذا المفهوم وعليه ينهض التصور، أخلاقي وديني وسياسي في آن واحد، لان الدعوة الاسلامية تشمل كل هذه الجوانب وتجمع بين كل هذه الاطراف الخلقية والسياسية والاجتماعية والحضارية العامة، باعتبارها (الدعوة) كلاً واحداً لا يتجزأ.
لذلك كان مفهوم الرسول (ص) للشعر منسجماً مع قواعد الدين متوافقاً مع منطوق ومدلول آيات القرآن، وهو وإن بدا مرناً احياناً عنيفاً تارة وليناً تارة اخرى، فذلك بسبب ظروف المعركة التي فرضتها قريش وطبيعة الصراع الذي خاضه المسلمون ضد المشركين وفي جميع الحالات فهو مفهوم واضح يصدر عن مبادئ ثابتة ويدافع عن غايات سامية"(90). ونخلص من كل ذلك الى ان "الاسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته – كما قد يفهم من ظاهر الالفاظ، انما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن. منهج الاهواء والانفعالات التي لاضابط لها، ومنهج الاحلام المهومة التي تشغل اصحابها عن تحقيقها. فأما حين تستقر الروح على منهج الاسلام وتنضح بتأثراتها الاسلامية شعراً وفناً، وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع، ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها وتدع واقع الحياة كما هو مشوهاً متخلفاً قبيحاً!
واما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف الى غاية اسلامية وحين تنظر الى الدنيا فتراها من زاوية الاسلام، في ضوء الاسلام، ثم تعبر عن هذا كله شعراً وفناً، فأما عند ذلك فالاسلام لا يكره الشعر ولايحارب الفن، كما قد يفهم من ظاهر الالفاظ "(91). وبهذا فقد مثل الموقفُ النبويّ المتوازن من الشعر والشعراء الأساسَ الثاني – بعد القرآن – في المرجعية الاسلامية لمنهج النقد الادبي الإسلامي. اذ يفيد منه الناقد الإسلامي المعاصر في تدعيم شرعية منهجه النقدي وتأصيله وتحديد معالمه الأساسية.
الأصل الفقهي:
"هناك مجال للاستفادة من علم الفقه من جانب أحكامه ومصطلحاته، ولكن بحذر شديد يقوم على وعي عميق بمفهوم الأدب وطبيعته ووظيفته وأدواته حتى لا تكون هذه الاستفادة قيداً يغل حركة الادب ويقصّر به عن أهدافه، كما انها لا بد أن تكون ذات طبيعة أدبية جمالية تفارق بها حقيقتها الفقهية دون ان تنفصل عنها لأن تنزيل المصطلحات والاحكام الفقهية على الادب دون مراعاة لخصوصيته الأدبية والجمالية سيقود من دون شك إلى ردم منابع الحيوية والتدفق والابتكار في عالم الأدب"(92) وبالمقابل فان المبالغة في إضفاء المعاني والغايات الأدبية على الفوائد الفقهية يؤدي الى قطع الصلة بين الحكم الفقهي والحكم النقدي وفي ذلك تجاوز خطير ينحرف بالمنهج الاسلامي عن مبادئه وأهدافه. ورغم الامكانات الكبيرة لإفادة هذا المنهج إلا أننا لا نجد في دائرة الأدب الاسلامي سوى إشارات قليلة للاستفادة من التراث الفقهي.
ومن ذلك ما نجده لدى الدكتور عماد الدين خليل في محاولته إدخال بعض المصطلحات الفقهية إلى مجال النقد وتقييم الظواهر الجمالية والتفريق بين مستوياتها حيث يقول: "ان الحلال والحرام والمباح والمندوب والمكروه.. إلى آخره – في الإسلام – تنسحب على المعطيات الجمالية كما تنسحب على أي شيء أو أية ممارسة في هذه الحياة، فهناك الجمال الذي يدخل دائرة الحِلّ بل يغدو أمراً واجباً. وهناك الجمال الذي يدخل دائرة الحرمة ويغدو أمراً مرذولاً"(93)، ونجد مثل هذه الاستفادة الفقهية لدى الدكتور خليل أيضاً في إشارته إلى مبدأ تكافؤ الأدلة بين القابلين والرافضين لإدراج الادب الصادر عن غير المسلمين ضمن الأدب الإسلامي عند توافقه مع الإسلام حيث يقول: "ان الموضوع لينطبق عليه مبدأ (تكافؤ الأدلة) الذي كان يقول به ابو حيان التوحيدي رحمه الله "(94). ونجد الافادة من التراث الفقهي كذلك لدى الدكتور محمد إقبال عروي في محاولته استخدام قاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وفي انفتاحه على المصطلح الفقهي وتطويعه للتعبير النقدي حيث قال – في معرض ردّه على الأخذ بمبدأ المصلحة والمفسدة في مجال الأدب – بأن" الانفتاح على المصلحة بالمفهوم السالف من شأنه أن يوقع في المحظور الذي سيحتم علينا إبراز قاعدة اخرى ألا وهي: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) خاصة وان اعتناء الشارع بالمنهيات اشد من اعتنائه بالمأمورات"(95) فيلاحظ هنا استخدام الناقد للمصطلحات الفقهية (المحظور، الشارع، المأمورات، المنهيات) وهي خطوة تحسب للناقد المسلم في هذا المجال.
