تتناول هذه الدراسة الأداء الرمزي الأيديولوجي للمدرسة في منظور بيير بورديو، وتلقي الضوء على منظومته الفكرية المتعلقة بالعنف الرمزي ودوره في انتاج وإعادة انتاج الهيمنة الطبقية في المؤسسة المدرسية. فالمدرسة تمارس وظيفة طبقية أيديولوجية، إذ تنتج وتعيد انتاج المجتمع على صورته البرجوازية. وهذه الوظيفة الطبقية...
"إن المسافة كبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ اليه وما تستره، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة الى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" ميشال فوكو (المعرفة والسلطة)[1]
ملخص الدراسة:
يعرف بورديو العنف الرمزي في كتابه (الحس العملي) بأنه: "عنف ناعم خفي غير مرئي، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية، ويوظف أدواته الرمزية، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، وكثيرا ما يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد ضحاياه"
تتناول هذه الدراسة الأداء الرمزي الأيديولوجي للمدرسة في منظور بيير بورديو، وتلقي الضوء على منظومته الفكرية المتعلقة بالعنف الرمزي ودوره في انتاج وإعادة انتاج الهيمنة الطبقية في المؤسسة المدرسية. فالمدرسة كما يراها بيير بورديو تمارس وظيفة طبقية أيديولوجية، إذ تنتج وتعيد انتاج المجتمع على صورته البرجوازية. وهذه الوظيفة الطبقية تتم في فضاء للصراع الأيديولوجي للمدرسة حيث تشكل المدرسة ساحة للصراع الطبقي في صورته الرمزية بين مختلف المكونات الطبقية للمجتمع.
فبيير بورديو يتناول الفعالية الرمزية في المدرسة بوصفها ممارسة ايديولوجية طبقية، وضمن هذه الرؤية تحاول الدراسة استكشاف مختلف المفاهيم والتصورات العبقرية التي يوظفها بيير بورديو للكشف عن أكثر الممارسات التربوية الرمزية الطبقية تخفيا ودهاء وتدليسا في داخل المؤسسة التربوية. والدراسة في صورتها العامة تقدم تحليلا سوسيولوجيا لمختلف ممارسات العنف الرمزي الأيديولوجي في المدرسة في مجال الحياة المدرسة: في المناهج والمضامين واللغة والمعلم والأهداف والعلاقات التربوية الكامنة في مختلف جوانب الحياة المدرسية. وباختصار، تستكشف الدراسة أبعاد العلاقة المعقدة بين العنف والرمز والأيديولوجيا في الفضاء المدرسي بوصفه فضاءً للصراع الأيديولوجي في عالم التربية والحياة والمدرسة.
مقدمة:
يعد المفكر الفرنسي بيير بورديو (Pierre Bourdieu 1930- 2002) من أكثر المفكرين حضورا وتأثيرا في عالم الإبداع الفكري والفلسفي وأكثرهم إثارة للجدل في القرن العشرين. وقد قدّر لبيير بورديو بعبقريته الفكرية الفذة أن يضاهي كبار المفكرين الذين سبقوه مثل ماركس وأنجلز ودوركهايم وفيبر، وأن يتجاوزهم تجديدا في مختلف الطروحات الفكرية التي قدموها في ميدان الفكر السياسي والاجتماعي. واستطاع بورديو في نهاية الأمر أن يبلور أكثر النظريات الفكرية والفلسفية تألقا وشمولا وموسوعية في القرن العشرين.
ومن يتأمل في فكر بورديو وأعماله سيجد أنه كان من أكثر المفكرين في عصره إنتاجا وإبداعا وموسوعية، إذ لم تستطع أي قضية فكرية أو اجتماعية أن تفلت من قبضته النقدية أو من إضاءاته الإبداعية التي أنارت دروب المفكرين والباحثين في النصف الثاني من القرن العشرين، واستطاع خلال مسيرة حياته المديدة أن يبدع أكثر من ثلاثين كتابا، إلى جانب مئات المقالات في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والسياسة والفن والأدب. وقد عرف إنتاج بورديو الفكري الهائل بطابعه العبقري، فأوهج العصر بإبداعاته الفكرية الأكثر تألقا في مجال علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية والسياسية على حدّ سواء.
في الستينات من القرن الماضي انطلق بورديو في مسيرة الكتابة والتنظير في قضايا النظام المدرسي ووظائفه الطبقية. وفي تلك الفترة اتجه - كما كانت الحال عند كل من هيغل ودوركهايم وبارسونز- لدراسة الحقيقة الاجتماعية في كليتها وشموليتها وتناسقها وتكاملها. وقد ركز اهتماماته في دراساته المتنوعة على تناول مختلف المؤسسات والظواهر الاجتماعية وتحليلها سوسيولوجيا بأكثر مناهج البحث قدرة على النقد والتحليل والخوض في الأعماق. وإن نظرة خاطفة على مجمل أعماله تبرهن على تنوع كبير في القضايا والظواهر التي تناولها بالبحث والدراسة والتمحيص، مثل: العمال في الجزائر، الفن، الهيمنة الذكورية، نبل الدولة، معاودة الإنتاج، الورثة، وغير ذلك من القضايا والموضوعات التي شملتها أبحاثه ودراساته.
ومما لا شك فيه أن بورديو تأثر بعدد من المفكرين الكبار أمثال: ماكس فيبر ودوركهايم وماركس وأنجلز، وأنه استطاع - انطلاقاً من نظرياتهم - أن يتشكل نقدياً ويعيد صياغة الفكر الفلسفي والاجتماعي على نحو إبداعي، وأن يعمل في الوقت ذاته على تفكيك الظواهر الاجتماعية القائمة وتحليل بنية العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الإنسانية المعاصرة بطريقة أخّاذة ساحرة.
وقد اجتمعت هذه المؤثرات الفكرية معاً لتؤثر في مشروعه العلمي، وفي رؤيته لتحليل مسألة الحراك الاجتماعي والطبقي في المجتمع، ودور المدرسة في تحديد معالم واتجاهات هذا الحراك الطبقي. كما استطاع بمنظوره النقدي الفردي أن يكشف نسقا من الأوهام الأيديولوجية السائدة في المؤسسة المدرسية، وأن يسقط أكثرها خداعا ومواربة، ولاسيما الاعتقاد السائد أن المدرسة تحقق تكافؤ الفرص التعليمية وتقدم معرفة متجانسة واحدة لجميع الأطفال من مختلف الفئات الاجتماعية، وأن هذه المعرفة (الرأسمال الثقافي المدرسي) تُمكن كل فرد من اتخاذ المكان الذي يناسبه والموقع الذي يناسب إمكاناته المعرفية في المجتمع. وتأسيسا على هذه الرؤية المخادعة فإن الموقع الذي يحتله الفرد في المجتمع يتحدد أيضاً بدرجة كبيرة بمواهب الفرد وقدراته العقلية وخصائصه السيكولوجية.
وعلى خلاف هذا التصور القائم على الأوهام الأيديولوجية، يؤكد بورديو على أهمية العوامل الاجتماعية لا الفطرية في تحديد موقع الفرد ومكانه في المدرسة وفي الحياة الاجتماعية على حدّ سواء.
وبناءً على هذه الرؤية، يعلن بورديو أن الغايات الحقيقية للمدرسة تتحدد بطريقة خفية وخارج دائرة ما يعتمل في داخلها. فالأصل الاجتماعي للأطفال - كما يرى - يحدد قدرة الأطفال على متابعة تحصيلهم المدرسي بدرجة كبيرة، وبناء على هذا التصور فإن المدرسة تقوم بإعداد الأطفال على منوال الفوارق الاجتماعية القائمة بينهم؛ فالأيديولوجيا الزائفة التي تهيمن في النظام المدرسي، تؤكد على السمات والخصائص الفردية للأفراد الذين ينتسبون إلى المدرسة، وتعلن أن المكتسبات الفردية مؤسسة على مبدأ القدرات الفطرية وعلى التوجيه المدرسي لهذه القدرات. وقد عملت هذه الأيديولوجيا بصورة واضحة على تبرير اللامساواة الاجتماعية تربوياً، وهذا التبرير يعطي أصحاب الهيمنة من أبناء الطبقات العليا شرعية وجودهم في مواقعهم الاجتماعية العليا ويضمن لهم مشروعية دورهم في الهيمنة والسيطرة.
ومن أجل فضح هذه الأيديولوجيا الطبقية، انطلق بورديو في بناء نظريته السوسيولوجية لنقد الدور الطبقي للمدرسة ووظائفها الإيديولوجية المحايثة للطبقات المهيمنة في المجتمع، فالمدرسة – كما يراها- تبني مجدها على علاقات الهيمنة والسيطرة الواضحة بين الطبقات الاجتماعية التي تتباين بدرجات كبيرة في مستوياتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. ويتضح في نسق هذه الرؤية وجود تكامل بصيغة التآمر بين النظام التربوي والنظام الاجتماعي في توليد أيديولوجيا الهيمنة؛ حيث تقوم الأسرة والمدرسة معا في عملية إنتاج البنى الاجتماعية المتفاوتة طبقيا.
وعلى هذا الأساس تتبنى المدرسة هذه الممارسة الأيديولوجية الطبقية، وتمارس نسقا من الفعاليات التربوية المتنوعة التي ترسخ قيم ومعاني وهيمنة الطبقة البرجوازية في المجتمع والمدرسة. وهذه الفعاليات والممارسات والديناميات الهائلة تشكل في جوهرها نظاما خفيا رمزيا يقوم بتدمير المرجعيات الحيوية للطبقات الدنيا في المجتمع، ويهدف في جوهره إلى تأصيل المرجعيات الطبقية البرجوازية في المجتمع، ويعيد إنتاج قوتها بكل الصيغ والفعاليات التربوية الممكنة. والمهم في هذه العملية أن هذه الفعاليات والممارسات التربوية الطبقية الخفية تأخذ طابعا رمزيا يتمثل في توظيفات رمزية خفية لرأس المال الرمزي والسلطة الرمزية، والأهم في ذلك أن العنف الرمزي يشكل الطاقة الحيوية في بلورة الدور الأيديولوجي الطبقي للمدرسة المعاصرة.
أولا - الوظيفة الطبقية للمدرسة:
يشكل مفهوم إعادة الإنتاج La reproduction عنوانا فكريا ومنهجيا لنظرية بورديو وباسرون في مجال الفكر الاجتماعي، ووفقا لهذا التصور تعمل المدرسة والمؤسسات التربوية على إنتاج وإعادة إنتاج المجتمع وفق صورة التباين الطبقي الكامنة فيه، وهي تؤدي وظيفتها الطبقية هذه بديناميات ذكية خفية رمزية هدفها توليد التقسيم الطبقي وبناء التفاوت الاجتماعي وإكسابهما طابع المشروعية في الحياة الاجتماعية.
ففي محاولته الكشف عن ملابسات الدور المدرسي في عملية إعادة إنتاج المجتمع، كرس بورديو جزءا كبيرا من نشاطه الفكري لفضح الممارسات التربوية الطبقية في المدرسة، والكشف عن آلياتها ورمزياتها وإسقاطاتها وخفاياها. وربما لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن جانبا من عبقرية الرجل قد تجلت في هذا المفهوم الذي يشكل البوتقة الفكرية لمختلف أعماله الإبداعية. فمفهوم "إعادة الإنتاج" يأخذ مكانا مركزيا ويشكل نقطة تقاطع المفاهيم الأخرى في نظريته السوسيولوجية، وهذا يعني أن مفاهيم "الهابيتوس" ورأس المال الثقافي، والعنف الرمزي، والإقصاء الاجتماعي، وسلطة اللغة، والاصطفاء، ورأس المال الرمزي، هي مفاهيم تتمحور حول مسألة إعادة الإنتاج الاجتماعي تربويا، وهي تشكل جوهر نظرية بورديو التي تؤكد على أن المدرسة بكل تعيناتها نتاج للتقسيم الطبقي في المجتمع ذاته، وهي في الوقت نفسه أداة المجتمع نفسه في إعادة إنتاجه لنفسه على نحو طبقي. فالمدرسة -بوظائفها وفعالياتها وفقا لنظرية بورديو- تأخذ مكانها في دائرة الرهان الطبقي في الحياة الاجتماعية، وهي تفعل فعلها في إنتاج التفاوت والتباين الاجتماعي والثقافي. وعلى هذا النحو يحدد النظام الرأسمالي ثلاث مراحل أساسية لتحقيق ثلاثة أهداف رأسمالية:
1 -إنتاج أناس لأداء أدوار رأسمالية تسويقية في خدمة النظام الرأسمالي.
2 - إنتاج طبقة عمالية بروليتارية قادرة على الوفاء بمتطلبات النظام الرأسمالي.
3– دمج المدرسة في العملية الإنتاجية وتحويلها إلى مؤسسة رأسمالية ترتبط جوهريا بعجلة الإنتاج الرأسمالي والصناعي.
في المرحلة الأولى، تم تأسيس المدرسة من قبل البرجوازية كمؤسسة تربوية منفصلة عن وظيفة الإنتاج الرأسمالي، لأداء أدوار أيديولوجية ضد الإقطاع والبروليتاريا في آن واحد، حيث قامت بتحويل المدرسة إلى أداة أيديولوجية من أجل فرض هيمنة الثقافة البرجوازية في مجال العمل والحياة والإنتاج. والمدرسة في هذه المرحلة مطالبة - إضافة إلى بث المعرفة العلمية- بالعمل على بناء " مواطنين صالحين " يتمثلون الأخلاق البرجوازية، ويقاومون احتمال وجود ثقافة عمالية مستقلة.
وفي المرحلة الثانية، عهد إلى المدرسة عملية تزويد النظام الرأسمالي باليد العاملة المؤهلة والكفاءات والخبرات العلمية الضرورية من أجل الصناعة ونمو المؤسسات الرأسمالية. وفي هذه المرحلة لم تعد وظيفة المدرسة قاصرة على بث القيم البرجوازية، فأصبحت معنية - إضافة إلى الوظيفة القيمية- بتحويل معارف علمية ضرورية من أجل الإنتاج والعملية الإنتاجية.