وفي هذا الإطار تأتي استفادة الدكتور عبد الباسط بدر بصدد تأكيده على أهمية الثقافة للأديب المسلم وانها تدخل في باب الفروض وان مادتها ونوعيتها قد" حددها الفقهاء قديماً وحديثاً مما وجدوه في توجيهات القرآن الكريم والسنّة وقرروا أن من الثقافة ما هو فرض عين ومنها ما هو فرض كفاية ومنها ما هو مباح"(96) ومن الواضح ان هذه المصطلحات الفقهية تفيد الناقد الإسلامي في تحديد المستوى الثقافي للأديب المسلم. وأوسع من المحاولات السابقة في الافادة من التراث الفقهي في ميدان النقد، ما قام به الدكتور مصطفى عليان في كتابه (نحو منهج اسلامي في رواية الشعر ونقده) حيث استفاد من آراء ومواقف كثير من الفقهاء أمثال الشافعي والشوكاني وابن حزم والقرطبي وكشف عن أبعاد التوجه الإسلامي في فكرهم النقدي وآرائهم في الشعر من حيث القبول والرفض والاستحسان والاسترذال.
بل عمد إلى الاستفادة من منهجهم في الرواية فعقد فصلاً لمرويات الفقهاء والمحدّثين إضافة إلى استضاءته بأقوال الرسول والصحابة والتابعين والفقهاء حول كثير من المسائل التي تعرض لها ومن امثلة إفادته الفقهية ما طرقه من منهج ابن حزم في نقد الشعر حيث قال: "وتأتي محاولة ابن حزم في هذا المجال منهجية بما علل للمرغوب فيه وبما فسر للمرغوب عنه من الاشعار، واكثر شمولاً ممن سبقه بما ضرب من مثال او حدد من معان وأغراض، فالشعر في رؤية ابن حزم تتوزعه أحكام الفقه الثلاثة: النهي المطلق، والاباحة المطلقة، والاباحة والكراهة بشرط "(97) ثم يأخذ الدكتور عليان بتفصيل هذه الاحكام الفقهية المتعلقة بالشعر ويوضح آراء ابن حزم فيها ويحاول تعليلها، ثم يلقي ضوءاً على منهجه العام بقوله: "ولا مراء في ان ابن حزم ينزع في تقسيمه السابق عن المنهج الإسلامي العام في تأديب الابناء وتربيتهم وغرس مكارم الاخلاق في نفوسهم خاصة في مراحل التكوين وترويض النفس التي هي موقع نظراته ومحطّ عنايته " (98) كما طرق الدكتور عليّان منهج الامام الشافعي في الشعر والامتاع الادبي فقال: "وكان الامام الشافعي من الذين فقهوا موقف الإسلام من الشعر فقهاً مميزاً انعكس على إنشائه الشعر وانشاده... فمعدّل الشاعر المسلم عند الشافعي ان يكون مقبول الشهادة (لم تردّ شهادته) ولذلك متطلبات قضائية في الشرع من البعد من أسباب الفسق وخوارم المروءة، ولوازم اجتماعية في الشعر بألا يعرف بذم المسلمين وايذائهم وألا يشهر بالكذب، فالاكثار من الايذاء والشهرة بين الناس به كذباً حدّان فاصلان بين الشاعر المسلم وغيره من الفسّاق والمجّان "(99) وهكذا يفيد الدكتور عليّان من آراء الفقهاء في الوصول إلى منهج اسلامي في النقد الادبي.
ومن الملاحظ ان جميع محاولات النقاد السابقة في الاستفادة الفقهية، اقتصرت على التراث الفقهي القديم ولم تفد من آراء الفقهاء في العصر الحديث واحكامهم في ميدان الادب والنقد والفن عموماً. فقد تطرق العديد من هؤلاء الفقهاء إلى مسائل الفن والادب وأفتوا فيها وأبدوا آراءهم حولها بما يمكن الاستفادة منه في منهج النقد الادبي الإسلامي وبخاصة شروحات الفقهاء واستدلالهم لما يقدمونه من فتاوى في هذا المجال حيث تتمتع أغلب آرائهم بالدقة والعمق ونقد المصادر والروايات المعتمدة في استنباط الأحكام مما يمكن ان يفيد منه الناقد الإسلامي المعاصر في وضوح رؤيته وارساء قواعد منهجه النقدي، فمسألة الادب الباعث على التشاؤم مثلاً، يعالجها الفقيه المعروف السيد محمد حسين فضل الله بالتفريق بين نوعين من هذا الادب "فهناك الادب التشاؤمي الذي يصور الواقع من خلال المشاكل الصعبة او المعقدة فيه بحيث يوحي بأن العناصر الموجودة فيه لا يمكن ان تخضع لأي حلّ حتى على مستوى التدخل الإلهي في موقع قدرته.
فهذا النوع من الادب يلتقي بالانحراف الفكري الذي يستلزم عدم الايمان بأن الله على كل شيء قدير... وهناك الادب التشاؤمي الذي يعبر عن العقدة المستحيلة والصعبة في نطاق المرحلة او الحالة الخاصة بحسب الظروف الموضوعية المحيطة بها التي هي من سنن الله في الكون والانسان والتاريخ بحيث كانت الحركة الفنية في القصة او القصيدة تنطلق من عقد الواقع الموضوعي في دائرة الاوضاع الخاصة المتعلقة بالموضوع، تماماً كما هو الحديث عن بلاء الله للانسان بالخوف والجوع ونقص من الأموال والانفس والثمرات فلا مانع من ذلك"(100) ولا يكتفي السيد فضل الله ببيان الحكم الشرعي في هذا المجال، بل يضيف إليه توجيهاً يأخذ بيد الأديب المسلم نحو آفاق لتفاؤل والامل بتغيير الواقع من خلال الايمان بالله وقدرته المطلقة ووعده الصادق لعباده المؤمنين بالنصر المؤزر. ومن الواضح ان هذا النوع من التحليل والتوجيه يرسخ وعي الأديب المسلم بأهدافه الرسالية في تطوير الحياة والمجتمع من خلال الدعوة إلى الله في الأدب. كما يرشد الناقد المسلم إلى منهجية واضحة في التركيز على الخط الرسالي في العمل الادبي والنظر إليه باعتباره وسيلة للارتقاء بالواقع الفردي والاجتماعي على حد سواء.
وهناك العديد من أمثال هذه المعالجة الفقهية – الادبية لموضوعات الادب تناولها السيد محمد حسين فضل الله بروح الفقيه الاديب الناقد، كموضوع الانتحار والمشاهد الجنسية في القصص، والزيادة والحذف في القصة الواقعية وحكم القصة الخيالية وقصائد المديح والتعظيم لشخص الحاكم عادلاً او جائراً، وقصائد الذم والهجاء والتعريض وشعر الغزل بالمرأة أو بالرجل، ووصف الخمرة، ومواصفات الأدب الاسلامي شعراً كان أم نثراً (101). وهناك معالجات مشابهة للفقيه الشهيد محمد الصدر تناول فيها موضوعات متعددة في ميدان الشعر والقصة وأبدى آراء فقهية وأدبية عميقة تكشف عن ذوق أدبي رفيع وحسّ نقدي مرهف فضلاً عما تكشفه من أصالة فقهية ووعي عصري، ومن الموضوعات التي طرقها السيد الشهيد تحديده الدقيق لمفهوم الشعر والمعالجة الفقهية لمرجوحية الشعر ورجحانه في القرآن الكريم والسنة المطهرة مع ايراد الأدلة العقلية والنقلية وما يُحتمل من إشكالات العقل وأجوبتها بما يُظهر موقف الاسلام في قضية الشعر والشعراء ويحدد معالم الشعر الاسلامي وخصائصه الرئيسة. كذلك الأمر في ميدان القصة ومفهومها والموازنة بين أدلة رجحانها و مرجوحيتها في القرآن والسنة، والتطرق من خلال ذلك الى موضوع القصة في القرآن الكريم وتحليل طبيعتها وأهدافها واستحالة الكذب والوهم فيها (102).
وجميع هذه الآراء تعدّ ذخيرة للناقد الاسلامي المعاصر اذ تنير له الطريق وترسم له المنهج المطلوب في التعامل مع النصوص الأدبية. وهناك معالجات فقهية – أدبية وآراء نقدية للفقيه المعروف السيد علي الخامنئي قائد الجمهورية الاسلامية في ايران، تناول فيها جوانب متعددة من التصور الاسلامي للأدب والفن بشكل عام. وفيما يخص الميدان الأدبي فقد ركز السيد الخامنئي على ضرورة التزام الأديب بالمبادئ الاسلامية والاهداف الالهية في انتاجه، فهو يقول مثلاً: "إن
الشعر وكذلك سائر الاشكال الفنية هي مواهب الهية فيجب أن تجند لخدمة خلق الله وأن تكون حاملة للأهداف الالهية السامية"(103) ويؤكد الخامنئي على الطابع الثوري للأدب الاسلامي حيث يقول: "إن الثورة الاسلامية باقية لأن دعامتها هو التأييد الالهي والشعبي ويجب أن يكون نتاجكم الفني والأدبي باتجاه تعميق قيمها وعليكم أن تصنعوا من وسائلكم الفنية سيفاً تستأصلون به الخبائث والشوائب لكي تفتحوا وتعبّدوا بذلك سبيل تنامي الطهارة والاخلاص والتقوى في المجتمع"(104) ولاينسى هذا القائد الاسلامي أن يؤكد أهمية الاسلوب الفني في طرح المضامين الاسلامية الثورية فيقول: "لاينتهي أمر العمل الفني بإجادة محتواه فقط، فشكل الأداء الفني مهم أيضاً.
فالوعاء القبيح يصور مافيه قبيحاً وإن كان جميلاً في الواقع"(105). وهكذا يبدي السيد الخامنئي توجيهاته على صعيد المضامين والاشكال الأدبية من شعر وقصة ومسرح وسينما (106) بما يسهم في إضاءة معالم المنهج الاسلامي في النقد الأدبي. ونجد لدى الفقيه المعروف الدكتور يوسف القرضاوي بعض الآراء النقدية في مجال الأدب والفن حيث يقول: " فالشعر – والأدب عامة والفن بوجه أعم – له هدف ووظيفة وليس سائباً، فهو شعر ملتزم وأدب ملتزم وفن ملتزم. أما القوالب التي يظهر فيها الشعر أو الأدب فلا مانع من تغيرها وتطورها واقتباس ما يلائمنا مما عند غيرنا. المهم هو الهدف والمضمون والوظيفة.
اخترع العرب قديماً قوالب في الشعر كالموشحات وغيرها ولهذا لابأس من قبول القوالب الجديدة في الشعر المعاصر، كالشعر الحر"(107) فالدكتور القرضاوي يؤكد مبدأ الالتزام في المضامين الأدبية، أما في القوالب الفنية فلا يمنع من الانفتاح على المذاهب الاخرى والاقتباس منها، وهذا التوجه في الواقع هو ما نجده لدى كثير من النقاد المعاصرين ويؤكد القرضاوي شرعية هذا التوجه من الناحية الفقهية فيقول: "وقد وجّهت اليّ في اكثر من مكان اسئلة حول شرعية بعض القوالب الاسلامية الأدبية كالمسرحية والقصة حيث يخترع القصّاص أو المؤلف المسرحي شخصيات، وينطقها بأقوال وأمور لم تحدث في الواقع، فهل يدخل هذا في دائرة الكذب المحرّم شرعاً؟ وكان جوابي: إن هذا لايدخل في الكذب المحظور لأن السامع يعرف جيداً أن المقصود ليس هو إخبار القارئ بوقائع حدثت بالفعل. إنما هو أشبه بالكلام الذي يُحكى على السنة الطيور والحيوانات فهو من باب التصوير الفني واستنطاق الاشخاص بما يمكن أن ينطقوا به في هذا الموقف"(108) ويضرب امثلة على ذلك بما حكاه القرآن الكريم من كلام النملة والهدهد ليؤكد شرعية هذا النوع من التصوير الفني، ويذكر انه شارك شخصياً في التأليف المسرحي بعملين هما (يوسف الصدّيق) و(عالم وطاغية) وأن المسرحية الثانية مُثلت في اكثر من بلد. وفي هذا تشجيع واضح على انتاج الأدب المسرحي ومواكبة لحركة التطور الدائب في المسرح العالمي، فضلاً عما تقدمه آراؤه الفقهية – الأدبية من دعم لمنهج النقد الأدبي الاسلامي. ولانستطيع – في هذا البحث – أن نأتي على جميع الآراء الفقهية الأدبية والنقدية التي طرحها فقهاؤنا في العصر الحديث، لأن هذا الموضوع يقتضي دراسة مستقلة نأمل أن نتمكن من انجازها في المستقبل.