وفي المرحلة الثالثة، بدأت عملية دمج المدرسة في العملية الإنتاجية، وتحويلها إلى مؤسسة رأسمالية ترتبط جوهريا بعجلة الإنتاج الرأسمالي والصناعي، حيث بدأت المؤسسات الرأسمالية نشاطا واسعا لدمج المدرسة كليا في نسق الحياة الوظيفية للمجتمع الرأسمالي الصناعي، وتلبية احتياجاته التربوية والاستهلاكية.
1/1- المجتمع فضاء للصراع المدرسي:
يعتقد بورديو أن فهم التباين الاجتماعي المتمثل في الفروق القائمة بين الناس والطبقات في المجتمع، يشكل شرطا أساسا لفهم اللامساواة القائمة في النظام المدرسي؛ فالتفاوت في المستويات الاجتماعية والاقتصادية ينتج تفاوتاً مجانساً في مستويات التحصيل المدرسي والتربوي. والمجتمع -كما يراه بورديو- يمثل فضاءً اجتماعياً فسيحاً مبنياً على أساس العلاقات القائمة بين مكونات المجتمع، والمتجسدة في العلاقة بين أفراد المجتمع ومؤسساته. والأفراد في المجتمع يمتثلون للتوجهات الأساسية التي رسختها تنشئتهم الاجتماعية، فالأوضاع الاجتماعية للأفراد ومواقعهم في السلم الاجتماعي- سواء كانوا في مركز السيطرة أو الخضوع- تتحدد على تقاطيع الرأسمال الثقافي الاقتصادي والاجتماعي الذي يمتلكونه؛ ويمكن القول بعبارة أخرى: يرتهن وضعهم الاجتماعي برأسمالهم الاقتصادي من جهة، وبرأسمالهم التربوي الثقافي من جهة أخرى، أي بمستويات تحصيلهم المدرسي وتأهيلهم الثقافي.
وفي هذا السياق يميز بورديو بين ثلاث طبقات في المجتمع:الأولى، الطبقة التي تهيمن وتسود (الطبقة البرجوازية) ورأسمالها الثقافي والاقتصادي هو الأكبر والأكثر أهمية بين الطبقات الاجتماعية، والثانية، الطبقة الوسطى (كوادر عليا وموظفون مثقفون) ورأسمالها الكلي أدنى من الطبقة العليا، لكن هذه الطبقة تتميز بنزوع كبير إلى الصعود الاجتماعي، والثالثة، الطبقة الشعبية(العمال والفلاحون) التي تفتقر إلى رأسمال حقيقي في المستويين الاقتصادي والثقافي.
وهكذا فإن المجتمع يتكوّن من قطاعات اجتماعية تختلف في مستويات استقلالها بدرجات كبيرة أو صغيرة، وكل وسط اجتماعي يمتلك منطقه الخاص في عملية الإنتاج، مثل: القطاع الاقتصادي، والقطاع السياسي، والقطاع الفني، والقطاع التربوي. حيث تتكامل هذه القطاعات لتشكل الفضاء الاجتماعي الأشمل، بعد أن يتم توزيع وإعادة توزيع رأس المال بين الطبقات السائدة والطبقات المسودة. ومن الطبيعي أن يعمل الأفراد في هذا الفضاء من أجل المحافظة على رأسمالهم وزيادته عبر نسق من القوانين الخاصة والعلاقات الطبقية القائمة في الحقل الاجتماعي.
فالمجتمع - كما يراه بورديو - يشكل وحدة اجتماعية وظيفية، ومن ثم فإن نمط التضامن الذي يحافظ على وحدة المجتمع يخفي نسقاً من علاقات القوة والهيمنة التي توضع في خدمة الطبقة السائدة. وفي هذا المستوى من التضامن الاجتماعي يعمل أصحاب الامتياز على فرض هيمنتهم لكونهم يمتلكون الوسائل التي تمكنهم من الاحتفاظ بالمناطق العليا من الفضاء الاجتماعي في المجتمع. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الغاية الأساسية للمدرسة- في فضاء هذا التفاعل والصراع- لا تكمن في تحضير الأفراد وإعدادهم لأداء أدوار اجتماعية محددة فحسب، كما يرى كوندورسيه وهيغل ودوركهايم وبارسونز، بل تعمل على تحضير الأفراد لقبول اللامساواة الاقتصادية الاجتماعية بوصفها ناجمة عن تباين الأفراد في مستوى كفاءاتهم وقدراتهم الذاتية والمدرسية.
وفي دائرة هذا الفضاء المفعم بالصراع الاجتماعي، يمتلك النظام المدرسي منطقه الخاص في عملية إنتاج وإعادة إنتاج الأوضاع الاجتماعية القائمة، حيث يعمل على توزيع الأفراد وتصنيفهم وفقاً لرأسمالهم الثقافي. فكل نظام تعليمي مؤسساتي يمتلك سمات خاصة تتعلق ببنيته ووظيفته، بحيث يكون قادراً - بما يمتلكه من وسائل وأدوات- على إنتاج وإعادة إنتاج الشروط الأساسية لوجوده، وهذه العملية تمكنه من تحقيق مبدأ الاستمرارية الذاتية في عملية إنتاج نفسه كمؤسسة قادرة على أداء وظيفة التطبيع الثقافي والتربوي في المجتمع. وتأسيساً على هذه الصورة فإن عملية إعادة الإنتاج هذه تسهم في تشكيل وتوليد العلاقات الاجتماعية القائمة بين الطبقات والفئات الاجتماعية (إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية).
والنظام الاجتماعي-كما يراه بورديو- يستند في جوهره إلى معطيات النظام المدرسي، وهذا يعني أن النظام المدرسي يسهم بصورة مباشرة في عملية إنتاج وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي على نحو كلي، ويحافظ على استمرارية الوضعية الطبقية الأصلية في المجتمع. ويبين بورديو في هذا السياق أن مؤسسات التعليم والتنشئة في المجتمعات المعاصرة تهيمن على المجال التربوي برمته،وهذا يذكرنا بتأثير الكنيسة وهيمنتها على المجال التربوي الديني في أوروبا في العصور الوسطى المسيحية.
فالسلطة الرمزية القائمة في الحقل التربوي، تعدّ سلطة شرعية، وتأخذ طابعاً شفافاً في مجال العلاقات القائمة بين الأفراد. فعلى سبيل المثال: يمكن لشخص أن يقدم تفسيرا مناقضا في جوهره للنصوص المقدسة استناداً إلى ما يمتلكه من رأسمال ثقافي ديني، وذلك عبر علاقة احترام للأنماط المشروعة للتعبير، من أجل تقديم التفسير على أنه تفسير ديني وليس تفسيراً سياسيا. مع التأكيد أن كل مؤسسة تربوية تجيد استخدام اللغة الرمزية في حقلها الخاص، وأن الاختلاف بين المؤسسة الدينية والمؤسسة التربوية يكمن في أن الطبقة السائدة المهيمنة هي التي تمنح المدرسة سلطتها الرمزية وهيمنتها الثقافية، وعلى خلاف ذلك فإن الكنيسة تستمد سلطتها من وظيفتها الروحية المستمدة من السماء. وبالمقارنة بين السلطتين نجد أن مصدر السلطة المدرسية يأخذ طابعاً رمزيا خفياً، في حين يتجلى هذا الطابع علنياً فيما يتعلق بسلطة الكنيسة.
عندما يجري الحديث عن الحقل التربوي، فإن ذلك لا يشمل مختلف العلاقات والجوانب التربوية، مثل: تأثير العائلة التي لا يبدو من حيث المظهر أنها ذات علاقة واضحة بالطبقات الاجتماعية. فالمدرسة هي التي تحدد في نهاية الأمر -عبر عمليات الإقصاء والاصطفاء- الموقع الاجتماعي للفرد في المجتمع وليس العائلة التي ينتسب إليها؛ وكذلك هي الحال بالنسبة للكنيسة التي تسود في عملية بثها للرسالة الدينية. فالمدرسة هي التي تحدد معايير النجاح في المجتمع بوصفها المؤسسة الأكثر مشروعيةً وموضوعيةً. وفي هذا المستوى تتجاهل المدرسة حقيقة الدور الذي تمارسه الأسرة في عملية بناء الفرد وتشكيله. فالمجتمع الطبقي سيعمل بالضرورة على تصنيف العائلات والأسر في طبقات اجتماعية وفقاً لمعيار الرأسمال الكلي الذي لا يمكنه أن ينفصل عن المؤسسة المدرسية التي تُمارس دوراً حيوياً في تحديد هذا الرأسمال ولاسيما الثقافي والمعرفي.
من جهة أخرى، يأخذ الفعل التربوي للعائلة تأثيره الكبير في تحديد المصير المدرسي المستقبلي للطفل، لأن مثل هذا التأثير يستمر على مدى حياة الطفل. وهذا التأثير هو الذي يحدد علاقة الطفل بـ"الهابيتوس" اللاحق، كما يحدد المسافات التي يجب على الطفل تجاوزها والمضامين الثقافية التي يجب عليه تشربها.
فالعائلة هي التي تقوم بتطبيع الطفل وفقاً "للهابيتوس" الخاص بها، ولكن هذا "الهابيتوس" قد يكون مميزاً أو ضعيفا في المستوى المدرسي، وذلك بغض النظر عن مستوى الاستعدادات العقلية عند الطفل، ودون دراية من المعلمين أو القائمين على عملية التربية بالأصول الاجتماعية للطفل، ففي المدرسة، على سبيل المثال، يعزى الإخفاق المدرسي إلى فكرة الكفاءة العقلية والمواهب الفردية الفطرية دون أن يؤخذ بعين الاعتبار ظروف الطفل الاجتماعية الأسرية واللغوية والمادية والاقتصادية.
1/2- المدرسة وإنتاج اللامساواة:
يهدف النظام التربوي - كما يرى بورديو- إلى إعادة إنتاج المجتمع بطريقة يعتقد فيها كل فرد أنه يحقق مصالحه، وهذا بدوره يؤدي إلى إنتاج وإعادة إنتاج أوضاع الهيمنة الطبقية. وهنا تكمن أهمية المنهاج الخفي للمدرسة أو للنظام التعليمي؛ إذ يأخذ الفعل التربوي صورة عنف رمزي، وهو نوع من العنف الذي يسمح للطبقة المهيمنة بأن تفرض على الطبقات الأخرى هيمنتها الثقافية بوصفها النموذج المثالي الوحيد الذي يكتسب مشروعيته التربوية. ويطلق بورديو على هذه العملية الرمزية للعنف مفهوم (الاعتباط الثقافي أو التعسف الثقافي«arbitraire culturel») لأنه لا يمتلك أساس موضوعياً مشروعا لوجوده، ومن ثمّ لا يوجد هناك ما يبرر هذه الفوقية الثقافية لثقافة الطبقة السائدة في المجتمع.
والفعل التربوي في هذا السياق يعزز الهيمنة الطبقية ويضفي عليها طابع المشروعية. والسؤال الذي يطرح هنا: كيف يتم فرض هذا الاعتباط الثقافي؟ للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول: إن المشروعية التي تتميز بها السلطة التربوية تؤسس للتعسف الثقافي وتسهم في إعطاء العنف الرمزي طابعه المشروع مع المحافظة على الطابع الخفي لهذا العنف ودوره الطبقي، وبتعبير أبسط يمكن القول: إن السلطة التي تتميز بتفوقها تأخذ طابعاً شرعياً.
وفي دوامة هذا الحضور التعسفي للثقافة الطبقية فإن نوعية الثقافة المحوّلة تبقى غير محددة، فالتربية بأهدافها ووسائلها تبدو ضرورية للخاضعين لها، ولهؤلاء الذين يرسمون استراتيجياتها في الآن الواحد، أي إنها ضرورية لمنتجيها وضحاياها على حدّ سواء. وبعبارة أخرى تتحول التربية إلى فعالية ضرورية مشروعة ومطلوبة للقاهرين والمقهورين بالمعنى الطبقي والاجتماعي للكلمة، حيث تأخذ المدرسة مكانها في عمق هذه الدائرة، من حيث هيمنة مصالح المسيطرين، وهي في هذا السياق تمارس قهراً إضافياً يتعلق بمسألة الحراك والتغير الاجتماعي. وهذا يعني أيضاً وجود هيمنة ثقافية للطبقات العليا في المدرسة. وضمن هذا التوجه نجد أن المدرسة تتبنى السلطة التي تحددها الطبقة المهيمنة حيث تأخذ السلطة البرجوازية صورة النموذج التربوي الذي يعتمد في المدارس والمؤسسات التربوية.
فالممارسات الداخلية للمؤسسة المدرسية تتم بالتوافق الضمني مع الشروط الخارجية الضرورية للطبقات التي تهيمن وتسود، ومن ثم فإن كل ما يجري في المدرسة يعزز وينتج ويعيد إنتاج علاقات القوة الاجتماعية الطبقية القائمة في المجتمع، ومن ثمّ يضفي المشروعية على هذه العلاقات. وفي هذه الدائرة تتم ممارسة السلطة الرمزية التي تأخذ طابعاً خفياً مستتراً في داخل الممارسة البيداغوجية للتربية.
وتأسيسا على ما تقدم، يرى بورديو أن المدرسة تؤدي وظيفة المحافظة التربوية على الأوضاع الراهنة، حيث تبقي وظيفتها هذه في دائرة التخفّي البيداغوجي. فالشروط التربوية السائدة في المدرسة غالباً ما توظف توظيفاً طبقياً يصب في خدمة الطبقات المهيمنة اجتماعياً واقتصاديا. وهذا يعني أن ديناميات النجاح والترقي المدرسية، كما هي الحال بالنسبة لمختلف أوجه التفاعل والنشاطات التربوية، تعمل بصورة خفيّة ذكيّة على إنتاج وإعادة إنتاج شروط التفوق والنجاح لأبناء الطبقات المهيمنة في المجتمع على حساب أبناء الطبقات الكادحة والشعبية.