ولكننا هنا نشير الى أهمية هذا الرافد من روافد النقد الاسلامي المعاصر، ونؤكد ضرورة اطلاع الناقد الاسلامي على آراء الفقهاء في ميدان الأدب وافادته من تلك الآراء في ترسيخ شرعية منهجه النقدي وتدعيم مقوماته الاسلامية وايضاح خصائصه المميزة له عن المناهج النقدية الأخرى. ولكن رغم ضرورة الافادة الفقهية في مجال النقد الاسلامي، فقد نبه بعض النقاد الى أن "مايخشى منه في دائرة الاستفادة بالحكم الفقهي أن تؤول هذه الاستفادة الى إحالة للحكم النقدي لدائرة الحكم الفقهي بسبب اعفاء الناقد لنفسه من استيعاب الأصول والضوابط الشرعية ومشقة تنزيلها على الواقع الأدبي في حدود طبيعة الأدب وأسسه وشروطه وغاياته مع الافادة في الوقت نفسه بالمقولات الفقهية ما أمكن مع ضرورة تنميتها وتطويعها لتصلح للافادة في ميدان الحكم النقدي... وحين تتم الاحالة النقدية لدائرة الفقه، لايبعد أن يجيء هذا الحكم مجافياً لروح الأدب وغير قائم على تقدير طبيعته ومن ثم يتحول الى جدار يقف بمواجهته ويغل حريته ويحرمه التحليق في آفاق التخيل والابتكار ويصيبه بالتحجر والجمود ويمنعه من ارتياد آفاق فكرية وفنية رائعة"(109).
والواقع أن هذا التخوّف ليس قاعدة تعمّ جميع الفقهاء ؛ لأن بعضهم – بل العديد منهم – له اطلاع كافٍ في ميدان الأدب وإن بعضهم يعدّ من الأدباء المبدعين في مجال الشعر والقصة والمسرح، فحين يُحال الحكم النقدي على امثال هؤلاء الفقهاء فلا خوف أن يأتي حكمهم مجافياً لروح الأدب، بل المعقول أن يكون حكمهم متوافقاً مع ما يتمتعون به من ذوق أدبي واحساس فني يقدّر طبيعة الأدب وروح الفن، فلا فرق – حينئذ – أن يتولى الحكم النقدي أديب متفقه أو فقيه أديب فضلاً عن الناقد الأسلامي المتخصص. فجميع هؤلاء تعدّ أحكامهم و آراؤهم ونظراتهم مهمة وضرورية في إنماء وتطوير منهج النقد الادبي الاسلامي ماداموا متمسكين بمرجعية اسلامية واحدة متمثلة بكتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه فقهاء المسلمين قديماً وحديثاً بالاضافة الى مايمليه عقل الناقد الاسلامي المنضبط بتعاليم الدين وحدود الشرع المقدس سواء كان هذا الناقد قديماً أو حديثاً معاصراً.
الأصل النقدي:
من الحق أن نقول بأن نقادنا القدماء لم يكونوا على سمت واحد فيما أبدوه من آرائهم ومواقفهم النقدية ازاء الشعر وعلاقته بالدين، وقد رأى بعض الباحثين أن تلك المواقف تتوزع في ثلاثة انواع: "مواقف ترفض تجاوزات الشعراء وتفحشهم في الغزل وقد تسقط الشاعر وشعره اذا وجدت في شعره شيئاً من ذلك، ومواقف تترخص في مبالغات الشاعر وتجاوزاته وغزله الفاحش وتفصل في تقويم شعره بين معتقده وفنه ولكنها تدين اعتداءه على العقيدة وقيمها، ومواقف تصنف الشعر في باب الشر وترى أنه لايصلح للخير ولا يجود فيه"(110) وقد عمد الدكتور عبدالباسط بدر الى توضيح هذه الموا قف الثلاثة فقال: "فأصحاب الموقف الاول يطبقون مقياساً إسلامياً يجعلهم يرفضون العمل الشعري ويعيبون الشاعر اذا أفحش في الغزل أو بالغ في المديح وتجاوز الاطار الخلقي الاسلامي أو مسّ واحداً من مفهومات الاسلام الرئيسية. وأصحاب الموفق الثاني تسامحوا مع الشعراء في تجاوزاتهم وفصلوا نظرياً بين الشعر والدين دفاعاً عن شاعرٍاتّهم في عقيدته أو ردّ فعل لمبالغة مهاجميه الذين جردوه من شاعريته أو انتقصوها لشائبة تشوب معتقده ولكنهم عندما جاؤوا الى التطبيق تملكتهم المقاييس الاسلامية وعابوا جرأة الشاعر وتجاوزاته.