فالمدرسة تؤدي وظيفة التطبيع الثقافي، وهي في هذا السياق، تعلي من شأن ثقافة الطبقة البرجوازية وتعمل على تعزيزها وترسيخها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن ثقافة الطبقة المهيمنة ليست سوى واحد من عدة خيارات ثقافية طبقية ممكنة في المجتمع. ومن هنا فإن الوظيفة الداخلية للمدرسة، بوصفها تطبيعاً برجوازياً، تتكامل مع وظيفتها الخارجية التي تتمثل في تأكيد هيمنة الطبقة البرجوازية في المجتمع، وإنتاج علاقات القوة التي تربط هذه الطبقة بالطبقات الاجتماعية الأقل حضوراً ونفوذاً فيه. وبعبارة أخرى تنتج المدرسة وتعيد إنتاج علاقات القوة والنفوذ الطبقي في المجتمع عبر فعالياتها التربوية الاصطفائية. ووفقاً لهذه الفعالية فإنها تعيد إنتاج التقسيم الطبقي في المجتمع، فالمدرسة وفقا لهذه الفعالية تصنف الأطفال تصنيفات طبقية، وتمارس عليهم نفوذاً طبقياً يؤكد في كل مرة نفوذ وهيمنة أبناء الطبقات العليا والوسطى في المجتمع.
1/3-اصطفاء الورثة:
تتمثل عملية إنتاج علاقات القوة بوصفها فعالية اصطفائية؛ حيث يكون الاصطفاء المدرسي قائماً على انتخاب الأطفال من ذوي الثقافة التي تتجانس مع ثقافة المدرسة، وبكل بساطة فإن المدرسة تترجم هذا الأمر من خلال الرأسمال الثقافي الطبقي المكتسب والمتمثل في طرق التعبير عند الأطفال، وأسلوب الكتابة، وحركة الجسد والرصيد الرمزي الذي يمتلكونه. فأطفال الطبقات العليا يمتلكون روحاً ثقافية مختلفة عن غيرهم، وهم أكثر تجانساً مع الطابع الثقافي للمدرسة، وهذا يتحدد بتأثير رأس المال الثقافي لطبقتهم التي تسود في المجتمع وتهيمن عليه.
في هذا السياق، فإن المستويات اللغوية تختلف باختلاف الطبقات الاجتماعية. فلغة الطبقات الشعبية الهامشية مختلفة عن لغة المدرسة وبعيدة عنها نسبياً، وهذا يعني أن أبناء هذه الطبقة سيواجهون صعوبات أكبر من أطفال البرجوازية الذين يشعرون بأن لغة المدرسة امتداد طبيعي للغتهم في الوسط الطبقي والاجتماعي الذي يعيشون فيه.
وفي هذا المقام، فإن "الهابيتوس" الطبقي يكون على درجات من التجانس والاختلاف مع "الهابيتوس" المدرسي، وهذا يعني أن المدرسة تبارك هؤلاء الذين يمتلكون رأسمالا ثقافيا مجانسا للثقافة المهيمنة، وتأخذ من النموذج الطبقي البرجوازي نموذجاً ثقافياً للمدرسة. وعليه فإن من يمتلكون شروط النجاح المدرسي يكونون غالباً هؤلاء الذين يغتذون بثقافتها في وسطهم الأسري، في حين يكون الأمر أكثر صعوبة وتحدياً بالنسبة لهؤلاء الذين لا يجدون ثقافة المدرسة في وسطهم الاجتماعي. فبالنسبة للمجموعة الأولى يكون العمل المدرسي فعالية ممتعة وشائقة، في حين يكون هذا الأمر شاقاً ومتعباً وبارداً بالنسبة للمجموعة الثانية المتمثلة في أبناء الطبقات الشعبية.
ومن ثم فإن الذين يعانون كثيراً في اختبارات الاصطفاء، غالباً ما ينتسبون إلى أوساط طبقية وعائلية ثقافتها متباعدة عن ثقافة المدرسة، ونعني بهم أبناء الطبقات المتواضعة الذين يمتلكون رأسمال ثقافيا ولغويا أقل توافقاً مع بنية الثقافة المدرسية ومتطلباتها، فأبناء هذه الطبقات لم يتعلموا كيفية التعبير بطريقة مدرسية أو بأسلوب نموذجي تقتضيه الثقافة المدرسية، وذلك ناجم عن تدني رأس المال الثقافي لأسرهم وعائلاتهم، وهذا الأمر ينسحب على مختلف فعاليات ونشاطات الحياة البيداغوجية في المدرسة التي تستوحي النموذج البرجوازي وترسخه وتعتمده في مختلف الفعاليات التربوية للمدرسة.
وتأسيساً على هذا التصور، فإن المدرسة تعمل بصورة عفوية على تقليص الطموحات التربوية لأبناء الطبقات الدنيا، في حين تعزز من جهة أخرى هذه الطموحات لدى أبناء الطبقات النموذجية العليا في المجتمع. ومهما تكون فرص أبناء الطبقات الدنيا في متابعة تحصيلهم العالي، فإن هذه الفرص تبقى متواضعة مقارنة بهذه التي نشاهدها لدى أبناء الطبقات العليا في المجتمع، وهذا يعود في نهاية الأمر إلى شروط كثيرة أهمها الأوضاع الاقتصادية للطبقات العليا الميسورة في المجتمع.
ومما لا شك فيه أن الوسط الاجتماعي يشكل قوة ضاغطة في تأثيره على مستوى الطموح الدراسي ومتابعة التحصيل الدراسي. ومن هذا المنطلق يحدث التباين الكبير بين فرص أبناء الفئات الاجتماعية المتواضعة وأبناء الفئات الاجتماعية الميسورة في المجتمع، ونجد أن الاصطفاء المدرسي الذي يركن إلى الاختبارات والدرجات يؤثر كثيراً في تحديد مستوى الطموحات الفعلية للأفراد وفقاً لأوضاعهم الاجتماعية والطبقية.
وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار أن اكتساب رأس المال الثقافي اللغوي في المدرسة قد تحرر من تأثير الأصل الاجتماعي الطبقي، وحقق تحسناً كبيراً، فإن تأثير هذا العامل يبقى قائماً بتأثير التوجيهات المدرسية الأولى (الانطباعات الأولى) للعلاقة بين الأصل الاجتماعي والثقافة المدرسية.
ومن الملاحظ أيضا أن بعض أبناء الطبقات الاجتماعية الدنيا الذي يصلون إلى الحلقات العليا من التعليم (التعليم الجامعي)، غالباً ما يكونون قد تعرضوا لدرجة كبيرة جداً من الاصطفاء المكثف التي تمّت ممارستها على أبناء طبقتهم الأصلية، والتي أدت إلى إقصاء معظم أبناء طبقتهم.
ويمكن القول في هذا السياق: إن الطالب الذي يتحدّر من طبقة شعبية دنيا، والذي استطاع أن يصل إلى متابعة دراسته في المستويات العليا -التي غالباً ما تكون حكراً على أبناء الطبقات العليا- يكون غالباً أفضل وأكثر كفاءة من أبناء الطبقات المتوسطة، وهذا ناجم عن الاصطفاء المدرسي العنيف الذي تعرض له أثناء متابعة دراسته، وهو الأمر الذي منحه منعة وقوة أكبر لمتابعة تحصيله. وهذا يعني أن الاصطفاء يكون أقل حدة وعنفاً بالنسبة لأبناء الطبقات المتوسطة، لأن ثقافتهم غالباً ما تكون أكثر تجانساً مع ثقافة المدرسة مقارنةً بأبناء الطبقات الدنيا. وهذا يعني أن الأطفال من أبناء الطبقات الشعبية يترقون في سلم التعليم تحت تأثير حالة من التطبيع المدرسي الذي ينأى بهم عن ثقافتهم العائلية الأصلية.
ومما لا يحتاج إلى تأكيد هو أن المدرسة لا تقصي هؤلاء الأطفال عن ثقافتهم العائلية فحسب، بل تجعلهم يعانون في مسار الوصول إلى الثقافة المدرسية المطلوبة، لأنهم ببساطة يفقدون القدرة على التعايش مع هذه الثقافة الجديدة التي هي ثقافة المدرسة، وهي الثقافة الأقرب إلى ثقافة الطبقة السائدة في المجتمع. وهذا يعني أن الأطفال أبناء هذه الطبقات مطالبون بالنظر إلى الأشياء وفهمها والتصرف حيالها بطريقة مختلفة جداً عن آبائهم وما ألفوه في أوساطهم الأسرية والطبقية. وهذه العملية تكون تحت تأثير عملية تطبيع ثقافي اغترابي في المدرسة تفقد أبناء الطبقات الدنيا حسهم الحقيقي بالانتماء إلى عالمهم وبيئتهم الأصلية. وتلك هي صورة التطبيع اللامتكافئ الذي يخضع له التلاميذ من أجل تمثل النموذج التربوي المطلوب في المؤسسة المدرسية.
ثانيا - في مفهوم العنف الرمزي
يشكل مفهوم العنف الرمزي واحدا من أكثر اكتشافات بورديو الفكرية تألقا وأهمية، ويمثل حجر الزاوية في مملكته الفكرية، وقد عرف بورديو بهذا المفهوم كما عرف هذا المفهوم به وبأعماله المتواترة[2].
يعلن بورديو في كثير من محطاته الفكرية أن هذا المفهوم يشكل منطلقا منهجيا للكشف عن الفعاليات الذهنية التي يمارسها المجتمع في تشكيل عقول الأفراد عبر سلطة معنوية كلية القدرة، فالعنف الرمزي يرتدي حلة سلطة معنوية خفية تفرض نظاما من الأفكار والدلالات والمعاني والعلامات بوصفها مشروعة، وفي كل الأحوال فإن هذه السلطة تعمل على إخفاء علاقات القوة الكامنة في أصل هذه السلطة أو في تكوينات العنف الرمزي عينه. وهذا يعني أن العنف الرمزي يأخذ عند بورديو صورة سلطة قادرة على فرض نظام من الدلالات والمعاني بوصفها مشروعة، وذلك عبر عملية إخفاء علاقات النفوذ والقوة التي توجد في أصل هذه القوة ذاته.
لقد أسس بورديو لمفهوم العنف الرمزي ومنحه المشروعية الفلسفية، وكان عليه من أجل ذلك أن يبذل جهودا مضنية من أجل التعريف بأبعاده وحدوده، وأن يعمل بالضرورة على استكشاف دينامياته السوسيولوجية وملابساته الفكرية، وأن يحدد الآثار والوظائف الأيديولوجية التي يؤديها هذا النوع من العنف الذي يتصف بذكائه ودهائه وقدرته على التخفي ونصب الكمائن لضحاياه في مختلف المستويات الأيديولوجية. لقد بيّن بورديو قدرة هذا العنف على المراوغة إلى درجة يستطيع فيها أن يتخفى على ممارسيه وضحاياه في آن واحد، واستطاع في نهاية الأمر أن يخوض في أعماق هذا العنف ليستجلي آثاره ويحدد مساراته ويفضح ملابساته الأيديولوجية.
وقد تناول العلاقة الملتبسة بين العنف الرمزي والتربية، ودرس أبعاد وحدود هذه العلاقة بمختلف تجلياتها، مستكشفا مختلف الآثار التي يتركها هذا العنف في التكوينات الإنسانية للهويات الفردية والاجتماعية. وعمل في سياق ذلك على تقصي الآلام النفسية التي يولدها هذا العنف عند الجماعات التي تنتسب إلى هويات ثقافية هامشية، مثل: الجروح النرجسية للهوية، وتبخيس الذات، والنكوص الثقافي، وغير ذلك من الأعراض السيكولوجية الثقافية.
وجرى بورديو على استخدام وتوظيف مفهوم العنف الرمزي، في أغلب كتاباته السوسيولوجية والتربوية، كما في أعماله الأدبية، وقد وظفه في استكشافه لأبعاد الهيمنة الذكورية، والسيطرة الأيديولوجية، وإعادة الإنتاج، وفي دراسته " للهابيتوس" الطبقي والعائلي، وغير ذلك من القضايا الفكرية والاجتماعية التي تناولها في مجمل نظرياته وأعماله العلمية (3).
يعرف بورديو العنف الرمزي في كتابه (الحس العملي) بأنه: " عنف ناعم خفي غير مرئي، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد، ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية، ويوظف أدواته الرمزية، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، وكثيرا ما يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد ضحاياه" (4).
ويعرفه مرة أخرى في كتابه مع جان كلود باسرون (إعادة الإنتاج): " بأن كل سلطة عنف رمزي، أي كل سلطة تطال فرض دلالات، وتطال فرضها على أنها شرعية وقادرة على أن تواري علاقات القوة التي هي منها بمقام الأس لقوتها"[5]. وفي مقام آخر يعرفه بورديو بأنه " أي نفوذ يفلح في فرض دلالات معينة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعية، حاجبا علاقات القوة التي تؤصل قوته"(6).
ويشكل هذا المفهوم منطلقا ذهنيا للكشف عن الفعاليات الذهنية الأيديولوجية التي يمارسها المجتمع طبقيا لتشكيل عقول الأفراد، عبر سلطة معنوية كلية القدرة، وهذا يعني أن العنف الرمزي يرتدي حلة سلطة معنوية خفية تفرض نظاما من الأفكار والدلالات والمعاني والعلامات بوصفها مشروعة؛ وفي كل الأحوال فإن هذه السلطة تعمل على إخفاء علاقات القوة الكامنة في أصل هذه السلطة أو في تكوينات العنف الرمزي عينه.
ووفقا لهذا التصور فإن العنف الرمزي شكل من أشكال العنف الذكي، وصيغة سوسيولوجية متقدمة من تجلياته العلمية؛ حيث يمارس هذا العنف دوره وفاعليته الثقافية في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، ويتميز هذا العنف بخاصة الذكاء والقدرة على التواري، إنه نوع من العنف الذي يعيش في خفايا الحياة ويتخفى في ثناياها، وشكل من أشكال العنف المتخفي والملتبس والمتواري عن الأنظار.
ويراد بالعنف الرمزي عند بورديو استخدام الرموز والدلالات والمعاني للسيطرة على الآخر وفرض الهيمنة عليه. ويأخذ هذا النوع من العنف صورة رمزية خفية ملتبسة تمكِّن مُمارِسَها من الوصول إلى غايته، وتحقيق ما يصبو إليه من سيطرة وهيمنة دون اللجوء إلى القوة الواضحة والمعلنة. وهذا يعني أن العنف الرمزي هو القدرة على توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بالاستناد إلى عملية فرض نظام من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية، ويعتمد هذا العنف على توليد المعتقدات وترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون له، فالعنف الرمزي ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة ثقافيا وأيديولوجيا على الآخر وتطبيعه.
ويأخذ العنف الرمزي صورة عنف ثقافي ليؤدي وظائف اجتماعية كبرى، ويمكن تلمسه في وضعية الهيمنة التي يمارسها أصحاب النفوذ على أتباعهم بصورة مقنّعة وخادعة، إذ يقومون بفرض مرجعياتهم الأخلاقية والفكرية على الآخرين من أتباعهم، ويولدون لديهم إحساسا عميقا بالدونية والعطالة والشعور بالنقص، ولاسيما إزاء سادتهم من أصحاب الهيمنة والنفوذ؛ حيث يأخذ الخاضعون مكانهم تحت مظلة المعايير والرموز التي تؤكد دونيتهم ووضعياتهم الثانوية، عبر عمليات ومشاعر النقص والضعف والافتقار إلى الجدارة والموهبة والشرف والكرامة وضعف تقدير الذات.
وينزع العنف الرمزي إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية التي غالبا ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف.
فالعنف الرمزي تعبير عن حضور رأس مال رمزي يتجلى في صورة عناصر ثقافية (قيم، تصورات، أفكار، معتقدات، مقولات، إشارات، ورموز...الخ)، وبالتالي، فإن رأس المال الثقافي ينزع إلى امتلاك السلطة الثقافية –أي المشروعية في الحضور والممارسة- وهذا يعني أن ممارسة العنف الرمزي مرهونة بوجود رأسمال رمزي، ومن ثمّ، فإن هذا الرأسمال يُتوّج بسلطة رمزية تعبر عن مشروعيته، والمشروعية تعني هنا قبول هذه السلطة على أنها مشروعة وحقيقيّة من قبل هؤلاء الذين تمارس عليهم [7].
ومن أجل تقديم تصور بسيط للعنف الرمزي، وتحديد سماته ودلالاته وخصائصه، يمكن مقارنته بالعنف الفيزيائي أو المادي من حيث الآثار التي يتركها كل منهما: "فالعنف المادي يلحق الضرر بالموضوع (الذي يمارس عليه العنف) فيزيائيا في البدن، أو في الحقوق، أو في المصالح أو في الأمن...إلخ. أما العنف الرمزي، فيلحق ذلك الضرر بالموضوع سيكولوجيا: في الشعور الذاتي بالأمن والطمأنينة، والكرامة والاعتبار، والتوازن "(8). ولا يقل العنف الرمزي عن العنف المادي في فداحة العواقب، وهو وإن لم يكن يمس حق الحياة لدى الفرد والجماعة –كما هو شأن العنف المادي أحيانا- فإنه قد يصيب المتعرض له في ما قد يكون مقدسا لديه، بل قد يكون هذا الضرب من العنف مرحلة نحو ممارسة العنف المادي، وعلى العموم، لا يختلف معنى العنف في هذا النوع عن معناه في الثاني وهو: انتزاع المطالب بالقوة، وإكراه الآخر على التنازل عنها أو الاعتراف بها (9).
وفي هذه الممايزة بين العنـفين يتبين أن العنف الرمزي قد يكون أكثر فاعلية وقوة في تحقيق الغايات التي يسعى إليها من العنف الكلاسيكي الأمني والفيزيائي في حال تحقيق النجاح. وهنا يجب أن نركز على أن مشروعية هذا العنف قد تكون هي العامل الأهم في تحقيق ما يمكن أن يحققه من هيمنة وخضوع.
وبعبارة أخرى، يمكن القول، إن العنف الرمزي أكثر قدرة وفاعلية من العنف الفيزيائي الذي تمارسه الدولة عبر رجال الأمن والشرطة في ظروف محددة، وإنه من أكبر أخطاء الكلاسيكيات الماركسية - كما يرى بورديو - "أنها لم تُعِرٍِ هذه القوة الرمزية الخفية اهتمامها ولاسيما تلك التي تمارس فعلها في المجال الاقتصادي"(10).
وتأسيسا على هذه المقارنة بين العنف الرمزي والعنف المادي يمكننا من حيث المبدأ أن نعرف العنف الرمزي وفقا لبيير بورديو بأنه " كل سلطة قادرة على فرض نظام من الدلالات والمعاني بوصفها مشروعة، وذلك عبر عملية إخفاء علاقات النفوذ والقوة التي توجد في أصل هذه القوة ذاتها"(11)، وهذا يعني:
- أن العنف الرمزي يأخذ صورة سلطة تفرض نفسها على نسق من الأفراد.
- أن هذه السلطة تفرض نظاما من الدلالات والقيم والمعاني الرمزية.
- يأخذ العنف الرمزي صورته المشروعة بقدرته على إخفاء مقاصده وعلاقات القوة.
- يأخذ العنف الرمزي صورة خفية حيث يتغلغل تأثيره في وعي ضحاياه بصورة عفوية دون إحساس منهم بإكراهات العنف التقليدية.
وفي مقام آخر، يعلن بورديو في كتابه "الهيمنة الذكورية" أن العنف الرمزي: " عنف شفاف هادئ يخترق عتبة البصر فلا تقع عليه العين ولا يرى حتى من قبل ضحاياه" "[12]، ويقوم هذا العنف على تأصيل المشاركة بين الضحية والجلاد في نسق من التصورات والرؤى والمقولات والمعاني والمفاهيم والأفكار. إن العنف الرمزي هو الذي يفرض المسلمات التي إذا انتبهنا إليها وفكرنا فيها بدت لنا غير ما هي عليه من مصداقية، وأن التسليم بها كان خطأ فادحا. وهي مسلمات تجعلنا نعتبر الظواهر التاريخية الثقافية طبيعة سرمدية أو نظاما إلهيا عابرا للأزمنة. ويعد العنف الموجه ضد المرأة من أكثر مشاهد العنف الرمزي المقنّن عبر التاريخ الذي تعود ممارساته إلى أعمق أبعاد التاريخ الإنساني. وأشد أنواع العنف الثقافي هو ذلك العنف الرمزي الذي يبدو بديهيا، ويفرض نفسه على الضحية والجلاد والقاضي، ويقول عن نفسه إنه ليس عنفا(13).
من جهة أخرى يمتلك الرمز في ذاته عنفه الخاص الذي يمتلك القدرة على التأثير، إذ يمتلك سحر الكلمة وجمال الصورة وروعة الدلالة ورشاقة الكلمة، إنه شفاف ساحر غامض يمتلك سلطة جمالية. ووفقا لهذه الصورة يأخذ العنف الثقافي والعقائدي والأيديولوجي -كما يرى بورديو- صورة عنف رمزي يفرض نفسه في مجال القيم وحقل الرموز والدلالات والمعاني. فمنذ بداية التاريخ استخدمت الرموز في السيطرة على الكون الأعلى وضبط القوى الكونية (العالم الميتافيزيائي) التي تمتلكها، كما وظف في السيطرة على أقدار البشر وتحديد مصيرهم الاجتماعي
وإذا كان الإنسان القديم قد آمن، في حقيقة الأمر، بقدرة رموزه على تغيير المصير في عالم الآلهة والقوى الطبيعية غير المرئية، فإنه حري به أن يؤمن بقدرة الرمز نفسه وفاعليته في التأثير على الإنسان نفسه، وهنا بدأت دورة إيمانه الاجتماعي بقوة الرموز وخطورتها في عالمه الإنساني ذاته. ووفقا لهذا التصور تطور الرمز الإنساني ليتحول إلى قوة ثقافية هائلة تمارس ضغطها وهيمنتها على فئات اجتماعية بعينها؛ لقد وجد منتجو الرموز -من كهنة وسحرة وعرافين- أنهم يستطيعون توظيف رموزهم هذه في السيطرة على وسطهم الاجتماعي، فشحنوها بالطابع المقدس، ووظفوها في تحقيق هيمنة طبقية واسعة وشاملة في مختلف العصور. وما زال الرمز يأخذ دوره الكبير كسلاح طبقي توظفه الطبقات الدينية والدنيوية في تكثيف السلطة والهيمنة والتمايز في المجتمعات الإنسانية.
ويمكن القول تأسيسا على ما تقدم: إن الرمز يفيض بقوته الذاتية، إذ يفرض نفسه قوة هائلة في المخيال الإنساني، فيعمل على بناء المعاني وتوليدها، ويمتلك لاحقا القوة الهائلة ليجعل المعرفة الإنسانية ممكنة والعلم متاحا والحضارة كينونة قائمة. وتأسيسا على هذه الرؤية يمكن القول إن الرمز يجسد صورة رأسمال رمزي، ويمكنه أن يتجلى في صورة سلطة رمزية قادرة على الفعل والتأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية والروحية.
عندما نتحدث عن السلطة فهذا يعني أنها القوة المشروعة التي يمتلكها مجتمع أو مؤسسة أو فرد اجتماعي ليمارسها من أجل عملية الضبط الذاتي في المجتمع. وهذا يعني أن الأمن والشرطة وأدوات الضبط الاجتماعي في الدولة تمثل أدوات مشروعة تستخدمها الدولة في فرض سلطتها ونظامها. ومن هنا فإن أي ممارسة للعنف تبدو مشروعة إذا كان هدفها المحافظة على سلامة المجتمع وأمنه، ووفقا لهذا التصور فإن الرمز يمثل سلطة مشروعة وعنفا مشروعا؛ لأنه يعبر عن تصور اجتماعي عام، أي يحظى بإجماع أفراد المجتمع أو أكثرهم. ومع ذلك فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على الشعور بالدونية وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية وازدراء الأنا، وهي تمثل في جوهرها عملية تمويه تعتمد الفعاليات الرمزية في تحقيق أهدافها وغاياتها السلطوية.
ثالثا - الإرهاصات التربوية الأولى للعنف الرمزي:
شكل القطاع التربوي بآلياته ودينامياته المنجم الحقيقي لولادة مفهوم العنف الرمزي عند بورديو، وشكلت المؤسسات التربوية بدورها الحقل العلمي الطبيعي للدراسات التربوية والاجتماعية في مجال العنف والعنف الرمزي.
وشهد العنف الرمزي تطوره السوسيولوجي والسيكولوجي في داخل المؤسسات المدرسية والتربوية، ففي البداية كان العنف الفيزيائي والبدني هو أكثر أشكال العنف إثارة للاهتمام في المؤسسات المدرسية، ومن ثم، وعلى إثر تراجع هذا العنف الفيزيائي وانحساره بشكل كبير، تحت تأثير عوامل ثقافية وحقوقية متعددة، بدأ الاهتمام يتمحور حول العنف اللفظي والسيكولوجي، وهو واحد من أكثر الأشكال الخبيثة المدمرة للعنف في المؤسسة المدرسية. ومهما تنوعت صيغ العنف المدرسي والتربوي فالصيغ الكلاسيكية (العنف الفيزيائي واللفظي والسيكولوجي) تمثل صورة العنف المعلن والظاهر والخاضع للملاحظة بأدواته وتأثيره أيضا في مختلف الممارسات التسلطية في المؤسسات المدرسية والتربوية.
ومع أهمية الصيغ الكلاسيكية للعنف في المؤسسات المدرسية، فإن هذه المؤسسات كانت وما زالت تنطوي على صيغ وأشكال من العنف الخفي الذكي غير المعلن وغير الكلاسيكي. ويأخذ هذا العنف صورا وتمثلات متعددة مثل: العنف الثقافي، والعنف الأخلاقي، والعنف القيمي، والعنف اللغوي، وأخيرا العنف الرمزي. ويمكن إطلاق مفهوم العنف الذكي على هذه الأشكال الجديدة من العنف؛ لأن هذا العنف يتميز بالقدرة الهائلة على التخفي والتأثير وتحقيق غايته بسهولة ويسر. وهذه الصيغ المتعددة للعنف الذكي، نجدها في كثير من الدارسات والأبحاث السوسيولوجية، التي أجريت في الحقل التربوي تحديدا، على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، في مجال علم الاجتماع التربوي وذلك في أعمال مهِمّةٍ فارقة لمفكرين عُرِف عصرهم بهم أمثال بودون وباسرون وبورديو وسنيدر وكليرك وإيليتش.
وكثيرا ما يجري الحديث اليوم عن العنف الرمزي بوصفه توليدا سحريا لبورديو، لكن ذلك لا يعني أن هذا العنف لم يكن موجودا في الأصل، فالعنف الرمزي موجود منذ العصور القديمة، لكن اكتشافه وتحديد أبعاده تمّ في أتون المغامرات الفكرية الإبداعية للسوسيولوجيا الفرنسية اليسارية في مجال علم الاجتماع التربوي. وجاء الكشف عن هذا العنف في الحمولات الفكرية لسوسيولوجيا بورديو وباسرون. وإذا كان بورديو أول من قام بدراسة واضحة لهذا العنف الذكي، فإن ملامح هذا العنف أعلنت على مدى النصف الأول من القرن العشرين تحت مسميات سوسيولوجية عديدة، مثل العنف الأيديولوجي والعنف الثقافي، والمنهج الخفي، والصراع الثقافي؛ حيث تشكل هذه المقولات وغيرها المسارات الأساسية لما يمكن أن يطلق عليه علم اجتماع التربية، ولاسيما الدراسات التي تكاثفت لهتك الحجب الأيديولوجية للرأسمالية الغربية في مجال التربية والحياة التربوية.