وأصحاب الموقف الثالث تطرفوا بدافع من حرصهم على سلامة العقيدة وصنفوا الشعر كله أو معظمه في قائمة الاعمال الدنيوية الشريرة"(111). ومما يؤخذ على الباحث هنا سلبيته في معالجة الاخطاء التي وقع فيها اصحاب الموقفين الثاني والثالث. فلم يعلن موقفه من تلك الاخطاء بل حاول تسويغها اسلامياً مما يؤدي الى ضياع معالم المنهج الاسلامي في النقد فضلاً عن افتقاد الروح العلمية والموضوعية في التعامل مع التراث، ومما يدل على الانحياز السلبي لدى الباحث قوله عن الاصمعي مثلاً: " ويبدو أنه وجد نفسه أمام شعر حسان الاسلامي في مأزق وهو صاحب عقيدة دينية تشده الى الشعر الذي يرتبط بالدين، ولكنه ايضاً لغوي وراوية تدرب ذوقه على طابع معين من الشعر فلم يعد يستسيغ غيره، لذلك كان مخرجه الوحيد من مأزقه هو أن يبعد الشعر كله عن طريق الخير"(112). والواقع أن موقف الاصمعي هو من الضعف والركّة العلمية وتجاوز الشرع بحيث لايترك مجالاً للدفاع عنه أو تأويله على وجه مقبول وقد رفض معظم النقاد المحدثين مقولة الاصمعي المشهورة التي مرّت بنا في موضع سابق من هذا المبحث. وأبدى بعض النقاد رداً عنيفاً على تلك المقولة كرّد الدكتور عدنان النحوي حيث قال: "إننا لانختلف مع الاصمعي مجرد اختلاف فحسب في هذا القول ولكننا نرفضه ونبيّن أنه يتناقض كلية مع القواعد التي نصّت عليها أحاديث الرسول (ص) والقواعد التي بيّنها القرآن الكريم. فالذين يسميهم الاصمعي فحول الشعراء في شعرهم الجاهلي هم الذين عنتهم الآية الكريمة في سورة الشعراء ممن يتّبعهم الغاوون وممن هم في كل واد يهيمون. إنه شعر يحمل شيئاً مما حرّمه الله ورسوله. فهو شعر لانقبل الحرام الذي فيه ولانشجعه ولاأبوابه التي تعارض النهج الايماني. وحسن الديباجة وجمال السبك لن نقبله زخرفاً يزيّن الشر ويحبب الفساد.
وأما حسان فمالان شعره وما ضعف ولكنه عزّ واعتدل واستقام وأصبح له منهج مشرق وهدف مشرق. لقد كان شعره في جاهليته قوة للشرّ والفتنة وأصبح في الاسلام سلاح دعوة وقوة خير ومنبر صلاح. إنه شعر مدحه الرسول (ص). ونترك قول الاصمعي وغيره ونأخذ بقول الرسول (ص) ونمسّك به. ومن هذا المثال يبدو لنا أثر النفوس الناقدة واثر استقامة النهج لديها. ويظل النهج المشرق اعلى من رجل واثبت من ناقد، فإليه ترد الامور وعلى اساسه تكون الدراسة، اننا لو عرضنا بيتاً من شعر امريء القيس الفاحش على رسول الله (ص) او على احد من صحابته لردّوه ونبذوه وطرحوه مهما كان فيه من حلاوة جرس وقوة سبك ذلك لان النفس تشمئز من البذاءه وتنفر من الهبوط. انها النفوس التي استقام لديها الميزان. وكذلك الرأي العام لن يرغب في قول بذيء وكلام فاحش سينفر منه ويبتعد عنه او يلقيه ويرميه ما دام النهج لديه واضحاً "(113). ويردّ ناقد اسلامي اخر على رأي الاصمعي بقوله: "مال كثير من الرواة ومنهم الاصمعي إلى القول بان شعر حسان بن ثابت في الجاهلية كان يمتاز بالجزالة والقوة فلما اسلم حسان لان شعره وضعف، واراد ان يتخذ من ذلك قانوناً عاماً مفاده ان (الشعر فن نكد بابه الشر فإذا دخل الخير لان وضعف) ونحن لا ننكر ان الاصمعي من الرواة واصحاب الذوق العالي ولكننا لا نقره على هذه المقولة السطحية لأنه لم يكن من النقاد المتخصصين في تفسير الظواهر الادبية، وان كنت اقره على اكتشافه لظاهرة فشل في تفسيرها وهي ظاهرة الفارق الكبير بين شعر حسان في الجاهلية وشعره الإسلامي، فالاصمعي اكتشف الظاهرة الفنية لشعر حسان الإسلامي ولكنه اخطأ وتعسف في التفسير "(114) وقد مرّ بنا تفسير هذه الظاهرة الجديدة فيما سبق من هذا المبحث فلا نعيد الكلام هنا.
ومن نقاد العرب القدامى الذين مثلوا موقف الفصل بين الدين والشعر، ابو بكر الصولي حيث يقول عن ابي تمام: "وقد ادعى قوم عليه الكفر بل حققوه، وجعلوا ذلك سبباً للطعن على شعره وتقبيح حسَنه، وما ظننت ان كفراً ينقص من شعر ولا ايماناً يزيد فيه"(115). ومن الغريب ان يأتي ناقد اسلامي حديث فيدافع عن رأي الصولي هذا بقوله: ان "الصولي يريد ان يقرر قواعد عادلة في النظر إلى الشعر تنصف الشاعر وان تكن عقيدته غير صحيحة فالذين ذموا ابا تمام من جهة عقيدته جاروا في الحكم عليه فطعنوا في شعره كله وقلبوا ما كان فيه من الحسن، ولو أنصفوا لميزوا بين الشاعر وشعره فما وجدوا فيه حسناً حسّنوه وما وجدوا فيه من سوء بيّنوه"(116) وهذا الكلام فيه مأخذ كبير على هذا الناقد من حيث المنهج، اذ كيف يتحقق لنا منهج اسلامي في النقد اذا فصلنا بين الشاعر وشعره او بين الاديب وأدبه !