لقد شكلت دراسات عديدة وأعمال جليلة المقدمات الموضوعية لمفهوم العنف الرمزي، ويمكن أن نورد في هذا السياق مجموعة من الأعمال مثل أعمال بودلو واستابليه Baudelot – Establet في كتابهما "المدرسة الرأسمالية في فرنسا" L’école capitaliste en France (14)، وطروحات إيفان إليتش Illitch Ivan في كتابه المشهور "مجتمع بلا مدرسة " (15) Une société sans école، وأعمال جورج سنيدير Snyders Georges في كتابه المعروف « المدرسة والطبقة وصراع الطبقات" Ecole Classes et Lutte des classes (16), و كتاب رايموند بودون Boudon R بعنوان «تفاوت الحظوظ" L’inégalité des chances، و كتاب باسيل برنشتاين Basil Brenstein المعروف «اللغة والطبقات الاجتماعية" Langage et classes socials (17).
وكثيرا ما تناولت هذه الأعمال وغيرها مفهوم الصراع الثقافي -الرمزي للطبقات الاجتماعية في المدرسة، وتضمنت إشارات صريحة إلى العمليات الثقافية الجارية في المدرسة تحت صيغ العنف الثقافي والصراع الثقافي وعنف اللغة والعنف الرمزي.
3/1- العنف الرمزي في التربية عند بورديو:
يطابق بورديو بين مفهومي الفعل البيداغوجي والعنف الرمزي، حيث يعلن، في أعماله المختلفة حول السلطة الرمزية والعنف الرمزي، أن الفعل التربوي فعل رمزي في جوهره، وبالتالي فإن أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي بوصفه قوة تفرض من قبل جهة اجتماعية معينة (18). ويقول بورديو في مكان آخر "إن كل فعل بيداغوجي إنما هو موضوعيا، عنف رمزي، على اعتبار أنه فُرِضَ، بواسطة سلطة اعتباطية، لاعتباط ثقافي" (19). ويتمثل الاعتباط الثقافي وتعسفه عند بورديو في اختيار الدلالات الثقافية للطبقة الاجتماعية السائدة، حيث يقول: "إن اختيار الدلالات -التي تعبّر موضوعيا عن ثقافة طبقية رمزية- هو تعسف، لأن هذه الدلالات لا تستند إلى أي مبادئ منطقية أو موضوعية" (20). ويخضع اختيار هذه الدلالات الثقافية - التي تحدد موضوعياً ثقافة جماعة أو طبقة اجتماعية كنظام رمزي – إلى منظومة من الشروط الفاعلة في حقل الحياة الاجتماعية(21). وهذا يعني أن ثقافة المؤسسات التربوية ترمز إلى ثقافة الطبقة التي تهيمن، وهي ثقافة غير مبررة منطقيا عندما يتم اختيارها وفرضها بصورة اعتباطية وتعسفية.
ويبين بورديو في هذا السياق أن العنف الرمزي يتجلى بصورة عفوية في نسق الفعل التربوي، ويمارس وظيفته في مختلف المؤسسات الاجتماعية التربوية المشروعة، مثل التلفزيون والصحف والسينما ودور العبادة. فالتلفزيون يفرض نظاما من التصورات بوصفها مشروعة ومتفقا عليها، وهذا يعني أن الخطر الأكبر لأي مؤسسة يكمن في فقدان مشروعيتها ومصداقيتها بالنسبة لهؤلاء الذين يخضعون لتصوراتها.
فالطبقات الاجتماعية، وفقا لعرف بورديو وباسرون، تدخل في صراع تربوي رمزي من أجل فرض التصورات الأيديولوجية التي تناسبها، ويتم هذا الصراع عن طريق الإنتاج الرمزي الذي يشكل بدوره مجالا مصغرا للصراع بين الطبقات الاجتماعية. ومن هذا المنطلق فإن الطبقة الاجتماعية التي تسود اقتصاديا وتمتلك السلطة الاقتصادية، ترمي إلى فرض مشروعية سيادتها رمزيا عن طريق إنتاجها الرمزي، أو عن طريق أولئك الذين يدافعون عن أيديولوجيا هذه الطبقة[22].
وغني عن البيان أن السلطة الرمزية تأخذ مجالها الحيوي في مجال المؤسسات التربوية، ولاسيما في مجال المدرسة التي تتحول إلى ساحة للصراع الرمزي بين مختلف القوى الاجتماعية الفاعلة داخل المجتمع. فالرمزية السائدة في المدرسة تشكل نوعا من السلطة الاجتماعية التي تحاول أن تشكل الأطفال على ديدن الأيديولوجيا الاجتماعية السائدة.
3/2- الأرومة الطبقية للصراع الرمزي في المدرسة:
يتميز العنف الرمزي في المدرسة بقدرته الكبيرة على المخادعة الأيديولوجية وبناء الأوهام التربوية على نحو طبقي، وضمن هذه الممارسة الرمزية تبدو المدرسة على أنها مؤسسة محايدة طبقيا. ولكن المدرسة في جوهرها ليست محايدة أبدا وهي تمارس التطبيع الفكري والأيديولوجي للطلاب، وتقوم في الوقت نفسه بإضفاء الشرعية على الأوضاع الاجتماعية السائدة في المجتمع في اتجاه المحافظة على النظام السياسي الاجتماعي القائم. وهي بفعالياتها الرمزية تقوم بتمتين وترسيخ العلاقات الطبقية القائمة في المجتمع تحت ستار استقلال نظام التعليم وحياديته الظاهرة. ومن الطبيعي أن يعزز المجتمع هذه الاستقلالية النسبية للمدرسة حيث يتم إنشاء هيئة من المتخصصين والمهنيين في مجال العمل التربوي والمدرسي لتقوم بتسيير النظام المدرسي وفقا للاعتبارات الوظيفية والأيديولوجية المحددة في المجتمع. وفي دائرة هذه الفعالية التربوية نجد أن البرجوازية المتوسطة تقوم بأداء دورين متكاملين في الآن نفسه، حيث تعمل على تمكين النظام الأخلاقي والسياسي القائم لمصلحة الطبقة البرجوازية العليا عبر تأصيل الثقافة السياسية بدلالاتها الرمزية، ومن ثم تقوم بإعداد الأفراد من أبناء الطبقات الكادحة والفقيرة لخدمة النظام القائم بكل معطياته وأبعاده. ولأن استقلال المؤسسات المدرسية نسبي وشكلي، فإنها لمجرد خضوعها لقوانينها الخاصة تقوم بخدمة المصالح الخاصة بالطبقة السائدة في المجتمع، وهي في دائرة هذه الفعالية التربوية الطبقية تنطلق من مبدأ التأكيد على استقلاليتها الكاملة غير المنقوصة.
وفي سياق هذه الاستقلالية المزعومة يوهمنا النظام المدرسي بأنه ينطلق من مبدأ الكشف عن القابليات الفردية والمهارات العقلية للأفراد الذين ينتسبون إليها، وهو على خلاف ذلك يقوم في حقيقة الأمر وجوهره بتعزيز وتعميق اللامساواة الاجتماعية بين الأطفال والتلاميذ بمعيار انتمائهم الاجتماعي وتوزعهم الطبقي. والمدرسة في سياق وظيفتها الطبقية هذه تعمل بطريقة رمزية على إقناع أبناء الطبقة الدنيا وفقا لمعايير العنف الرمزي بأن إخفاقهم المدرسي كان مشروعا وشرعيا، لأسباب تتعلق بتدني قدراتهم العقلية وملكاتهم الإنسانية.
وعليه فإن الوظيفة الأساسية للعنف الرمزي تكمن في توليد التباين الطبقي وتكريس مظاهر اللامساواة في الحياة الاجتماعية والتربوية بصورة سيميائية رمزية، فأبناء الطبقة البرجوازية يحتلون مكانهم الوظيفي الأكثر أهمية في المجتمع، ليس لأنهم أبناء الطبقة العليا، بل لأنهم نجحوا بتفوق في المدارس. وفي المقابل فإن أبناء الطبقة الدنيا يحتلون مكانهم في الدرك الأسفل من السلم الوظيفي، ليس لأنهم من الطبقات المهيضة بل لأنهم لم يحققوا نجاحا ملحوظا في المدرسة. فالملاحظ في الحالتين أن الدلالة الرمزية واضحة والعنف الرمزي بيّن المعالم، ففي الأصل وجوهر الأمر أن أبناء البرجوازية وأبناء الطبقات الأدنى احتلوا وظائفهم ليس لأنهم نجحوا أو أخفقوا في المدرسة بل لأن أرومتهم الطبقية هي التي حددت لهم مكانتهم في المجتمع والمدرسة. فالسلطة الرمزية للمدرسة تمنح طابع المشروعية بقوة العنف الرمزي، وتدفع إلى تبني نتائج اجتماعية طبقية وثيقة الصلة بالوضع الطبقي للأطفال والتلاميذ، وهذا يعني أن المدرسة تأخذ صورة وسيط رمزي يستخدم العنف الرمزي في إضفاء المشروعية الطبقية على روادها.
وفي دائرة هذه الوظيفة الرمزية، فإن المدرسة تقوم بعملية تعزيز الخضوع والإذعان لمعايير وتصورات اجتماعية طبقية في جوهرها بصورة رمزية. فالمعارف التي يكره الطفل على تلقيها يمكنها أن تختلف من مكان لآخر، ولكن الثابت في ذلك أن التعليم يؤكد على أهمية التجانس والوحدة في العملية التعليمية: فأبناء الطبقات المختلفة يجب أن يتعلموا ويتلقوا الأشياء نفسها في الوقت نفسه، وفي سياق النسق الواحد ذاته. وهذا يعني فرض نظام رمزي غالبا ما يكون حصادا لرأس المال الثقافي للطبقة التي تسود في المجتمع.
3/3- بيداغوجيا العنف الرمزي
الإنسان كما يرى بورديو كائن رمزي، ينتج الرمز ويتشكل على صورته وبمقتضاه، ووفقا لهذا التصور فإن العلاقات التربوية تشكل البوتقة الرمزية التي ينبني فيها الكائن الإنساني ويتشكل، لأن العلاقات التربوية تمثل شبكة حيّة وحيّوية لمعطيات الثقافة الرمزية بكل ما تنطوي عليه هذه الثقافة من مفاهيم ودلالات وقيم ومعان.
فالإنسان عندما يوجد في وسط ما يتمثله على نحو رمزي، فالمكان والزمان، والعلاقات والأشياء ومتغيرات الوجود، تؤثر في وعي الإنسان، وفي منظومة عقله الباطن على نحو رمزي، وتتحول إلى طاقة برمجة داخلية، تشرّط سلوك الإنسان وتربطه بطابع من الحتمية الرمزية(23). فطقوس الإنسان عبر التاريخ وأنماط سلوكه السحرية، ومنظومة مقدساته وأساطيره، هي منظومات من الفعاليات الرمزية اللاشعورية التي تمثلها عبر تاريخه الإنساني الطويل.
ومن بديهيات القول: إن الإنسان كيان نفسي قابل للتشكل، وإن هذا التشكل يتم في سياق التبادل الرمزي في المؤسسات التربوية المختلفة، ولاسيما في المدرسة. فلكل علاقة تربوية أو اجتماعية مضمون سيكولوجي رمزي محدد، وهذا يعني أن البناء السيكولوجي للأفراد مرهون إلى حد كبير بمعطيات الأنساق التربوية الرمزية المحيطة بهم، ويتحدد فعليا بالمضامين الرمزية للمعطيات والعلاقات والتفاعلات التربوية القائمة في بيئتهم الاجتماعية، ومن هنا تأتي أهمية البحث في معطيات التفاعلات الرمزية ودورها في تشكيل الفرد وهويته.
لقد استشعر هيربارت(24) (Herbart 1776- (1841 منذ زمن بعيد الطاقة الرمزية للفعل التربوي، وأدرك في الوقت نفسه أن الفعل التربوي يحفر مجراه في الوجود الإنساني كالماء الذي ينخر في الصخر. فالسلطة ليست في هذه الاندفاعات الجارفة، إذ ليس بالعنف الفيزيائي تتم تربية الطفل على نحو أفضل، وكلما ابتعدنا أكثر فأكثر عن العنف الفيزيائي يمكننا أن نؤثر في الأطفال بدرجة أكبر، وعلى هذا النحو عندما تنطلق التربية على أساس من التروي والصبر والاستمرار، بعيدا عن تسجيل النتائج الفورية الظاهرية، وعندما تنطلق أيضا من مبدأ الاستمرارية وتسعى نحو هدف محدد، من غير أن تترك للأحداث والظروف الخارجية مجالا كبيرا للتأثير خارج إطارها المحدد، فهي تسيطر على الوسائل الضرورية كافة من أجل التأثير بعمق في النفوس. وهنا يمكن لنا أن ندرك القوة الأساسية للفعل التربوي بوصفه ممارسة رمزية، وهي أشبه بالقوة المغناطيسية في تأثيرها الرمزي. وقد وجدت هذه الفكرة مكانها في بعض الدراسات الميدانية الأمبيريقية الجارية، حيث تعلن هذه الدراساتعن هذه القوى الذكية الرمزية التي تمارسها المؤسسات التربوية في عملية التحويل الثقافي والأيديولوجي، وهي قوة هائلة خفية مضمرة تمارسها المؤسسات التربوية في تشكيل عقول الأفراد واتجاهاتهم (25).
وقد وظف كلود دينمتون Claude Duneton مفهوم القهر الثقافي "L’ intimidation culturelle" في إشارة منه إلى العنف الرمزي الذي تتم ممارسته في المؤسسات المدرسية، وبيّن في كثير من أعماله أن القهر الثقافي يدمر الأمن الوجودي للطلاب في مختلف المؤسسات الجامعية، ولم يستثن من ذلك الجامعات والمؤسسات التربوية العليا، فالقهر الثقافي يأخذ صورة عنف رمزي، وبالتالي فإن الآثار النفسية لهذا النوع من العنف، تكون أشد وأخطر من أشكاله الأخرى السيكولوجية أو الفيزيائية، وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار أن العنف الرمزي يتدفق باستمرار ويستمر بفعاليته الرمزية على مدى سنوات متلاحقة ومتعاقبة في الحياة المدرسية، وحيث يعمل هذا العنف على تجريد التلاميذ من مظاهر الثقة بالنفس، ويدفعهم إلى تبني عملية تبخيس ذاتية مستمرة ومتواصلة. فالعنف الرمزي وفقا لهذه الصيغة يأخذ صورة ضغط ثقافي استلابي غامض ومبهم، حيث لا يمكن للتلميذ أن يكتشف أبعاده وملابساته، وهو إزاء هذا الغموض الرمزي للدلالات والمعاني الثقافية الضاغطة يقف موقف اللامبالاة والاستسلام، وهو في كل الأحوال ليس له الحق في أن يفعل شيئا آخر، في أن ينام في الفصل الدراسي أو يخرج، بل يجب عليه أن يصغي ويستمع ويدعي المشاركة في تعزيز الفعالية التربوية في داخل الصف.
3/4- الإقصاء والاصطفاء:
يتضح، في ضوء ما تقدم، أن المدرسة تقوم عبر فعاليات العنف الرمزي على إقصاء أبناء الفئات والطبقات المهمشة في المجتمع من جهة، وتعمل من جهة ثانية على اصطفاء أبناء الطبقات البرجوازية بوصفهم نخبة وصفوة علمية وثقافية وفكرية.
وفي هذا السياق يرى بورديو وباسرون أن المجتمع ينتج ويعيد إنتاج بنيته الطبقية عبر المدرسة والأنظمة التعليمة القائمة. فالطبقة التي تسود وتهيمن توظف التعليم في خدمة مصالحها الطبقية، وهي ومن أجل تحقيق هذه الغاية تلجأ إلى العنف الرمزي والمناهج الخفية في إعادة إنتاج المجتمع على نحو طبقي. فالمدرسة أداة في يد الطبقة البرجوازية لإعادة إنتاج ثقافتها الخاصة وتحويلها إلى المتعلمين على أنها الثقافة الوحيدة المشروعة.
فالمدرسة سبب ونتيجة في الآن الواحد: ففي الوقت الذي تكون فيه نتاجا لتقسيم العمل وصراع الطبقات، تعمل على إعادة إنتاج المجتمع طبقيا، أي إن المدرسة تعمل على إعادة قيم الطبقة الحاكمة نفسها عن طريق تطبيع أبناء الطبقات الدنيا بالرموز الثقافية واللغوية للطبقة الحاكمة. فالطفل المتحدّر من أصول فقيرة عمالية يجد عدة فوارق داخل المؤسسة التربوية تتعلق بلغته الأصلية التي تختلف مع لغة المدرسة، وتتعارض مع لغة الطبقة المهيمنة، كما أن الهوية الثقافية مختلفة عن هوية زملائه من الطبقة الغنية التي قد تكون متشبعة بالهوية الفرانكفونية أو الأنكلوسكسونية مثلا. كما أن فقر التلاميذ المتحدرين من الأحياء الشعبية يجعلهم أمام ظاهرة انعدام تكافؤ الفرص على مستوى التعليم واكتساب المهارات الذكائية وقدرات التحليل والبرهنة، وقد يؤدي بهم الأمر إلى الفشل المدرسي والرسوب والتكرار والانقطاع عن الدراسة والانحراف والتطرف. ويعني هذا أن التفاوت المادي والاقتصادي واختلاف دخل الأسر يساهم في تأجيج الصراع الاجتماعي بين المتعلمين داخل المؤسسة التربوية وداخل الصف الدراسي.
وهذا يعني أن طفل الفئة البرجوازية يعيش استمرارية وتكاملا بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته؛ مما يسهل عليه عملية التوافق، إن لم يكن مسبقا متوافقا، ومن ثمة يصبح وريثا للنظام المدرسي. أما طفل الطبقة الدنيا، فهو يعيش قطيعة وتناقضا بين ثقافة فئته وثقافة مدرسته؛ مما يجعل هذه الأخيرة غريبة وبعيدة عنه. ولكي يتوافق دراسيا معها، عليه أن يتخلص من رواسب ثقافته، وأن يتعلم طرقا جديدة في اللغة و التفكير.
3/5- الصراع الرمزي في المؤسسة المدرسية.
عند الحديث عن الصراع الثقافي في المدرسة تجدر الإشارة إلى الطابع الرمزي الذي يأخذه هذا الصراع، فالصراع الثقافي هو صراع رمزي بكل الدلالات والمعاني. وهنا يجب علينا أن نلاحظ أن علماء الاجتماع التربوي وظفوا مفهوم الصراع الثقافي واعتمدوه في التحليل السوسيولوجي للمدرسة. والصراع الثقافي في جوهره صراع الدلالات والرموز والمعاني، وهو صراع خفي مستتر يتغلغل في دائرة الحياة المدرسية ويؤثر في التكوين السيكولوجي والعقائدي للأفراد كما يؤثر في النتائج المدرسية حيث يؤدي إلى إقصاء أبناء الطبقات العمالية ويعزز حضور أبناء الطبقة البرجوازية.
ولعله من المفيد التأكيد من جديد بأن كل أشكال الصراع الثقافي تأخذ في جوهرها علامة العنف الرمزي ودلالته. وهذا يعني أن أي صراع ثقافي عقائدي أيديولوجي في المدرسة هو صراع رمزي في جوهره. فالثقافة بمعناها الدلالي طريقة في الحياة والنظر ونسق من المعاني والدلالات والرموز، ووفقا لهذا التصور فإن أي رأسمال ثقافي هو رأسمال رمزي، وبالتالي فإن أي صراع ثقافي يشكل صورة من صور الصراع الرمزي في المدرسة. ومن هذا المنطلق الرمزي سنقوم بتحليل الأعمال والدراسات التي أجريت حول الثقافة والصراع الثقافي بين الطبقات في الحقل المدرسي.
وهكذا فإنه لا جدال في القول: إن كل أشكال الصراعات الثقافية والقيمية، وكل أشكال الصراع في مجال التصورات والقيم والمعاني والدلالات، هي أشكال للصراع الرمزي، وعليه يمكن التأسيس بأن التحليل السوسيولوجي النقدي للوظائف الداخلية للمدرسة ينطلق من مقولة الصراع الرمزي والثقافي الذي تعتمده الطبقات الاجتماعية في ساحة المدرسة.
ومن هذا المنطلق، ينظر بيير بورديو إلى ثقافة المدرسة بوصفها انعكاسا لثقافة الطبقة التي تهيمن وتسود اجتماعياً، ومن هذه الزاوية يرى في كتابه معاودة الإنتاج La reproduction "أن بنية النظام المدرسي ووظيفته يعملان على ترجمة اللامساواة من مستواها الاجتماعي، بشكل مستمر ووفقا لرموز متعددة، إلى اللامساواة في المستوى المدرسي"(26). وليس للمدرسة من مهمة "سوى تعزيز وتأكيد قيم الطبقة الاجتماعية السائدة والعمل على إعادة إنتاج العلاقات الطبقية القائمة ثم إعطائها طابع الشرعية في آن واحد"(27).
لقد استطاعت الطروحات الفكرية والتربوية حول دور المدرسة ودورها في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية - كما يرى سنيدير في كتابه « المدرسة والطبقة وصراع الطبقات (28)- أن تقدم تصورا واضحا لطبيعة العلاقة بين المدرسة والمجتمع، وأن تبيّن وجود وظائف متعددة للمؤسسات التربوية تتجاوز حدود نقل المعارف والعلوم إلى الناشئة والطلاب، إذ تقوم هذه المؤسسات بوظائف أخرى أكثر أهمية تتمثل في عملية صوغ الكائن الاجتماعي وتشكيله وفق صورة المجتمع الذي يعيش فيه.
وبناء على ذلك يمكن القول: إن نجاح الأطفال في المدرسة، لا يتوقف على مدى تمثلهم للجانب العلمي في ثقافة المدرسة فحسب، وإنما يرتهن ذلك في مدى قدرتهم على تمثل معاييرها السلوكية وفي تشربهم لقيمها الثقافية الرمزية، فالمدرسة بيئة نفسية واجتماعية قبل أن تكون بيئة معرفية. وفي الوقت الذي لا يستطيع بعض الأطفال تمثل هذه القيم والمعايير التي تأخذ طابعا رمزيا فإنهم لن يستطيعوا بلوغ النجاح المدرسي والتواصل على دروب النجاح المدرسي مهما بلغت قدراتهم العقلية.
ويلعب التجانس بين ثقافة الوسط، الذي ينتمي إليه الأطفال، وثقافة المدرسة، دورا كبيرا في تحديد مستوى نجاحهم وتفوقهم على صعيد الحياة المدرسية. وعلى خلاف ذلك، فإن اتساع الهوة بين الثقافة المرجعية الأسرية والثقافة المدرسية، من شانه أن يشكل عامل إخفاق مدرسي بالنسبة للأطفال.
ويمكن إرجاع أغلب حالات الفشل المدرسي، عند الأطفال، إلى واقع ذلك التباين الكبير بين ثقافتهم المرجعية الأسرية والثقافية المدرسية. ففي الوقت الذي يجد فيه أطفال الأوساط الاجتماعية السائدة، في وسطهم الاجتماعي، كل ما من شأنه أن يساعد على نموهم العقلي والنفسي والثقافي، وفقا لمتطلبات الحياة المدرسية ومعاييرها، فإن أطفال الأوساط الاجتماعية المهيضة -على خلاف ذلك- يفتقرون إلى مثل هذه الحوافز والمثيرات، ويعانون كثيرا من الصعوبات الاجتماعية والنفسية التي تؤثر سلبا على عملية نموهم النفسي والعقلي.
وفي معرض التمييز بين تأثير التباين الثقافي للأطفال، في مستوى التحصيل المدرسي، يرى بورديو إن أطفال الفئات البرجوازية يجدون في ثقافة المدرسة استمرارا لثقافتهم، وفي الحياة المدرسية استمرارا لحياتهم العائلية، أما أطفال الفئات العمالية فإنهم يجدون في ثقافة المدرسة غزوا لهويتهم الثقافية، وتجديدا لهويتهم الاجتماعية(...) وهم يتابعون عملية تحصيلهم المدرسي بدرجة عليا من التوتر والانفعالية والجهد، والتربية المدرسية لا تعدو أن تكون بالنسبة لهم إلا نوعا من التطبيع الاجتماعي أو الهيمنة الثقافية (29).
وينظر بورديو إلى التباين الثقافي، بين الفئات الاجتماعية، وفقا لمفهوم التباين في رأس المال الرمزي، ويرى أن رأس المال الثقافي يعيد إنتاج نفسه ويتراكم وفقا لمبدأ الربح الاقتصادي. وفي الوقت الذي يستحوذ فيه أبناء الطبقات البرجوازية «على النصيب الأكبر من رأس المال الثقافي الرمزي المتاح لهم في أوساطهم الاجتماعية، فإن أرباحهم الثقافية ستكون مضاعفة على مستوى النجاح والتفوق المدرسيين»(30).
فالتجربة الثقافية الغنية، لأطفال الفئات الاجتماعية الميسورة، والتي تتميز بوفرة المثيرات الثقافية، من كتب وفيديو وتلفزيون ومستوى تعليمي مرتفع لذويهم، ومن رحلات ترفيهية، ونشاطات علمية، لا تجعل من وسطهم الثقافي هذا متجانسا مع ثقافة المدرسة فحسب، وإنما تجعل منه- إضافة إلى ذلك- وسطا ثقافياً متطورا وغنياً بالقياس إلى الثقافة المدرسية، على المستوى المعرفي والتربوي، ومن البداهة بمكان أن يكون النجاح المدرسي نتاجا عفوياً لتجربتهم الثقافية الغنية.
وعلى خلاف ذلك، فالتجربة الثقافية لأطفال الأوساط الثقافية والاجتماعية المتواضعة، لا تجعل من الثقافة المدرسية ثقافة مغايرة لثقافتهم فحسب، وإنما تجعل منها ثقافة منافية ومتناقضة مع ثقافتهم وتجربتهم الثقافية. وفي الوقت الذي يجد فيه أطفال الفئات البرجوازية في المدرسة امتدادا واستمرارا لأجوائهم العائلية، فإن هذه المدرسة تبدو لأطفال الفئات الاجتماعية الفقيرة كعالم غريب، يتناقض مع معاييرهم وأنماط حياتهم الثقافية والاجتماعية. وهذا ما تذهب إليه بوركيير إفلين Burquiere عندما تقول: "إن أطفال الفئات البرجوازية يأتون إلى المدرسة وهم مسلحون بمعاييرها وقيمها، أما أبناء الفئات الفقيرة فإنهم يأتون إليها وهم مجردون من هذه الأسلحة بحكم ثقافتهم المرجعية (...) إن زادهم الثقافي الضحل، وفقا للمعايير المدرسية، لا يسمح لهم بالدخول في منافسة عادلة مع الآخرين على صعيد النجاح والتفوق المدرسيين"(31).
وما تجدر الإشارة إليه في هذا الخصوص، أن تأثير الوسط الثقافي المرجعي لا يتوقف في مرحلة الدخول إلى المدرسة، وإنما يواصل استمراريته وهيمنته في مراحل التحصيل المدرسي كافة. فالوسط الثقافي الذي يتميز بالغنى، لا يستمر في تعزيزه لمسيرة الأطفال في نجاحهم المدرسي فحسب، وإنما يميل تأثيره الإيجابي إلى التضاعف كلما تدرج الأطفال في سلم التعليم المدرسي.