فمن المسلم به في المنهج الإسلامي النظر إلى وحدة العمل الادبي في عناصره الشعورية والتعبيرية وتحقق التوازن بين هذه العناصر جميعاً. وان عقيدة الشاعر او الاديب هي الجزء الاهم والاكثر حيوية وتأثيراً في مشاعره لأنها اساس تصوره ورؤيته للكون والانسان والحياة، فكيف يصح لنا ان نفصل هذا الجزء الفعّال ونبعده من تكوين النص الادبي شعراً او نثراً ! وهل نحصل بعد ذلك إلا على الفاظ خاوية او عبارات جوفاء!
ولا نريد بهذا المأخذ ان نتهم ابا تمام في عقيدته كما فعل الآخرون، ولكن قصدنا إلى بيان ان عقيدة الشاعر والاديب – صحت ام لم تصحّ – هي جزء لا يتجزأ من انتاجه فلا يمكن بأي حال من الاحوال دراسة هذا الانتاج بمعزل عن عقيدة صاحبه المؤثرة في تصوره ورؤيته للعالم فليس من العدل في الحكم ان نفرق بين الشاعر وشعره، وليس من العدل كذلك ان ندافع عن خطأ الناقد – الذي يسلك هذا المسلك – فضلاً عن اتخاذه مرجعاً لتأصيل منهج اسلامي في النقد. ان هذا المنهج الإسلامي لا يتفق مع منهج الصولي في دفاعه عن ابي تمام، كما لا يتفق مع منهج القاضي الجرجاني في دفاعه عن المتنبي حيث يقول: " والعجب ممن ينتقص ابا الطيب ويغضّ من شعره لأبيات وجدها تدل على ضعف العقيدة وفساد المذهب في الديانة... فلو كانت الديانة عاراً على الشعر لوجب ان يمحى اسم ابي نؤاس من الدواوين ويُحذف ذكره اذا عدت الطبقات ولكان اولاهم بذلك اهل الجاهلية ومن تشهد الامة عليه بالكفر... ولكن الامرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر"(117). ومن العجب ان يدافع ناقد اسلامي حديث عن موقف الجرجاني هذا ويسعى إلى تأويله بأنه "يفرق بين القدرة على ابداع الشعر بل والتفوق فيه، وعقيدة الشاعر وانه يقصد إلى ان الحكم على براعة الشاعر وموهبته يتجرد عن كل القيم غير الفنية ولا يأخذ في الاعتبار ملته ومذهبه، وهذه حقيقة لا جدال فيها.
فهناك شعراء مبدعون في جميع الديانات والمذاهب وهناك شعراء مقصرّون او مبتدئون ايضاً، وليس ثمة ارتباط بين معتقد الشاعر وموهبته والموهبة ملكة موزعة في ابناء آدم على اختلاف الوانهم وأجناسهم ولغاتهم ومعتقداتهم "(118). ونحن نقول بان دفاع هذا الناقد عن الجرجاني ليس في محله المناسب، لان الجرجاني لم يقصد الى الموهبة والقدرة على قول الشعر، ولو قصد إلى ذلك لصرّح به، ولكنه صرّح بأن الشعر نفسه – أي النصّ الشعري – لا علاقة له بعقيدة صاحبه وينبغي النظر إليه بمعزل عن الدين، وهذا هو عين المذهب الذي ذهب إليه الصولي والذي يدرك الجرجاني – نفسه – خطأه حيث يقول: "ولسنا نذهب فيما نذكره مذهب الاحتجاج والتحسين ولا نقصد به قصد العذر والتسويغ وانما نقول: انه عيب مشترك وذنب مقتسم فان احتمل فللكل وان ردّ فعلى الجميع "(119) وبعد هذا الإقرار – من صاحب الشأن – بأن مذهبه في الفصل بين الشعر والدين لا يحتمل الاحتجاج والتحسين ولا يقبل العذر والتسويغ، وانما هو عيب وذنب!
أقول بعد هذا الاقرار والاعتراف، كيف يأتي باحث فيحتج له ويحسنه ويعتذر عنه ويسوغه بل يبالغ في احتجاجه وتسويغه حتى يصل به إلى مرتبة (الحقيقة التي لا جدال فيها) زاعماً ان "الجرجاني ميّز بين القدرة على قول الشعر و إتقانه والتقدم فيه، وعقيدة الشاعر وانه دافع عن المتنبي ليس غير ولم يقصد تسويغ الانحراف ومصادمة العقيدة ولا قبول الشعر الذي يفعل ذلك"(120) فلو كان الجرجاني لا يقبل الشعر المصادم للعقيدة، فلماذا قرّر بأن الدين بمعزل عن الشعر وان هذا الشعر المنافي للدين عيب وذنب، يجد الجرجاني نفسه مضطراً إلى الاخذ به واحتماله وتقديره بعد ان صار عيباً مشتركاً وذنباً مقتسماً ! ولعلنا نجد التفسير المعقول لموقف الجرجاني هذا فيما رآه الدكتور محمود السمرة حيث قال: "وليس من العسير علينا ان ندرك السبب الذي جعل الجرجاني يجهر بهذا الرأي دون حرج، فالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان الادب مرآة لها في هذا العصر تؤكد ايمان القوم بالفصل بين الادب والدين"(121) وكذلك ما علق به الدكتور احسان عباس بقوله: " وهذا الفصل بين الدين والشعر موجود من عهد بعيد في تاريخ النقد العربي ولكن الجرجاني قد وضعه بشكل واضح لا يحتمل لبساً"(122) وبهذا يكون موقف الجرجاني مبرراً بظروف الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية التي اجبرته على اتخاذ هذا الرأي مسايرة لما ألفه الشعراء والأدباء والنقاد في عصره من عدم الالتزام بحدود الدين في ادبهم ونقدهم، وهذا ما يؤكده الدكتور السمرة بقوله: "ولا يخامرنا شك في ان القوم في هذا العصر لم يدهشوا لهذا الرأي الذي يصدر عن قاضي القضاة لانهم كانوا يمارسونه في حياتهم الأدبية "(123) ويرى الدكتور عمر الساريسي أن القاضي الجرجاني في فصله بين الدين والشعر قد "جعل الفن الأدبي يسبح في حرية تامة بعيداً عن أي اثر لعامل اجتماعي او روحي آخر، وهذا يشكل تسامحاً مفرطاً في مقاييس الأدب واسباب الحكم عليه.