وعلى خلاف ذلك يتضاعف ذلك التأثير السلبي للوسط الثقافي الشعبي كلما تدرج الطفل صعودا في السلم المدرسي. ففي الوقت الذي يمكن فيه للآباء، الذين يتوضّعون في الدرجة الدنيا من السلم التعليمي، مساعدة أطفالهم على تجاوز الصعوبات المدرسية في المرحلة الابتدائية (مساعدتهم في دروس القراءة والكتابة على سبيل المثال) فإنهم يقفون عاجزين عن تقديم مثل هذه المساعدات في المرحلة الثانوية والجامعية، وهم في المقابل لا يستطيعون تأمين الشروط المادية الكافية لتوفير المناخ المناسب لتعليمهم (اتباع دورات تعليمية أو الانخراط في دروس خاصة)، كما يحدث في الأوساط الميسورة اجتماعياً وثقافياً.
إن جميع العمليات التربوية التي تأخذ طابع الصراع وتؤدي إلى الإقصاء في المدرسة، هي نوع من الفعاليات الرمزية التي تقوم على اختراق جدار الوعي والتسلل إلى اللاشعور الجمعي للطلاب لتأصيل نوع من التصورات الثقافية والسيكولوجية بوصفها مشروعة ثقافيا.
3/6- سلطان اللغة وعنفها الرمزي
عمل كل من بورديو وباسرون على تحليل بنية العلاقة بين سلطان اللغة وقوة الرمز في تشكيل البناء الاجتماعي وإعادة إنتاج علاقات القوة والطبقة، فاللغة في منظورهما تشكل مهماز الفعل التربوي، وهي الأداة الفاعلة في تشكيل العنف الرمزي والتأثير في تشكيل العقول البازغة تشكيلا طبقيا. فالأساطير واللغات والفنون والعلوم تشكل أدوات رمزية لبناء المعرفة، وبالتالي فإن المنظومات الرمزية باعتبارها أدوات للمعرفة تفرض نفسها كسلطة وسلطة وتربوية، ومن ثمّ تشكل سلطة بناء الواقع وإنتاجه على نحو رمزي.
فالسلطة الرمزية، من حيث هي قدرة على تكوين المعطى، عن طريق العبارات اللفظية، ومن حيث هي قوة على الإبانة والإقناع، تمتلك القدرة على بناء رؤية محددة عن العالم، وتستطيع أن تبدع قدرة على تحويله والتأثير في تشكيله ذهنيا، وهي وفقا لهذا التصور تشكل قوة سحرية تعادل تأثير القوى الطبيعية والاقتصادية، وذلك لما تمتلك من قدرة على التعبئة. فبورديو وباسرون يؤكدان على مشروعية السلطة الرمزية لكي تأخذ طابعا فاعلا في حياة الناس، وذلك لأن ما يعطي للكلمات قوتها، ويجعلها قادرة على حفظ النظام أو خرقه، هو الإيمان بمشروعية الكلمات ومن ينطق بها.
وغني عن البيان أن السلطة الرمزية للغة تأخذ مكانها الحيوي في فضاء المؤسسات التربوية، ولاسيما في مجال المدرسة التي تتحول إلى ساحة للصراع الرمزي بين مختلف القوى الاجتماعية الفاعلة داخل المجتمع. فالرمزية السائدة في المدرسة تشكل نوعا من السلطة الاجتماعية التي تحاول أن تشكل الأطفال على ديدن الأيديولوجيا الاجتماعية السائدة.
هذا ويذكر بورديو وباسرون، في أعمالهما المختلفة -حول السلطة الرمزية للغة والعنف الرمزي- أن الفعل التربوي فعل رمزي لغوي بالدرجة الأولى، وبالتالي فإن أي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي، وذلك بوصفه قوة تفرض من قبل جهة اجتماعية معينة.
رابعا - ديناميات العنف الرمزي وكيفياته في المدرسة:
يتجلى العنف الرمزي في المدرسة وفق آليات وديناميات وفعاليات تربوية مختلفة. وفي هذا السياق يمكننا الإشارة إلى ثلاثة مستويات من التجليات التربوية للعنف التربوي في المدرسة.
4/1- مضمون التعليم.
إذا كان القانون العسكري ينص على مقولة: "نفذ ثم اعترض "، فإن الصورة الأولى للعنف الرمزي في المدرسة تتخذ هيئة آمرة تقول: تعلم ما يلقى إليك ولا تناقش. ويتجلى العنف التربوي الرمزي في صورته الأولى في عملية اختيار مادة التعلم، حيث يمثل هذا الخيار الحامل الأساسي للدلالات الرمزية والأيديولوجية للطبقة التي تسود وتهيمن.
وإلى جانب ذلك فإن الأمر ربما لا يبدو حياديا عندما يقرر المسؤولون (سواء كانوا من اليسار أو من اليمين) الامتناع عن مناقشة العلاقات الإنسانية والقضايا الحيوية في الأسرة والمجتمع والسياسة، في حين يكرسون مئات الساعات المدرسية لتعلم الإملاء والتلقين وحفظ النصوص الصماء.
وفي هذا السياق يمكن القول بأن الأفراد تشبعوا على مدى الطفولة ومرّ السنين بتأثير هذه الإجراءات المدرسية الصماء والممارسات التربوية المفرغة من المعنى والدلالة. وقد يصعب علينا اليوم أن نتصور شيئا آخر يختلف عما تعلمناه وتشبعنا بمعطياته في مختلف المراحل الدراسية، فنحن دائما مشغولون بتعليم اللغة والتاريخ والبيولوجيا. وفي عمق هذا الاهتمام الشكلي نحن مأخوذون بالحوار والجدل، حول القضايا التقليدية المملة والفاقدة للدلالة الحيّوية مثل: هل نعلم الإنكليزية في المرحلة الابتدائية أم في الإعدادية؟ ومشغولون بالسلم الدراسي: هل يزداد سنة أم ينقص أخرى؟ ومشغولون بطبيعة الامتحانات والاختبارات، ونسب النجاح ومستويات التقويم، هل ندرس الفلسفة في هذه المرحلة أو تلك؟ تلك هي القضايا الكلاسيكية المملة والفاقدة للدلالة والمعنى والعلامات. ولكننا قلما نشغل بالقضايا الحيوية حول معضلات الحياة الاجتماعية الملحة التي تحيط بنا، مثل: البؤس الاجتماعي، والإرهاب، والعنف، والحروب الدينية، والفقر، وتلوث البيئة، والأزمات المالية المعاصرة، والطفرات الاقتصادية المذهلة، وقضايا المستقبل الإنساني، وأزمات الحياة المعاصرة على اختلافها وتواترها. ومع أننا لا نقلل من أهمية أي قضية من القضايا التي تطرح، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا نطرح هذه الأسئلة الحيوية حول قضايا الحياة الحقيقية نفسها بأولوياتها الإنسانية وإشكالياتها الاجتماعية.
يقال لنا إن المدرسة لا يمكنها أن تفعل كل شيء، وهي ليست مملكة سحرية تحقق كل احتياجات روادها وملازميها، ومن هذا المنطلق إن كل شيء في المدرسة يمكن أن يأخذ طابع الإلزام والإكراه والضغط الرمزي، حيث يجب على التلميذ أن يفعل دائما ما يقوله المعلم أو ما يمليه عليه من: استماع، وإصغاء، وجلوس، وهدوء، وصمت؛ والمعلم غالبا ما يترتب عليه أن يصدر أوامره للتلميذ: افتح الكتاب، أغلقه، انظر إلى السبورة، قف، اجلس، لا تتكلم، ادخل، اخرج، اكتب من أول السطر، اكتب من اليمين، ضع نقطتين، أكمل العبارة، انتظر، توقف، لا تضحك، لا تتكلم، ارفع يديك عندما تريد الكلام، لا تنم، لا تسه، لا تتحدث مع زميلك، لا تحرك رأسك أو يديك... إلخ.
2/4- التقييم المدرسي:
ويتجلى العنف الرمزي في أكثر صوره الاستلابية في أوضاع التقييم المدرسي ولاسيما الامتحانات، حيث يوضع القوي والضعيف في حلبة صراع واحدة، وهكذا يجد الضعفاء من أبناء الأميين والفقراء أنفسهم، مع الأقوياء من أبناء المثقفين والأغنياء، في صراع مميت داخل حلبة الامتحانات وقاعاتها المظلمة. وهكذا نجد عبر السنوات المشهد الواحد نفسه لأطفال معدمين ثقافيا يقادون إلى قاعات الامتحانات بهدوء، وذلك من أجل إقناعهم –بصورة خفية رمزية– بأنهم لا يساوون شيئا، وأن قيمتهم الإنسانية والاجتماعية تحددها لحظات وكلمات ترتسم على صفحات امتحانية صماء، وأنهم -بنتائج هذه الامتحانات المصممة مسبقا- سيتحملون مسؤولية الاندثار في المهمل الاجتماعي، وفي أزقة العاطلين عن العمل وأروقة المهمّشين في الحياة الاجتماعية.
ففي المدرسة ينتسب كل فريق من المتعلمين إلى ثقافة الوسط الذي نشأ فيه، إنها ثقافة أسرهم وطبقتهم الاجتماعية، ولكن المدرسة تضفي على ثقافة الطبقات السائدة قيمة كبرى وتعلي من شأنها، وتبخس في الوقت نفسه الثقافات الاجتماعية الأخرى، فالأطفال الذين ترعرعوا بين الكتب وفي خضم نقاشات ثقافية لا يشعرون بالغربة والاغتراب عندما يعيشون في المدرسة، أما أولئك الذين ترعرعوا في الفراغ الإنساني –في وسط فقير معدم ثقافيا– فإن عالم المدرسة سيبدو غريبا معاديا، وكل ما فيه سيأخذ صورة عنف ثقافي في مختلف التجليات والأبعاد.
4/3- العنف الرمزي للمعلم:
يمارس المعلم سلطته الآمرة في سياج قدسي رمزي حتى يتمكن من القيام بمهمة التدجين والسيطرة على عقول الطلاب ونفوسهم بسهولة ويسر. فالمعلم كما يرى إيفان إليتش[32) Ivan Illitch يجمع بين وظائف ثلاث: سجان وواعظ ومعالج، فهو المسؤول عن الضبط الاجتماعي داخل الصف، وهو الذي يسهر على اللوائح والقوانين، ويحرص على أن يلتزم ويلزم الآخرين بها(33).
يقول سيغموند فرويد مشددا على أهمية السلطة التي يتمتع به المعلمون: "إننا نفهم الآن طبيعة علاقاتنا بأساتذتنا، فهؤلاء الرجال يتحولون إلى بدائل أبوية حتى حينما يكونوا يافعين صغارا، ونحن نراهم ناضجين وراشدين إلى درجة يصعب بلوغها، فنسقط عليهم مشاعر الأبوة ونعكف على معاملتهم كما كنا نعامل آباءنا"(34). ومن ثم، فإن هذه الطبيعة الأبوية التي تضفى على المعلم تمنحه سلطة رمزية هائلة لممارسة دوره التربوي وفقا لمعطيات الثقافة السائدة والمهيمنة في الوسط المدرسي.
وفي دائرة ذلك التجلي الرمزي للمعلم، تتطلب السلطة التربوية من المربي أن يمتلك عددا من الامتيازات مثل: الصحة والمزاج، ونمط الثياب، وسهولة بناء الاتصال، والقدرة على إظهار اللطف، وهي وظيفة تتعلق بقيمة مهنية، وتأخذ أيضا أهميتها في القدرة على اتخاذ القرار، وإدراك جيد للمهمة التربوية، والتحضير للعمل وفق نظام محدد ومنهج بائن، ثم امتلاك القدرة على تكييف التعليم وفقا لحاجة التلاميذ. ويفترض بصاحب السلطة التربوية أن يمتلك معلومات معمقة حول الوسط الاجتماعي للأطفال الذين يعلمهم، وأن يقيم علاقات تعاون مع زملائه ورؤسائه مع الوسط العام للمدرسة، فالسلطة تحتاج إلى إمكانات شخصية ذات طابع نفسي وأخلاقي، ونوع من التوازن العقلي والذهني، ونوع من السيطرة على الذات وتوازن المزاج، والقدرة على تطوير إمكانات الطلاب وبث روح التعاون وحب الأطفال(35).
والسلطة التربوية تقتضي فيما تقتضيه كفاءات شخصية ذات طابع عاطفي، ولاسيما التوازن النفسي والسيطرة على الذات، وتوازن المزاج، والميل إلى تقديم العون والخدمة والحب إلى الأطفال، وهذا يتطلب أيضا واجبات ومسؤوليات قوامها: أن المعلم هو مرب يمارس مهنته من أجل ضمان أمن الأطفال وسلامتهم(36). وفي كل هذا وذاك تكمن المخادعات الرمزية في العملية المدرسية.
خامسا - الفعالية الرمزية للمنهج الخفي في المدرسة:
يعد المنهج الخفي في المدرسة صورة للعنف الرمزي وللسلطة الرمزية. ويعرف المنهج الخفي بأنه نسق متكامل من العناصر أو المكونات والوظائف المترابطة فيما بينها بعلاقات وعمليات تقود، بفعل صيرورتها الداخلية، إلى تحقيق غايات تربوية محددة. وهنا يميز الباحثون في مجال العملية التربوية بين منظومتين من الأهداف التربوية العامة في السياسات التربوية: فهناك أهداف رسمية معلنة، وهناك أهداف خفيّة مضمرة؛ وتتمثل الأهداف الصريحة بقضايا إعداد الإنسان الحر المتكامل، والإنسان الصالح، وإعداد الإنسان للدفاع عن الوطن، وغير ذلك من أهداف مرسومة في لوائح سياسية وتربوية تحدد للتربية مسارها المعلن وللأنظمة التربوية القائمة غاياتها المحددة.