وهذا التسامح لا يرضي من ينادي بضرورة الإلتزام في الادب والنقد، الالتزام بقضايا الامة والمجتمع وهمومه الفكرية والمعاشية والسياسية في وقت لم يعد للابراج العاجية نصيب في المجتمعات الصاخبة بقضايا التحرر ومحاربة الاستبداد الخارجي والغزو الفكري والاستيطاني"(124) اما في مجتمع الجرجاني فليس غريباً ان ينجرف الادباء والنقاد إلى مثل هذه المواقف المناوئة للدين بعد فساد حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مما أضعف منزلة الدين وسلطانه على القلوب والعقول فقد "ظلت الفكرة الدينية في النظرة إلى الأدب سائدة مادامت للدين المنزلة في القلوب وما دام سلطانه قوياً على العقول. فاذا كانت فترات للتحلل من قيود الدين والانحراف عن اهدافه، ضعف هذا المقياس وتلاشى بسبب ضعف الوازع الديني او الوازع الخلقي"(125). ولسنا مجبرين – ونحن نعيش زمن الصحوة الاسلامية – ان نعود القهقرى إلى تلك المواقف ونحاول تسويغها والاحتجاج لها ولا أرى في ذلك ما يخدم تراثنا او يُعلي من مكانته، بل هو ضرب من تشويه الحقائق وحرف الاذهان عن مسارها الصحيح في نقد التراث وتقويمه على أسس علمية وأخلاقية منضبطة بحدود الشرع المقدس وثوابت العقيدة الاسلامية الخالدة على طريق منهج اسلامي متين في النقد الادبي خاصة والنقد العلمي والتاريخي بوجه عام.
ومن توفيق الله سبحانه وتعالى ان منهج النقد الادبي الإسلامي لا يفتقد مرجعية له في النقد العربي القديم – رغم المواقف السلبية التي تطرقنا إلى بعضها – فهناك مواقف ايجابية عديدة هي نقاط مضيئة مشرقة في تراث الامة تدعو إلى ترسيخ العلاقة بين الادب والدين من خلال رفضها لتجاوزات الشعراء في الغزل الفاحش او المديح الكاذب او الهجاء المقذع او الفخر المتكبر او غير ذلك من الاغراض الشريرة والكلام الباطل الذي يتجاوز به الشاعر إطار الاخلاق الاسلامية او احد مفاهيم الإسلام الاساسية. ومن امثلة هذه المواقف المدافعة عن الدين والخلق الرفيع بوجه تجاوزات الشعراء ما نقرؤه لدى ابي بكر الباقلاني وهو يعقّب على ابيات امريء القيس الفاحشة في معلقته والتي اولها: فمثلك حبلى قد طرقت..الخ، حيث قال الباقلاني: "فالبيت الاول غاية في الفحش ونهاية في السخف وأي فائدة لذكره عشيقته وكيف كان يركب هذه القبائح ويذهب هذه المذاهب و يرد هذه الموارد. إن هذا ليبغّضه إلى كل من سمع كلامه ويوجب له المقت وهو لو صدق لكان قبيحاً فكيف ويجوز ان يكون كاذباً... وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب وتطرب عليه النفس وهذا مما تستنكره النفس ويشمئز منه القلب وليس في شيء من الاحسان والحسن"(126). فالناقد هنا ينظر إلى نصّ امريء القيس نظرة توحّد قيمه الشعورية والتعبيرية ولا تفصل بينهما، فما دامت تجربة الشاعر قبيحة فلا يمكن ان يكون التعبير عنها جميلاً مهما أوتي من براعة في التصوير والجرس والايقاع لأن حصيلة كل ذلك هو الفحش والسخف وعدم الإحسان والحسن، وهذه النظرة تنطلق من حسّ اسلامي مرهف بحقيقة الجمال الفني القائمة على ضرورة التوازن في صميم العمل الأدبي الموحّد شكلاً ومضموناً. ولا يتحقق هذا التوازن إلا بالانسجام مع النظام الكوني العام المرتبط بأواصر الحق والخير والهادف إلى تحقيق الكمال في الوجود عامة وفي الوجود الإنساني بوجه خاص، فكل شاعر او اديب يخلّ بهذا التوازن ويعرقل مسيرة الكمال الإنساني فلا يمكن ان يكون انتاجه جميلاً بمنظور الإسلام، ويدخل في هذا الحكم جميع الشعراء والأدباء الداعين إلى الفحش والتعهّر وسوء الخلق ونشر الفساد والتحلل والشر لان كل ذلك يخل بتوازن الحياة ويسبب الاضطراب في نظام الوجود ويعوق الانسان عن الوصول إلى كماله المنشود.
وعلى هذا فإن النص الادبي – في منظور الناقد المسلم – ليس ألفاظاً مختارة على غير هدىً ولا تعابير مرصوفة دون غاية سامية ولا صوراً تزيّن خيال المتلقي وتذهب به في كل وادٍ، وربما لقي مثل هذا النص من يشيد به ويقيم له وزناً ويكبره من عبّاد الهوى وأنصار الشيطان ونقاد الدينار والدرهم، اما الناقد الإسلامي فلا يمرّ هذا النص من مصفاة نظره الثاقب الا مقتولاً مرمياً به في مزابل التاريخ فلا يمكث في هذه الارض إلا ما ينفع الناس واما الزبد فيذهب جفاءً إلى غير رجعة. ونحن حين نتأمل في نقد الباقلاني لأبيات امرئ القيس نجده يسير على هذا المنهج الإسلامي الواضح.