ولكن الأهداف التربوية المضمرة والخفية غالبا ما توضع لخدمة النظام السياسي والاجتماعي القائم، حيث تكمن وظيفتها في الحفاظ على ما يسمى بالاستقرار الاجتماعي، والضبط الأخلاقي والهيمنة الأيديولوجية، وبث القيم الطبقية وغرس الطاعة والانضباط في نفوس المتعلمين والدارسين. وهذا يعني أن الأهداف الخفية هي منظومة تربوية في خدمة الطبقة التي تسود وتهيمن في المجتمع. ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الأهداف الوسيلية التي ترسخ معالم المنهاج الخفي:
1- تمجيد رموز السلطة في مختلف المستويات.
2- التأكيد على قيم الطاعة والخضوع للحكام والطبقة التي تسود.
3- توظيف الطاقة الرمزية في تمجيد السلطة(الصور، المقولات، الخطب التربوية والمدرسية).
4- التأكيد على نمط علاقة الخضوع الهرمي بين المعلمين والمتعلمين والإدارة.
5- توظيف المنهج والخطاب المدرسي بصورة عامة بمنظومة من المقولات والنصوص التي تمجد الحاكم بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
6- توظيف الإمكانات المدرسية من أجل رفض قيم الثورة والتمرد والاعتراض والنقد.
7- اعتماد طرق التلقين في التدريس والتعليم بوصفها أكثر الطرق فعالية في قتل إمكانية العقل والتفكير، وبناء روح المذلة والاستكانة والانصياع في نفوس المتعلمين. ويمكن لنا أن نقول هنا إن النظام السياسي القائم- أيا كان نوعه ونمطه - يبدع في إنتاج عدد كبير من الوسائل التي تكون قادرة على تصفية إمكانات العقل والتفكير والنقد عند الأطفال والناشئة.
فالأوامر والنواهي، وأنماط السلوك والقواعد المنظمة، والإيماءات والإيحاءات، تشكل نموذجا رمزيا ثقافيا للطبقة السائدة، وهذا يعني أن هذه النماذج تشكل دورا ترويضيا يكره الأطفال على قبول هذه القيم، وهذه الرموز كخطوة أولى لقبول النظام الثقافي السائد على نحو قهري. فنظرات الازدراء والاحتكار التي يوجهها المعلمون إلى أبناء الطبقات الفقيرة، تساهم بشكل كبير في توليد مشاعر الدونية والقهر وتبخيس الذات عند أبناء هذه الطبقة. وعلى خلاف ذلك فإن كلمات التشجيع وابتسامات الرضا، وعبارات التقدير والثناء التي يحيط بها المعلمون أبناء الطبقات الغنية تلعب دورا حيويا وقاطعا في تأكيد مشاعر التفوق والقوة وتقدير الذات والنجاح عند أبناء هذه الفئة الاجتماعية، وفي النهاية فإن المدرسة تعمل في منظومة خفائها على الترويض والتطبيع، ولا توجد أمام الطلاب سوى عدة خيارات أهمها الخضوع والمسايرة، أو الثورة، فبعض الأطفال يسايرون ما هو قائم في المدرسة، فيؤدون ما هو مطلوب منهم، ويتمثلون دورهم جيدا، ويتحولون إلى نموذج مثالي، فهم يحترمون السلطة ويرفعون راية الخضوع ويتحلون بالصبر، ويكبتون رغباته، وهم بالتالي تلاميذ نظاميون مؤدبون مهذبون، وعلى خلاف ذلك هناك فئات من الأطفال تقابل القهر الخفي للمدرسة بالتمرد والهروب والعنف، وهذا ما يدفع بهم إلى دائرة الإخفاق والفشل.
فالمنهج الخفي هو فعالية رمزية يكمن دوره الحيوي في إقصاء أبناء الفئات الاجتماعية المهمشة، عبر أواليات الإخفاق، وتنمية أحاسيس الدونية والقصور لديهم، وتوليد عملية إخفاقهم المدرسي باستمرار. وعلى هذا الأساس يمكن القول: إن كثيرا مما يتعلمه التلميذ في المدرسة ربما لا يرتبط جوهريا بمحتويات الدروس والمقررات (المنهج المعلن) بل يرتبط بعملية ترويض الطالب على قيم ومعايير محددة تتمثل في قيم الطاعة، واستهلاك التحيّزات الاجتماعية والقيمية والأيديولوجية السائدة في المجتمع وفقا للمنهج الخفي والمستتر المعتمد. ووفقا لهذه الرؤية، فإن المدرسة وفقا لمناهجها الخفية لا تهدف إلى تحقيق المساواة بين التلاميذ والطلاب، بل تهدف إلى ترسيخ مبدأ اللاتكافؤ بينهم(37)؛ وهنا لابد من الحذر من المنهج الخفي بما يغرسه من قيم سلبية تتمثل في قيم الطاعة والخضوع وإضعاف روح الإبداع في نفوس الطلاب، حيث تكون المدرسة أداة لإعادة إنتاج الأمر الواقع بكل سلبياته واختناقاته لصالح النخبة المهيمنة(38).
خاتمة:
يقول نيتشه فاضحا الدور الإيديولوجي للمدرسة" إن التربية ليست إلا آلة للتلاعب والتناوب، تعمل على تشويه وعي الإنسان، وإلغاء ذاته، وبالتالي إخضاعه للسلطة المطلقة للدولة"(39).
لقد بيّنا في هذه الدراسة أن العنف الرمزي حاضر في عمق الفعاليات التربوية للمؤسسة المدرسية، وأن هذا العنف يمارس دوره على إيقاعات الثقافة والأيديولوجيات السائدة في الحياة الاجتماعية. ثم أوضحنا أن العنف الرمزي يعتمد على مبدأ التعسف والاعتباط واللاموضوعية، حيث ينطلق من مسلمات ومصادرات تؤخذ على أنها صحيحة موضوعية وحيادية، ولكننا عندما نتأمل فيها نجدها مغايرة للمنطق والعقلانية ومنسجمة مع أسس طبقية أيديولوجية بامتياز. وهنا يمكن القول مع شيشرون إنه "لا يوجد عبث أكبر من الاعتقاد أن كل ما هو منظم بواسطة المؤسسات أو قوانين الشعوب عادل"؛ وهذه هي حال المدرسة اليوم حيث تتبنى عنفا رمزيا اعتباطيا يقوم بالدرجة الأولى على هامش كبير من التحيّز الطبقي الأيديولوجي.
فالمدرسة تمارس عنفا رمزيا عبر سلطة رمزية يصدر عن رأسمال رمزي، وهذا العنف يعمل بصوره الخفية ونوازعه الأيديولوجية المستترة على إنتاج الخضوع والسيطرة والهيمنة، ولم يكن هذا الأمر خفيا على الطيب صالح حيث يقول في روايته المشهورة موسم الهجرة إلى الشمال: "لقد أسسوا المدارس، ليعلمونا كيف نقول نعم بلغتهم"(40).
ومما لا شك فيه أن العنف الرمزي يمارس دوره في مختلف فعاليات وتجليات الحياة المدرسية والتربوية، وبالتالي فإن هذا العنف يتفرد بكونه عفويا لاشعوريا بالنسبة لمن يمارسه ولمن يخضع لتأثيره. إنه عنف معنوي مستتر يعتمد على التصورات ويفعل فعله في إنتاج الدلالات التي غالبا ما تكون من طبيعة أيديولوجية، ولكن هذا العنف -بعفويته وانسيابيته المعنوية- يمتلك القدرة على أن يحقق غايات ثقافية كبرى تتمثل في التطويع الأيديولوجي، وفي الترويض الثقافي لرواد المدرسة وسدنتها في آن واحد، وذلك لأنه عنف يولّد؛ أي يقوم على توليد الدلالات، ويمارس فعله في عالم المعاني عبر فعالية الرموز، وهو في ذلك يميل إلى إعلاء الدلالات والقيم التي تفرضها طبقة بعينها، لأن من ينتج هذه المعاني والدلالات ويطرحها أداة للهيمنة والسيطرة في الحياة المدرسية لا يضيره أبدا أن يخضع لمشيئتها وإرادتها.
لقد حاولنا في هذه الدراسة المتواضعة، أن نكشف ملابسات الحياة الرمزية في المؤسسات التربوية، وقد عملنا من أجل هذه الغاية على الخوض في مفهوم العنف الرمزي وتحليل أبعاده ومداخله وتجلياته في مختلف جوانب الحياة التربوية.
لقد عملنا منذ البداية على اختراق الجدار الفكري لبيير بورديو في نظريته الرمزية وفي مقولاته عن العنف الرمزي، حيث تجنبنا الدوران الكلي على محور رؤيته التربوية، وقمنا بالكشف عن تصورات سوسيولوجية مهمة تتعلق بمفهوم العنف الرمزي، ووظفنا المفهوم ذاته في تحليل كثير من جوانب الحياة المدرسية الخفية. وهذا يعني أننا حاولنا الخروج عن المألوف السوسيولوجي في تمجيد المفهوم والخشوع في محرابه، لقد تجاوزنا هذا الأمر وقمنا بالكشف عن مداخل سوسيولوجية جديدة كانت في أصل المفهوم وشكلت لحظات مهمة في مخاضه الأول.
لقد أبرزنا عبر هذا التحليل دور السوسيولوجية النقدية في الكشف عن خفايا الحياة المدرسية. وقد تبين لنا بصورة واضحة أن مفهوم العنف الرمزي لا يكاد يختلف كثيرا عن العنف الثقافي والأيديولوجي الذي يتخفى في مسامات الحياة المدرسية ويلتبس في ممارساتها.
لقد بيّنا بوضوح أن استخدام مفهوم العنف الرمزي لم يكن أكثر من طفرة فكرية استفاقت في خضم البحث عن الدلالة والمعنى في الحياة المدرسية وفي خفاياها الأيديولوجية. ومع ذلك فإن المفهوم اكتسب مشروعيته التاريخية، وقد برهن بفعالية على قدرته التحليلية لكثير من القضايا والجوانب المهمة في الحياة التربوية.
فالمدرسة عالم رمزي، مفعم بالرموز والدلالات والمعاني، فكل ما فيها يحمل معنى ويرمز إلى دلالة، إنها نسق من الدلالات والمدلولات؛ فالمعلم بكل ما يرفل فيه من مزايا وما يُعرف عنه من حركات وإشارات؛ والتلامذة بكل إيماءاتهم، وحركاتهم، وكلماتهم؛ والمناهج ما خفي منها وما علم، والمضامين بكل ما تشتمل عليه من علوم ومعارف؛ كل ذلك حتى طرائق الكلام وعمليات التواصل في المدرسة عمليات وفعاليات وممارسات متشبعة بالدلالات وتتمحور حول دلالة الرموز.
وهذا العالم الرمزي يتحرك بسلطة الرموز وقوتها، بالعنف الرمزي وصولته، وفي داخل هذا العالم المعنوي المهيب بالدلالات والعلامات، تكمن أيديولوجيا وتصورات مجتمعية طبقية المحتوى والغاية. وهنا وفي تحليل هذه المضامين الأيديولوجية المتشبعة بحركة المعاني ودلالة الرموز وعنفها، كانت وقفتنا التحليلية عبر هذه الدراسة المتواضعة، ونأمل أن نكون قد أفلحنا على الأقل في مقاربة هذه الظاهرة والكشف عن بعض ملابساتها وفقا لأغراض حددناها منذ البداية.
وقد اتضح في النهاية أن المدرسة لا تعمل وفقاً لمبدأ المساواة من أجل تنمية القدرات العقلية للأطفال جميعهم بطريقة حرة ومتكافئة كما يجري الاعتقاد، فالأطفال يواجهون التمييز الطبقي والاجتماعي منذ بداية دخولهم إلى المدرسة على نحو رمزي، ومعرفة هذه الفعل الرمزي وفهم أبعاده يمكّنان المعنيين بالأمر من الاستفادة من هذه الرؤية لمساعدة الأطفال المهمشين على النجاح في المدرسة بعد إدراك حقيقة التمييز الممكن والقائم في فعالياتها التربوية. وهذا يعني أنه يمكن بعد إدراك الوظيفة الطبقية الرمزية للمدرسة، القائمة على ترجمة التباين الاجتماعي إلى تباين مدرسي، اعتماد برامج ومناهج وأدوات قادرة على تخطي الصعوبات الكبرى التي يواجهها أبناء الطبقات الشعبية من أجل النجاح في المدرسة. ومن هنا ينادي بورديو بتربية عقلانية قائمة على استكشاف الخفايا السوسيولوجية الرمزية لعملية اللامساواة المدرسية. وتقوم هذه التربية على بناء مناهج جديدة وأدوات تربوية حديثة ومختلفة تمكن الأطفال أبناء الطبقات المهيضة من استثمار أمثل لإمكاناتهم وطاقاتهم العقلية والذهنية. ومثل هذه التربية تساعد الأطفال أبناء الطبقات الاجتماعية الفقيرة على تجاوز صعوباتهم وتحديات العملية التربوية في المدرسة. وهذا يعني أنه في إطار هذه التربية المعقلنة يمكن وضع المدرسين في صورة الأوضاع الصعبة لأبناء الطبقات الفقيرة والمعوزة وتأثير هذه الأوضاع على العملية التربوية، وعندها سيتمكن المربون من مساعدة أبناء هذه الطبقة على تجاوز كثير من الصعوبات والتحديات التي تعترض مسار حياتهم التربوية.
فالمدرسة تنتج وتعيد إنتاج الأوهام التربوية، ومن أهم الأوهام التي تنتجها وهم الموضوعية والحياد الاجتماعي، وهي تؤسس على هذا الوهم وتنطلق منه لإنتاج وإعادة إنتاج النظام القائم بكل عناصره الطبقية. ومن هذا المنطلق فإنّه يجب على السوسيولوجيا النقدية كما فعل بورديو الكشف عن هذه الأوهام وتعريتها، وبناء نظريات فكرية للممارسة التربوية الطبقية المضادة تمكّن من فهم التناقضات المدرسية وتحديد مصادر الوهم في أنساقها من أجل بناء تربوي أكثر عدلا وأنسنة.
اضف تعليق