ونجد له مثيلاً في ابن وكيع التنيسي حين علّق على ابيات المتنبي التالية:
أيّ محل أرتقي-----أي عظيم اتقي
وكل ما قد خلــق الله وما لـم يخلـق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي(127)
فقال ابن وكيع: "هذه ابيات فيها قلة ورع، احتقر ما خلق الله عز وجل، وقد خلق الانبياء والملائكة والصالحين وخلق الجن والملوك والجبارين، وهذا يجاوز في العُجب الغاية ويزيد على النهاية وقد تهاون فيما خلق الله عز وجل الذي جميعه عنده كشعرة في مفرقه. وهذا مما لا احب اثباته في ديوانه لخروجه عن وجه الكِبْر إلى حدّ الكفر"(128). ولعل ابن طباطبا العلوي كان من المنظّرين لهذا المنهج في النقد حيث قال في معرض حديثه عن شرف المعنى وعياره: "ان يورد على الفهم الثاقب فما قبله واصطفاه فهو وافٍ، وما مجّه ونفاه فهو ناقص. والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه ونفيه للقبيح منه واهتزازه لما يقبله وتكرهه لما ينفيه، ان كل حاسة من حواس البدن انما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له، اذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً باعتدال لا جور فيه وموافقة لا مضادة معها "(129) وعلى هذا فلا بد ان يؤدّى المعنى الشريف بالشكل الفني الملائم البريء من العيوب لان " الفهم انما يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق والجائز المعروف المألوف، ويتشوف إليه ويتجلى له، ويستوحش من الكلام الجائر والخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر وينفر منه ويصدأ له، فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً مصفى من كدر العي مقوماً من أود الخطأ واللحن سالماً من جورالتأليف موزوناً بميزان الصواب، لفظاً ومعنى وتركيباً، اتسعت طرقه ولطفت موالجه وقبله الفهم وارتاح له وأنس به، واذا ورد عليه على ضدّ هذه الصفة وكان باطلاً محالاً مجهولاً، انسدت طرقه ونفاه واستوحش عند حسّه به وصدي له وتأذى به كتأذي سائر الحواس بما يخالفها "(130)
الأصل الأدبي:
ويستند هذا المنهج إلى مرجعية ادبية متخصصة يتصدرها ادب الصحابة الكرام شعراً ونثراً مما اجازه الذوق النبوي الرفيع ثم ما جرى على نهجه من نتاج في تاريخ الادب ومدارسه الفنية وانتاجه عبر العصور وحتى وقتنا الحالي، وما رافق هذا النتاج من نظرات النقاد وآرائهم في القديم والحديث شرط ان يتميز الناقد منهم بالورع والتقوى أولاً ثم حصافة الرأي وسلامة الذوق ومعرفة دقيقة بطبيعة الادب وتقدير عادل للموهبة الفذة في هذا الميدان، وسبق التأكيد على ضرورة التوافق والانسجام والتوازن بين عناصر العمل الادبي جميعاً شعورية وتعبيرية ولابد ان يكون هذا التوازن المضموني داخل النص امتداداً للتوازن الموضوعي خارجه لكي يجري النص في طريق الفطرة وسياق النظام الوجودي العام فيقبله العقل السليم وتهتز له النفس الزاكية، وربما اشار الجاحظ – في حالة من حالات صفائه – إلى هذا المعنى حيث قال: "فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه ومنزهاً عن الاختلال، مصوناً عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة "(131). اما اولئك الذين يلوّثون فطرة الانسان بنتاجاتهم السخيفة ومآربهم الخبيثة فلا يمكن ان تصغى لهم القلوب الطاهرة والنفوس النقية وان " الناقد الحق لا يضيع وقته مع شاعر (او اديب بشكل عام) يطرح الدين والاخلاق وراء ظهره ويترك لنفسه العنان مرسلاً، يقول ما يشاء دون مراعاة لحرمة من الحرمات، بلى لا يضيع وقته معه إلاّ اذا كان يهدف إلى ان يكشف خطأه وانحرافه لينفر الناس من قراءته او النهج على منهاجه بيد أن اهماله أولى. ولكن الشاعر الحق كذلك، ليس ذاك الذي وهب موهبة خصبة ثم أخذ يوجهها نحو الشر ويستغلها في سبيل الفساد في الارض.
انما الشاعر الحق هو ذاك الذي يستغل موهبته في سبيل الخير ويوجهها نحو خدمة قضايا الأنسان ونحو الاصلاح في الارض وليس سبيل ذلك ان يقف خطيباً او أن يوجه للناس وعظاً، فهذا الرجل قد يكون مصلحاً ولكنه ليس شاعراً او اديباً بشكل عام، انما سبيله ان يتناول موضوعه تناولاً ادبياً عن طريق التفاعل مع جوهر الاشياء وبنائها بناءً جديداً تنبثق صورته عن شعور صادق واحساس أصيل على ان يكون الدافع البعيد الذي يحركه والهدف الأصيل الذي يرمي إليه هو خدمة قضايا الأنسان، أي هو الاصلاح في الارض "(132) والى هذا النتاج الكريم يتوجه الناقد الإسلامي ليستخرج مقاييسه النقدية ويصوغ نظريته عن الادب الإسلامي الرفيع وفق منهج يستند إلى مرجعية شرعية اسلامية يكون القرآن الكريم اول مصادرها ثم السنة المطهّرة وما اجمع عليه فقهاء المسلمين وعلماؤهم الافذاذ.
ومن كل هذه المصادر في تآلفها وانسجامها تتكون مرجعية اسلامية لمنهج النقد الادبي الإسلامي.
اضف تعليق